غَزْوَةُ حُنَين

لما فُتحت مكة اجتمع أشراف هوازن وثقيف يقولون: قد فرغ لنا محمد، فالرأي أن نغزوه نحن قبل أن يغزونا، وجعلوا أمرهم إلى مالك بن عوف — أسلم بعد ذلك — على أن يرجع فيما يريد إلى دريد بن الصمة لسنه وتجربته، وكان عدد جيشهم ثلاثين ألفًا — خرجوا بالنساء والأولاد والمواشي، وكان خروج النبي من مكة إلى هذه الغزوة يوم السبت سادس شوال من السنة الثامنة في اثني عشر ألفًا، وبعد أن رتَّب الجيش أعطى الرايات إلى علي بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقاص، وعمر بن الخطاب، والحباب بن المنذر، وأسيد بن حضير، وقد اشتد القتال في هذه الغزوة، فتراجع المسلمون، ثم نصرهم الله.

لمن الجموع كثيرة تتألب؟
مهلًا هوازن أين أين المذهب؟
مهلًا ثقيف ركبت من غيِّ الهوى
وعماية الأوهام ما لا يُركب
مهلًا بغاة السوء ما لمحمد
كفؤ ولا منه لباغٍ مهرب
قلتم قضى حاجاته وخلا لنا
فبدارِ إنَّا معشر لا نغلب
وبعثتموها ظالمين تهزُّكم
نشواتها فرِدوا الموارد واشربوا
حمل ابن عوف في الكريهة أمركم
فانهار كاهله وخرَّ المنكب
ولقد دهاكم من دريد أنه
شيخ تساس به الأمور مجرِّب
فسألتموه الرأي يعصم مالكًا
ويريه ما يأتي وما يتجنَّب
هيهات كلُّ الرأي إن غضب الألى
لا يرتضون سوى الجهاد مخيَّبُ
سوقوا النساء وجنِّدوا أنعامكم
ودعوا البنين بكل أرض تدأب
وإذا الحديث الحق جاء كبيركم
فالزور أولى والحماقة أوجب
شتم الألى صدقوه ألا يدَّعوا
ما لم يروا شططًا وألا يكذبوا
ورمى بهم في الحبس خوف حديثهم
فالأمر فوضى والصواب مغيَّب

•••

اغضب دريد أو ارضَ لست كمالك
في القوم إذا يرضى وإذ يتغضَّب
ملك القياد فلا مردَّ لأمره
ولسوف يهلك من يقود ويجنُب
أكذاك زعمك يا ابن عوف؟ إنها
لكبيرة بل أنت ويحك تلعب
أزعمْتَ أن محمدًا لم يلقه
من قبل قومك من يُخاف ويُرهب؟
وظننت أنك إن لقيت جنوده
لم تُغن عنه كتيبة أو مقنب
إن الذي حدَّثت قومك جاءه
فلئن عجبت لمَا أصابك أعجب

•••

هو ملتقى الجيشين فانظر هل ترى
قومًا تظلُّ عيونهم تتلهَّب؟
ولِع الرماة بهم فتلك سهامهم
ملء القسيِّ إلى النحور تصوَّب
غفلتْ مواقعها عن الدم إذ جرى
فكأنها بدم الرماة تُخضَّب
كرهوا السيوف وللوغى أبطالها
تُدعَى فتستلُّ السيوف وتضرب

•••

حيدوا جنود الله ثم تقدَّموا
فالحرب في أطوارها تتقلب
آنًا تردُّ عن الفريسة نابها
تبغي مقاتلها وآنًا تنشب
تُزجي رواعدها البروق فصادق
ينهلُّ صيِّبه وآخر خلَّب
غَرَّارة يشقى الغبيُّ بكيدها
إن بان من غيب الأمور محجب
تُبدي من الحاجات مالا تبتغي
حذرًا وتكتم ما تريد وتطلب
علمٌ توارثه الثقات وزاده
شيخ الوغى وأبو الثقات المنجب

•••

حمِيَ الوطيس أجلْ تبارك ربُّنا
فافزع إليه هو الغياث الأقرب
هذي كتائبه عليك تنزلت
ومضت إلى أعدائه تتوثب
بصروا بها فتزايلت أوصالهم
رعبًا وضاق سبيلهم والمذهب
هم في حنين يا محمد مثلهم
في يوم بدر صدعهم ما يرأب
مدد السماء أعدَّه لك منجد
لا جنده يفنى ولا هو يتعب
سبحانه ما من إله غيره
لو يستقيم الجاهل المتنكب

•••

يا مولعًا بالحرب يستقصي المدى
في وصفها منه البيان المسهب
سل بغلةً حملتْ رسول الله هل
حمدت فوارسها العتاقُ الشُّزَّب؟
طاروا عليها مدبرين ولم يطر
ومضَوا فلولًا وهو راسٍ يرقب
بطل يرى موجَ المنايا حوله
فعزيمة تطفو وقلب يرسُب
تجري ظنون القوم في حركاته
فيفوت غاية من يظنُّ ويحسب
كل امرئٍ يأتي الأمور عظيمة
فإليه في الدنيا العريضة يُنسب
ما العبقرية في مراتبها العلى؟
هو في سماء العبقرية كوكب
متألِّقٌ من لم يسِرْ في نوره
أودى الظلام به وطاح الغَيْهَب
أين الألى ملأ الفضاء سوادهم
وأضلَّهم ساداتهم فتحزَّبوا؟
غنموا الفرار فما يرى من بعدهم
إلا المغانم تستباح وتنهب
خير أتيح ونعمة مشكورة
سيقت على قدر ورزق طيِّب
راحت بأيدي المسلمين وإنهم
لأحقُّ من يُعطَى الجزيل ويوهب
تُقضَى الديون بها فلا ابن أميَّة
يشكو المطال ولا حويطب يعتب
ويقام دين الله في القوم الألى
فتنوا بأصنام تقام وتنصب

•••

قتلى هوازنَ هل تفجَّع مالك
ومضى لمصرعكم ينوح ويندب؟
قم يا دريد فقل لقومك خطبة
تجلو الهموم فقد عهدتك تخطب
انظر إلى الأسرى وسلهم ما لهم
نكبوا وكان الظن ألَّا ينكبوا
ويح النساء ومن ولدن ألا فتى
يحمي الذمار؟ ألا كميٌّ مِحرَب
إسمع دريد فقد أهاب محمد
يحنو على النشء الضعيف ويحدب
لا تقتلوا الأولاد ما فيهم لنا
خصم ولا منهم أثيم مذنب
أسَخِرت بالبطل الصغير فهل نجا
منه بمهجته الكبير الأشيب
أعطاك سؤلك ما تردَّد سيفه
ولأنتَ سؤلُ غرارِه والمأرب
إن ضاق صدرك حين تذكر أمُّه
فلصدرها لو كنت تعلم أرحب
قالت أتقتله ربيعة؟ إنه
شيخ له فضل يُعدُّ ومنصب

•••

ما بال سيف الله؟ أين مكانه؟
أيغيب عن نظر النبي ويعزب؟
سأل النبي فقيل عند جراحه
لو يستطيع أتى يهشُّ ويطرب
فمشى إليه يعوده في موكب
لله فيه من الملائك موكب
بوركت خالد ما رأتْ عين دمًا
كدمٍ جرى من خالد يتصبَّب
قم في جراحك إنها لك قوة
تدعُ القواضب وهي حيرى هُيَّب
قم للشدائد ما تلين صلابها
فلأنت صاحبها الأشدُّ الأصلب
لك همَّة ما تستطاع ونجدة
مذخورة للأمر ساعة يحزب
من يجهل الرئبال يَنفُذ نابُه
في كل مقتنص ويمضي المخلب؟

•••

إشهد حنين بما رأيت ولا تخف
خصمًا ينازع أو عدوًّا يشغب
حدَّثْتُ عنك وقلت يا أرض اسمعي
فاهتزَّ مشرقها وماج المغرب
ماذا أقول؟ أنا العييُّ وإن جرى
قلمي بأبلغ ما يقال ويُكتب

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤