الحكاية رقم «٢»

شمس الضحى تسطع والسماء صافية، من موقفي فوق السطح أرى المآذن والقباب، وأرى غرابًا واقفًا على وتدٍ مغروز في سور السطح، مربوط به حبل الغسيل، أرمق السطح الملاصق فيتحلَّب ريقي. تُحدِّثني نفسي بأن أذهب إلى ست أم زكي، لأحظى بشيء من الحلوى. وأعبُرُ السور. أمضي نحو المنور، أطِلُّ من نافذة فيه مخلوعة الزجاج، أرى تحت المنور مباشرةً ست أم زكي عارية تمامًا، تجلس على كنبة تتشمَّس، تمشط شعرها، عارية تمامًا .. منظرها غريب وباهر! وهي في ضخامة بقرة، وأهتف: يا تيزة!

ترتعب، تنظر إلى فوق، لا تلبث أن تضحك، تصيح بي: يا عكروت .. انزل!

أهبطُ بسرعة ثم أقف عند الباب بحذر مُبهَم وأتساءل: أدخل؟

وتسمح فأدخل، أقترب من مجلسها فترمقني بنظرة باسمة وتقول: وقعت يا بطل!

وتستلقي على بطنها وتقول: دلِّك لي ظهري.

أشمِّر عن ساعدي، أدلِّك ظهرها بحماس ورضًا، أشم رائحة جسد بشري مُعبَّق بالصابون والقرنفل، وهي تتمتم: تِسْلم يداك!

ثم بمزاح: أنت عفريت من الجِنة!

ثم وهي تضحك: الكتكوت الفصيح يخرج من البيضة يصيح.

ويزداد حماسي في العمل، فتقول: ارفع يدك لفوق يا شيطان، هل ستُخبر أمك؟

– كلَّا.

فتضحك وتقول: وعارف أيضًا أنه يوجد ما لا يقال، حقيقة إنك شيطان، هل تعلَّمتَ التدليك في الكُتَّاب؟ ماذا تدرس في الكُتَّاب؟

– الفاتحة وألِف باء.

– ربنا يحفظك وأشوفك ماشطة، ماذا ستأكل اليوم؟

– بامية.

– عظيم سأتغدى عندكم.

زياراتها لبيتنا ندوات للبهجة والمرح، تنثال المُلَح من فيها بلا حساب، وكذلك النكات المكشوفة، فتحاول أمي أن تبعدني ولكني أرجع، وتشير لها إشارات خفية محذِّرة، فأتشبَّث بالبقاء وتتمادى هي في الدعابة، وتسألها أمي معاتبة: متى تُصلِّين وتصومين؟

فتجيب: في آخِر شهر قبل يوم القيامة.

في الخمسين، مهذارة مرحة طروب، ولكنها لم تنزلق لسوء، وعمل ابنها زكي نجَّارًا في حارتنا فسارَ بين الناس مرفوع الرأس، وهي تدمن التدخين والقهوة وسماع أسطوانات منيرة المهدية، أرملة، في كل بيت لها صديقة حميمة، لم تشتبك في مشاجرة واحدة في حارتنا الحافلة بالمشاحنات.

•••

وتتنهَّد أمي ذات يوم وتقول: مسكينة يا أم زكي، ربنا يرعاكِ ويشفيكِ!

تتوعَّك صحتها، وتأخذ في التدهور، تهزل بسرعة مذهلة كأنها كرة ثُقِبَت، يترهَّل جسمها فيغدو طيات من الجلد خاوية، وتخيب في شفائها كافة الوصفات، وتفتي حكمة حارتنا الخالدة بأن مرضها ليس مرضًا من الأمراض المعروفة، ولكنه فعلٌ من أفعال «الأسياد» وألا شفاء لها إلا بالزار، ويجيء اليوم المشهود، فيكتظُّ بيت جارتنا بالنساء، ويعبق بالبخور، وتتسلَّط عليه جوقة من السودانيات يكتنفهنَّ الغموض والأسرار، وأطِلُّ برأسي من المنور فأرى صديقتي في مشهد جديد، تجلس على عرش في عباءة مزركشة بالتلي والترتر، مُتوَّجة الرأس بتاج من العاج، تتدلى منه عناقيد الخرز مختلِف الألوان، منقوعة القدمَين في وعاء من ماء الورد، تستقر في قعره حبَّات من البُنِّ الأخضر. وتدق الدفوف وتهزج الحناجر النحاسية بالأناشيد المرعشة، فتفوح في الجو أنفاس العفاريت، ويدعو كل عفريت صاحبته المختارة من بين المدعوات للرقص، فتموج القاعة بالحركات، وتتوهَّج بالتأوُّهات، وتذوب الأجساد في الأرواح، وها هي أم زكي تتلوَّى بعنف، كأنما رُدَّت إلى جنون الشباب، وعن فيها المزيَّن بالأسنان المذهَّبة يصدر صفير حادٌّ، ثم تركض دائرةً حول العرش، ويتحول ركضها إلى اندفاع رهيب، وتدور حتى تترنَّح من الإعياء وتتهاوى مغشيًّا عليها.

وجلجلت زغرودة وارتفع صوت مبتهِلًا: ليشهدنا خاتم الرسل الكرام.

•••

وها هي الأيام تمُرُّ.

وصحة صديقتي لا تتحسن.

لا تمزح الآن ولا تضحك، وتتساءل في جزع: ماذا جرى لي؟ .. ماذا جرى لي يا رب؟! أين أنت يا أم زكي؟!

ويُضطَّر المعلم زكي أخيرًا إلى نقلها إلى قصر العيني. وتودِّع عيناي الدامعتان الكارو وهي تتأرجح بها. وتلمحني واقفًا فتلوِّح لي بيدها وتقول: ادعُ لي فإن الله يستجيب لدعاء الصغار.

فأرفع عيني إلى السماء وأتمتم: «يا رب .. رجِّع لنا تيزة أم زكي.»

ولكن كأن الكارو حملتها إلى بلاد الواق الواق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤