الحكاية رقم «٢١»

إبراهيم توفيق مقترِن في ذاكرتي بالتهريج والتحدِّي، خفيف الروح نصف مجنون، بطل هواة لعب الكرة «الزلط» في فناء المدرسة، ننتقي عادةً من كوم التراب وراء السبيل زلطة في حجم الجوزة لتقوم مقام الكرة، نخوض بها مباراة يومية في فسحة بعد الغداء، والمباراة «الزلطية» ممنوعة رسميًّا، ولكن يُغضى عنها عادةً، وتُمارَس بعنف في أثناء تناول الضباط طعامهم، ويُكَفُّ عنها فورًا عند مرور الناظر، أما عواقبها الوخيمة على الأحذية فيدفع ثمنها الآباء.

وفي الفسحة القصيرة يضغط إبراهيم توفيق طربوشه حتى يصير مثل طاقية، ويرتدي جاكتته بالمقلوب، ويحاكي مشية شارلي شابلن ذهابًا وإيابًا على إيقاع تصفيقنا، ثم يختم لعبه بإنشاد مونولوج:

يا عديم الخال يا قليل المال
رفعتك محال في زمن الأندال

ويومًا يتباهى بالمقالب التي يدبِّرها لزوج أمه فيقول له أحدنا: أتحداك أن تأكل قرن فلفل حامي!

والتحدي يستفزه لمصارعة المحال فيهتف: آكل عشرة!

ويتراهن فريقان، نبتاع من بيَّاع الفول عشرة قرون فلفل حامية، وتحلَّقناه في حماس!

يتناول إبراهيم القرن الأول ويأكله مُبدِيًا ثباتًا واستهانةً.

ويتناول الثاني محافظًا على ثباته واستهانته.

ويتناول الثالث فلا يتغير من مظهره شيء إلا أنه ازدرد ريقه بصورة ملموسة.

ويتناول الرابع فيسعل سعلة مكتومة.

ويتناول الخامس فتدمع عيناه رغم قوة إرادته، ويسعل بشيء من العنف.

وعقب تناول السادس يبدو كأنه يقاوم عدوًّا مجهولًا اندسَّ في أعماقه، وتفيض عيناه بالدمع!

وهو يأكل السابع يسيل الماء من أنفه ويصطبغ أنفه بحمرة عميقة .. ويصيح بعضُ ضعاف القلوب: أوقِفوا الرهان!

ولكنه يرفض بحركة من رأسه دون أن ينبس وكأنما لا يستطيع النطق.

ويلتقي ماء عينَيه بماء أنفه في مجرى على ذقنه وعنقه، وينتابه سعال متقطِّع.

ويستحيل وجهه قرمزيًّا وتنتفخ شفتاه، ولكنه يلتهم القرون حتى آخِرها وسط التهليل والتصفيق، ويربح!

ولكن لعله لا يشعر للنصر بلذة، إنه صامت مُحتقَن زائغ البصر، وعلى هذه الحال ندخل حصة الدين، والشيخ يطارده بالتسميع لما هو معروف عنه من الإهمال والشقاوة، يقول له: إبراهيم توفيق، سمِّع تَبَارَكَ الَّذِي.

ويلبث إبراهيم صامتًا مغمورًا بهمومه الخفية، فيصيح به الشيخ: قف يا ولد وسمِّع.

ولكن إبراهيم لا يتحرك، على حين تصدر من الأركان همهمة يظنها الشيخ لعبة متفقًا عليها فيصيح: الأدب يا أولاد الكلاب، قم يا مجرم .. قم لا بارك الله فيك ولا فيمَن أنجبك!

ويقترب الشيخ منه في مجلسه في آخِر الحجرة، فيهوله منظر وجهه، فيتوقف متسائلًا: ماذا بك؟ .. لماذا تبكي؟

عند ذاك يتكلم عنه كثيرون فيسمع الشيخ ويتعجَّب ويقول: أعوذ بالله .. يا أولاد الأبالسة، كلكم مجرم وابن مجرم.

ويذهب بإبراهيم إلى الخارج ليُسعف في حجرة الطبيب .. ولكن إبراهيم لا يكف أبدًا عن التهريج والتحدي!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤