الحكاية رقم «٤٦»

كنت أعود سعد الجبلي في مرضه الأخير عندما ترامت إلى الحجرة من الحاكي أغنية:

ما هو إنت اللي جايبه لروحك بإيدك يا قلبي

فتنهَّد سعد وابتسم وتمتم: إي والله، بإيدك يا قلبي.

وتبادرت نظرة نطقت بتذكُّرنا لحياته المغامِرة الحافلة بالمسرَّات والآلام.

•••

سعد الجبلي كاتب حسابات بدكان الرهونات بحارتنا، طَموح بعيد الأحلام فيبيع أرضًا يمتلكها ويستقيل من عمله ثم يتاجر في الروائح العطرية، يربح أرباحًا كثيرة، يصير من أثرياء الحارة، ولكنه لا يتمتع في الواقع بأخلاق التجَّار الاقتصادية.

كل ليلة يدعو إلى بيته نخبة من الصحاب، يقدِّم الطعام والشراب، يعود بأوتار العود، يغني مَن له صوت مقبول، تمتد السهرة حتى منتصف الليل.

ثم يخيب تقديره في صفقة كبيرة، لا يجد لديه من المدَّخَر ما يسُدُّ به العجز، يُشهر إفلاسه.

يجد نفسه هو وقبيلة مكونة من زوجة وأبناء وأخوات على باب الله!

تمر به أيام قاسية شديدة، تؤذي صحته وكبرياءه معًا، ولكنه يبدو دائمًا رجلًا قويًّا راسخ الأركان، يرجع إلى عمله الأصلي في دكان الرهونات، يعطي دروسًا خصوصية في الحساب، يعيش عيشة التقشُّف.

وإيمانه قوي عميق.

أجل يشرب كثيرًا، لا يلتزم بالفرائض، ولكنه مؤمن حقًّا، يعتقد بأن لن يصيبه إلا ما كتب الله له، وأنه لا مفرَّ من المكتوب.

ولا يُقعِده عن العمل إلا المرض فيلزم الفراش.

وأفكِّر بحال أسرته فيملؤني الأسى.

وأشير إلى مَن يلعب في الحجرة من الصغار وأقول: ربنا يشفيك من أجل هؤلاء!

فيقول باستسلام: أما الصحة فقد انتهت.

ثم يستطرد بثقة: أما الأولاد فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

ويرفع إصبعه إلى فوق ويقول: الخوف كفر بالله، أعوذ بالله من الخوف.

ثم بنبرة ساخرة: أحسبتَ أن حياتي أطعَمَتْهم حتى تخاف أن يُجيعهم موتي؟

أتمعَّن إيمانه منبهرًا من قوته.

غير أن سعد الجبلي لا ينسى الدعابة حتى وهو في أعماق المحنة، فما أن يردِّد الحاكي:

ما هو إنت اللي جايبه لروحك بإيدك يا قلبي

حتى يتمتم باسمًا: إي والله، بإيدك يا قلبي!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤