الحكاية رقم «٧٢»

وعكلة الصرماتي حكايته حكاية.

كان أبوه صاحب سيرك، كان قويًّا وخلَّاقًا، يُشتَهر علكة منذ صباه بالرشاقة الخلَّابة في الملعب.

يتوفى الأب فيهجر الابن السيرك بلا سبب مقنع، ينضم إلى عصابة فتوة، فيثبت صلابته وينال حظًّا من الثروة، وهو ذو رائحة خفية تجذب أشواق النساء، فيستوي على عرش الهوى فتنة للقلوب، ويوغر صدور الرجال حتى يقول له الفتوة: تأدَّب وإلا شوَّهتُ وجهك.

وكأن قلبه لا يعرف الحب الحقيقي، يهيم بالمرأة حينًا ثم ينبذها، وتفوق غزواته كلَّ خياله، ويؤمن أناس بأنه يؤاخي الشياطين ويستعمل السحر.

وفجأة يتزوج.

يتزوج من أرملة تكبره بأعوام لا جمال لها، ويستقر في بيت الزوجية استقرارًا يبشِّر بالدوام.

ويزهد في الفتونة كما زهد في السيرك من قبلُ ويفتح دكان حلوى، ويربح ثروة لا بأس بها.

وبعد أعوام قليلة يسأم تجارته الرابحة فيصفِّيها، ويفتح مطعم لحمة رأس وكبدة، فينجح ويحقِّق ثروة أكبر من الأولى.

ويجتاحه حب المال، يحل من نفسه محل النساء والسيرك والفتونة، فيتاجر في المخدرات والأراضي، ويبتاع بيتًا ودوكارًا ويتحلَّى بالذهب.

ويقرِّر ذات يوم أن ينقل مقامه من الحارة إلى المدينة الكبيرة، يبني قصرًا ويعيش عيشة الأكابر، ويشتري عزبة، ثم لا يُرى في حارتنا إلا عند عقد الصفقات.

ويعشق الترحُّل، وما أن يجرِّبه حتى يخلب لُبَّه، فهو يومًا بالإسكندرية ويومًا في أسوان، ويزور البلاد العربية، بل ويغامر برحلات في أوروبا.

عندما تعجبه بقعة من الأرض يُفتتَن بها، ويصرِّح بأنه لن يبرحها حتى نهاية العمر، ثم يعتادها ويروم غيرها، ويعذِّبه عشق الأماكن كما عذَّبه عشق النساء والمال وغيرها من قبل، وبين كل رحلة وأخرى يرجع إلى حارتنا لرؤية الأصدقاء وعقد الصفقات.

ويجلس ذات مساء بين أصدقائه من تجَّار المخدرات فيتساءل: ماذا يمكن أن يصنع الإنسان أيضًا؟

ويحدثهم عن رحلاته وهم يتابعونه بغير مبالاة، شأن من لا يغادر الحارة إلا لضرورة.

ويتساءل عكلة: ترى أين جبال الواق؟

ثم يتساءل مرة أخرى: وأين سور الدنيا؟ وإذا أطلَّ الإنسان منه فماذا يجد؟

•••

وتترامى عنه أخبار وأخبار.

يقال إنه أدمن الشراب، يقال إنه يدمن المقامرة، يقال إنه يرتكب حماقات لا عدَّ لها ولا حصر.

ويطول غيابه في الخارج حتى يُظَن أنه لن يرجع.

واعتبره الأهل مفقودًا.

وتمضي السنون.

وذات صباح يعثر على جثة كهل في الساحة أمام التكية شبه عارٍ.

ويتعرف أهلُ حارتنا فيه على عكلة الصرماتي، ينظرون إلى جثته ذاهلين متسائلين وهو معزول عنهم بالصمت الأبدي والسر المنطوي.

كانت حياته أسطورة، وموته لطمة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤