الحكاية رقم «٧٨»

عرفت الشيخ عمر فكري في بيتنا وهو في زيارة لأبي، هو كاتب محامٍ متقاعد، فتح عقب تقاعده مكتبًا للأعمال لمعاونة أهل حارتنا في شئون الحياة بعد أن توثَّقت أسباب الاتصال بين الحارة وبين المدينة الكبيرة، ويقع مكتبه فيما بين الزاوية والمدرسة، ويقدِّم خدمات متنوعة للقاصدين، مثل تأجير البيوت ونقل الأثاث وتجهيز الجنازات والسمسرة التجارية وشئون الزواج والطلاق.

سَمِعتُه وهو يقول لأبي بكل ثقة واعتزاز: من خبرتي الطويلة أستطيع أن أقدِّم شتى الخدمات في أي ميدان من ميادين الحياة!

تحرَّكَت في أعماقي رغبة قديمة كامنة فسألته: أتستطيع أن تقدِّم لي خدمة؟

فنظر إليَّ باسمًا وسألني: ماذا تريد يا بني؟

– أريد رؤية شيخ التكية الأكبر!

فضحك الشيخ عمر عاليًا، وشاركه أبي، ثم قال: إن الخدمات التي أقدِّمها جدية وتتعلق بجوهر الحياة العملية!

– ولكنك قلت إنك تقدِّم شتى الخدمات في أي ميدان من ميادين الحياة!

– ولكن التكية خارج أسوار الحياة؟

– هي ليست كذلك في الواقع.

وقال لي أبي: أسمِعه بعض ما تحفظ من أشعارها.

فردَّدتُ بسرور: بلبلي خون دلي خورد وكلي حاصل كرد.

فقال الشيخ عمر فكري مخاطبًا أبي: ما أكثر الذين يردِّدون هذه الأشعار بلا فهم، «ثم ناظرًا نحوي» أتفهم معنى كلمة واحدة مما ردَّدتَ؟

فهززتُ رأسي نفيًا فقال: إنهم غرباء ذوو لغة غريبة، ولكن حارتنا مجنونة بهم.

فقلت له: إنك قادر على كل شيء.

فتمتم أبي: أستغفر الله العظيم.

وسألني الشيخ: وما أهمية رؤية شيخ الدراويش لك؟

– لأتأكد من تجربة مرَّت بي في طفولتي.

وقصَّ عليه أبي قصتي القديمة فضحك الشيخ عمر وقال: أعترف لكما بأنني رغبت ذات يوم في رؤية الشيخ الأكبر.

– حقًّا؟!

– قلت لنفسي إن الحارة كلها تردِّد ذكره رغم أنه لا يكاد يزعم أحد أنه رآه، وولعتُ بفكرة رؤيته ولع الأطفال، ماذا يحول بيني وبين ذلك؟ ومضيت إلى التكية، طلبت مقابلة أيَّ مسئول بها، ولكنهم لاقوني من وراء السور بتجهُّم وقلق، ولم يُبدوا أي استعداد للتفاهم، تكلمت بالإشارة فأجفلوا وأوجسوا خيفةً، حتى أسفتُ على ما أحدثت لهم من اضطراب، ورجعت معترفًا بحماقتي، يائسًا من تحقيق فكرتي بالاتصال المباشر، مقتنعًا في الوقت نفسه بأن اقتحام التكية بالطريق المشروع متعذَّر أو مستحيل، وأن اقتحامها بالتسلُّل خرقٌ للقانون لا شك فيه، لا يُتوقَّع من رجل يقوم عمله في الحياة على احترام القانون.

– هكذا عدلتَ عن رغبتك؟

– لم أعدل عنها كما ظننت، ولكنني جربت وسيلة ثانية، طفت بالطاعنين في السن من أهل حارتنا ممَّن عُرفوا بالتقوى، فادَّعى بعضهم أنهم رأوه، ولكن لم يتفق اثنان منهم على وصف مُحدَّد له، اختلفوا لحدِّ التناقض، وهذا يعني في نظري أن أحدًا منهم لم يرَه.

فقلت بحماس: ولكني رأيته.

– إنكم لا تكذبون ولكنكم تتخيلون.

– وما وجه الاستحالة في رؤيته، ألا يخطر له أحيانًا أن يتمشى في الحديقة مثلًا؟

– ومن أين تعلم أن الذي تراه هو الشيخ الأكبر وليس درويشًا من الدراويش؟

– وهكذا نفضت يدك من المسألة؟

– أبدًا، كنت مجنونًا أكثر مما تتصوَّر، ذهبت إلى ديوان الأوقاف متحدِّيًا، حصلت على معلومات لا بأس بها عن أوقاف التكية وعن فرقتهم الصوفية، عن الدرويش المخصَّص لتسلُّم الرَّيع، ولكن لم أعثر على كلمة واحدة تخُصُّ الشيخ الأكبر، فضلًا عن كراماته التي تؤمن بها حارتنا.

فغصصت بالخيبة ورمقتُه بحنق، ثم قلت: توجد وسائل أخرى ولا شك؟

فقال باسمًا: يوجد العقل، هو الذي خلَّصني من رغبتي المحمومة، قال لي إننا نرى التكية والدراويش، ولا نرى الشيخ الأكبر!

فسأله أبي: هل يصلح هذا دليلًا على عدم وجوده؟

– إنه لا يقول ذلك، إنه يقرِّر حقيقةً نعرفها جميعًا وهي أننا نرى التكية والدراويش ولا نرى الشيخ الأكبر.

فقلت: ولكن توجد وسيلة ولا شك للتثبُّت من وجوده ومن رؤيته؟

– لن يتأتى ذلك بالطرق المشروعة فيما أعتقد، وإني كما تعلم لا أحيد عن القانون أبدًا.

فضحك أبي وقال: اعترف أنه توجد خدمة واحدة على الأقل لا تستطيع أن تؤديها يا شيخ عمر.

فجاراه في ضحكه قائلًا: ليكن، ولكن ما جدوى رؤية الشيخ الأكبر؟ ألم تكن رغبة مضحكة؟!

فسألتُه بحرارة: لمَ يغلقون في وجوهنا الأبواب؟

– التكية شُيِّدت في الأصل في خلاء؛ لأنهم قوم ينشدون العزلة والبعد عن الدنيا والناس، ولكن بمرور الزمن امتدَّ العمران إليهم، وأحاط بهم الأحياء والأموات فأغلقوا الأبواب كوسيلة أخيرة لتحقيق العزلة.

وابتسم ابتسامة فاترة وقال: لقد مددتُك بكافة المعلومات الممكنة، وهي وإن تكن غير مجدية في تحقيق رغبتك، إلا أنها قاطعة في أنه لا يمكن تحقيق الرغبة إلا بوسيلة غير مشروعة خارقة للقانون.

•••

تلك ذكرى لا تنسى.

وحتى اليوم لم أجِد الشجاعة الكافية لمخالفة القانون، ولكنني في الوقت نفسه لا أستطيع تصوُّر تكية بلا شيخ أكبر.

وبمضيِّ الأيام لم أعُد أرى التكية إلا في موسم زيارة المقابر، فأُلقي عليها نظرة باسمة، وأستقبل ذكرى أو أكثر، وأحاول أن أتذكَّر صورة الشيخ أو مَن توهَّمتُ ذات مرة أنه الشيخ، ثم أمضي نحو الممَرِّ الضيِّق الموصل إلى القرافة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤