خاتمة

هل هناك احتمالٌ حقيقي أن يتحقق إصلاحٌ فعلي من دون التشبث المستمر بالتراث، لا سيما التراث الديني، لتبرير وتسويغ قبول الإصلاح؟ يبدو أن نسَق الالتباس بشأن الحداثة، تلك الصورة المتناقضة للحداثة باعتبارها منتجًا غربيًّا والمساواة بين التحديث والتغريب، لا يزال مسيطرًا. وقد صار شاغلًا مُلحًّا أكثر منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر ٢٠٠١، حيث ظل يُروَّج له بعدها دون توقُّف في وسائل الإعلام العالمية. ومن دون التحول عن نسَق الرؤيتَين المستقلتَين للعالم، الرؤية الغربية، والرؤية الإسلامية، سنظل في طريقٍ مسدود. وكما ذكرتُ في محاضرتي الافتتاحية لقبولي لكرسي ابن رشد:

«لقد أصبح العالَم بالفعل — سواء أكان ذلك جيدًا أم سيئًا — قريةً صغيرةً واحدة لا يمكن لثقافةٍ منغلقة منعزلة أن تُواصِل الحياةَ فيها، هذا إن كان لمثل هذه الثقافة وجودٌ في الأساس. على الثقافات أن تتفاوض، عليها أن تُعطيَ وتأخذ، عليها أن تُعِير وتستعير، وليس ذلك بظاهرةٍ جديدة أو مبتدَعة في سياق العولمة الحديث. تاريخ ثقافات العالَم يخبرنا أنَّ موجة الحضارة قد وُلِدَت على الأرجح في مكانٍ ما حول أحواض الأنهار، ربما في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى أو مصر أو العراق، ثُم انتقلَت إلى اليونان وعادت بعدها إلى الشرق الأوسط في صورة الثقافة الهيلينية. ومع ظهور الإسلام، بزغَت ثقافةٌ جديدة استوعبت عناصرَ الثقافة الهيلينية وكذلك الهندية والإيرانية وأعادت صياغتها، ثم انتقلت هذه الثقافة الجديدة إلى العالَم الغربي الجديد عبْر إسبانيا وصقلية. هل لي أن أذكُرَ هنا الفيلسوف المسلم ابن رشد، الذي يُعرَف في السياقات اللاتينية باسم أفيروس، وأهمية كتاباته في التوليف بين الإرث الأرسطي والإرث الإسلامي، لينتشر بذلك ضوءٌ فكريٌّ جديد في خِضم عصور الظلام في أوروبا؟» (أبو زيد ٢٠٠٤ب: ٧).

ثم اختتمت بسؤال مفتوح، أود أن أختم به هذا الكتاب أيضًا:

«هل المسلمون مستعدون لتناوُل القرآن بنظرة جديدة أم لا؟ هل من الممكن أن نفكِّر في الخيارات المفتوحة التي يُتيحها لنا الخطاب القرآني ونُعيد النظر في المعنى الثابت الذي يطرحه علينا العلماء التقليديون؟ بعبارةٍ أخرى، إلى أيِّ مدًى سيتطور إصلاح الفكر الإسلامي؟ إنَّ هذا السؤال يستوجب أن نستدعي إلى مناقشتنا العلاقةَ بين الغرب والعالم الإسلامي. كيف تؤثِّر هذه العلاقة في الكيفية التي يعمل بها المسلمون على «إعادة النظر» في تراثهم لتحديث حيواتهم دون التخلي عن قوَّتهم الروحانية، لا سيما في ضوء المشروع الاستعماري لأمريكا؟ يؤسفني أنَّ الإجابة ليست إيجابيةً لا سيما مع السياسة الاستعمارية الجديدة لأمريكا. فكلٌّ من المشروع الأمريكي الاستعماري والإمبريالي الجديد، وبناء مناطقَ منعزلة في الشرق الأوسط، سيؤيد على الأرجح — من بين جميع الخطابات الموجودة في الفكر الإسلامي المعاصر — الخطابَ الأكثر إقصائية وتشجيعًا على العزلة. إنَّ هذه المشاريع الاستعمارية لا تترك للأشخاص أيَّ خيار آخر سوى التكيُّف مع تأويل الإسلام بصفته أيديولوجيا للمقاومة؛ تأويل الباكستاني المودودي الذي يقسِّم العالَم إلى خَصمَين، وهو تأويل ينعكس صداه في الكتاب الذي ألَّفه هنتنجتون بعنوان «صراع الحضارات». علينا إذن أن ننتبه وأن نحرص على توحيد جهودنا لمكافحة كلا الزعمَين وتبِعاتِهما بجميع الطرق الديمقراطية الممكنة» (أبو زيد ٢٠٠٤ب: ٦٢–٦٣).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤