الفصل الأول

فترة ما قبل الاستعمار

مقدمة

سيتناول هذا الفصل فترة ما قبل الاستعمار، وعلى الأخص القرن الثامن عشر، حين جرى التأكيد على أهمية التراث من خلال استحضار سلطته وقيمه من أجل الحفاظ على القوة الاجتماعية للمسلمين وتضامنهم واستقرارهم. وفي هذا الصدد سنعرض بإيجازٍ الأفكار الأساسية لمفكرين مثل شاه ولي الله (١٧٠٢–١٧٦٢) في الهند والحركة الوهابية في نجد. والهدف من هذا الاختيار المحدود هو المقارنة بين خلفيتَين ثقافيتَين، أنتجتا صيغتَين مختلفتَين لإحياء الإسلام.

(١) التنوع الثقافي

سيبدو من الضروري أن نبدأ باستعراض التنوع الثقافي لما يُسمَّى «العالم الإسلامي» قبل عملية الاستعمار، حين دخل الإسلام عالَم ما وراء شبه الجزيرة العربية. هذا بمنتهى البساطة لأنه كان على الإسلام أن يتأقلم مع سياقٍ ثقافي وتاريخي جديد، بمساحاتٍ شاسعة ذات شعوب شعَرَت بنفس الصحوة الروحانية التي شعَر بها العرب. لكن رغم أنه من السهل نسبيًّا توضيح سياق الإسلام العربي، فإن شرح عملية إعادة التوجيه المعقدة التي مر بها الإسلام في سياقاتٍ ثقافية وتاريخية مختلفة ليس بنفس السهولة.١ المؤرخون الثقافيون وحدهم هم القادرون على تقديم بعض الإجابات وتوضيح الاختلافات مثلًا بين الإسلام الهندي في القرنَين السادس عشر والسابع عشر، والإسلام في نجد أو الحجاز في شبه الجزيرة العربية في الفترة نفسها.
رغم أن استعراض التركيب المتعدد الثقافات للعالم الإسلامي قبل المواجهة مع الغرب يتجاوز حدود هذه الدراسة، فقد يكون من المفيد أن نرسم بعض الخطوط الفاصلة بين المناطق الإسلامية المختلفة. في الهند مثلًا كان لا بد أن يتعايش الإسلام مع الهندوسية والبوذية، ويتفاعل معهما تفاعلًا مثمرًا. وعند دراسة القوى والعوامل التي قرَّبَت بين الإسلام الهندي والمجتمع الهندوسي سنرى أن فكر المتصوِّفين المسلمين المؤمن بوحدة الوجود، الذي وجد صنوه في الفكر الديني للأوبانيشاد، ظل دومًا يقرِّب بين الإسلام والهندوسية، فيما باعدَت بينهما التصورات والمفاهيم الوثنية المرتبطة بالكثير من المؤسسات الهندوسية. وكان هذا متأصلًا إلى حدٍّ ما في الوضع (نظامي د.ت.٢) كان الخوف أن تؤثِّر الخلفية الوثنية للكثير من المؤسسات الهندوسية على الطابع التوحيدي للإسلام. حين كتب هندوسي للشيخ أحمد السرهندي (المتوفى عام ١٦٠٤) قائلًا إن راما ورحيم (الرحيم، وهو أحد أسماء الله في الإسلام) متطابقان، اعترض الشيخ قائلًا إن راما كان بشرًا؛ ولذلك لا يمكن اعتباره متطابقًا مع الله. وقد قاوم شاه ولي الله وشاه إسماعيل شهيد تبني كل تلك الممارسات الهندوسية المرتبطة بالنزعات والأفكار الوثنية. هذا النوع من التشابه والاختلاف كان أحيانًا ما يؤدي إلى التسامح والتفاهم المتبادل، لكنه كان من الممكن أيضًا في ظل ظروفٍ مختلفة أن يُشعِل نار التعصُّب والنزعة الإقصائية العنيفة. وقد كان تقسيم الهند إلى دولتَين عام ١٩٤٧ انتصارًا للتيار الثاني، وهو انتصار أكَّد الاختلافات على حساب التشابهات.
من الممكن المقارنة بين المثال الهندي للديناميكية الثقافية الإسلامية ومثال شبه الجزيرة العربية، حيث استطاع الإسلام أن يستمر دون أن يتغير تقريبًا. وهو ما يفسِّر ظهور الوهابية كحركة إصلاح قائمة على زعم بسيط يرى ضرورة «العودة» إلى أصول الإسلام من دون نقد التراث أو إعادة النظر فيه. وبين هذَين المثالَين نجد تشكيلةً من الخلفيات الثقافية التي شكَّلَت الإسلام وأعطته سماته المحلية الخاصة. لكن ماذا عن جنوب شرق آسيا، الذي يبدو أن المسلمين قد نقلوا إليه الإسلام على مدى قرونٍ عدة؟ يبدو أن المصادر الأولى للنشاط الدعوي الإسلامي كانت جوجارات ومالابار في غرب الهند، ثم عرب، من حضرموت على وجه الخصوص. اعتنقَت شعوب الهند الشرقية الإسلام بطريقةٍ سلمية عمومًا (ميدين ١٩٩٥: ١٩٦–١٩٧). وفيما هو معروفٌ الآن باسم إندونيسيا، صارت غالبية سكان جاوة وسومطرة مسلمين بحلول القرن الثامن عشر.٣ وفي الوقت نفسه، جاء الفتح العربي لمصر عام ٦٤١ لينقل الإسلام إلى بيئةٍ متدينة بالفعل (قنواتي ١٩٧٥: ٢٢). وما لبثت الدراسات الإسلامية أن ظهرت، لا سيما في مجالات الشريعة والفقه٤ والتصوف.٥ وحسبنا أن نذكر اسمَي صوفيَّين مصريَّين عظيمَين وهما، ذو النون المصري (٧٩٦–٨٦١) (سميث د.ت.: ٢٤٢) والشاعر ذائع الصيت عمر ابن الفارض (١١٨١–١٢٣٥) (نكلسون وبيدرسون د. ت.: ٧٦٣).٦

رغم تبايُن الاختلافات الثقافية بدرجةٍ كبيرة، فإننا نرى بعض أوجه التشابه في الطرق التي أُثيرت بها قضيَّتا «الانحلال الاجتماعي» و«التدهور السياسي» في أجزاءٍ مختلفة من العالم الإسلامي. قبل الاستعمار والسجال الجدلي بين الحداثة والمسلمين في القرن التاسع عشر، كانت هناك درجة من الوعي بتدهور العالم الإسلامي، وهو ما استدعى استجابةً «إحيائية». وكان الوضع الراهن للإسلام — أي الإسلام بصفته دينًا معنيًّا بالشريعة — هو الموجِّه للحركات الإحيائية عمومًا. وقد خالطَت هذا التوجه نزعةٌ صوفية، ليخرج في شكل طرقٍ صوفية متعددة، خصوصًا في الهند ومصر.

(٢) نموذج الشريعة

قبل إعطاء نظرةٍ موجزة على هذه العملية، لا بد أن أبدأ بتوضيح المبادئ الإبستمولوجية للإسلام الكلاسيكي، بالشكل الذي وصل به للعصر الحديث. في البداية، لا بد أن أوضح أن المصادر الأربعة التي ستُذكر هنا تمثل وجهًا واحدًا فقط من الأوجه المتعددة للثقافة الإسلامية، ألا وهو الشريعة. تمثل هذه المصادر المبادئ الإبستمولوجية أو أصول الفقه التي يُستنبط منها الفقه. والشريعة بدورها، كما يعلم علماء الإسلام، هي أحد الوجوه المتعددة للتقاليد والثقافات الإسلامية المختلفة عن غيرها، على غرار الفلسفة وعلم الكلام والصوفية … إلخ.

من أسباب اختزال الإسلام في نموذج الشريعة هو التهميش التدريجي للفلسفة الإسلامية وعلم الكلام الإسلامي منذ القرن الخامس الهجري؛ أي، القرن الثاني عشر الميلادي. فقد كان الفلاسفة وعلماء الكلام المخالفون للمنهج المتبع يتعرضون للاضطهاد أو الهجوم من جانب الفقهاء والسلطات السياسية. من العلامات على هذا الطريق «المحنة» التي تلت مرسوم الخليفة المأمون عام ٨٣٣ الذي فرض مذهب «خلق القرآن» لدى المعتزلة واضطهد المعارضين لهذا الاتجاه. وقد استمر هذه الأمر ١٥ عامًا تقريبًا (هايندز ١٩٩٣: ٢ وما بعدها). وفي القرن الثاني عشر في الأندلس، حين التمس الخليفة الدعم في حروبه ضد الملوك الكاثوليك، أقدم على نفي عالم الكلام المرموق ابن رشد وحرق كتبه. وكان من الأنصار الآخرين الكُثر الذين أُعدموا، الصوفيان الجليلان الحلاج (الذي أُعدم عام ٩١٠) والسهروردي (شهاب الدين يحيى، الذي أُعدم عام ١١٩١) (أرنالدز د.ت.: ٩٠٩ وما بعدها).

وفقًا للمذاهب الفقهية الرئيسية، تتخذ المصادر المعرفية الإسلامية الترتيب الهرمي التالي. أولها هو القرآن وتفسيره اللذان يمثلان الكنز الأساسي للمعرفة؛ أي، كلام الله الذي أوحى به، باللغة العربية، للنبي محمد في القرن السابع الميلادي. ورغم أنه يخاطب العرب أساسًا، فإن رسالته موجَّهة للبشرية جمعاء بغض النظر عن الزمان والمكان. إنه الهداية والضوء والخطة الإلهية النهائية للخلاص في هذا العالم والحياة الآخرة. يلي القرآن مباشرةً أقوال وأعمال النبي محمد، التي تشمل أيضًا إقراره لأقوال أو أعمال صحابته أو رفضه لها. هذه هي السنة النبوية. وقد جرى اعتبارها مقدَّسةً مثل القرآن؛ لأنها هي الأخرى وحي من الله. وقد شُرح الفرق بينهما من باب التفرقة بين «المضمون» والتعبير اللغوي أو «الشكل». فبما أن القرآن هو كلام الله، فإن مضمونه وتعبيره اللغوي (شكله) كلاهما مقدس. أما السنة من جهة أخرى، فرغم أن مضمونها موحًى به ولذلك مقدَّس، فهي بشرية من ناحية الشكل؛ أي، إن محمدًا هو الذي عبَّر عنها بالكلمات. وعلى ذلك فإنها ليست أدنى من القرآن؛ إنها مساوية له وإن كانت تأتي في المرتبة الثانية. حتى إن الفقهاء المسلمين قد أكدوا أن القرآن يحتاج السنة أكثر مما تحتاج السنة القرآن. فالسنة لا تشرح ما هو صريح في القرآن فحسب، وإنما تشرح أيضًا الضمني فيه، مثل طريقة الصلاة والصيام، وشروط الطهارة، والأموال الواجب إخراجها للزكاة. فمن دون السنة يكون القرآن أقل وضوحًا. إن السنة في الواقع هي المصدر الوحيد للمعلومات الضرورية لفهم سياق آيات وسور القرآن، والأحداث التاريخية التي أحاطت بالوحي، وهي العملية التي استمرت أكثر من ٢٠ عامًا.

المصدر الإبستمولوجي الثالث للمعلومات هو «إجماع» العلماء. بما أنه لم يكن هناك إجماع بين العلماء على القيمة الإبستمولوجية لمبدأ «الإجماع»، فلا يمكن كذلك أن يكون هناك اتفاق على تعريفه. وقد حدت صيغته النهائية من مجاله وتطبيقه. فقد اختُزل مجاله للإشارة فقط للمسائل التي اتفق عليها بالإجماع الجيل الأول من المسلمين، صحابة النبي، بناءً على افتراض أن ذلك الإجماع لا بد أن قام على سنةٍ نبوية معيَّنة لم تنتقل إلى الجيل التالي. وبالتالي فقد اقتصر مجاله على المسائل التي لم تُذكر صراحةً أو ضمنًا في المصدرَين المذكورَين سابقًا (برنارد د.ت.: ١٠٢٣ وما بعدها).

المصدر الرابع والأخير لاكتساب المعرفة هو القياس؛ أي، استنباط قاعدة لحالةٍ معيَّنة لم تُذكر في المصادر المذكورة أعلاه، من خلال المضاهاة بينها وبين قاعدةٍ راسخة تشبهها. لا بد أن يقوم القياس على تشابه، مثل شرب الخمر وتدخين الحشيش، أو على الأساس المنطقي للقاعدة المذكورة. يستلزم النوع الثاني من القياس الالتزام بمبدأ المتكلمين القائل بوجود «منطق عقلاني» وراء أحكام الله، وهو اعتقاد لا تشترك مذاهب الفقه كلها في قبوله. وعلى عكس «الإجماع»، لم يُطبِّق الفقهاء كلهم القياس، لكنه اكتسب دعمًا أكبر بين الأغلبية (برنارد د.ت.: ٢٣٨).

(٣) الإحياء

رغم ذلك فإننا مرةً أخرى نرى اختلافاتٍ معيَّنة داخل الحركة الإحيائية المعنية بالشريعة في القرن الثامن عشر. في الهند مثلًا، يُعد شاه ولي الله (١٧٠٢–١٧٦٢) الأب الروحي للإسلام «الإحيائي». وكان مذهبه الإحيائي مزيجًا بين «الصوفية» والفكر الموجه للشريعة. وهو يختلف اختلافًا ملحوظًا عن الحركة الوهابية في شبه الجزيرة العربية التي بدأها محمد بن عبد الوهاب (١٧٠٣–١٧٩٢) واستهدافها إصلاحًا تقليديًّا بشدة. يمكن ردُّ هذا للخلفية التاريخية والثقافية المتباينة للإسلام في هاتَين البيئتَين الاجتماعيتَين. فبينما أُعيد تشكيل الإسلام في الهند بتفاعله مع التراث الهندي السابق للإسلام، على غرار الهندوسية والبوذية، فقد تأثر الإسلام في شبه الجزيرة العربية بدرجةٍ كبيرة بعاداتها وتقاليدها البدوية.

متأثرًا بشدة بانهيار حكم المغول وما ترتَّب عليه من ضياع سلطة المسلمين، سعى شاه ولي الله للحث على إحياء سلطةٍ مركزية قوية بتقديم مبدأ أن تكون هناك سلطتان أو خلافتان متكاملتان؛ إحداهما سياسية، والأخرى شرعية. كانت السلطتان في رأيه مسئولتَين عن الحفاظ على الإسلام. واستخدم للسلطة السياسية مصطلح «الظاهر»؛ أي، الخارجي، وأسند إليها مسئولية الحفاظ على النظام الإداري والسياسي وتطبيق الشريعة. واستخدم للخلافة الشرعية مصطلح «الباطن»؛ أي، الداخلي، وكانت مهمتها توجيه القادة الدينيين في المجتمع، وهو الدور الذي اضطلع به شاه ولي الله بنفسه (براون ١٩٩٦: ٢٢–٢٣). التشابه واضح بين منهجه ومنهج ابن عبد الوهاب؛ فكلاهما جمع بين السلطة السياسية وسلطة الفقيه، للعمل نحو إخراج الإسلام من حالة الاضمحلال التي كان عليها. لكن يبقى الفرق بين المنهجَين في هذه المسحة الصوفية التي اتسم بها الإسلام الهندي.

وبهذه المسحة الصوفية، نجح شاه ولي الله في انتقاد البناء الكلاسيكي للشريعة. فقد استطاع أن يرفض «التقليد»، وهو التقيد دون تمحيصٍ بآراء علماء المذاهب الكلاسيكية للفقه، وأن يُحيي الرغبة في استخدام الجهد الشخصي في حسم المسائل الشرعية، أو ما يُطلق عليه الاجتهاد. وقد مكَّنه إحياء مبدأ الفهم الشخصي هذا من تجاوز الركود الذي استمر طويلًا في علوم الشريعة. وقد شدَّد على أهمية روح الشريعة وقابلية تطبيقها في كل زمان ومكان، لا شكلها، الذي يتشكَّل ويُصاغ حسب ظروف الزمان والمكان. وهو لم يكتفِ بأن أحيا مبدأ «المصلحة» (شاه ولي الله ١٩٩٦: ١١) من المذهب المالكي، وإنما اعتمد على نحوٍ أساسي على التفرقة الصوفية المعروفة بين الشريعة والحقيقة، حيث تُعد الأولى تاريخية ومحدودة في الزمان والمكان، أما الثانية فيكون بلوغها بالتمرُّن الروحاني الذي يؤدي لرؤية الواقع.

ولما كان صوفيًّا فقيهًا، فقد اعتبر شاه ولي الله علم الكلام يُعنى بالتدبر العقلاني سواء للأمور المشار إليها إشارةً واضحة في النصوص المقدَّسة (القرآن والسنة) أو تلك التي لم تُذكر. السنة، على النقيض من ذلك، كانت السلوك الذي اتفق عليه المجتمع الإسلامي. وقد أتاح له هذا التفسير فصل السنة عن علم الكلام، لينقسم أهل القبلة (أي، المسلمون) لفرقٍ متفرقة وأحزابٍ متحزبة بعد انقيادهم لضرورات الدين (شاه ولي الله ١٩٩٦: ٢٤). وبذلك استطاع كذلك أن يشدد على الوحدة المستمرة للمجتمع، في ظل المبدأ الضمني للإجماع المتأصل في السنة. في الوقت نفسه، استُبقيَت الصوفية باعتبارها تضيف مغزًى روحانيًّا لممارسة الشريعة. غير أنه كان عليه أن يتوخى الحرص في تفسير بعض نواحي السنة بالانسجام مع الرؤية الصوفية. ولذلك جاءت هذه الملحوظة التي أخذ يُطمئِن فيها قُراءه بأنه لم يتجاوز النصوص المقدَّسة قط:

«وستجدني إذا غلب عليَّ شقشقة البيان، وأمعنتُ في تمهيد القواعد غاية الإمعان، ربما أوجب المقام أن أقول بما لم يقل به جمهور المناظرين من أهل الكلام. كتجلي الله تعالى في مواطن المعاد بالصور والأشكال. وكإثبات عالم ليس عنصريًّا يكون فيه تجسُّد المعاني والأعمال بأشباحٍ مناسبة لها في الصفة، وتُخلق فيه الحوادث قبل أن تُخلق في الأرض، وارتباط الأعمال بهيئاتٍ نفسانية، وكون تلك الهيئات في الحقيقة سببًا للمجازاة في الحياة الدنيا وبعد الممات، والقول بالقدَر الملزم، ونحو ذلك.

فاعلم أني لم أجترئ عليه إلا بعد أن رأيتُ الآيات والأحاديث وآثار الصحابة والتابعين متظاهرةً فيه؛ ورأيتُ جماعات من خواص أهل السنة، المتميزين منهم بالعلم اللدني يقولون به ويبنون قواعدَهم عليه» (شاه ولي الله ١٩٩٦: ٢٤–٢٥).

بما أن هذه المفاهيم يمكن نسبها بسهولة ﻟ «عالم الخيال» الخاص بالصوفي والفيلسوف الأندلسي ابن عربي (١١٦٥–١٢٤٠)، فحسبنا هنا أن نُبيِّن كيف أن مفهوم السنة، المنفصلة عن علم الكلام، كان مرتبطًا ارتباطًا عميقًا بالثيوصوفيا الصوفية (أبو زيد ١٩٩٨أ: ٥١–٩٥). هذا الارتباط بين السنة والثيوصوفيا الصوفية سمةٌ مميزة للإسلام الهندي؛ حيث حدث الانسجام أخيرًا بين اثنَين من الخصوم الأشد اختلافًا وهما ابن عربي، ممثل الثيوصوفيا الصوفية، وابن تيمية (١٢٦٨–١٣٢٨)، ممثل المذهب الحنبلي الشديد المحافظة (هنويك د.ت.: ٣٢١).

قصة الإصلاح في شبه الجزيرة العربية اتخذت اتجاهًا آخر، اتجاه ابن تيمية من دون ابن عربي، وإن كان قد قام أيضًا على تعاونٍ مشابه بين سلطةٍ سياسية وأخرى شرعية. كان المنادي بهذه الحركة في شبه الجزيرة العربية هو محمد بن عبد الوهاب (١٧٠٣–١٧٩٢)، الذي كان يحلُم بإقامة دولةٍ دينية يكون فيها المرشد في الأمور الشرعية. وفي عام ١٧٤٤، اجتذب في صفِّه محمد بن سعود، الذي كان أميرًا على الدرعية آنذاك. وقد «تبايعا على السعي، بالقوة إن لزم الأمر، من أجل أن تسود كلمة الله». هذا الميثاق، الذي ظلا دومًا ملتزمَين به مخلصَين، كان علامة على البداية الحقيقية للدولة الوهابية (لاوست د.ت.: ٦٧٨). من السهل أن تصنِّف خطابه على أنه أصولي من كتاباته. بيد أن مبادئه ليست هي المبادئ الجوهرية الأساسية المستنبطة من القرآن والسنة؛ فإنها أميل للالتزام التام بتعاليم أحمد بن حنبل، كما انتشرت وفُسرت في كتابات ابن تيمية وابن قيم الجوزية (١٢٩٢–١٣٥٠) (العظمة ٢٠٠٠: ٩–١٣).٧ رغم أن الخطاب الإحيائي الهندي الذي تقدم به شاه ولي الله شجَّع على أهمية تطويره اللاحق، فإن الوهابية لم تتطوَّر قَط عن الأفكار الأساسية التي صاغها مؤسسها. فلم تسمح الوحدة التامة بين العقيدة والنظام السياسي بأي معارضةٍ سياسية بخلاف الدعوة لأيديولوجياتٍ أشدَّ راديكاليةً وأصولية. وإن جيَشَان الراديكالية والإرهاب داخل السعودية في العامَين الأخيرَين، واكتشاف علاقته بتنظيم القاعدة مؤخرًا، لهما خير دليلٍ على أنه متأصل في النظام.

في سياق الضغط الأمريكي من أجل إعادة تشكيل العالم العربي سياسيًّا وفكريًّا، يجري حاليًّا عددٌ هائل من الاجتماعات والمؤتمرات وما شابه، التي صُممَت أساسًا لتقديم الوهابية باعتبارها نظامًا ليبراليًّا ومتفتحًا وديمقراطيًّا، في محاولة لتجميل نفس الوجه القديم. وخلال مؤتمر أُقيم مؤخرًا بشأن «حقوق المرأة»، ظهر بجلاءٍ شديدٍ في الكثير من البيانات الغطرسة الذكورية المتجلية في الاعتراضات على مشاركة النساء، حتى إن الأمير عبد الله دعا المشاركين لاجتماعٍ منفصل في القصر الملكي لتخفيف التوتر. ويبدو التقرير النهائي للمؤتمر مؤيدًا لتحرر المرأة ومشاركتها في المجال الاجتماعي العام، لكن دائمًا مع شريطة الامتثال لقواعد الشريعة («الحياة» ٢٠٠٤: ٤).

(٤) الخلاصة

صار من الواضح الآن أنه لا صحة في التعميمات التي صاغَتْها القوى الاستعمارية عن الإسلام والعالم الإسلامي خلال القرن التاسع عشر. وكما سنرى، فإن واقع أن الإحياء كان أساسًا موجهًا لدعم التضامن والحفاظ على النظام الاجتماعي في مواجهة التدهور — ومن ثَم أكد على مسألة الشريعة — قد ترك بصمته على أغلب قضايا الإصلاح، حتى استعاد موقعه المحوري في الحركات الإسلامية السياسية.

هوامش

(١) ما يدل على السياق العربي هذا أولًا أن محمدًا، نبي الإسلام، كان عربيًّا؛ وثانيًا أن النصوص التأسيسية كانت باللغة العربية؛ وثالثًا أن العرب نقلوا الإسلام خارج شبه الجزيرة العربية؛ ورابعًا أن عملية تعريب قد جرت بنجاح في الكثير من الأماكن المعروفة الآن باسم العالم العربي. إذ لم يقع في تاريخ الإسلام كما جرى في تاريخ المسيحية؛ حيث كان مَن نشَر أحداثَه في الغالب أمميين (من غير اليهود)، هذا بجانب الترجمات الأولى للكتاب المقدس التي أدت لتوطين الدين. فالصلوات في الإسلام لا بد أن تُقام بالعربية، بغض النظر عن مدى صعوبة نُطق العبارات فيها. وهذا يتضمَّن ضرورة تلاوة المسلمين من غير العرب سورًا معيَّنة من القرآن. وعلاوةً على ذلك، لا تُعد ترجمة القرآن تمثيلًا لكلام الله مثلها مثل القرآن العربي؛ فهي تعطي المعنى فقط خاليًا من القدسية المنسوبة لكلام الله.
(٢) دون تاريخ.
(٣) يمكن تقسيم تاريخ الإسلام في إندونيسيا عشوائيًّا إلى أربع فترات؛ الفترة الأولى، من عام ١٤٠٠ حتى ١٦٥٠، تغطِّي فترة انتشار الروابط مع مركز (مراكز) العالم الإسلامي وإنشائها. تأثَّر الإسلام في إندونيسيا في بدايته تأثرًا كبيرًا بالآراء الصوفية، وهو ما اتسم به الإسلام في الهند أيضًا، وبحلول القرن السادس عشر كان الكثير من أشهر علماء الأرخبيل من الطرق الصوفية.
الفترة الثانية، من عام ١٦٥٠ حتى ١٨٦٨، هي فترة الإمبريالية الهولندية والعزلة، التي أدت لظهور الإسلام الإندونيسي، أو «الإسلام الأبانجاني». كذلك برز في هذه الفترة دور الشركة الهولندية البحرية التجارية كيه بي إم. «بحلول القرن الثامن عشر، بدأ المزيد من العلماء العرب الأصوليين من حضرموت يجعلون آراءهم عن الإسلام محسوسة، وبدأَت التأثيرات الخارجية على الإسلام الإندونيسي تتحول من مركزها السابق في شبه الجزيرة الهندية إلى الشرق الأوسط.»
الفترة الثالثة، من عام ١٨٦٨ حتى ١٩٠٠، تبدأ بافتتاح قناة السويس التي سهَّلَت على العلماء التقليديين رحلات الحج، مما أعاد التواصل بين الإسلام الإندونيسي ومركز التعلم في مكة.
وأخيرًا، شهدَت فترة القرن العشرين تأثير حركة الإصلاح المصرية التي قادها محمد عبده (المتوفى عام ١٩٠٥) ومحمد رشيد رضا (المتوفى عام ١٩٣٥) التي روَّج لها إصدار مجلة «المنار» (١٨٩٨–١٩٣٥). خلال هذه الفترة (١٩٠٠–١٩٣٩) صارت مؤسسة الأزهر في القاهرة مركز التعليم لدى المسلمين الإندونيسيين، خاصةً بعد سيطرة القوات الوهابية على مكة. خلال منتصف عشرينيات القرن العشرين، كان هناك ما يقرب من مائتَي طالب من جنوب شرق آسيا، أغلبهم إندونيسيون، يدرسون في القاهرة. كانت السلطات الهولندية قد أقامت نظام تعليم غربيًّا للأطفال الهولنديين، لكنه جذب أعدادًا كبيرة من الإندونيسيين، خاصة من العاملين في الخدمة المدنية. وقد أدى هذا إلى تقليص مؤسسات التعليم التقليدية، خصوصًا في المدن الكبرى (ميدين ١٩٩٥: ١٩٧).
(٤) بدأه الليث بن سعد (٧١٣–٧٩١). كان من تلاميذ مالك بن أنس (٧١١–٧٩٥)، مؤسس أول مدارس الفقه الإسلامي، وكان في وضع سمح له بالتصريح باستقلاله عن معلمه، مع الحفاظ على علاقة اتسمت بالودِّ والانفتاح على التنوع الفكري. ومن ناحيةٍ أخرى، يُعتقد أن محمد بن إدريس الشافعي (٧٦٧–٨٢٠) قد طوَّر مدرسته الفكرية في مصر. وهكذا فإن أغلبية المسلمين المصريين الذين كانوا مالكيين صاروا تدريجيًّا شافعيين.
(٥) قد يعود هذا للتراث الثقافي السائد في تديُّن المصريين. فقد وُلدَت الرهبانية في مصر، بسبب خلفيتها القبطية، وكان لها دورٌ محوري في تكوين شخصية الكنيسة القبطية بما تتسم به من خضوع وتواضع. وبفضل تعاليم آباء الصحارى المصرية العظام وكتاباتهم، ازدهرَت الصوفية في الإسلام المصري.
(٦) وُلد ذو النون المصري في صعيد مصر ومن المرجَّح أنه تأثر بالتعاليم الهلنستية. وكان ملقبًا ﺑ «أول المتصوفين»، كونه أول من شرح المعتقدات الصوفية ووضع تعاليمَ منهجية عن الأحوال الصوفية المتنوعة، والمقامات المختلفة للطريقة الصوفية. كان ذو النون المصري أيضًا أول من علَّم الطبيعة الحقيقية للغنوصية. ويُنسب إليه استخدام مصطلحَي «حب»، لحب الله و«وجد» للنشوة الدينية. أما عمر ابن الفارض فقد درس المذهب الشافعي والحديث في بداية شبابه، ثم صار صوفيًّا. وظل لسنواتٍ كثيرة يعيش حياةً من العزلة والتعبد في تلال القاهرة في منطقة المقطم، حيث لا يزال قبره قبلةً للزوار.
(٧) أنتج ابن تيمية أفكاره في سياق القرن الرابع عشر، حين كان العالم الإسلامي مهددًا بالغزو المغولي، خاصةً الشام ومصر بعد سقوط بغداد عام ١٢٥٨. رغم أن حاكمهم اعتنق الإسلام، فإن المغول لم يتبعوا الشريعة سواء في سلوكهم الفردي أو قراراتهم السياسية. بل إنهم لم يلتزموا إلا بالسلوك الوثني على المستوى السياسي والفردي. وقد كان لابن تيمية وتلميذه، ابن قيم الجوزية، دورٌ بالغ الأهمية في هذا الصدد؛ إذ أعادا إحياء تعاليم المذهب الحنبلي في علم الكلام والفقه وجعلا يفسِّرانها. وكان الموضوع الرئيسي آنذاك هو: هل يصح لحاكم مسلم لا يطبق الشريعة أن يدعي بأنه مسلمٌ حقيقي؟ ليس من الصعب علينا أن نعرف الإجابة، وكذلك نتخيل أهميتها للأصوليين المعاصرين الذين يحاربون العلمانية الغربية، كما يقدمها حكامٌ مسلمون في دولٍ مسلمة. التعاليم الحنبلية، بالصيغة الأيديولوجية التي وضعها ابن عبد الوهاب، تجسَّدَت في جماعةٍ مسلحة من القبائل تُسمى «الإخوان»، التي نجحَت في إخضاع معظم شبه الجزيرة العربية لسيطرة إمام واحد، وهو ابن سعود. وبصفتهم محاربين، سمى الإخوان أنفسهم «جنود التوحيد وإخوان من أطاع الله». وفي حربهم من أجل الدين كانوا يستهينون بالموت وكان من هتافهم في الحروب قول: «هبَّت هبوب الجنة، وين أنت يا باغيها؟» وبصفتها جماعةً مسلحة، كادت تُحاكيها جماعاتٌ إسلامية في عصورٍ لاحقة أكثر، فقد تجاوَزَت الفكر الوهابي ذاهبةً لحد أكثر تطرفًا. فقد تشدَّدَت في إنكار كل الأشياء الحديثة باعتبارها بدعة؛ إذ لم يكتفوا فقط بتلك المخالفة للدين. فكانت الكهرباء التي تأتي بالضوء من غير زيت أو شمع من قبيل الإثم. وقد كسر هؤلاء المرايا لأنها تعكس الصور. وكانوا يُحتِّمون أن يكون مظهرهم الشخصي على غرار الصورة المفترضة للنبي؛ بحف الشوارب تمامًا وإطلاق اللحى. اطلع كذلك على عمل العظمة (٢٠٠٠: ٩–١٣) الذي يختتمه بالربط بين تعاليم ابن عبد الوهاب واحتلال جماعة من الأصوليين الحرم المكي بقيادة جهيمان العتيبي عام ١٩٧٩.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤