الفصل الثاني

القرن التاسع عشر

مقدمة

سيُخصَّص هذا الفصل لإصلاح الفكر الإسلامي في القرن التاسع عشر، حين أثار التفاعل السياسي والثقافي بين العالمَين الغربي والإسلامي الكثير من الموضوعات الأساسية. كان أولها موضوع الإصلاح. وكان السؤال الجوهري هو: لماذا استطاعوا «هم» التقدم بينما صرنا نحن متخلفين جدًّا؟ لماذا، بعد أن «كنا» سادة العالم طيلة قرون، صرنا في غاية الوهن والضعف لدرجة الخضوع لحكم القوى الغربية وسيطرتها؟ فكانت الإجابة المعتادة لهذه الأسئلة غالبًا هي أن الإصلاح الضروري يتطلب العودة للأخلاقيات والقيم الأساسية للإسلام التي حوَّلَت العرب الوثنيين في القرن السابع الميلادي إلى سادة العالم. من ثَم فقد كان المقصود بالإصلاح هو الإحياء؛ وبجانب الاتجاه الإحيائي السابق للقرن الثامن عشر، كان يُقصد بهذا قراءة التراث في الإطار الجديد للحداثة.

سنقدم هنا مفكرين من مناطق شتى من العالم الإسلامي، مع التركيز على مساهمتهم الفكرية في موضوع الإسلام والحداثة. فمن الهند، سنعطي موجزًا للأفكار الرئيسية للسير سيد أحمد خان، موضحين تأثير النقاش الجدلي حول شخصية النبي محمد مع المستشرقين، أمثال كارل فاندر وويليام موير. كذلك كان رفاعة رافع الطهطاوي من مصر، وأحمد فارس الشدياق من سوريا، من المفكرين العرب الأوائل الذين سافروا ونقلوا أخبار العالم الغربي الحديث من واقع تجاربهم. وقد أتاحت الصورة التي نقلاها عن الغرب أن تصير هناك وجهة نظر نقدية للوضع السياسي المزري في العالم الإسلامي لدى المفكرين المسلمين الآخرين الذين لم تُتَح لهم نفس الفرصة. وهنا سأُحلِّل أيضًا الأفكار الرئيسية لدى جمال الدين الأفغاني في سياق مشاركته في النقاش الجدلي مع عالم الفلسفة الفرنسي، إرنست رينان. ومن سوريا أيضًا هناك عبد الرحمن الكواكبي وهو مثال للمفكر العربي صاحب النقد العميق. فقد كان مدركًا بشدة للطبيعة البالغة الاستبدادية لنظام الخلافة العثمانية، وسعى بكتاباته النقدية لتحرير السياسة من قبضته. كذلك من مصر هناك محمد عبده الذي تأثر تأثرًا بالغًا بأفكار الأفغاني واستمد الإلهام من نزعاته الحماسية للإصلاح. وقد طرح مشروعًا إسلاميًّا كاملًا للإصلاح تناول تقريبًا كل موضوع من الموضوعات التي ستتكشف في القرن العشرين. وسوف أحلل أيضًا مشروعه لإعادة تفسير القرآن والسنة في سياق نقاشه الجدلي مع أمثال المؤرخ ووزير الخارجية الفرنسي جابرييل هانوتو. وكان أول من أثار قضية المرأة أحد أتباع محمد عبده، وهو قاسم أمين الذي درس في فرنسا.

(١) تحدي الحداثة

لم تسعَ الحركة الإحيائية في القرن الثامن عشر إلا لإعادة فتح النقاش بشأن مصادر المعرفة الإسلامية. وكان المفهوم الوحيد الذي لاقى التفنيد هو «الإجماع»، أما مفهوم «القياس» فقد أُعيد استدعاؤه. وكان الهدف هو تمكين المسلمين من الانخراط في إعادة صياغة معنى حياتهم. إلا أن القرن التاسع عشر جلَب معه التقصي والبحث والتخصيص وإعادة التخصيص والتفاوض بشأن مفهوم السُّنة ومعنى القرآن، وبالتالي معنى الإسلام بالطبع. وكان ما حضَّ أساسًا ومبدئيًّا على هذه «النظرة الجديدة» هو التزامٌ قوي بتطوير المجتمعات الإسلامية في اتجاه التحديث من ناحية، والحفاظ على روح الإسلام وقواه من جهة أخرى. فقد كانت الحداثة على أي حال قوةً أجنبية مفروضة على العالم الإسلامي من أعلى من قِبل السلطات الأوروبية الاستعمارية التي سيطرَت عليه في أعقاب تفكُّك الإمبراطورية العثمانية.

بحلول نهاية القرن التاسع عشر، كان البريطانيون قد نجحوا في احتلال الجزء الأكبر من الهند. وكان الفرنسيون قد احتلوا مصر عام ١٧٩٨، بقيادة نابليون بونابرت. ثم غزت فرنسا الجزائر عام ١٨٣٠ واحتلت تونس عام ١٨٨١، ثم جاء بعدها البريطانيون الذين زحفوا على مصر واحتلوها عام ١٨٨٢. وكان الهولنديون مستقرين في إندونيسيا قبل ذلك بزمنٍ طويل. وكانت هناك عدة حملات أخرى مع تكشُّف برنامج الاستعمار الغربي في أنحاء العالم الإسلامي. من هنا نشأَت على الأقل ثلاثةُ تحدياتٍ هي التي استحثَّت الطريقة التي أعاد بها المسلمون التفكير في تراثهم، بل هي التي كوَّنَتها. جاء أولًا تحدي الاكتشافات العلمية والتكنولوجيا المتقدمة؛ وكان التحدي الثاني هو العقل والعقلانية؛ وكان التحدي الثالث هو تحدي السياسة. غني عن البيان أن هذه التحديات كانت دومًا مختلطة معًا في عدد من الاتجاهات التي ظهرَت في تفسير القرآن وسنطَّلع عليها، وإن كنا نقدمها هنا، كلًّا على حِدَة.

تعرَّف العالم الإسلامي على العلم الحديث والتكنولوجيا في شكل معدَّاتٍ عسكرية غريبة مجهولة أدت لهزيمته أمام القوى الغربية واحتلال غزاةٍ غيرِ مسلمين لأرضه. فحين وصل الجيش الفرنسي إلى الإسكندرية عام ١٧٩٨، كان جنود المماليك مستعدين لقتاله رجلًا لرجل. إلا أنهم صُدموا لرؤية آلات المدفعية القوية التي قتلَت عشرات الجنود بقذيفةٍ واحدة، من بُعد. كذلك كان بونابرت قد أحضر معه عددًا من علماء علوم الطبيعة والاجتماع بجانب جيشه. ويحكي الجبرتي في عمله التاريخي عن تلك الفترة رد فعل علماء الأزهر عند دعوتهم لمشاهدة هؤلاء العلماء وهم يُجْرون تجاربَ كيميائية في المعمل الذي أقاموه في القاهرة. إذ جرى بعضهم مرعوبين وهم يهمسون بعبارات الاستعاذة، معتبرين هذه التجارب من قَبيل السحر. كان هذا أول لقاءٍ للمفكرين المصريين بالتكنولوجيا الحديثة التي أنتجها البحث العلمي الحديث. وقد استجابوا لها بالتعلم، حتى يكتسبوا القوة للتصدي. بدأَت كلٌّ من تركيا ومصر اكتساب المعرفة العلمية الحديثة بإرسال الطلاب إلى أوروبا، مع استيراد التكنولوجيا الحديثة، وخاصةً الأسلحة، في الوقت نفسه. وكان الاستعماريون يملكون أيضًا السلاح الفكري المتمثل في إلقاء مسئولية ضعف العالم الإسلامي على الإسلام. إذ لم يَرَوا العالم الإسلامي أو يعاملوه إلا بصفته مسلمًا، ليس لديه أي هوية فرعية أخرى، مثل الهوية الهندية أو الإندونيسية أو العربية. وقد زادت المسألة تعقيدًا حين قبِل أولئك المستعمَرون هذه الهُوية المفروضة عليهم بلا نقاش؛ وقد أنتج ذلك الاستيعاب للهُوية المختزلة أزمة هُوية. وترتَّب على ذلك أنه صارت هناك دعوةٌ صريحة بأن تقدُّم العالم الإسلامي نحو الحداثة يتطلب تجاهُل الإسلام أو حتى هجره. يكفي أن نذكر الفيلسوف الفرنسي، إرنست رينان (١٨٣٢–١٨٩٢)، والسياسي والمؤرخ الفرنسي جابرييل هانوتو (١٨٥٣–١٩٤٤)، الذي كان وزيرًا للخارجية من عام ١٨٩٤ حتى ١٨٩٨.١ كان رينان من افترض عدم الانسجام المطلق بين الإسلام وكلٍّ من العلم والفلسفة. إذ زعم في رسالته للدكتوراه، «ابن رشد والرشدية» (١٨٥٢)، بأن أي شيءٍ تحت مسمى العلم الإسلامي أو الفلسفة الإسلامية هو مجرد ترجمةٍ لما قاله الإغريق. فالإسلام، شأن كل العقائد الدينية القائمة على الوحي، ضد العقل والتفكير الحر. كذلك حمَّل هانوتو الإسلام مسئولية تخلف العالم الإسلامي. وكان ادعاؤه قائمًا على الاختلاف اللاهوتي بين المسيحية والإسلام. إذ يرى أن عقيدة التجسُّد في المسيحية تبني جسرًا بين الإنسان والإله، وبذلك تحرَّر الإنسان من أي اعتقاد بالحتمية. أما التوحيد الخالص في الإسلام، فهو على النقيض يخلُق فجوةً لا يمكن تجاوزُها بين الإنسان والإله، دون أن يترك مجالًا للإرادة البشرية الحرة. كان هذا الاستدلال اللاهوتي الذي استخدمه هانوتو في تفسيره للاستبداد السياسي الذي اتسم به العالم الإسلامي (عبده ١٩٧٢: ٢٠١ وما بعدها).

جمال الدين الأفغاني (١٨٣٨–١٨٩٧) ومحمد عبده (١٨٤٨–١٩٠٥) استجابا على نحوٍ دفاعي، فربطا بين تخلف المسلمين وعدم فهم المسلمين المعاصرين للإسلام، وليس الإسلام في حد ذاته (كيدي ١٩٨٣؛ ماثي ١٩٨٩: ١٥١–١٦٩؛ كيدوري ١٩٦٦). إذ حاجَج الاثنان بأن الإسلام إذا فُهم كما ينبغي وفُسِّر تفسيرًا صحيحًا، كما كان الحال في العصر الذهبي للحضارة الإسلامية، فما كان المسلمون سيُهزمون بتلك السهولة أمام القوى الأوروبية ويخضعون لها. كان السؤال الأساسي الذي واجهه هؤلاء الإصلاحيون المسلمون في بداية العصر الحديث هو ما إذا كان هناك توافق بين الإسلام والحداثة. كيف يمكن لمسلم مؤمن أن يعيش في بيئة سياسية اجتماعية حديثة دون أن يفقد هُويته المسلمة؟ هل ينسجم الإسلام مع العلم والفلسفة؟ جاء بعد ذلك السؤال بشأن مدى التوافق بين الشريعة التي تمثل المجتمع التقليدي، والقانون الوضعي الذي يمثل الدول القومية الحديثة. هل كانت المؤسسات السياسية الحديثة، على غرار الديمقراطية والانتخابات والبرلمان، مقبولة في الإسلام؟ وهل من الممكن أن تحل محل المؤسسات التقليدية للشورى، وسلطة نخبة العلماء «أهل الحل والعقد»؟

مناقشة تلك الأسئلة متأصلة في موضوعات الدين والسياسة. نشأَت مسألة الإسلام السياسي في ظل الاحتلال الاستعماري لأغلب البلاد المسلمة. فقد كانت نشأتها مبكرة في مصر، على سبيل المثال، إذ تعود لعام ١٧٩٨، حين صار المسلمون مدركين لأسلوب الحياة المختلف الذي دخل على حياتهم اليومية. فقد كان المستعمرون مختلفين في شكلهم وملبسهم، ويتصرفون ويتحدثون بأسلوبٍ مختلف. إذ كانوا يأكلون طعامًا محرمًا، ويشربون الخمر، ويخالطون نساءً لسن من محارمهم بحرية، ونساؤهم غير محتشماتٍ في لباسهن. باختصار، لقد انتُهكَت الهُوية الاجتماعية والدينية للمسلمين انتهاكًا شديدًا لمجرد وجود دخلاءَ في أرض مسلمة تمامًا.

من الغريب، أو ربما المتناقض، أن بونابرت قدَّم نفسه للعلماء المصريين بصفته حامي «الدين» في مواجهة كلٍّ من البابا الكاثوليكي والسلطان العثماني الفاسد. ثم ادَّعى أنه قد اعتنَق الإسلام. لكن لم يُجدِ أيٌّ من هذا نفعًا. رغم إعادة التفكير في «السُّنَّة» في هذا السياق التاريخي والمربك، فلم تتعرض طبيعة القرآن وتكوينه وخلفيته التاريخية للبحث العميق قط. حيث ظل فوق أي بحثٍ نقدي، بصفته النص التأسيسي الأعلى مقامًا للإسلام. فقد كان مصدر الوحي الأوحد المحفوظ والأهم والأساسي الذي وجب التمسُّك به والاعتصام به. فقد كان في المقام الأول كلام الله. ولذلك فقد اعتبر المسلمون دراسات المستشرقين عن القرآن وتاريخه وتكوينه جزءًا من المؤامرة الأوروبية ضد الإسلام والمسلمين.

(٢) الإجماع من منظور جديد: نشأة العلماء الجُدد

كما ذكرتُ أعلاه، حدثَت الخطوة الأولى في آلية «النظرة الجديدة» للتراث، التي حفزَها خضوع المجتمعات الإسلامية، في الهند؛ حيث سهَّلَت المطالبات بنوعٍ جديد من الإجماع من حدوث التطور الفعلي. في مصر، أثمرَت المواجهة الأولى مع أوروبا في القرن التاسع عشر منهجًا إحيائيًّا مشابهًا وإن كان على الأرجح أكثر ليبرالية. كان الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي (١٨٠١–١٨٧٣) قد عُين إمامًا لأول بعثةٍ عسكرية مصرية سافرَت إلى فرنسا للتدرُّب على الأساليب الحديثة. وكان متأثرًا تأثرًا شديدًا بمعلمه، الشيخ حسن العطار، الذي كان شيخًا للأزهر من عام ١٨٣٠ حتى ١٨٣٤، وكان قد حاول إدخال علوم دنيوية في منهج أقدم مؤسسة إسلامية تعليمية في مصر (دودج ١٩٦١).٢ المفارقة أن الاعتراض جاء من المدير الفرنسي لمدرسة الطب في القاهرة على أساس أن الأزهر لا بد أن يظل مؤسسةً دينية خالصة. أما حسن العطار نفسه، الذي كان متبحرًا في العلوم الدنيوية مثل الفلك والطب والكيمياء والهندسة، بالإضافة إلى الأدب والموسيقى، فلم يَرَ أي تعارض بين المعرفة الدينية والعلوم الدنيوية («تقرير الحالة الدينية في مصر ١٩٩٥»).

مع ذلك المعلم الملهم، استطاع رفاعة الطهطاوي أن يتعلم الفرنسية ويدرس بعضًا من أعمال الفكر والأدب الفرنسي في القرن الثامن عشر. وربما الأهم أنه تسنى له الوقت ليشاهد الحياة اليومية في باريس ويرصدها، ويدوِّن ملحوظاته في كتابٍ نُشر بعد عودته إلى مصر، بعنوان «تخليص الإبريز في تلخيص باريز». وعند عودته عُين مديرًا لمدرسة الألسن التي أُنشئَت حديثًا. وقد أُلحق بها قلم للترجمة عام ١٨٤١. فكانت الكتب تُترجم إلى العربية من لغاتٍ (أوروبية) عدة، في مجالات الجغرافيا والتاريخ والهندسة والرياضيات والقانون … إلخ. كذلك صار الطهطاوي رئيس تحرير أول جريدة رسمية، وهي «الوقائع المصرية» (حوراني ١٩٨٤: ٧١).

وعلاوةً على ريادته للصحوة الفكرية التي أعادت النظر في التراث، تضمَّنَت مساهمة الطهطاوي في دراسة الإسلام تصورًا جديدًا لفكرة العلماء. فالعلماء من وجهة نظره أكثر من مجرد حماة لتراثٍ ثابت وراسخ. هو نفسه كان ضليعًا في الفقه؛ إذ كان على المذهب الشافعي، ورأى أنه من الضروري والجائز شرعًا أن تتكيف الشريعة مع الظروف الجديدة. ومثل شاه ولي الله، حث على إعادة فتح باب الاجتهاد. بل إنه زاد على ذلك بأن اقترح أن الفرق بسيط بين مبادئ الشريعة ومبادئ «القانون الطبيعي» التي بُنيت عليها قوانين أوروبا الحديثة. كان في هذا تضمينٌ بأنه من الممكن إعادة تفسير الشريعة الإسلامية في اتجاه الانسجام مع الاحتياجات الحديثة. وبذلك يكون قد قدَّم مبدأً للتسويغ، وهو أنه من الجائز شرعًا في ظروفٍ معينة أن يقبل المؤمن تفسيرًا للقانون مستمدًّا من نظام قانوني غير نظامه. وقد تبنَّى كُتَّابٌ لاحقون هذا الاقتراح ليستخدموه في وضع نظام حديث وموحَّد للقانون الإسلامي في مصر وغيرها (حوراني ١٩٨٤: ٧٥).

من الجدير بالذكر أن الإصلاحيين المسلمين تمكنوا من مخالفة مبدأ الإجماع بإعادة استدعاء مبدأ الاستدلال العقلاني، أو ما يُعرف بالاجتهاد. وكان هذا ميسورًا وناجحًا إلى حدٍّ كبير إذ استمد الدعم من مبدأ القياس. فاستطاع الإصلاحيون التبحُّر في مجلدات الفقه دون أن يقيِّدوا أنفسهم باتباع مذهبٍ محدد من مذاهب الفقه. وبإتاحة قدْرٍ أكبر من حرية اختيار الآراء واستخدام القياس، صار لهذا النوع من الإصلاح دورٌ رئيسي في الصياغة القانونية وتقنين الشريعة في الكثير من الدول الإسلامية. وفي الوقت نفسه، وبفضل المطابع وأنظمة التعليم الحديثة، صار لفئةٍ جديدة من المفكرين دورٌ في هذه العملية؛ حيث تحدَّت السلطة السائدة للفئة التقليدية من العلماء في أنحاء العالم الإسلامي. كانت هذه كلها عناصرَ أساسية في بناء الدول القومية بعد الاستقلال. (أما الآن، فقد أدى الاستخدام المفرط للإنترنت لتفكك السلطة التقليدية للعلماء، بل حتى سلطة المفكرين المعاصرين.) إذا كان العلماء التقليديون قد تحدَّوا مبدأ «الإجماع» وأعادوا النظر فيه وأتاحوا بذلك مجالًا جديدًا للتأمل العقلاني للتراث، فقد ذهبَت الفئة الجديدة الناشئة من المفكرين خطوةً أبعد في «النظرة الجديدة» (إيكلمان وأندرسون ١٩٩٩). ورغم ذلك، فسيظل خرق «الإجماع» هو التطور الرئيسي الذي استمر طوال القرن العشرين.

(٣) الأفغاني: رائد الإصلاح

أوحى جمال الدين الأفغاني بالحاجة للإصلاح وحث عليه في أرجاء العالم الإسلامي، بالجمع بين المعارضة النشطة للقوى الاستعمارية على الجبهتَين السياسية والفكرية والإسهامات الفكرية في الهند وإيران ومصر وتركيا. وكما أوضح آخرون، «لقد دعم الأفغاني الحركات التي كانت تعمل في سبيل الحريات الأساسية، وكافح من أجل التحرُّر من السيطرة الأجنبية (مصر، وفارس). وكذلك هاجم الحكَّام المسلمين الذين عارضوا الإصلاح أو تقاعسوا عن مقاومة التعدي الأوروبي تقاعسًا سافرًا. بل إنه تصوَّر خيار الاغتيال السياسي. كان هدفه النهائي هو توحيد الأمم الإسلامية (وفي ذلك بلاد فارس الشيعية) في خلافةٍ واحدة، قادرة على صد التدخل الأوروبي وإعادة مجد الإسلام. كانت فكرة الوحدة الإسلامية شغفه الأكبر في الحياة» (جولدتسيهر وجومييه د.ت.: ٤١٦–٤١٧).

ولا يمكن إنكار تأثير شخصية الأفغاني وأفكاره على الفكر الإسلامي الحديث عمومًا، وفي ذلك الفكر الإسلامي في الهند ومصر. ندرك من كتاباته أنه درس في المدينتَين الشيعيتَين المقدستَين نجف وكربلاء. في واقع الأمر، إن كتاباته ومحاضراته تكشف عن معرفةٍ قوية بتراث الفلسفة الإسلامية، وخصوصًا فلسفة ابن سينا، والتي كانت أكثر انتشارًا في المدارس الشيعية حيث كان تراث ابن سينا لا يزال حيًّا، عما كانت في المدارس الإسلامية السنية. ونعلم أيضًا أنه زار الهند لأول مرة وهو في سن ١٨، وأنه بقي هناك ١٨ شهرًا. ولما كان متفقهًا في التراث الإسلامي بالفعل، فقد تعلَّم في الهند علوم أوروبا الحديثة ورياضياتها لأول مرة، «مما أضاف لحصيلته من التعليم بعض المعرفة بالعلوم الأوروبية ومناهجها، مع بعض المعرفة باللغة الإنجليزية» (جولدتسيهر وجومييه د.ت.: ٤–٥). وبعد نفيه من مصر عام ١٨٧٩، عاد الأفغاني إلى الهند وظل هناك حتى عام ١٨٨٢.

وفي باريس عام ١٨٨٣، تناظر الأفغاني مع إرنست رينان في موضوع «الإسلام والعلم»، خصوصًا قدرة الإسلام على تعديل مساره والتأقلم مع الحضارة الحديثة. وانضم إليه محمد عبده في باريس في السنة التالية، وبدآ معًا نشر جريدةٍ أسبوعية باللغة العربية باسم «العروة الوثقى». كان الأفغاني يرى أن الإسلام مثل الأديان الأخرى، إلا أنه كان الدين الصحيح، الكامل، المثالي، القادر على تلبية كل رغبات النفس البشرية. وكان مثل مفكرين مسلمين آخرين في زمنه على استعداد لتقبُّل الحكم على المسيحية بأنها ضد المنطق وعدُوَّة العلم والتقدم، وهو الحكم الذي خلَعه عليها الفكر الأوروبي الحر. وأراد في الوقت نفسه أن يبرهن على أن هذه الانتقادات لا تنطبق على الإسلام. على النقيض، كان الإسلام على وفاق مع المبادئ التي توصَّل إليها التفكير العلمي؛ فهو في الواقع الدين الذي يدعو إليه العقل. كان الإسلام بحاجة لمجدد على غرار مارتن لوثر. وكان هذا في الواقع من الموضوعات الأثيرة لدى الأفغاني، وربما يكون قد رأى نفسه مضطلعًا بهذا الدور الإصلاحي. فبمجرد أن يحدث الإصلاح، كان الإسلام سيتمكن من لعب دوره الرئيسي المتمثل في التوجيه الأخلاقي مثل أي دينٍ آخر. وهذا ما أثبته تراثه؛ فقد ازدهرَت العلوم العقلانية، وقد كانت إسلاميةً وعربية بحق. صحيح أن الخلاف بين الدين والفلسفة سيظل دائمًا موجودًا في الإسلام، لكن هذا فقط لأنه سيظل موجودًا في العقل البشري (حوراني ١٩٨٤: ١٢٢–١٢٣).

في الوقت الذي أثارت فيه الأنشطة السياسية للأفغاني شكوك الحكومة، لا سيما المسئولون البريطانيون في مصر، راح شيوخ الأزهر يحتجون على تعاليمه كما هو متوقع. إذ ارتاب هؤلاء العلماء المحافظون في آرائه التقدمية بشأن التعلم لسببَين على نحو أساسي: الأول معرفته بالفلسفة وإحيائه لدراستها؛ إذ كان يُنظر للفلسفة دومًا في هذه الدوائر على أنها معادية للدين الحق؛ وثانيًا، رفضه الالتزام بتقاليدَ دينية معينة، كانت قد اكتسبَت مقامًا دينيًّا في عيون الناس (آدم ١٩٣٣: ٧). يدل هذا الانتقاد على أن تعاليمه كانت جديدةً حقًّا، ومن ثَم غير مقبولة.

وقد بدأَت المسائل السياسية بشأن «السبيل للتعامل مع الغرب» في إيران مع الأفغاني. فكان قد ناشد في مرحلةٍ مبكرة تعود لثمانينيات القرن التاسع عشر باتحاد قوات المعارضة الدينية وغير الدينية ضد التوسع الاستعماري الغربي. وهو ما سيتحقق في النهاية في الثورة الدستورية في عام ١٩٠٥–١٩٠٦. وحين جعل صوته مسموعًا كانت تبعية إيران للغرب واقعًا ملموسًا بالفعل. في عام ١٨١٣، في أعقاب سلسلة من الهزائم العسكرية، انتزعَت روسيا من الإيرانيين اتفاقيةً مهينة تقتضي وجوب موافقة روسيا على ورثة العرش الإيراني. وإلى جانب خسارة المزيد من الأقاليم القوقازية، أجبَرَت أيضًا معاهدة تركمانجاي إيران على دفع تعويضاتٍ باهظة وقبول ولاية روسيا الكاملة على رعاياها في إيران. بعبارة أوضح، كان المراد من هذه «التنازلات» السيئة الذكر الإعفاء من الولاية القضائية الإيرانية. وقد امتد هذا النظام فيما بعدُ ليشمل الرعايا الأوروبيين والعثمانيين.

وازدادت التبعية الإيرانية في السنوات اللاحقة بالتنازلات الظالمة التي منحَتْها لرجال الأعمال الروس والبريطانيين. فقد مُنح رجل الأعمال البريطاني، يوليوس دي رويتر، في عام ١٨٧٢، امتيازاتٍ واسعة مكَّنَته من السيطرة على الاقتصاد الإيراني بدرجةٍ كبيرة؛ وفي عام ١٨٧٩، مُنحَت روسيا حقوق الصيد في بحر قزوين، وشهد عام ١٨٩٠ ذروة هذا السلوك مع حصول على شركة إمبريال توباكو كوربوريشين أوف برشيا المملوكة لبريطانيا على احتكار مدته ٥٠ عامًا لصناعة التبغ المزروع في إيران وبيعه وتصديره. وقد أشعل هذا الامتياز أول انتفاضة جماعية ناجحة في إيران الحديثة. آية الله شيرازي (المتوفى عام ١٨٩٤)، الذي كان يُعَد بوجهٍ عام أعلى مرجعيةٍ دينية، أصدر فتوى تحظر على المؤمنين استهلاك التبغ، احتجاجًا على تسليم التبغ بأكمله لقوةٍ أجنبية. فتوقف الإيرانيون في كل مكان عن التدخين، ولم يملك الشاه خيارًا آخر سوى إلغاء اتفاق البيع (لامتون ١٩٦٥: ١١٩–١٥٧؛ كيدي ١٩٦٦). وكانت هذه الانتفاضة هي بالضبط ما أراده الأفغاني. فقد كان يشعر أن المسلمين لا بد أن يتحدوا حتى تُتاح لهم فرصة الوقوف ضد الهيمنة الغربية. وكان يرى أن السنة والشيعة لا بد أن يتجاوزوا اختلافاتهم لمواجهة هذا الخطر، بل حتى المسلمون وغير المسلمين لا بد أن يتمكنوا من الوقوف معًا في معركة مشتركة قائمة على إسلام جرى إصلاحه. ذهب الأفغاني إلى إيران عام ١٨٨٧ ومجددًا من ١٨٨٩ حتى ١٨٩١، فأثَّر في الجيل الجديد من المفكرين ذوي التوجه الإصلاحي، الذين سيلعب بعضهم لاحقًا دورًا محوريًّا في الثورة الدستورية.

(٤) نظرة جديدة للسُّنَّة، ونقد الحديث: ظهور تفسير جديد للقرآن

مثلما كان تأثير الأفغاني جليًّا في إيران، كان كذلك تمامًا في الهند ومصر. فإن حُجته القوية والمقنعة للإصلاح في جميع جوانب الحياة، الاجتماعية والسياسية والفكرية، ستتطور تدريجيًّا نحو تطبيق تفسيراتٍ جديدة للمصدرَين الرئيسيَّين للإسلام، المتمثلَين في السُّنَّة والقرآن. تشمل السُّنَّة أقوال النبي محمد وأفعاله وكذلك استحسانه لأعمال وأقوال الصحابة و/أو استهجانه لها. على عكس القرآن، الذي دُوِّن من البداية، انتقلَت السُّنَّة شفهيًّا قبل تجميع كتب الحديث في نهاية القرن الثاني الهجري/الثامن الميلادي. ولأن كل روايات الأحاديث كانت تنتقل شفهيًّا، مع احتمال التلفيق لأسبابٍ ودوافعَ مختلفة، فقد دفع هذا علماء الحديث الأوائل — الذين كانوا على وعيٍ شديد بهذه المشكلات — إلى أن يضعوا قواعدَ حاسمةً معينة لتقييم صحتها، بحيث يضمُّون المقبول، ويمنعون الملفَّق من دخول كتب الحديث.

في إطار السياق الحديث ﻟ «إعادة النظر»، أُعيد استدعاء هذا المنهج النقدي التقليدي تجاه الحديث، بل تطور عن نسقه النقدي التقليدي. ارتبطَت النظرة الجديدة للسُّنَّة بالجهود لإعادة التفكير في معنى القرآن وتناول الموضوعات الحديثة. وقد نُفذ هذا بالسعي لوضع تفسيرٍ جديد للقرآن من دون الاعتماد التقليدي الشديد على التراث الذي كان سائدًا في الشروح القديمة للقرآن. بعبارةٍ أخرى، كان نقد السُّنَّة في الأساس أحدَ نتائج مشاركة المفكرين المسلمين في تفسير القرآن بطريقةٍ مختلفة إلى حدٍّ ما. كانت الحاجة الملِحَّة لمقاربةٍ جديدة للقرآن تجعل معناه يستوعب الظروف الجديدة المليئة بالتحديات، هي ما حتَّمَت الابتعاد بالتفسير الحديث للقرآن عن التفسير التقليدي المليء إلى حد الإفراط باقتباسات من الأحاديث.

السير الهندي سيد أحمد خان (١٨١٧–١٨٩٨)، الذي لم يكن عالمًا تقليديًّا، كان أول محدثٍ هندي يقدِّم في تفسيره أفكارًا جديدة لم تكن معلومة في عصره (ترول ١٩٧٨؛ مالك ١٩٨٠). ولما كان من المدافعين عن الإسلام، فقد حاول تبرير المعتقدات الدينية الموجودة في القرآن في ضوء الاكتشافات العلمية الحديثة. إن الرأي القائل بأن القرآن لا بد أن تكون له الصدارة في توجيه سلوك المسلمين، في مقابل الدور السائد للأحاديث النبوية المقبولة عمومًا لدى العلماء، بدا وكأنه كان يكتسب شعبيةً بين قطاع من رجال الفكر المسلمين في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين في الهند. كان الهدف من هذا الأمر في المقام الأول هو إفساح المجال لتفسير القرآن على نحوٍ معاصر، مع التخلص من الخرافات التي كانت منتشرة بدرجة كبيرة في المجتمعات المسلمة في الوقت نفسه. وكان سيد أحمد خان أول من أثار هذا الموضوع، مشيرًا إلى أوجه التضارب في تفسير القرآن، زاعمًا أنها تفتقر حتى للمبادئ العامة التي ينبغي أن يقوم عليها فهم النص القرآني. لقد كان أغلب ما قدمه المفسرون القدامى استنباطات من شريعة، وعلم كلام، ومواعظ خرجوا بها من القرآن. ولا شك أن جزءًا لا يُستهان به من هذه التفاسير القديمة «بلا قيمة ومليء بأحاديثَ نبويةٍ ضعيفة وموضوعة» أو يتضمن قصصًا عارية من الصحة مقتبَسةً من اليهودية. لذلك كان من الحتمي من وجهة نظره أن يُحرر مجال التفسير القرآني من التراث، لتحل محله مبادئ «العقل» و«الطبيعة». فقد اقترح أن يكون القرآن قائمًا بذاته، يحتاج فقط لإعمال عقلٍ مخلص ومستنير لفهمه. وينبغي ألا تعتمد مبادئ التفسير على الحديث لأن هذا من شأنه أن يهدِّد السمة الأبدية والعالمية للقرآن. فهو يرى أن معجزة القرآن الكبرى هي عالميتُه التي تُتيح لكل جيل أن يعثر فيه على المعنى المناسب لوضعه، على الرغم من النمو المستمر للمعرفة البشرية. أما التفسير القائم على الحديث، فهو غالبًا ما يقصُر معاني القرآن على موقفٍ تاريخي معيَّن، وبذلك يحجُب عالميته (براون ١٩٩٦: ٤٤).

هذا المنهج أدى بأحمد خان إلى دراسةٍ نقدية للمصدر الثاني للمعارف الإسلامية، ألا وهو السُّنَّة. وكان في ذلك متأثرًا بالنقد المسيحي الذي تقدم به علماءُ أوروبيون مثل كارل فاندر (١٨٠٣–١٨٦٥) وويليام موير (١٨١٩–١٩٠٥) بشأن انتقال روايات الأحاديث من جهة، ومستجيبًا لجماعة أهل الحديث الضيقة الأفق ذات التوجه الوهابي، من جهةٍ أخرى. وجماعة أهل الحديث كانت جماعةً في الهند آمنت بلا تمحيص بالأصالة التامة والمرجعية الشرعية للأحاديث بصفتها المصدر الثاني للوحي الإلهي. وهكذا، «انتهى به الأمر برفض كل الأحاديث تقريبًا باعتبارها لا يُعوَّل عليها» (براون ١٩٩٦: ٣٣). إلا أن هذا ليس معناه أنه رفض السنة برمتها، وإن كانت الأحاديث تُعد الناقل الرئيسي للسنة.

وعلى غرار أحمد خان، يبدو أن المصري محمد عبده (١٨٤٨–١٩٠٥) قد اتخذ موقفًا نقديًّا، وإن كان أكثر حذرًا، تجاه المضمون الذي انتقل إلينا عَبْر كتب السنة. فلم يتمادَ عبده نظريًّا في إعادة تعريف الحديث الصحيح. لكنه أحيانًا ما كان يفنِّد الأحاديث المتعارضة مع المعنى الصريح لبعض النصوص القرآنية أو المناقضة للعقل والمنطق السليم. يبدو هذا واضحًا جدًّا في رفضه للأحاديث المتعلقة بالسحر أو عمل الشيطان، وتلك التي تحكي عن نزول الملائكة لمحاربة العدو إلى جانب المحاربين المسلمين. وكما سنرى، فإن تفسيره شبه العقلاني للقرآن يحتاج إلى مقاربة نقدية للأحاديث (براون ١٩٩٦: ٣٧).

وهكذا شهدَت بداية القرن العشرين ظهور ما سُمي «حركة أهل القرآن»، وهي جماعة في الهند عارضَت جماعة أهل الحديث وأكَّدَت أن القرآن هو المصدر الإلهي الأصيل الوحيد في حين أن الأحاديث مصدرٌ إضافي خاضع للنقد التاريخي. كان هذا رد فعل نقديًّا للتأكيد على مرجعية السنة لدى حركة أهل الحديث، والذي أسفر عن ميل تجاه نسخةٍ طقسية من الإصلاح. وبدلًا من مدى أصالة السنة كما انتقلَت من خلال روايات الأحاديث، كان التحدي الأساسي الذي قدَّمه أهل القرآن هو ما إذا كانت السنة تساوي القرآن كوحيٍ إلهي. وكان في هذا مخالفةٌ للموقف القديم القائل بأن السُّنَّة شكلٌ من الوحي يساوي القرآن في مرجعيته، وإنْ كان يختلف معه في الشكل.

شهدت مصر أيضًا جدلًا مشابهًا لذلك الذي حدث في الهند، لكنه كان أقل عنفًا في لهجته. فمثل حركة أهل القرآن الهندية، التي تأثَّرَت بتأكيد سيد أحمد خان على عالمية القرآن في مقابل تاريخية السنة، طوَّر ناقدو السنة المصريون موقف عبده الحَذِر نحو كتب الحديث إلى موقفٍ أكثر راديكالية، رافعين شعار «الإسلام هو القرآن وحده» في مقال في مجلة «المنار» عام ١٩٠٧ (صدقي ١٩٠٧: ٩٠٦ وما بعدها).٣ تصاعدَت ردود أفعالٍ قوية نحو هذه الدعوة من دولٍ إسلامية متعددة، منها الهند. وكان من أكثر نتائج هذا الجدال إثارةً للاهتمام بشأن أصالة الأحاديث هي نشأة محاولات لفصل موضوع مرجعية السُّنَّة عن موضوع نقد الأصالة التاريخية للأحاديث. هكذا كانت نتائج النقد الحديث للأحاديث مقبولة، ولو جزئيًّا، وظلت أصالة السُّنَّة مصونةً عمومًا.

(٥) نظرة جديدة لمعنى القرآن

يمكن تقسيم توجُّه التفسير الحديث للقرآن إلى ثلاثة تياراتٍ أساسية، يتناول كلٌّ منها بالأساس أحد التحديات الرئيسية للحداثة؛ أي، العلم والعقل والسياسة. وفي حين أن تحدِّيَي العلم والعقل جرى تناولهما في التفسير الجديد للقرآن في القرن التاسع عشر في الهند ومصر، فإن تحدي السياسة كان سيتكشَّف في القرن العشرين، خصوصًا مع إلغاء الخلافة وإقامة دولة باكستان. كانت الثقة التامة في العلم متجلية بالأخص في الهند، وهو ما يفسِّر حرص الأفغاني على تفنيد «المذهب الطبيعي» في الكتاب الوحيد الذي ألَّفه.

(٥-١) الإسلام والعلم

لقد تحدثنا قبل ذلك عن سيد أحمد خان، الهندي الذي تناول مسألة العلم في تفسيره للقرآن. وكما رأينا، فقد كان الهدف من نقده للأحاديث والنظر في مكانة السُّنَّة هو تحرير تفسير القرآن من الاعتماد البالغ على التراث، ليتيسر بذلك تقديم فهم أحدث نوعًا ما لرسالة الله. وحين راح ينتقد التفسيرات القرآنية القديمة من ناحية المصادر ومواضيع الاهتمام، تقبَّل فقط أجزاءها التي تتناول الجوانب الأدبية من القرآن. كان محور اهتمامه الأساسي هو جعل معنى القرآن منسجمًا مع الاكتشافات الحديثة للعلوم الطبيعية. فقد كان يزعم أنه لا بد من وضع اكتشافات العلوم الطبيعية في الحسبان أثناء شرح معاني الأجزاء ذات الصلة من القرآن؛ حيث إنها لا تتضمن أي شيء يخالف «قانون الطبيعة». إن الاكتشافات العلمية الحديثة هي تجسيد لوعود الله على أرض الواقع، في حين أن القرآن يقدِّم وعود الله بالكلمات. وبناءً على هذه الحُجة، ذهب أحمد خان إلى أن القرآن لا بد أن يتفق مع قانون الطبيعة، بما في ذلك الاكتشافات العلمية. ولذلك رفض المعجزات، وكذلك الكثير من الأوصاف القرآنية التي اعتبرها «خارقة للطبيعة» بمعناها الحرفي. فقد رأى أنها مجازاتٌ وتعبيراتٌ غير مباشرة عن الواقع (خان ١٩٩٥: ١–٢٠).

رأى أحمد خان أن الكلمات والتعبيرات القرآنية لا ينبغي فهمها بمعناها الحرفي المباشر فقط؛ فالنص المقدس كثيرًا ما يستخدم المجازات والأمثال وغيرها من التعبيرات غير المباشرة. ولكي يعطي هذا الادعاء دعمًا أصيلًا من التراث، جعل يشرح كيف أن العلماء القدامى لم يعمدوا دائمًا لفهم كلمات القرآن بمعانيها الحرفية، لا سيما حين تكون تلك المعاني مخالفة للمنطق السليم أو العقل. لقد كانوا مؤمنين بالمعجزات، ولذلك كانوا يصدقون أوصاف القرآن الخارقة للطبيعة بمعانيها الحرفية فقط لأن العلوم الطبيعية لم تكن متطورة بدرجةٍ كافية في تلك العصور. لكن نظرًا لقلة المعلومات المتوفرة عن الأدب العربي قبل الإسلام، فقد استنتج أنه من الممكن أن الكلمات والعبارات كانت لها معانٍ أخرى غير التي أوضحها اللغويون. ومن ثَم فإنه من اللازم كذلك أن تُستخدم مصادرُ أخرى وأن تُقبل معاني القرآن القائمة على تلك المصادر، حتى إن كانت تلك المعاني غير موجودة في المعاجم (خان ١٩٩٥: ١٥).

من البيِّن أن سيد أحمد خان كان متقبلًا بلا مناقشة للمفهوم الصريح للقرآن باعتباره نصًّا، وهو المفهوم الذي ظل راسخًا منذ تدوينه. وهذا يفسِّر إعجابه بالأجزاء التي تركِّز على جانبه الأدبي في التفسيرات القديمة. وعلى الرغم من تحفُّظه إزاء القَدْر المتوفر من المعلومات عن ثقافة ما قبل الإسلام، فقد ركَّز منهجيًّا على أهميتها. واستنتجَ أن القرآن لا بد، أولًا وقبل أي شيء، أن يُفهَم ويُشرَح ويُفسَّر بالقرآن نفسه؛ أي، بفهم بنائه الداخلي. وهو مبدأ مأخوذ من الكتاب العزيز (خان ١٩٩٥: ٢ و١٣–١٥). وثانيًا، رأى أن فهم القرآن يلزمه فهم الأدب العربي قبل الإسلام.

من الناحية المنهجية، ليس هناك جديد في رؤية سيد أحمد خان. إلا أن الفرق بين تفسيره وبين التفسيرات القديمة يكمن في مجال المعنى — المعنى الحديث — الذي يرى العلم، العلم الطبيعي خاصةً، الدين الجديد للعلمانية. فقد كان مأخوذًا بالعالم الجديد للعلوم والاكتشافات، حتى إنه سعى إلى العثور على سبيل لدمجه في النص المقدس. وأزعم هنا أن محاولة سيد أحمد خان لإعادة التفكير في معنى القرآن لقبول الاكتشافات العلمية هي البذرة التي ستتطور لاحقًا لما يبدو أنهما تياران متعارضان، وهما تيار الإعجاز العلمي للقرآن (الإسكندراني ١٨٨٠؛ ١٨٨٣؛ ١٨٩٧؛ جوهري ١٩٧١؛ الشرفي ١٩٩٠: ٦٩–٧٦)، وتيار «أسلمة» المعرفة والعلوم.٤ يرى التيار الأول أن النظريات العلمية كلها مشار إليها ضمنًا في القرآن. وبالتالي فإن معجزة القرآن تتجاوز النظرية القديمة للإعجاز الأسلوبي لتشمل الإعجاز العلمي. أما التيار الثاني، أسلمة المعرفة، فهو يتقصَّى الجذور الإسلامية للمعرفة الحديثة. وسوف نرجع للتيارين لاحقًا.

(٥-٢) الإسلام والعقلانية

رغم أن محمد عبده لم يكن عالم كلام ولا فيلسوفًا، فقد أعجَبَته المعرفة الفلسفية والصوفية لجمال الدين الأفغاني. لكن في حين كان الأفغاني ناشطًا ومعلمًا يستنهض الهمم (عمارة ١٩٦٨: ٢٩)، فقد ابتعد عبده عن السياسة وحصر اهتمامه في مجال الفكر، خصوصًا بعد نفيه لمشاركته في الثورة العرابية التي انتهت بالاحتلال البريطاني لمصر عام ١٨٨٢. ولتأثُّره الشديد بالأفغاني الذي أدخل في مصر فكرة التفسير الجديد والحديث للإسلام، تبنَّى محمد عبده توليفة من العقلانية الكلاسيكية والوعي الاجتماعي السياسي الحديث. وقد مكَّنه هذا من إعادة فحص المصدرَين الرئيسيَّين للمعرفة الإسلامية، القرآن والسنة، وكذلك بنية علم الكلام. وقد مهَّد هذا الطريق لما سيُعرف باسم حركة الإصلاح.

بعد تعيينه مفتيًا للديار المصرية عام ١٨٩٩ (عبده ١٩٧٢: ١٠٥ والصفحة التالية)، عالج محمد عبده عدة مواضيعَ اجتماعية وثقافية عملية من منظورٍ إسلامي عقلاني. وأنشأ برنامجًا لإصلاح التعليم العالي الإسلامي وتطبيق الشريعة. وكذلك سعى لتطبيق هذه التغييرات العملية عام ١٨٩٢ بإصلاحاتٍ مزمعة للتعليم عمومًا والأزهر على وجه الخصوص. وقد اقترح بالإضافة إلى ذلك خططًا كثيرة لإصلاح النظام القضائي. وكانت جهوده لإصلاح الأزهر في بعض النواحي موفقةً إلى حدٍّ ما. لكن نظرًا للمقاومة الشديدة من جانب العلماء التقليديين لذلك، فقد بدأ يولي الإصلاح الفكري اهتمامًا أكبر. وقد برهنَت كل هذه الأعمال على ثقته في كلٍّ من «العقل» و«الدين» باعتبارهما أفضل أساس للحيلولة دون ضلال العقل. وقد جعَلَته قضايا الإسلام والمعرفة الحديثة التي شكَّلَت جوهر كتاباته يُعيد دراسة التراث الإسلامي. فقد دفَعَته لفتح «باب الاجتهاد» على مصراعَيه، وفي كل مجالات الحياة الاجتماعية والفكرية. وحيث إنه رأى أن الدين جزءٌ أساسي من الوجود البشري، فقد كان إصلاح الفكر الإسلامي هو السبيل الوحيد لبدء إصلاحٍ حقيقي.

وقد تناول مفهوم القرآن بوصفه «نصًّا» باستفاضة في كتابه «تفسير المنار»، بالتأكيد ضمنًا على تكوينه الأدبي، ثم بالربط بين أسلوب رسالته التي جاءت في القرن السابع الميلادي والمستوى الفكري للذهن العربي آنذاك. وهكذا، كان لزامًا فهم أي شيءٍ بدا غير عقلاني أو مخالفًا للمنطق والعلم في القرآن على أنه يعكس الرؤية العربية للعالم في ذلك الأوان. فيجب تفسير كل الآيات التي تشير للخرافات على غرار السحر والحسد على أنها تعبيرٌ عن المعتقدات العربية. علاوةً على ذلك، تأتي الصور الجمالية الأدبية (على غرار «المجاز» و«المثل») في «تفسير المنار» باعتبارها أساسًا لتفسيرٍ عقلاني لكل الأحداث والأفعال الخارقة المذكورة في القرآن. ومن ثَم، فقد فسَّر محمد عبده الآيات التي تتنزل فيها الملائكة من السماء لتحارب الكفار على أنها تعبيرٌ عن التشجيع؛ فقد أتت لبث الطمأنينة في نفوس المؤمنين ومساعدتهم على النصر (عبده ١٩٧٢: ٥٠٦–٥١١). وكانت هذه تحديدًا أول محاولةٍ واضحة لإعادة وضع القرآن في سياقه في ضوء الخلفية الثقافية للقرن السابع الميلادي، وهو الأسلوب الذي طوَّره لاحقًا مفكرون مصريون وعرب ومسلمون. وقد أدَّت عملية إعادة وضع القرآن في سياقه هذه بمحمد عبده لتخليص قصص القرآن من الطابع الأسطوري. هذا إلى جانب أنه كاد يُزيل عنه الإبهام.

في حين كان سيد أحمد خان يحاول المواءمة بين القرآن والعلم بالمعادلة بينهما — المعادلة بين وعد الله «فعليًّا» ووعده «بالكلمات» — فقد اكتفى محمد عبده بوضع القرآن في سياق القرن السابع الميلادي، مستبعدًا بذلك أي محاولة للمقارنة بين القرآن والعلم. وكانت أهم إسهاماته في هذا المجال إصراره على أن القرآن ليس كتابًا للتاريخ ولا كتابًا للعلم؛ وإنما كتابٌ للهداية. وبالتالي، فإن أي بحث عن دليل على نظريةٍ علمية هو بحثٌ عقيم. ومن جهةٍ أخرى، لا يجدُر الاعتداد بقصص القرآن باعتبارها وثائق تاريخية. ففي واقع الأمر، إن الوقائع التاريخية المذكورة في قصص القرآن مقدمة بأسلوبٍ أدبي وقصصي لنقل رسائلَ وعظية (عبده ١٩٧٢: ٣٠ وما بعدها). كان محمد عبده واضحًا جدًّا بشأن الفرق بين «التأريخ» وقصص القرآن. فالتأريخ مجالٌ علمي من المعرفة يقوم على الاستقصاء والبحث النقدي للبيانات المتوفرة (الروايات والأقوال والذكريات والأدلة الجغرافية أو المادية مثلًا). في المقابل، الهدف من القصص القرآنية هو تحقيقُ أغراضٍ أخلاقية وروحانية ودينية. وهي قد تكون قائمة على بعض الحوادث التاريخية، لكن الهدف منها ليس إعطاء معلومات عن التاريخ. ويفسِّر هذا عدم ذكر أسماء الأشخاص أو الأماكن أو التواريخ في هذه القصص. إذ يُحذف الكثير من التفاصيل، حتى إذا كانت القصة عن أحد الأنبياء أو عدوٍّ له (مثل فرعون). وهكذا، كان محمد عبده معارضًا واضحًا لمنهج المفسرين القدامى الذين حاولوا توضيح هذه المبهمات. فقد شدَّد على أن أهمية القصة ليست متوقفة على تلك المعلومات. وإنما تتوقف على الرسالة «الوعظية» التي يمكن استنباطها منها.٥

من المهم أن نؤكِّد هنا على أن الخطاب الفكري الليبرالي لمحمد عبده يمثل الجانب الفكري لمشروع التحديث الذي بدأه محمد علي (١٧٦٠–١٨٤٩) لإقامة دولةٍ حديثة في مصر. وهو المشروع الذي نفَّذه حفيد محمد علي، الخديوي إسماعيل (١٨٦٣–١٨٧٩)، الذي أفصح عن رغبته في جعل مصر مثل أي دولة أوروبية. كانت أفكار محمد عبده ذات أثرٍ بالغ في القرن العشرين، تقريبًا في أنحاء العالم الإسلامي بأَسْره، وذلك بفضل مجلة «المنار» (١٨٩٨–١٩٣٦) التي أنشأها رشيد رضا (١٨٦٥–١٩٣٥)، تلميذ محمد عبده وزميله. وكما سنرى، رغم أن المجلة كانت منبرًا لنشر أفكار محمد عبده، فقد حوَّلها رضا في اتجاهٍ أكثر تحفظًا بنشر أبعاد أفكاره التراثية بدلًا من أبعادها الليبرالية.

وعلى غرار محمد عبده، كانت جهود أحمد خان لتحرير مجال تفسير القرآن من التراث تنطوي على الاستعانة بمبادئ «العقل» و«الطبيعة» بدلًا من الإفراط في الاعتماد على الاقتباس من التراث. فقد رأى أن القرآن كيانٌ مستقل، لا يحتاج فهمُه إلا إعمالَ عقلٍ مخلص ومستنير. ولا ينبغي أن تعتمد مبادئ التفسير على الأحاديث، بما أن ذلك سيسلب القرآن سِمتَه الأبدية والعالمية. وهكذا كانت معجزة القرآن الكبرى من وجهة نظر خان هي عالميته، التي تمكِّن كل جيل من اكتشاف معنًى يهمُّه فيه، بغض النظر عن النمو المستمر للمعرفة البشرية. أما التفسير المستند إلى الأحاديث فهو غالبًا ما يقصر معاني القرآن على موقفٍ تاريخي محدد، وبذلك يقضي على عالميته (براون ١٩٩٦: ٤٤).

وقد بذل محمد عبده قصارى جهده، في تفسيره خصوصًا، لإعلان براءة الإسلام من تخلف العالم الإسلامي. إذ إنه بالتفرقة بين «الإسلام» و«المسلمين»، جعل المسئولية على البشر الذين أساءوا فهم الرسالة الخالصة للإسلام وأساءوا تفسيرها. وبناءً على هذه التفرقة، بات الإسلام والتراث الإسلامي هما الإطار المرجعي الوحيد الباعث على التقدم. وهكذا لم يعُد المسلمون يَرَون التقدم والتخلف نتاجَ بيئةٍ سياسية اجتماعية وثقافية في مجتمعٍ ما. فالتخلف السياسي الاجتماعي أتى من القصور في فهم التراث الديني. وبذلك كان الحل الوحيد هو الرجوع لفهمه فهمًا خالصًا دقيقًا، فهو ما مكَّن المسلمين من بسط سلطانهم على العالم في الماضي. وأي حلول يقدِّمها الجانب الآخر — الغرب — ستبعث على رد فعلٍ قائم على الهُوية المفروضة من جانب الغازي؛ أي، الهوية المختزلة في جانب واحد وهو الدين.

عكَس المذهب العقلاني الذي اتخذه خان ومحمد عبده إعجابهما بمبادئ الثورة الفرنسية، التي جذَبَت الكثير من المفكرين المسلمين من الأتراك والعرب. كان الدافع وراء نقد محمد عبده للمسيحية والكنيسة الذي يهدف إلى الدفاع عن الإسلام هو عقدة دونية تجاه أوروبا وخلفيتها الثقافية المسيحية، وتأثره بالمذهب العقلاني الأوروبي. فقد كان يرى أن تقدم أوروبا القوي والشديد كان نتيجة لتخليها عن المسيحية، حسبما عبَّر في أشهر عباراته البالغة الدلالة والتي يُكثِر الاستشهاد بها بخصوص موضوع الإسلام والمسيحية وأوروبا. في الواقع إن أوروبا لم يكن لديها خيارٍ آخر، لكون المسيحية دين خضوع وانصياع وترك ما لقيصر لقيصر وما لله لله. أما الإسلام فقد أمر المسلمين باكتساب القوة والسلطة. لذلك كان من المنطقي أن يستنتج عبده، عندما شهد احتلال أوروبا لبلاد المسلمين وسيادتها عليها، أن الإسلام «الحقيقي» موجود في أوروبا، حيث الناس غير مسلمين. ولذلك فقد حَضَّ المسلمين على تحصيل كل الفوائد التقنية لدى أوروبا مع الالتزام بتراثهم ليستمدوا منه الهُدى المعنوي والأخلاقي والروحاني. وقد عكس هذا المزجُ بين النظر لأوروبا كمثالٍ على التقدم المادي، والنظر إلى «الماضي» من أجل الهداية، استراتيجية سياسية براجماتية؛ وهي محاربة العدو باقتراض التقنية العسكرية الغربية المتقدمة. لا شك أنه لم يكن هناك ضَيرٌ في الانفتاح على العلوم والتقنية. أما عن اقتراض العقلانية والتنوير الأوروبي الحديث، فهو أمرٌ أمكن تبريره عن طريق علم الكلام والفلسفة الإسلاميَّين الكلاسيكيَّين، خاصةً لدى المعتزلة وابن رشد.

(٦) الخلاصة

مهَّد سيد أحمد خان ومحمد عبده الطريق للمفكرين المسلمين طوال القرن العشرين لإعادة التفكير في معنى القرآن، وبالتالي معنى الإسلام، مما أتاح لهم التأقلم مع الحداثة بطرقٍ مختلفة. وكما بينَّا، فقد كان سيد أحمد خان مشغولًا في الأساس بتحدي العلوم الحديثة، في حين كان محمد عبده مشغولًا بموضوع العقلانية في العموم. إذا كنا سنعُد منهج خان البذرة لما سيكون تيار الإعجاز العلمي اللاحق؛ أي، الاعتقاد بأن القرآن تنبأ بالنظريات العلمية الحديثة، وكذلك تيار «أسلمة» العلوم والمعرفة، فقد كان منهج عبده ميالًا لما صار معروفًا باسم «المقاربة الأدبية». ورغم ذلك، فقد شهد القرن العشرين تسييس الإسلام ومقاومته للهيمنة الغربية، وهي الحركة التي بدأَت في الهند وانتهت بإقامة باكستان لتكون دولةً للهنود المسلمين. وفي هذا السياق، صارت أفكار المودودي ومبادئه المصدر الحقيقي للتفسيرات السياسية والأيديولوجية المستقبلية للقرآن.

هوامش

(١) سياسي ودبلوماسي ومؤرخ أدار التوسُّع الاستعماري الفرنسي الهائل في أفريقيا، وناصر التحالف الفرنسي الروسي الذي تبيَّن أنه كان عاملًا مهمًّا في الأحداث التي أدت إلى الحرب العالمية الأولى. ولما كان أحد القوميين الفرنسيين، فقد كان ملتزمًا بسياسات التوسُّع الاستعماري. وخلال خدمته في الوزارة، تأسَّسَت الهيمنة الفرنسية في غرب أفريقيا الفرنسي ومدغشقر وتونس، مع شن غارات على الجزائر.
(٢) أنشأ مسجد الأزهر الفاطميون، الذين فتحوا مصر عام ٩٦٩ ميلاديًّا. وكان يمثل شيئًا أكبر من مكان محلي للعبادة، كما كان أيضًا جامعًا. ولما كانت أغلبية المسلمين من المصريين سنيين، لديهم القوانين الشرعية المحافظة والأشكال التقليدية من العبادة التي يطبِّقونها، فقد توخَّى الفاطميون الحذَر لكيلا يمسوها. وبدلًا من اللجوء للقهر، حاول الفاطميون أن يستميلوا الرعايا السنيين بنظام قائم على الأيديولوجيا والدعاية. فكانت إحدى الوسائل الرئيسية للترويج للنفوذ الفاطمي هي نظامهم القانوني، الذي كان متغلغلًا في أيديولوجيتهم الخاصة. وخلال الدولة الأيوبية (١١٧١–١٢٥٠)، أُهمل الأزهر إهمالًا شديدًا؛ إذ كان الهدف استعادة التقليد السني وتنحية الفاطميين. وخلال عصر المماليك (١٢٥٠–١٥١٧)، أُعيد إحياء الأزهر ليكون له دورٌ مهم. أولًا، وُكلَت إليه مهمة المساعدة في الحفاظ على اللغة العربية؛ إذ كان المماليك أنفسهم يتحدثون لهجاتٍ تركية. وكانت ثاني المسئوليات الموكَلة للكليات والمدارس الخاصة بالجامع هي الحفاظ على احترام الشريعة بصفتها الوسيلة الوحيدة للحفاظ على حقوق الناس في مواجهة التسلط العسكري الجامح الذي مارسه المماليك. وكانت المهمة الثالثة للأزهر هي تدريس مبادئ الأخلاق والعدالة الاجتماعية المذكورة في القرآن في فترة تفشَّت فيها الأنانية والبذخ بنحوٍ مشين في الطبقة الحاكمة. ورابعًا، كان على شيوخ الأزهر في تلك الفترة التي اتسمَت بالبيروقراطية البالغة الصرامة أن يحافظوا على تعاليم الحب والتسامح والإحسان التي أوصى بها النبي محمد. وخدم الأزهر الناس بطريقةٍ خامسة، حيث وفر لهم الملاذ في أوقات الخطر. وأخيرًا، خلال حكم المماليك، كانت ثمَّة حاجة إلى الأزهر للحفاظ على المرتبة العالية للدين في خِضم تعصُّب ترتَّب على قرنَين من العدوان الصليبي، والخرافة والجهل الناشئَين عن الفقر، في المناطق الريفية خصوصًا. كانت إعادة إحياء الأزهر، بعد أن جعله صلاح الدين في منزلة مسجدٍ صغير، عملية لها بالغ الأثَر، حتى في سياق التاريخ المصري، نظرًا لضرورة الحفاظ على الثقافة والدين الحقيقيَّين الناتجَين عن دعوة النبي محمد.
حين دمَّرَت غزوات المغول غرب آسيا في القرنَين الثالث عشر والرابع عشر، حلت القاهرة محل بغداد باعتبارها المركز الثقافي الرئيسي للعرب. لم يعُد الأزهر جامعًا ومركزًا تعليميًّا مهمًّا فقط، وإنما صار مزارًا للأتقياء، ونزلًا للحجاج، وملجأً للفقراء ومكانًا لتجمع النُّساك. وفي عام ١٤٩٧، أبحر فاسكو دا جاما حول رأس الرجاء الصالح، ليكتشف طريقًا تِجاريًّا جديدًا للهند. وسرعان ما صار رأس الرجاء الصالح الطريق المستخدم للتجارة بين أوروبا والشرق، وخسرَت مصر عوائدها من المكوس والإيرادات الناتجة عن عمليات إعادة الشحن. وترتَّب على ما تلا ذلك من خسائر وركود لا مفر منهما أن السلطان لم يستطع أن يدفع لجنوده المماليك وحلفائه من البدو ما يكفي لضمان رضاهم، وانخفضَت الروح المعنوية للجيش. بل إلى جانب تدمير التجارة المصرية، غزا البرتغاليون البحر الأحمر أيضًا.
كان الحكم العثماني لمصر يسترشد بثلاثة مبادئ، أثَّر اثنان منها تأثيرًا إيجابيًّا على دور الأزهر. كان الباشا، الذي كان يُعين لمدة عام واحد فقط، يستعين بديوانَين قائمَين في القاهرة. هذان الديوانان، علاوةً على اشتمالهما على المسئولين الإداريين وأمراء المماليك، كانا يضُمان أيضًا قضاة المذاهب الأربعة وعددًا من الشيوخ المهمين. فكان هذا يعطي الأزهر سلطة التأثير في الشئون السياسية. إن الفتح العثماني بتركه الشئون المحلية لمصر لإدارة المماليك، ترك الأزهر عُرضةً لسيطرة المسئولين المماليك المحليين، وطلَب منه خلال القرن السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر نفس الخدمات التي قدمها خلال الحملات الصليبية والغزو المغولي.
(٣) أُسِّست هذه المجلة عام ١٨٩٨، وظلت تصدر حتى وفاة مؤسسها رشيد رضا، أحد تلامذة محمد عبده، عام ١٩٣٥.
(٤) جاء في مقال نُشر في الملحق الأسبوعي لجريدة «الأهرام»، الصادر في ٢٧ أكتوبر، عام ٢٠٠٠، الصفحة ٢، أن الهدف من الإعجاز العلمي للقرآن ليس إقناع العرب بأصالة القرآن وقدسيته. فيقول الكاتب إن حسب العرب التأكد من إعجاز القرآن من خلال بيانه البليغ؛ غير أن هذا التفسير غير كافٍ ولا مقبول لغير العرب. أضف إلى ذلك أن العلم هو أعلى أشكال المعرفة في الثقافة الغربية. كان المقال مكتوبًا أساسًا للرد على النقد الموجَّه لفكرة «الإعجاز العلمي للقرآن». يُقال إن الربط بين القرآن والنظريات العلمية، وهي متغيرة وعرضة للتحدي لمواكبة تطوُّر المعرفة البشرية، إنما يضُر بقدسية القرآن وأبديته، وهو كلام الله. ودفاعًا عن صحة الإعجاز العلمي للقرآن، يفرِّق الكاتب بين الحقيقة والنظرية العلمية، زاعمًا أن إعجاز القرآن قائم على الأولى لا الثانية. إذا كانت هذه الحقائق واردة في القرآن، صراحةً أو ضمنًا، فهي تعطي الدليل القوي والشامل على أنه من عند الله. وفي هذا السياق، صار اتفاق الإسلام، خصوصًا القرآن، مع العلم الحديث، مسألة تشغل عددًا من المفكرين المسلمين من غير رجال الدين. من المراجع ذات الصلة التي يمكن الرجوع إليها: الإسكندراني ١٨٨٠ و١٨٨٣؛ وفكري ١٨٩٧؛ وجوهري. إن المرجع الأخير تفسيرٌ يضم عدة مجلدات بذل فيها الكاتب ما في وسعه لتحديد كل ما في القرآن من روابط مع العلوم الحديثة والتقنية الحديثة، بل حتى الاكتشافات الحديثة. فهو يتناول على سبيل المثال ٦ آيات من سورة المائدة، من ٢٧ حتى ٣٢، في ٢٥ صفحة تضم عدة عناوين أولها «التفسير اللفظي» وآخرها «الخزائن الحديدية في القرآن». قارن بين هذا المرجع والشرفي ١٩٩٠: ٦٩–٧٦.
(٥) للاطلاع على آراء محمد عبده بخصوص قصص القرآن بالتفصيل، انظر «تفسير المنار»، طبعة القاهرة الثانية المعاد طباعتها، المجلد ١، الصفحات ١٩–٢١، ٢١٠–٢١١، ٢١٥، ٢٢٩–٢٣٠، ٢٣٣–٢٣٤، ٢٧١؛ المجلد ٣، الصفحات ٤٧–٤٨؛ المجلد ٤، الصفحات ٧، ٤٢، ٩٢–٩٣. كان محمد عبده متأثرًا بدرجةٍ بالغة بعلم الكلام العقلاني الإسلامي الكلاسيكي؛ وهو ما يتجلى بوضوح في عمله «رسالة التوحيد» (الذي نُشر لأول مرة عام ١٣١٥/١٨٩٧)، الذي كان أول أطروحةٍ حديثة في علم الكلام. كما ألف عمله الأشهر الذي دافع فيه عن الإسلام ضد المسيحية، بعنوان «الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية» (الذي نُشر لأول مرة عام ١٩٠٢) حيث أسهب في مناقشة مسائل المعرفة والحضارة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤