الفصل الثالث

القرن العشرون

مقدمة

يتناول هذا الفصل إصلاح الفكر الإسلامي خلال القرن العشرين وتقديم مفهوم الدولة القومية الحديثة، في مصر وتركيا خصوصًا. كان موضوع الإصلاح بحاجة لأن يُعاد تعريفه من أجل إفساح المجال لتبنِّي مفاهيمَ وأعرافٍ غربية حديثة على غرار «الحرية» و«العقل» و«الديمقراطية». ظهرَت مسألة السياسة في أعقاب الانهيار المثير للإمبراطورية العثمانية بعد نهاية الحرب العالمية الأولى وقرار الحركة التركية الوطنية الجديدة عام ١٩٢٤ إلغاء الخلافة. وقد أثارت هذه الأحداث السؤال عما إذا كانت الخلافة تمثل عرفًا إسلاميًّا أم أنها كانت مجرد نظام سياسي يمكن أن يُستبدَل به نظامٌ آخر دون خسارة هُوية الإسلام. وقد دافع المصري علي عبد الرازق (١٨٨٨–١٩٦٦) عن إلغائها مدعيًا بأنه لا يُوجَد نظامٌ سياسي يمكن أن يُوصَف بأنه إسلامي. واستجاب محمد رشيد رضا (١٨٦٥–١٩٣٥) متخذًا اتجاهًا آخر؛ حيث دافع عنها بصفتها نظامًا إسلاميًّا أصيلًا لا بد من إعادة إنشائه لمنع المسلمين من الرجوع للجاهلية. جاءت الاستجابة السياسية في شكل تنظيم الإخوان المسلمين، الذي تأسس في مصر عام ١٩٢٨. سعى الإخوان المسلمون لإعادة إنشاء المجتمع الإسلامي في مصر كنموذجٍ مثالي يجب تطبيقه في سائر الدول، قبل إقامة الخلافة مجددًا. وهكذا صارت إعادة الأسلمة مضادًّا للتحديث، الذي صُوِّر على أنه التغريب.

(١) ظهور الإسلام السياسي

سيُحلِّل هذا القسم الجدال الذي دار في العالم الإسلامي بين معارضي الحداثة والإسلام السياسي. وهو بدلًا من استعراض آراء المفكرين سيركز على الموضوعات الآتية: الشريعة والقانون، والديمقراطية والمجتمع المدني، وحقوق المرأة، والحرية الدينية، وحرية الفكر، والمسلمون وغير المسلمين (حقوق الأقلية)، ومكانة النصوص المقدسة. وهذه كلها موضوعاتٌ لا تزال متداولة حتى اليوم. وسنتناول هنا أفكار مفكِّرين من أنحاء العالم الإسلامي بالتحليل النقدي. وسنُورِد الجدال الدائر في الساحة المحلية لمصر وإيران والعراق وإندونيسيا، لإتاحة الاطلاع على السياق المحلي. وهذا يُبيِّن التفاعل المتبادل بين المفكرين المسلمين والأفكار الناشئة في سياق المجادلات المحلية المختلفة. كما أنه يُبيِّن تأثير أوروبا في إثارة هذا الجدل في العالم الإسلامي.

(١-١) مصر

رأينا في الفصل الماضي أن حركة الإصلاح التي بدأها الأفغاني وطوَّرها محمد عبده قد عكسَت نظرةً مرتبكة تجاه أوروبا والحداثة على حدٍّ سواء. فقد كانت أوروبا الخصم الواجب مقاومته وكذلك المعلم الواجب التعلم منه. أما الماضي الذهبي، من جهةٍ أخرى — التراث الإسلامي — فقد اعتُبر ذخيرة القيم المعنوية والأخلاقية والروحانية. على أي حال، فقد ظلَّت روح محمد عبده العقلانية حيةً في مصر طوال القرن العشرين بعد وفاته عام ١٩٠٥. حيث تجلَّت النزعتان العقلانية والمحافظة اللتان خلَّدَتا كتاباته كلٌّ على حِدَة. وفي الوقت نفسه، أخذَت الحركة الوطنية ضد الاحتلال البريطاني تنمو سريعًا. وبعد وفاة محمد عبده بعامَين فقط، شهدَت مصر ميلاد ثلاثة أحزابٍ سياسية، لكلٍّ منها أجندتُه الثقافية والسياسية وصحيفتُه. فكان حزب الأمة لديه صحيفة «الجريدة»، وحزب الإصلاح لديه صحيفة «المؤيد»، والحزب الوطني لديه صحيفة «اللواء».

كان موضوع الإصلاح السياسي والاجتماعي حاضرًا في كل مكان في العالم الإسلامي قبل عام ١٩٢٤. فقد كرَّس عبد الرحمن الكواكبي (١٨٤٨–١٩٠٢) من سوريا، الذي قضى السنوات الأخيرة من حياته في مصر، كل مجهوده للقضاء على الطغيان، سواء كان سياسيًّا أو دينيًّا. أما أحمد فارس الشدياق (١٨٠٤–١٨٧٨) فقد كان مهتمًّا أكثر بالموضوعات المتعلقة بإصلاح اللغة والأدب. نشأ الشدياق مارونيًّا، ثم صار بروتستانتيًّا ثم اعتنق الإسلام، وكانت حياته وكتاباته — التي كان أغلبها يوميات أسفار (العظمة ١٩٩٥: ٧) — تعكس موقفًا نقديًّا من الدين. وقد جعله هذا أحد أوائل المدافعين عن فكرتَين مهمتَين سيأتي الجدل بشأنهما فيما بعدُ، وهما الحرية الدينية والفصل بين الدين والسياسة. وقد أقام دفاعه عن الحرية الدينية على فكرة أن الدين في جوهره حريةٌ شخصية وليس واجبًا مجتمعيًّا. والطريقة الوحيدة للحفاظ على هذه الحرية هي الفصل بين الدين والسياسة. ولتأثُّره بأسفاره، فقد كانت هناك نزعةٌ اشتراكية في أفكاره. وهذا ما جعله يُوصَف بأنه مفكرٌ تنويري. أما الكواكبي، فقد أقام ضرورة الفصل بين السلطة الدينية والقوة السياسية على تفسيره التحليلي للخطر المتأصل في ضمهما في قبضةٍ واحدة. وهو في نقده العنيف للنظام العثماني المستبد قد أعلن براءة الإسلام من ذلك الاستبداد، ليدحض بذلك ادعاء بعض كُتَّاب الغرب بأنه سمةٌ أصيلة في الإسلام. فقد بدا الإسلام في دفاعه طريقًا وسطًا بين الديمقراطية والأرستقراطية (الكواكبي ١٩٩٣: ١٥–١٦).

انعكس الجانب الليبرالي من تفكير محمد عبده أيضًا في كتابات قاسم أمين (١٨٦٣–١٩٠٨). نادى خريجُ مدرسة الحقوق هذا بتحرير المرأة في الحياة الاجتماعية. وأدَّت كتاباته، «تحرير المرأة» (١٨٩٩) و«المرأة الجديدة» (١٩٠١)، إلى ظهور كتاباتٍ معارضة بلغ إجماليُّ عددها نحو ٣٠ كتابًا وكُتيبًا نقديًّا. وقد ترتَّب على ما دعا إليه أن اهتزَّت المؤسسات الدينية بعنف واضطربَت الطبقاتُ المثقفة اضطرابًا شديدًا. وكان الخديوي، المسئول التركي الذي كان يحكُم مصر آنذاك، يحرص بشدة على شعبيته. وقد جعله هذا يُعرِب عن استيائه. كذلك جعل مصطفى كامل لبعض الوقت يُحوِّل كل طاقاته لمقاومة أفكار قاسم أمين، وقد كان حينها قائدًا وطنيًّا في أَوْج نفوذه. غير أن الأهم من ذلك هو أن محمد عبده، بصفته مصلحًا، راح يؤيد القضية بطريقةٍ غير مباشرة وذلك بالتزام الصمت (بن سليمان ١٩٨٢: ١١٩؛ عمارة ١٩٦٨: ١٧٢). وسواء كانت أفكار قاسم أمين منسجمة تمامًا مع أفكار محمد عبده أم لا، فليس هناك شكٌّ بشأن تأثير خطاب محمد عبده. فإن تردُّد الإمام محمد عبده، الذي كان مفتي الديار المصرية في ذلك الوقت، حيال دعم قاسم أمين على الملأ دعمًا صريحًا، رغم ما تعرَّض له من تحدٍّ واستفزاز للرد، يجعلنا نُعيد النظر في موقف محمد عبده كمفكرٍ عقلاني خالص (بن سليمان ١٩٨٢: ١٣٨–١٤٢). وقد انتقد العلماء المحافظون في مصر مؤخرًا أعمال قاسم أمين، واصفين إياها بأنها أشبه بمؤامرة ضد نظام الأسرة في الإسلام (بن سليمان ١٩٨٢: ٥١؛ أبو زيد ١٩٩٤: ٤٨–٥٢).

ومن المهم الإشارة إلى أن قاسم أمين أثناء دراسته في باريس قد تعاون مع الأفغاني ومحمد عبده في نشر «العروة الوثقى»، الجريدة الأسبوعية التي كانت تصدُر باللغة العربية، والتي لم يظهر منها سوى ١٨ عددًا. وثمَّة جانبٌ آخر لنشاط قاسم أمين؛ إذ له كتابٌ وطني بعنوان «المصريون»، صدر في باريس عام ١٨٩٤، وكَتبه باللغة الفرنسية ردًّا على دوق داركور، مؤلف كتاب «مصر والمصريون» (١٨٩٣) الذي استعرض فيه البلد وبناءه الاجتماعي خصوصًا من وجهةِ نظرٍ استعماريةٍ مبالَغٍ فيها. ومرةً أخرى، كان قاسم أمين، على غرار جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، يشارك في تكذيب الخطاب الاستعماري الجدلي، لكن من منظورٍ وطني.

كان السعي للإصلاح الاجتماعي والسياسي يوازيه بحثٌ عن إصلاح التعليم. ولما كان من الصعب إدخال تعديلاتٍ حقيقية على المناهج التقليدية لجامعة الأزهر، فقد أنشأ المصلح علي باشا مبارك (١٨٣٢–١٨٩٣) كليةً جديدة مستقلة عام ١٨٧٢. وكان الهدف من كلية دار العلوم هذه هو تعريف عدد من طلاب الأزهر بفروعٍ علمية جديدة في دورةٍ تدريبية مدتها خمس سنوات قبل أن يُقدِموا على التدريس في المدارس الجديدة التي أُنشئت حديثًا. كذلك أُقيمت مؤسسةٌ أخرى عام ١٩٠٥، وهي مدرسة القضاء الشرعي. وكان برنامجها لدراسة القانون نظريًّا وعمليًّا. وقد استهدفَت تدريب القضاة المستقبليين على القانون الإجرائي والمعياري الحديث، بجانب الشريعة، وتجهيزهم للمحاكم الحديثة. وقد تخرَّج في هذه الكلية أغلب المفكرين الذين لعبوا دورًا مهمًّا في الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية والدينية لمصر.

وبعد عام، افتُتحَت أول جامعةٍ حديثةٍ غير دينية، غير حكومية، باسم الجامعة الأهلية. وقد ذكَرَت مذكرة تدشينها عام ١٩٠٦ أنها مؤسسةٌ علمانية أبوابها «مفتوحة لكل باحث عن المعرفة بغَض النظر عن جنسيته أو دينه». وقد وجَّه سعد زغلول، زعيم الحزب الوطني آنذاك، نقدًا شديدًا لأحمد زكي، رئيس مجلس إدارة الجامعة، على خطاب الافتتاح الذي أكَّد على الأمجاد الماضية للإسلام. فقد شعر زغلول أنه أمرٌ غيرُ لائق في افتتاح «جامعة لا دين لها إلا العلم» (ريد ١٩٩١: ٣١). وبعد بضع سنوات، مع مواجهة الجامعة لعجز في ميزانيتها، تدخَّلَت الحكومة بالدعم المالي. وقد تحوَّلَت المؤسسة المستقلة بهذه الخطوة عام ١٩٢٥ لهيئةٍ حكومية باسمٍ جديد هو جامعة فؤاد الأول. وقد تغيَّر اسمها مرةً أخرى بعد ثورة ١٩٥٢، ليصير هذه المرة جامعة القاهرة. ومع تطوُّرها سريعًا حتى باتت جامعةً وطنية عريقة، تنحَّى الأزهر عن مكانته باعتباره المركز الوحيد للدراسة الأكاديمية في مصر (دودج ١٩٦١: ١٤٣–١٤٤). فقد انتقل إلى الجامعة الجديدة على الفور طه حسين، الطالب الكفيف الذي كان يدرُس في الأزهر. ثم تَمُر الأيام ويصبح طه حسين رائد الإصلاح والتجديد في مصر خلال القرن العشرين.

رغم أن الهدف من جامعة القاهرة كان أن تصير مؤسسةً علمانية، فلم يترتَّب على ذلك فتح أبوابها تلقائيًّا لمفكرٍ مسيحي مثل جرجي زيدان، مؤسس مجلة «الهلال» لتدريس التاريخ الإسلامي. اكتشف زيدان الثقافة الشرقية في قاعة المطالعة في المتحف البريطاني عام ١٨٨٦ وهو سرعان ما أثَّر على رؤيته للتاريخ العربي والإسلامي. لقد رأى أن المؤرخين العرب الأوائل قد سردوا حقائق غير مترابطة من دون رسم العلاقات بينها أو تقصي الأسباب التي أفضت إليها، وهو النقد الذي عبَّر عنه ابن خلدون صراحةً في مقدمته الشهيرة. كذلك رفض زيدان التاريخ التمجيدي؛ إذ قال: «التاريخ الحقيقي للأمة هو تاريخ حضارتها وثقافتها، وليس تاريخ حروبها وغزواتها كما أشار المؤرخون العرب القدامى في الإسلام» (ريد ١٩٩١: ٣٥–٣٦). غير أن منهجه النقدي لم يكن مقبولًا لدى أغلب العلماء المسلمين المعاصرين. لا شك أنه أقر بصدق النبي محمد، لكنه عارض القول بأن الحضارة الإسلامية أخذَت عن بيزنطة وبلاد فارس فقط، مدعيًا أن الحضارات القديمة للهلال الخصيب كانت عربية. لم يَلقَ هذا التفسير غير الديني للغزوات الإسلامية استحسانَ المتعصبين الذين رأَوا أن الأسباب الدنيوية لا تمُتُّ للأمر بصلةٍ في أفضل الأحوال، وتنتقص من إرادة الله في أسوَئِها (ريد ١٩٩١: ٣٦). ثم كان أن أُغلقَت مدرسة القضاة بعد ذلك ببضع سنوات، وأُلحقَت كلية دار العلوم بجامعة القاهرة عام ١٩٤٦. وكما رأينا، جامعة القاهرة، التي كان يُفترَض أن تكون مؤسسةً تعليميةً علمانية، واجهَت بدايةً صعبةً راجعةً للسياق الذي اجتمعَت فيه عملية الإصلاح والتحديث؛ قبول الحداثة تحت ضغطٍ براجماتي مع الاستمرار في التمسُّك بالتراث. أجاز ذلك للأزهر، المؤسسة التعليمية التقليدية، الاستمرار في اضطهاد العلماء الذين حاولوا التجديد مستندين لمنهجٍ نقدي للتراث. وبالطبع، كان الضحايا من جامعة القاهرة، فيما كان المحقِّقون من دار العلوم — التي هي أيضًا جزء من جامعة القاهرة — أو من الأزهر.

(١-٢) إيران والعراق

تمحور الجدال في إيران والعراق حول الاختيار بين سَنِّ دستورٍ جديد (مشروطة) أو البقاء في النطاق التقليدي للشريعة. وقد صدر بيانٌ متماسك ومهم بشأن المسائل السياسية والاجتماعية للإصلاح خلال الثورة الدستورية التي امتدت من عام ١٩٠٥ حتى ١٩١١. وشمل قطاعًا كبيرًا وعريضًا لا يُستهان به من العلماء الإيرانيين، الذين أشاروا إلى رسالة الشيخ محمد حسين النائيني (١٨٦٠–١٩٣٦) التي ظهَرَت في عام ١٩٠٩ بخصوص الحكومة الدستورية من منظور الإسلام الشيعي، بعنوان «تنبيه الأمة وتنزيه الملة». حدَّد هذا الكتاب الأسباب الشرعية — التي لها سندٌ قوي في القرآن والسنة — لتأييد الحكم الدستوري. وحدَّد النائيني دور الدول فقال إنها إقامةُ توازنٍ داخل المجتمع والدفاع عنه ضد أي هجوم خارجي. وقال إنه لا بد من الحد من سلطة الدولة بقَدْر ما يتطلبه القيام بهذا الدور. ولا شك أن أي إفراطٍ في السلطة سيؤدي بها لمسار الطغيان. وهذا بدَوْره يُغري الحاكم باغتصاب سلطة الإله على الناس ليرتكب بذلك خطيئة الشِّرك الكبرى. والوسيلة الجامعة الوحيدة لتحاشي مثل ذلك الانحراف هو عصمة الحاكم، وهي الصفة التي اختُص بها الأئمة وحدهم في حياتهم. أما بعد غياب الإمام الثاني عشر، فقد بات ممكنًا ومستحبًّا تقليل هذا الضلال لأدنى حدٍّ بتقليص سلطة الحاكم وتكوين مجلس نوابٍ مهمَّته تطبيق مبدأ الشورى المنصوص عليه في القرآن. ويجوز لهذا المجلس وضع تشريعٍ للمسائل التي لم تتناولها الشريعة بالفعل، أو تحديد أوجه تطبيق المسائل التي شرَعَها القرآن والسنة على نحوٍ عام. ثم إن عمل هذا المجلس لا بد أن يُنظِّمه دستور. ولا بد من تعيين عددٍ من العلماء في هذا المجلس لضمان عدم إصدار القوانين التي قد تتعارض مع الشريعة.

هكذا لم يوضِّح بيان النائيني بشأن مشروعية الحكم الدستوري في الإسلام الشيعي فقط كيف استطاع العلماء في العقود التالية الرجوع لكلٍّ من القرآن والدستور كمصدرٍ للسلطة في الحياة السياسية، لكنه بيَّن كذلك كيف أنه كان بإمكانهم التحالف مع العناصر العلمانية من أجل السعي وراء أهدافٍ سياسية مشتركة (الغرباوي ١٩٩٩: ١٠٣ وما بعدها). ويُمكِننا أن نرى هنا بوضوحٍ تأثيرَ نقد الكواكبي للطغيان السياسي والديني؛ إذ كان كتابه «طبائع الاستبداد» قد تُرجم إلى الفارسية عام ١٩٠٧ (الغرباوي ١٩٩٩: ١٠٧).

غير أن الحركة الدستورية، التي مثَّلَت أول خطوةٍ نحو الديمقراطية، فَشِلَت مبكرًا عام ١٩٠٨. وهو ما مكَّن القوى المتسلطة من استعادة سطوتها على السياسة الإيرانية. ومن هنا دخلَت علاقة البلد بالغرب مرحلةً جديدة مع وصول رضا شاه للحكم عام ١٩٢١. فقد قلَّل من الاعتماد على القوَّتَين شبه الاستعماريتَين؛ بريطانيا العظمى وروسيا، وبدأ سلسلةً من الإصلاحات والتحديثات حتى يرى العالم إيران وقد تحوَّلَت تحت حكمه لدولةٍ قومية مستقلة. وقد استفاد من ذلك الإقطاعيون والشركات الجديدة وفئة من الموظفين الحكوميين راحت تتنامى باطراد. بيد أن بعضًا من هذه الإصلاحات كان له نتائجُ وخيمة، مثل إعادة التوطين القسري للبدو. كذلك لقي بعضها معارضةً شعبية شديدة، مثل منع الحجاب عام ١٩٣٦ (شهابي ١٩٩٣: ٢٠٩–٢٢٩). فقد بدأَت العملية بخلع الإمبراطورة للحجاب وأَمْر موظَّفي الحكومة بالخروج بزوجاتهم سافراتٍ في المناسبات الرسمية. ثم أمَرَت الحكومة النساء بخلع حجابهن في الشوارع ومنَعَت المحجبات من دخول المباني العامة، بما في ذلك المدارس والوزارات. فكان رد فعل الكثير من الآباء التقليديين أن أخرجوا بناتهم من المدارس ومنعوا زوجاتهم من الخروج للعمل أو حتى التسوُّق. كذلك كان هناك نظامٌ جديد لملابس الرجال: إذ حُظر ارتداء العمة والقفطان وصارت البِذَل الأوروبية هي اللباس السائد. لقد أراد رضا بهلوي أن يقيم أمةً علمانية اقتداءً بالغرب، ورأى أن الإسلام عقبةٌ في سبيل التحديث. وقد ذاق قبضتَه من انتقد نهجه، لا سيما رجال الدين منهم (فغفوري ١٩٨٧: ٤١٣–٤٣٢؛ ٤٢٤ وما بعدها). وحين منع أحد رجال الدين الإمبراطورة المكشوفة الرأس من دخول المرقد الشهير بقم، العاصمة الدينية لإيران، جاء الإمبراطور بنفسه، ودخل المرقد منتعلًا حذاءً عسكريًّا — وهي خطيئةٌ كبرى في حد ذاتها — وصفع الرجل. ومن حينها، عُد من ألدِّ أعداء رجال الدين. ذلك رغم أن كبار رجال الدين الإيرانيين كانوا قد أعلنوا تأييدهم له وللملكية في بداية حكمه. إذ بدَت الملكية أهوَنَ الشرَّين، عند مقارنتها بالجمهورية الجديدة في تركيا، على أي حال (أخافي ١٩٨٠).

(١-٣) إندونيسيا

وجدَت الأفكار الإصلاحية لجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده سبيلها من خلال مجلة «المنار»، لإندونيسيا، التي ظلت مستعمرةً هولندية حتى عام ١٩٤٥. لما كان الاتصال بين الغرب والإسلام في إندونيسيا قد سبق استقلالَها بزمنٍ طويل، فقد امتد الدور المهم للإسلام في مقاومة القوة الأجنبية واستغلالها فترةً طويلة من الزمن. فقد أدَّى تحدِّي الهيمنة الأجنبية إلى نشأة حركةِ إصلاحٍ مُقاوِمة؛ حيث كان الفكر الديني يؤازر المقاومة السياسية، وكذلك يُلبِّي على نحوٍ متزايد الحاجة للتغيير الاجتماعي. وبذلك يُمكِننا أن نرى الخطاب الإسلامي في الحقبة الاستعمارية بوصفه الباعث على ما جرى لاحقًا من تجديد ديني لإندونيسيا الحديثة منذ فترة ما بعد الاستقلال حتى العصر الحالي.

ومن جهةٍ أخرى، لا يُمكِن فصل حركات الإصلاح الديني عن الحركات الدينية التي جرت في أماكنَ أخرى في العالم الإسلامي، وخصوصًا في الشرق الأوسط. فالإصلاح الديني الذي جرى في «قلب العالم الإسلامي» في أواخر القرن التاسع عشر، وبدأه مفكِّرون مؤثِّرون مثل الأفغاني ومحمد عبده، كان له بالغُ الأثَر على الخطاب في إندونيسيا. وتُبيِّن السجلات التاريخية أن مجلة «المنار» لعبَت دورًا محوريًّا في الحركة الدينية في سومطرة وجاوة، وعدة مناطقَ أخرى في إندونيسيا. فقد حثَّت على إصدار مجلة «الإمام» في سومطرة، ومجلة «المنير»، في بادنج في سومطرة الغربية، خلال أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين (روف ١٩٨٥).

ساهمت عواملُ عدة في هذا الانتشار لحركة التجديد من الشرق الأوسط لإندونيسيا. أوَّلُها أن الكثير من النشطاء المسلمين الإندونيسيين درسوا في القاهرة، وارتبطوا بحداثة محمد عبده (أباظة ١٩٩٤: ٧٣–٩٠). وأشار روف إلى أن عدد الطلاب الإندونيسيين ذوي الأصول الملايوية زاد بدرجةٍ كبيرة منذ أوائل عشرينيات القرن العشرين (روف ١٩٨٥: ٨٢–٨٣). وهو ما مكَّنهم من إصدار مجلةٍ إندونيسية ملايوية في القاهرة، باسم «سرُوان أزهر» (أي، صدى الأزهر). فكانت في واقع الأمر، كما أوضح هوكر، صدًى لحركة التجديد الإسلامي الشرق الأوسطي السابقة في الأرخبيل الإندونيسي الملايوي (هوكر ١٩٨٤: ٩٦–٩٧). ثانيًا، اطَّلَع الكثير من القادة الدينيين الذين ذهبوا للحج في الأراضي المقدسة كذلك على الأفكار التجديدية في الشرق الأوسط. إذ لم يعُد إلى إندونيسيا مباشرةً الكثير من هؤلاء العلماء الإندونيسيين، الذين درسوا في بلاد الحرمين. ومن ثَم، تمكَّنوا من التواصل مع عدد من المفكرين الدينيين، خاصةً أولئك المناهضين لغير المسلمين أو للاحتلال الأوروبي للبلاد الإسلامية والمسلمة (أزرا ١٩٩٢: ٣٠–٣٨). ثالثًا، إن مجلتي «الإمام» و«المنير» واصلَتا مهمةَ مجلة «المنار» في نشر دعوة تجديد الإسلام في الأرخبيل الإندونيسي الملايوي.

لقد كان الاهتمام الرئيسي لمجلة «الإمام» هو تصوير سيكولوجية المجتمع الإندونيسي الملايوي بفهمها الناقص للإسلام. فقد جاء في بحث روف أنها أرادت توضيح تخلُّف المسلمين في الأرخبيل مقارنةً بالمجتمعات في أماكنَ أخرى. فقالت إن هذا التخلف كان راجعًا لفهم الإسلام فهمًا يناقض روحه الأصلية. وزعمَت أنه في الحقيقة لا يسمح بتقييد روح الإبداع لدى المسلمين؛ وإنما يوحي ببذل جهودٍ إيجابية لتناول المشكلات الاجتماعية وإيجاد الحلول. ولتحقيق هذه الغاية، ذهبَت مجلة «الإمام» إلى أن الزعماء المحليين لا بد أن يهتموا بنوعية التعليم، وكذلك زعمَت أن العلماء لا بد أن يُطهِّروا الإسلام من أي عناصرَ غيرِ إسلامية. ومن ثَم فقد شدَّدَت على الحاجة لإعادة تفسير القرآن والسنة، وترك التقليد وهو ما سيترتَّب عليه تطهير الإسلام.

واستمرَّت مجلة «المنير» بعد توقُّف مجلة «الإمام». وكان الجديد في حركة التجديد الديني التي دعت إليها هو تمسُّكها (المُستوحَى من أوروبا) بأهمية المؤسسات الدينية المنظمة، وهي الفكرة التي لم يكن قد أدركها أغلب القادة المسلمين الإندونيسيين آنذاك (أزرا ١٩٩٢: ١٢٣). وكان التوجه الديني لمجلة «المنير» «راديكاليًّا» بالطبع، مثل مجلتَي «الإمام» و«المنار»؛ فقد كانت تنشر مقالاتٍ عن موضوعاتٍ عُدت محظورةً من قِبل الكثير من التقليديين في ذلك العصر، الذين كانت آراؤهم قائمة على أدبيات الفقه الكلاسيكي والطائفي. وكذلك كانت تركِّز على أهمية الاجتهاد وتُهاجِم التقليد، مع اقتراح الاطِّلاع الحر على آراء المدارس الفقهية المختلفة.

ويمكن رؤية تأثير الخطاب الشرق أوسطي من خلال قنوات مثل مجلة «المنار» والحج في ظهور حركاتٍ ومنظماتٍ جديدة. من هذه المنظمات «المحمدية»، التي أسَّسَها عام ١٩١٢ أحمد دحلان (١٨٦٩–١٩٢٣) (ألفيان ١٩٨٩؛ سيامسودين ١٩٩٥: ٣٥–٧٢)، و«نهضة العلماء» التي أنشأها هاشم أشعري (١٨٧١–١٩٤٧) (فيلي ١٩٩٤؛ فيلار ١٩٩٥). وهما أكبر منظمتَين إسلاميتَين في إندونيسيا اليوم. كان مؤسساهما قد درسا في بلاد الحرمَين لعدة سنوات. ومن الممكن أن تُعد المحمدية منظمةً مسلمة إصلاحية، نظرًا لسعيها لتطهير الإسلام من العناصر الثقافية المحلية غير الإسلامية من خلال مشروعٍ شبه وهابي. في قمة التعليم التقليدي في مجتمع البيسانترين (المدارس الداخلية الإسلامية)، كان التعليم الإسلامي السائد قائمًا على كُتبٍ من تأليف علماء القرن السابع عشر (برينسن ١٩٩٤: مسعود ١٩٩٦). غير أن المحمدية طرحت نظامًا للتعليم يُعلِّم المعارف الدينية والدنيوية. ونادى مؤسسها، أحمد دحلان، بفتح باب الاجتهاد، ليُتاح للمسلمين ممارسة الاجتهاد لمواجهة التحديات المعاصرة. وكان دحلان قد التقى برشيد رضا، أشهر خلفاء محمد عبده، أثناء دراسته وإقامته في مكة عام ١٩٠٣، واتصل اتصالًا مباشرًا بأفكار الإصلاح الإسلامي (ناسوتيون ١٩٩٢: ٦٧٥). وقد ترتَّب على ذلك أن المحمدية راحت تدعو للارتقاء بحال المسلمين حتى يتمكَّنوا من دخول المجتمع «الحديث». وقد كان ظهورها في إندونيسيا ما قبل الاستقلال من معالم بداية المقاومة الحديثة السلمية للمستعمرين الهولنديين (ألفيان ١٩٨٩: ٣٤٧ وما بعدها).١

أما نهضة العلماء، وهي أكبر منظمةٍ إسلامية في إندونيسيا حاليًّا، فقد كان المخطَّط لها في البداية أن تكون قاعدة الإسلام التقليدي للمقاومة الثقافية. وتأتي أهميتها من مكانتها داخل منظومة العلماء؛ أي علماء المحمدية، الذين كانوا متشبعين في ذلك الوقت بالقيم الأصلية التي نشرها الإصلاح الوهابي في السعودية. كان ظهور منظمة نهضة العلماء ردَّ فعلٍ ضد تلك الحركات التي رفضت الإسلام الإندونيسي لتبنيه القيم المحلية. من ثَم فقد كان جل اهتمامها «المقاومة» للحفاظ على القيم الدينية والمحلية. إلا أن هذا لم يجعلها منظمةً معادية للتحديث بالضرورة. فهي بالأحرى رفضَت أشكالًا معينة من التحديث من شأنها أن تُعيق الحياة الدينية في إندونيسيا، وعارضَت كذلك الإصلاحات التطهيرية التي بدأَتها الوهابية.

(٢) من الإصلاح إلى السلفية

كان من التبعات الرئيسية المترتبة على الحرب العالمية الأولى انحلال الإمبراطوريات، ومنها الإمبراطورية العثمانية. وفي هذا السياق نشأ موضوع الخلافة لأول مرة في الهند البريطانية في شكل حركةٍ سياسيةٍ دينية في سنوات ما بعد الحرب. فقد كان من ناحيةٍ متأصلًا في حركة الوحدة الإسلامية، التي ظهَرَت على الساحة قرب عام ١٩٠٠. ومن ناحيةٍ أخرى حثَّت عليه حركةٌ قومية في الهند. كانت هزيمة تركيا في الحرب العالمية الأولى قد هدَّدَت بشدة وضع السلطان أو الخليفة العثماني. فهل سيظل بأسه بالشدة الكافية لحماية الإسلام؟ وهل ستظل الأماكن الإسلامية المقدسة خاضعة لسلطته؟ في سبتمبر ١٩١٩، وسط الإشاعات المنتشرة عن معاهدة سيفر، نظَّم مسلمو الهند حركةً باسم الخلافة. وعُقدَت مؤتمرات الخلافة في مدنٍ متعددة في شمال الهند، وجعلَت اللجنة المركزية لحركة الخلافة مقرها في بومباي. بدأَت تلك الحركة كحركةٍ مجتمعية ولقيَت استحسانًا عريضًا داخل مجتمع المسلمين في الهند. وجُمعَت أموالٌ طائلة، بعضها من متبرِّعين صغار، وكذلك اكتسبَت الحركة دعم حزب المؤتمر الوطني الهندي. وأصبح غاندي عضوًا في اللجنة المركزية لحركة الخلافة، وأصدر بيانًا للحركة في مارس ١٩٢٠. وقد أثَّرَت هذه الجوانب من الحركة بالسلب على العلاقات بين الهندوس والمسلمين، التي كانت عنصرًا حيويًّا في طابعها القومي. وقد شكَّل تعليق غاندي لحركة عدم التعاون في فبراير ١٩٢٢ ضربةً قاسية في هذا الصدد. فقد شعر الهنود المسلمون، وقد كانوا أكثر من تأذَّى من المعركة القومية، بأن الهندوس قد خانوهم.

ولم تكن الضربات التي جاءت من الأتراك أقل قسوة. كانت الحكومة الوطنية في أنقرة قد نجحَت في استعادة مكانة تركيا. وظن أتباع حركة الخلافة خطأً أن زعيمها، كمال باشا، كان يتصرف نيابةً عن السلطان–الخليفة. لكن في نوفمبر عام ١٩٢٢، أُلغيَت السلطنة في تركيا وصار الخليفة مثل بابا الفاتيكان، فاقدًا كل سلطاته الدنيوية. فأعلن أتباع حركة الخلافة أن هذه المكانة لا تُناسِب منصبه. وحين حاول زعماؤهم انتحال أعذارٍ لما حدث، تركهم أتباعهم. ثم انهارت الحركة تمامًا في مارس ١٩٢٤ مع إلغاء الخلافة العثمانية. وقد تحوَّلَت لأداة لدعم مصالح المسلمين، لا الهندوس. لكن حتى وهي بهذا الشكل، بحلول عام ١٩٢٨، كانت المنظمة قد فقدَت كل ما لها من وقع (نيماير، د.ت.: ٧). وهكذا في خِضَم ما ساد من توتُّر وبلبلة خلال هذه الفترة الانتقالية، سُلب من العالم الإسلامي فجأةً هُويتُه المتمثلة في الخلافة.

ترتَّب على قرار الحركة التركية الوطنية الجديدة بإلغاء الخلافة إثارة التساؤل حول ما إذا كانت الخلافة مؤسسةً إسلامية أو مجرد نوع من الأنظمة السياسية التي يمكن أن يُستبدل بها نوعٌ آخر من دون فقد الهوية الإسلامية. مما يثير الاهتمام أن هذا السؤال ظهر في العالم السني فقط، بما أن الخليفة العثماني كان الرمز الديني للوحدة هناك. لكن رغم عدم حيثية الموضوع لدى الشيعة، فسوف يظهر على السطح مرةً أخرى، بعد زمن، في إيران، في سياق معارضة تبنِّي الثقافة الغربية والعلمانية. في الواقع، كانت سلسلة الأحداث التالية متوقَّعة تمامًا؛ حيث حاولَت شخصياتٌ سياسية مثل الملك فؤاد في مصر والشريف حسين في شبه الجزيرة العربية استعادة الخلافة، وسعى كلٌّ منهما لإعلان نفسه خليفةً للمسلمين.

كما رأينا، كان المشهد الاجتماعي السياسي المصري متجهًا لإقامة دولةٍ مصرية مستقلة حديثة ديمقراطية. فقد سادت معاداة الاحتلال البريطاني والقصر، وهو الشيء الذي أثار سخط الملك. وفي عام ١٩١٩، شجَّع نجاح القوة السياسية الثورية كل الأحزاب على إصدار أول مشروع دستور لمصر. وقد حدَّ هذا الدستور من سلطات الملك عند إقراره أخيرًا عام ١٩٢٣. كذلك أدَّت هذه العملية لمداولاتٍ حامية بشأن ضم المادة التي تنُص على أن الإسلام دين الدولة أو الاستغناء عنها. ويبدو أن اللجنة، بما ضمَّت من أعضاء أقباط، قد ارتأَت أنه لا ضرر من هذه المادة. غير أنه تبيَّن فيما بعدُ أنها بالغة الخطورة. وقد حاول ملك مصر استغلال الأزهر ليصبح خليفةً لكل المسلمين. إلا أن المفكرين الليبراليين، القلقين بشأن القوة السياسية التي سيكتسبها الملك بذلك، عارضوا هذه الخطوة. كان المصري علي عبد الرازق (١٨٨٨–١٩٦٦)، وهو أحد أتباع محمد عبده وعالمٌ أزهري وقاضٍ بالمحكمة الشرعية، هو الذي دافع عن إلغاء الخلافة بإثبات أنه لا يُوجد نظامٌ سياسي محدَّد يمكن أن يُوصف بأنه إسلامي. ونادى بالفصل بين الدين والدولة مستندًا لقواعدَ متأصلة في الخطابات والروايات التقليدية في القرآن والأحاديث والشريعة. وقد أثار كتابه، «الإسلام وأصول الحكم» (القاهرة ١٩٢٥) ضجةً أدبية دينية كبرى في العالمَين العربي والإسلامي، ليؤدي في النهاية لطرده من الأزهر. وكانت حُجته الرئيسية هي أن «الخلافة ليس لها أصلٌ سواء في القرآن أو السنة أو الإجماع». وليثبت كل جزء من هذه الحُجة تعمَّق في الأدلة الرئيسية المستمدة بالأساس من المصادر الثلاثة لإثبات إلزامية الخلافة. فأشار عن حق قائلًا: «إن الخلافة بالمعنى المحدَّد للمؤسسة السياسية الذي عرفناه في التاريخ غير مذكورة في أي موضع في القرآن … ولا يمكن استخراج أي دليلٍ مقنع من الأحاديث المنسوبة للنبي …» ولاستبعاد الإجماع بوصفه الإجازة الأخيرة المُمكِنة، جادل عبد الرازق بأنه بِناءً على الأمثلة التاريخية الواقعية، فإن الإجماع لم يكن له دورٌ قط في تنصيب الخلفاء، سواء بمعنى اتفاق صحابة النبي وخلفائهم، أو علماء المجتمع الإسلامي ككل (عنايت ١٩٨٢: ٦٢–٦٣).

في المقابل، كان محمد رشيد رضا (١٨٦٥–١٩٣٥)، تلميذ محمد عبده ورئيس تحرير مجلة «المنار»، مدافعًا عن الخلافة بوصفها نظامًا إسلاميًّا أصيلًا لا بد من عودته. ورأى أن القصور عن فعل ذلك سيعود بالمسلمين إلى الجاهلية (عنايت ١٩٨٢: ٦٩–٧٩). وكما أشرنا مسبقًا، كان هو من جاء بالعناصر السلفية لحركة الإصلاح. وإذا كان قاسم أمين وعلي عبد الرازق وشقيقه مصطفى وطه حسين وخالد محمد خالد وأمين الخولي وآخرون يمثلون الجانب الليبرالي لخطاب محمد عبده، فقد مثَّل رضا الجانب السلفي، مفضلًا اتباع مدرسة الفكر السلفية (عبده ١٩٦١: ٢١١). وحيث إنه لم يعارض أفكار قاسم أمين الليبرالية في حياة معلمه محمد عبده، فإن موقفه السلفي لم يصبح ظاهرًا حتى عام ١٩٢٥، حين نُشر كتاب علي عبد الرازق (عمارة ١٩٧٦: ١٤١). وبالتالي فقد لعب رشيد رضا دورًا حاسمًا في إضعاف الخطاب التقدمي لمحمد عبده. حيث سيصبح تدريجيًّا من أكبر داعمي الوهابية، خصوصًا بعد سيطرتها على الحجاز. يتضح ذلك من مجموعة مقالاتٍ كتَبها بعنوان «الوهابية والحجاز»، ونُشرَت في مجلة «المنار» وصحيفة «الأهرام» اليومية، بعد نهاية الخلافة مباشرة.٢ وقد ظل حتى وفاته عام ١٩٣٥ يشرح كيف تغيَّر رأيه في الوهابية والأسباب وراء هذا التغيير. إذ ردَّد أنه كان في شبابه متأثرًا بالشائعات العثمانية؛ لذلك فقد رأى الوهابيين طائفيين متعصبين، لكن بعد وصولِه مصر، وقراءةِ تاريخ الجبرتي وأعمالٍ لكُتَّابٍ آخرين، وبحصوله على معلوماتٍ مباشرة عن الأمر، بات مدركًا أن الوهابيين، وليس خصومهم، هم المدافعون عن الإسلام الحقيقي، حتى إن كانوا يميلون للمغالاة. وسعى رضا في الوقت نفسه لإعادة قراءة أعمال بعض الكُتَّاب مثل ابن تيمية ومذهبه.
وتأثرًا بالخطاب السلفي لرضا، كانت الاستجابة السياسية بإنشاء حسن البنا (١٩٠٦–١٩٤٨) لجماعة الإخوان المسلمين في مصر عام ١٩٢٨. إن الحركات الإسلامية السياسية الحديثة، التي عادةً ما تُوصف بالأصولية في الخطاب العام الغربي، كلها فروع للإخوان المسلمين، وكلها تُهاجِم عبد الرازق وكتابه (أبو زيد ١٩٩٥). استهدف الإخوان المسلمون إقامة مجتمع إسلامي من جديد في مصر كمثالٍ أعلى يُحتذى به في بلادٍ أخرى. وقد رأَوا أن إعادة إقامته لا بد أن تأتي تدريجيًّا، بإصلاحاتٍ اجتماعية واقتصادية وسياسية صغيرة موجَّهة ضد تغريب المجتمع المصري. ولما كانت حركته رجعية، فقد وضعَت إعادة الخلافة على رأس جدول أعمالها. بعبارةٍ أخرى، إنها كانت تمثل إنشاء مملكة كلمة الله بالقرآن دستورًا لها، والجهاد وسيلة لتحقيق ذلك. ومثل إخوان نجد، بسَّط البنا العقيدة الوهابية وجعلها أكثر صرامةً لتكون القاعدة الأيديولوجية لحركته الشعبية القوية. وقد عبَّر مؤسسها نفسه عن رسالتها الأساسية، التي يمكن تلخيصها فيما يلي:
  • (١)

    الإسلام نظام لا يضاهيه نظامٌ آخر؛ لأنه أُنزل من عند الله الذي يملك القدرة على تنظيم كل جوانب حياة البشر؛ إنه عقيدة وعبادة، وطن وجنسية، دين ودولة، روحانية وعمل، قرآن وسيف. وينطبق هذا النظام على كل البشر في كل زمان وفي كل الدول.

  • (٢)

    لا بد أن يعود المسلمون لدين السلف، دين الأمة. يرى البنا أن السلفية هي العقيدة الخالية من المؤثِّرات غير القرآنية التي جاءت من علم الكلام والفلسفة، المُشبعَة بالتالي بالروح الإغريقية. الفلسفة الإغريقية غريبة على الإسلام البدائي الذي سبَّبَت فيه اضطرابات في الماضي. كما أنها أثارت الانقسامات والطائفية في العصور الحديثة، وكلتاهما عوائق في سبيل وحدة كل المسلمين الحتمية في كفاحهم ضد الإمبرياليين الأجانب. لا يمكن للمؤمن أن يعرف الله إلا من خلال الطريقة التي حددها بنفسه في القرآن، ومن خلال كلمات نبيه. ولاحقًا، جاء سيد قطب (١٩٠٦–١٩٦٦)، مُنظر الأصولية المتشددة، فاستفاض في هذه الفكرة عن القرآن بوصفه «النبع الصافي الخالص» للمعرفة، وجعله المعيار للحكم على أي فرع من فروع المعرفة وتقييمها. فقد كان يرى أن كل الفلسفات والعلوم الاجتماعية والأنظمة السياسية في العالم ليست إلا أشكالًا مختلفة من الجاهلية؛ حيث تجعل السلطة في يد الإنسان وليس الله (قطب ١٩٨٢: ١٤–١٥؛ ١٤٢–١٤٨).

  • (٣)

    ثمَّة حاجة لإعادة أسلمة الحياة في مصر في كل المجالات التي نالها التأثير الغربي. ولا يقتصر هذا على العادات الاجتماعية، من قبيل الملابس، والتحية، واستخدام اللغات الأجنبية، وساعات العمل والراحة، والتقويم، والترفيه وما إلى ذلك، ولكن كذلك المؤسسات التعليمية والقانونية والسياسية، ناهيك عن الأفكار والعواطف. ويتضمَّن ذلك بالطبع المسائل المتعلقة بالأسرة ووضع النساء. كانت إحدى النقاط الرئيسية في برنامج الإخوان إلغاء المدوَّنات القانونية المصرية القائمة على مدوَّناتٍ قانونيةٍ أوروبية، وسن تشريعات قائمة على الشريعة. وأثناء تعاونهم مع نظام السادات في أوائل سبعينيات القرن العشرين، تمكَّنوا من إدخال تغيير على المادة الثانية من الدستور المصري صارت بها «مبادئ الشريعة «المصدر الرئيسي» للتشريع (بدلًا من «أحد مصادره»).» وهو ما اعتُبر خطوةً تمهيدية نحو الهدف النهائي؛ أي، العودة لدولةٍ واحدة تضُم كل الأمم الإسلامية، يرأسها خليفة (ديلانو، د.ت.: صفحة ١٠٦٩–١٠٧٠).

(٣) موضوع الدولة الإسلامية

رأينا كيف حاول رضا شاه إنشاء دولةٍ علمانية في إيران وكيف استنفر موضوع الحجاب الملالي للانقلاب على نظامه. وبحلول عام ١٩٤١ كان الحلفاء قد أجبروا رضا شاه على الاستقالة. ثم حاول ابنه وخليفته على العرش الفارسي أن يستمر على نهج أبيه. كما أنه كان مناصرًا بشدة للغرب، أو لتقدمهم التكنولوجي على الأقل. بيد أن سيطرة الشاه محمد رضا بهلوي على السلطة كانت مرتعشة في أفضل الأحوال، خلال السنوات الأولى من حكمه. فقد كان الزعيم الفعلي هو رئيس الوزراء، محمد مصدق، الرجل الذي سيُشكِّل مصيره السياسي رأي الإيرانيين في الولايات المتحدة والغرب بوجهٍ عام (سيافوشي ١٩٩٠). فقد أمَّم مصدق النفط الإيراني في يوليو عام ١٩٥١. حتى ذلك الوقت، كان البريطانيون يحصلون على نصيب الأسد من عائدات النفط، تاركين النزر اليسير للإيرانيين. ورغم الدعم المحلي العام لهذه الخطوة، فقد كانت الحكومة البريطانية غافلةً عن مطالبات الشعب الإيراني؛ إذ كانت المصالح البريطانية هي كل ما تكترث له. وعندما طالبَت بريطانيا المحكمة الدولية في لاهاي بالاستئناف أصدرَت حكمًا في صالح إيران. وعاد محمد مصدق إلى طهران منتصرًا، حيث غدا في ذروة نفوذه، مكتسبًا حب الجماهير.

في الوقت نفسه، لم يقبل البريطانيون انتزاع النفط منهم بهذه السهولة، وهو ليس بالأمر المدهش نظرًا لأن الأمر لم يكن مقتصرًا على إيران. فقد كان البريطانيون مسيطرين على ٨٠ في المائة من حقول النفط في أنحاء الخليج الفارسي، وكان ثمَّة احتمالٌ أن تحذو أممٌ أخرى حَذْو إيران. وبناءً على ذلك، فقد حشدوا الدعم من الأسرة المالكة وأعضاء البرلمان. وحين أدرك مصدق أنه سيفقد الدعم، تنحَّى عن منصبه في حركةٍ درامية في ١٦ يوليو ١٩٥٢. وقد أفلحَت استراتيجيته؛ إذ قام الناس بأعمال شغبٍ في الشوارع، مردِّدين «الموت أو مُصدق». وقُتل عددٌ كبير وعمَّت الفوضى. فاضطُر الشاه لمطالبة مصدق بالعودة لمنصبه. وفي مواجهة هذه الهزيمة الجديدة، بدأ البريطانيون حصارًا اقتصاديًّا وقاطعوا كل منتجات النفط الإيرانية، وأقنعوا كل الحلفاء — حتى السوفييت — بالانضمام إليهم. كان الهدف هو إخضاع مُصدق بأزمةٍ اقتصادية. بيد أن مصدق طلب المال من أبناء بلده، وحصل على أموالٍ طائلة. فقد أصدر قروضًا عامة ونجح في تطوير الاقتصاد الإيراني بتقليل الاعتماد على النفط وتشجيع النمو في قطاعاتٍ اقتصادية أخرى. ومع تحسُّن مستوى معيشة الإيرانيين، ارتفعَت الروح المعنوية لديهم. وظل النزاع البريطاني الإيراني الموضوع السياسي المهيمن في أنحاء العالم بين عامَي ١٩٥١ و١٩٥٣؛ فقد كان زعيمٌ شعبي من إحدى دول العالم الثالث يتحدى قوةً عالمية. حتى إن مجلة «تايم» الأمريكية جعلَته «رجل العام» سنة ١٩٥٢. وفي الواقع، لقد ظلَّت شعبيتُه المتنامية خارج إيران تمثل مشكلةً أكبر لدى البريطانيين. فقد ذكر رئيس الوزراء ونستون تشرشل على الملأ نيته «التخلص» من مصدق، والتمس مساعدة الأمريكان لتحقيق هذا الهدف. وفي ١٨ أغسطس ١٩٥٣، دبَّرَت وكالة الاستخبارات الأمريكية انقلابًا لخلع مصدق، ليُحاكَم بعده في محكمةٍ عسكرية. ومن بعد ذلك، سيطرت الولايات المتحدة على ٤٠ في المائة من حقول النفط في إيران، وتقاسمَت النسبةَ الباقية بريطانيا وفرنسا وهولندا وإيران.

وقد شكَّلَت الأحداث التي وقعَت خلال الفترة من ١٩٥١ حتى ١٩٥٣ العقلية الإيرانية، ليس فقط لما جرى من إذلال أو لأن مصدق، نصير الشعب، قد أُبعد عن السلطة، لكن كذلك لعواقبها المباشرة؛ أن الشاه، الذي ذهب إلى روما للهروب من مصدق، قد أعادته الولايات المتحدة إلى العرش الفارسي. محمد رضا بهلوي، الذي كان الرئيس الأمريكي، جيمي كارتر، يصفه في سبعينيات القرن العشرين بأنه «شرطيُّنا في الخليج»، استعاد السلطة بالقوة الغاشمة، قامعًا كل المعارضة. إلا أن حقيقةَ أن الولايات المتحدة ساندَت هذا الرجل، وأنه كان مسموحًا له التصرُّف كيفما يريد، وأنه انتهك حقوق الإنسان، وقهَر شعبه واستغلَّه، لم تُنسَ بسهولة. والانقلاب على مصدق وما ترتَّب عليه جعلا انتقاد الولايات المتحدة أحد ركائز الثورة الإسلامية. بل لقد صار قوةً وحَّدَت بين كل الجماعات المعارضة، سواء الوسط أو اليساريون أو الإسلاميون. وحين تجمهَر الناس في الشوارع في ثورة عام ١٩٧٨، كانوا محتجين على السياسة الأمريكية أيضًا. ربما لم تكن الثورة لتندلع، وتأتي بالحكم الديني، لو كان الأمريكان قد اتبعوا نهجًا سياسيًّا مختلفًا في إيران. لكن ما حدث أن الثورة اتخذَت خطًّا حاسمًا مضادًّا للأمريكان؛ حيث سعى الإيرانيون لإنهاء الحكم الغاشم الذي لا يأبه لحقوق الإنسان أو العدالة، وحظي رغم ذلك بدعم الأمريكان. وكانت أشهر أغنية للثورة مستوحاة من قول للنبي محمد، فكانت تقول: «يا رسول الله، لقد قلت لا دولة من دون عدالة.» وهي جملةٌ بسيطة، وإحدى العقائد الشيعية الخمس، وبالتالي معلومة لدى كل شيعي. وقد يفسِّر هذا لماذا استطاع رجال الدين أن يمسكوا بزمام الحركة الثورية. إذ قال آية الله الخميني (١٩٠٢–١٩٨٩): «إن الشاه هو يزيد العصر، الحاكم الظالم.» وكان كل شيعي يعلم ويدرك أن يزيد كان قد أسقط الحُسين، الإمام الثالث للشيعة، وقتلَه. فكان «الشاه يجب أن يرحل» أحد مطالب الخميني غير القابلة للمساومة.

منذ البداية، كان الخميني من أقسى منتقدي محمد رضا بهلوي، فكان أكثر ما يُنكِره عليه قوانينه الجديدة «غير الإسلامية» وأسلوب الحياة الذي قدَّمه — الفاسد من وجهة نظر الخميني — والمتشبه على نحوٍ متزايد بالغرب (فلاطوري ١٩٨٠: ٥١–٧٥). لكن أشد ما كان يثير سخط الخميني عليه هو نهج إصلاح الأراضي الذي بدأَته حكومة الشاه، والتخطيط للسماح بالمرأة بحق الانتخاب، وسياسته الخارجية المداهنة لأمريكا، التي أدَّت ضمن أشياءَ أخرى لعلاقاتٍ دبلوماسية وثيقة مع إسرائيل (لامتون ١٩٦٩: ١١٢ وما بعدها؛ كيدي ١٩٨١: ١٦٠؛ ريزبرودت ١٩٩٠: ١٤٢؛ ديجار ١٩٩٦: ١٢٦). وفي عام ١٩٦٣، بعد إنذاراتٍ متعددة، ألقى الخميني خطبةً أخرى حافلة بالنقد اللاذع هاجم فيها الشاه. وقد أشعلَت الخطبة مظاهراتٍ شعبية صاخبة، ونُفي هو (سفارة جمهورية إيران الإسلامية ١٩٨٠: ٥).٣
الرجل الذي سيصير ربما أشهر منتقدي اعتماد إيران على الغرب كان واحدًا من ضمن كثيرين ممن كانوا من أشد المتأثرين بالخميني. وهذا الشخص هو جلال آل أحمد (١٩٢٣–١٩٦٩)، الذي كتب مقالًا مؤثِّرًا بعنوان Gharbzadegi («طاعون الغرب»)، وصف فيه مشاعر الكثير من المفكرين الإيرانيين حين قال إن المجتمع الإيراني «مبتلًى بالغرب». كان التغريب هو المسألة الأهم من وجهة نظر المفكرين الإيرانيين، كما أوضح مهرزاد بروجردي (بروجردي ١٩٩٦). عنوان مقال جلال آل أحمد (الذي تُرجم عنوانه أيضًا إلى «التسمُّم بالغرب» أو «الإصابة بمرض الغرب» أو «داء الغرب») كان الشعار الرئيسي في إيران خلال ستينيات القرن العشرين (بروجردي ١٩٩٢: ٣٠–٥٦؛ ٥٣). ومن جاء بشعار «الابتلاء بالغرب» كان الفيلسوف أحمد فرديد (١٩١٢–١٩٩٤) الذي كان من أتباع مدرسةٍ فكريةٍ معادية راديكاليًّا للغرب، روَّج آل أحمد لأفكارها. لكنه على عكس فرديد، اعتبر التغريب مشكلةً سياسية أكثر منها فلسفيةً بدرجةٍ كبيرة. وكان نقده للغرب قائمًا على معارضته للشاه وأنصاره في الغرب. ومثل مفكرين آخرين جاءوا بعده، جاء آل أحمد من عائلةٍ متدينة إلا أنه ابتعد عن الإسلام في شبابه. لكنه وفي مرحلةٍ متقدمة من العمر، صار مقتنعًا بأن الإسلام هو الترياق الوحيد للهيمنة الغربية، بما أنه العنصر الرئيسي للهوية الإيرانية مقابل الهوية الغربية.

وفي العموم، علينا أن نُسلم برأي سعيد أمير أرجمند بأن رجال الدين كانوا أقل كثيرًا في اهتمامهم بمسألة الغرب و/أو التغريب من المثقفين في إيران. إذ يقول: «لا بد من الإشارة إلى أن الأيديولوجيين من رجال الدين لم يكونوا منزعجين بوجهٍ خاص من الشعور المتذبذب إزاء الغرب وكانوا مهتمين أكثر بالتراث الشيعي الذي أرادوا إنقاذه» (أرجمند ٢٠٠٢: ٧١٩–٧٣١؛ ٧٢١). والغرب يهتم فقط بمصلحته، ويحاول إخضاع العالم الإسلامي بوضع حكَّام مثل الدمى. كان هذا كذلك الموضوع المحوري لدى عالم الاجتماع علي شريعتي (١٩٣٣–١٩٧٧)، الذي سيصبح العقل المدبِّر للثورة من الناحية الأيديولوجية. في أواخر خمسينيات القرن العشرين، كان شريعتي قد درس في فرنسا حيث التقى بفرانتس فانون وترجم كتابه الشهير «معذبو الأرض» إلى الفارسية. وكان شريعتي، مثل فانون، متأثرًا بالغ التأثر بالفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر. دعم شريعتي حركة الاستقلال الجزائرية، وأصدر مجلة باللغة الفارسية باسم «إيران الحرة»، لتُعطي الطلاب الإيرانيين منبرًا للإعلان عن احتجاجهم. كما أنه جاهر بمهاجمة الاستعمار الفرنسي في الجزائر، وطوَّر أفكاره الخاصة بشأن الأيديولوجيات الغربية مثل الماركسية وما إذا كان من الممكن أن تكون مفيدة للعالم الثالث (أرجمند ٢٠٠٢: ٧١٩–٧٣١؛ كيدي ١٩٨١: ٢١٥ وما بعدها؛ دباشي ١٩٩٣: ١٠٢؛ رهنما ١٩٩٨). وكان نقد شريعتي للغرب ومحاولاته للعثور على سبيلٍ خاص ثالث هو ما سيجعله العقل الأيديولوجي المدبِّر للثورة (أبراهاميان ١٩٨٢: ٢٤–٢٨؛ بيات–فيليب ١٩٨٠: ١٥٥–١٦٨). ورغم اتجاه المفكرين في عدة دولٍ عربية للاشتراكية، فقد اعتبر شريعتي الاشتراكيين والرأسماليين بنفس الدرجة من السوء.

كان أساس رؤية شريعتي للموقف أن المجتمعات الإسلامية المعاصرة بحاجة لاستعادة هُويتها الإسلامية في كفاحها للتحرر من الفساد والركود الداخليَّين، والسيادة الاقتصادية والتأثير الثقافي الغربيَّين. فإعادة التأكيد على الهُوية هذه ضرورية لأن التبعية الأيديولوجية إنما تُطيل التبعية المادية. والإسلام يضُم كل السمات النظرية اللازمة لمنهج راديكالي، علاوةً على منحه شعورًا بالخلاص الروحاني غير موجود في الأيديولوجيات المادية الحديثة. أراد شريعتي أن تعود الدول الإسلامية «إلى جذورها» (شريعتي ١٩٨٠أ و١٩٨٠ب). وهو ما سماه النهج الثالث؛ أي، الطريق بين الشيوعية والرأسمالية. وذهب إلى أنه ليكون هذا ممكنًا، لا بد أن يستعيد الإسلام بأسه الثوري الأصلي. والأهم أنه قد اتَّهَم رجال الدين بتحويل الشيعية إلى دين أساطير. ورغم أنه لم يشهد الثورة الإسلامية قط، فمن المؤكد أن تفسيره الأيديولوجي للإسلام قد وضع الأساس للطليعة الثورية للحركة الإسلامية.

وكما كان الحال في إيران، كان للغرب حضورٌ مؤثِّر في باكستان، التي حصلَت على استقلالها في ١٤ أغسطس ١٩٤٧ لتكون وطنًا للهنود المسلمين. في عام ١٩٢٨، كان الفيلسوف والشاعر محمد إقبال (١٨٧٦–١٩٣٨) قد ألقى سلسلة من ست محاضرات في جامعاتٍ هندية، تناولت إحياء الفكر الديني في الإسلام. فكانت هذه محاولةً شخصية للغاية للتوفيق بين علم الكلام الإسلامي والفلسفة والعلوم الأوروبية. وكان إقبال قد بدأ آنذاك في التعاون مع حزب العصبة الإسلامية، الذي أُنشئ عام ١٩٠٦. وقد ألقى عبارته الشهيرة بشأن الحاجة لإقامة دولةٍ إسلامية منفصلة في شمال غرب الهند في اجتماعه السنوي في الله آباد عام ١٩٣٠. لقد عُدت إقامتها النتاج المنطقي لما عُرف بنظرية الأمتَين، التي زعمَت أن الهنود المسلمين (الذين لا يتعدَّون نحو خُمس إجمالي الشعب الهندي) كانوا يشكِّلون أمةً مختلفة، ولهم الحق في دولةٍ منفصلة مستقلة. إلا أن أصول باكستان تُعد في العموم مرتبطةً بآثار الحكم البريطاني في الهند على العلاقة بين المجتمعات المتنوعة التي تشكَّل منها شعب شبه القارة الهندية.

رغم العلاقة القائمة على التعاون عادةً بين حزب العصبة الإسلامية وحزب المؤتمر الوطني الهندي، فقد أتى اندلاع الحرب العالمية الثانية بنقطة تحول. فقد حرص زعيم حزب العصبة الإسلامية، محمد علي جناح (١٨٧٦–١٩٤٨) أشد الحرص على اعتراف بريطانيا بمنظمته باعتبارها ممثلًا للمطامح الإسلامية. علاوةً على ذلك، كان الحزب تحت قيادة جناح منظمةً بديلة لتبرير الجهد الحربي، مقابل معارضة حزب المؤتمر الوطني الهندي لجر الهند إلى الحرب. في ضوء هذه الخلفية، ومع الأعداد المتزايدة المصغية لرسالته، أصدر الحزب بيانًا للمطالبة بدولةٍ أو دولٍ مسلمة مستقلة في لاهور في مارس ١٩٤٠. أما الهدف المحدَّد من هذا المطلب فقد ظل مبهمًا عن عمد لتبقى الخيارات مفتوحة. كانت المهمة الرئيسية للحزب هي إقناع إخوانه في الدين في الأقاليم ذات الأغلبية المسلمة بأنه إذا تولى حزب المؤتمر الهندي السلطة المركزية، فلن يحمي الحكمُ الذاتي الإقليمي وضعهم. وشيئًا فشيئًا كسب الحزب دعم النُّخب من رجال الدين ومُلاك الأراضي المحليين، الذين كان لديهم كذلك نفوذٌ سياسي كبير. وانعكس هذا النجاح في مكاسبَ بارزة في انتخابات عام ١٩٤٦؛ حيث حصل الحزب على أغلبيةٍ ساحقة من مقاعد المسلمين. ثم كان جمود المفاوضات مع حزب المؤتمر، بالإضافة للتوتُّر الطائفي المتزايد، اللذان أدَّيا لخطةٍ بريطانية لتقسيم الهند. انطوت الخطة على تقسيم البنجاب والبنغال، اللتَين توقَّعَ حزب العصبة الحصول عليهما بالكامل. ورغم عدم رضا جناح عن الدولة «المجتزأة» «المتداعية» التي حصل عليها، فقد كان البديل التنازل عن سلطاته كاملة لحزب المؤتمر. وهكذا وافقَ حزب العصبة الإسلامية في النهاية على صيغة التقسيم في صيف ١٩٤٧ (أنصاري: ٢٤١ وما بعدها).

في إندونيسيا، شدَّدَت منظمتا المحمدية ونهضة العلماء على دور التعليم والمعرفة. وبذلك لعبتا دورًا حاسمًا في تعميم الإسلام الثقافي، على أساس التراث الثري لمبادئ الحضارة الإسلامية. وهو ما يقابل الإسلام الشعائري المنحصر في إندونيسيا في الشريعة ومسائل الحلال والحرام. في الفترة الأولى التالية للاستقلال بعد عام ١٩٤٥، توصل العلماء في كلتا المنظمتَين إلى «حل» للجدل حول ما إذا كانت إندونيسيا لا بد أن تكون دولةً إسلامية أم لا. وهو ما تطرق إلى «البانتشاسيلا»، أو «المبادئ» الخمسة لأيديولوجيا الدولة، وهو ما نجح بدوره في نشر الإسلام الوسطي في إندونيسيا. بعبارةٍ أخرى، نجحَت المحمدية ونهضة العلماء في لعب دَورٍ محوري في الحفاظ على القيم الإسلامية الثقافية، مع التمسك بالبانتشاسيلا باعتبار أنها الشكل النهائي لأيديولوجيا الدولة في إندونيسيا. كذلك ستُساهِم المنظمتان في الخطاب الإسلامي في إندونيسيا عن الموضوعات القائمة مثل حقوق الإنسان، ووضع المرأة، وإقامة الديمقراطية.

لم تظهر فكرة الدولة الدينية فقط مع إقامة باكستان، فقد ظهرَت أيضًا مع نشأة دولة إسرائيل عام ١٩٤٨. بما أنها دولةٌ يهودية، أو دولةٌ لليهود، فمن الممكن اعتبار وجودها نموذجًا حيًّا للدولة الدينية، على الأقل من وجهة نظر العرب. ولن نناقش هنا قائمتهم الطويلة من الهزائم في ١٩٤٨ و١٩٥٦ و١٩٧٦ و١٩٨٢ (التي يتضاءل بجانبها الانتصار على إسرائيل عام ١٩٧٣)، والصراع المعلَّق المستمر على وضع فلسطين إثر اتفاقية أوسلو، والاعتراف العربي بدولة إسرائيل. إلا أنه يجدُر بنا أن نتذكر أن وجود إسرائيل كدولةٍ دينية سيظل يعطي شرعيةً لخطاب الإسلاميين الراديكاليين؛ إذ يمكِّنهم من اكتساب دعم الشعوب لإقامة دولةٍ إسلامية. كذلك مما يستحق الذكر أن دعم أوروبا العلمانية لإقامة دولتَين دينيتَين في نفس العام، واحدة للمسلمين والأخرى لليهود، قد حير الكثير من المسلمين حيرةً شديدة. وقد يفسِّر هذا أبلغ تفسير توجُّه الإخوان المسلمين للسياسة بدرجة أكبر بعد الحرب العالمية الثانية.

(٤) تسييس القرآن

كان الاهتمام بالجانب السياسي موجودًا في تفسير كلٍّ من محمد عبده وأحمد خان. من ثَم فإنه لن يصح الزعم بأن التفسير «ذا التوجه السياسي» قد بدأ مع أبي الأعلى المودودي (١٩٠٣–١٩٧٩)، المؤلف والصحفي ومفسر القرآن والمُنظر والناشط السياسي الباكستاني. لكن لا شك أن المودودي كان هو من أعطى حركات الإسلام السياسي الأساس القرآني الذي سيُحاكيه سيد قطب. فقد كان هو من شكَّل «الأصولية المتشددة»، المعروفة أيضًا باسم «الإسلام السياسي»، وأثَّر في تطوُّرها اللاحق، أكثر من أي شخصٍ آخر (أحمد ١٩٦٧: ٢٠٨–٢٣٦؛ طيبي ٢٠٠٠: ٤٢؛ رمضان ١٩٩٨؛ سلومب ٢٠٠٣: ٢٣٩). حتى إن قادة الثورة الشيعية في إيران عام ١٩٧٩ استَشْهدوا بمؤلفات «أخوَيْهم» السنيَّين من مصر، حسن البنا وسيد قطب، بجانب المودودي الباكستاني، باعتبار أنها المصادرُ الرئيسية التي استلهموا منها تشكيل الدولة الإسلامية.

وفي السياق الهندي، يبدو بديهيًّا أن تدهور العلاقة بين المسلمين والهندوس بدأ في ظل الاحتلال البريطاني. شرع المودودي في دراسته المتعمقة لفقه الجهاد في منتصف عشرينيات القرن العشرين؛ إذ كان هذا ردَّ فعله إزاء الاتهامات الهندوسية للإسلام بأنه انتشر بحد السيف، عقب اغتيال أحد المسلمين لزعيم غير مسلم. وهذا العمل، الذي خرج مسلسلًا أولًا ثم نُشر بعنوان «الجهاد في الإسلام»، جاء ليمثل العناصر الأساسية في فكر المودودي اللاحق. وقد كان في عام ١٩٣٢ أن بدأ صياغة أيديولوجيا الإسلام السياسي، في مجلةٍ شهرية هي «ترجمان القرآن» التي ظلت الوسيلة الرئيسية لبث أفكاره فيما تبقَّى من عمره. وقد حدد أهداف مهمته الفكرية كما يلي:

«كانت خطة العمل التي راودتني هي أنني لا بد أولًا أن أحطِّم قبضة الثقافة والأفكار الغربية على النخبة المثقفة المسلمة، وأن أغرس بداخلهم حقيقة أن الإسلام لديه نظامُ حياة وثقافة ونظامٌ سياسي واقتصادي وفلسفة ونظامٌ تعليمي خاص به، تفُوق جميعًا أي شيء قد تقدِّمه الحضارة الغربية. أردتُ أن أخلِّصهم من الظن الخطأ أنه لا بد أن يقترضوا من الآخرين في مجال الثقافة والحضارة» (روبنسون، د.ت.: ٨٧٢ وما بعدها).

ووفقًا لهذه الأيديولوجيا، حيث الغرب والإسلام على طرفَي نقيض، تصير المجتمعات البشرية المعقدة واحدةً من نوعَين فقط: فهي إما «إسلامية» أو «جاهلية». فمن وجهة نظر المودودي الإسلامية، ما دام الكون «دولة منظمة» و«نظامًا شموليًّا»، تئول كل سلطاته إلى الله، الحاكم الأوحد، فلا بد أن تكون دولة الإسلام أو الدولة الإسلامية الصورة الأرضية للكون.

إذا كان محمد عبده وأحمد خان كلاهما حاول، بطرقٍ مختلفة، وضع القرآن في سياقه لتوسيع معناه عن طريق المجاز والمثل، فالمودودي أيضًا وسَّع من معناه الحرفي للتعامل مع العالم الحديث. مثال على ذلك، الآيات من ٤٢ إلى ٥٠ من سورة المائدة، المعروفة الآن باسم آيات الحاكمية، التي خاطبَت الناس الرافضين للإسلام في زمن الرسول؛ حيث عدَّها المودودي تُخاطِب المسلمين في العصر الحديث. فليس المقصود بها تطبيق القواعد التي وضعها الله فحسب ولكن أيضًا إنشاء دولةٍ دينية.

وفي دراسة مفصَّلة لكتاب المودودي عن الجهاد، يعلِّق سلومب على تأويله تعليقًا صائبًا؛ إذ يقول إنه يتناول قراراتٍ محددة اتُّخذَت في لحظاتٍ تاريخية بعينها ويُحوِّلها لقوانينَ إلهيةٍ أبدية. ونظرًا لأهمية تعليقه، فسأقتبسه فيما يلي كاملًا:

«بالاستناد لحُجج المودودي والأمثلة التي يوردها، سيستنتج القارئ أن كل العبارات التي تتناول الجهاد في القرآن والحديث والتاريخ الإسلامي المبكر كانت قائمةً على مواقفَ فعلية، وأنها صيغت على أساس قرارات، تطرَّقَت مثلًا للعبيد وغنائم الحرب والأسرى والمنافقين والخونة ومعاملة الأعداء والأقليات، بصفتها جزءًا من العملية التاريخية. أما إعلان أن ناتج هذه العملية أمرٌ مقدس، كما يفعل المودودي، فهو يكشف عن أن نقطة ضعف هذا النهج الإسلاموي تكمُن في أسلوب تناوله للتاريخ. إذ تُعطَى جميع الأحداث التي جرت في حياة الرسول وصحابته نفس مرجعية الوحي. نُضيف إلى ذلك أن تفسير المودودي لهذا «التاريخ المُنزَّل منزلةَ الوحي» يُقدَّم على أنه مرجعية للإسلام في جميع العصور» (سلومب ٢٠٠٣: ٢٥٥).

(٥) الجدال الفكري: القرآن بصفته نصًّا أدبيًّا

تناول كتاب علي عبد الرازق النظرية السياسية للإسلام، وتوصَّل إلى أن المسلمين في غياب مثل تلك النظرية، يصير لديهم فرصة الاختيار. وطه حسين (١٨٨٩–١٩٧٣)، الشيخ الذي ترك الأزهر لينضم مباشرةً للجامعة الأهلية الحديثة العهد، كانت لديه مهمةٌ أخرى على نفس نهج أفكار محمد عبده. فقد كانت الفكرة البارزة في تفسير محمد عبده هي أن القرآن يعكس بصورةٍ أساسيةٍ عقليةَ عرب القرن السابع الميلادي الوثنيين. وهي الفكرة التي طوَّرَها فيما بعدُ طه حسين وأمين الخولي وأحمد خلف الله (والذين كانوا جميعًا منتسبين للجامعة الأهلية)، حتى وصلَت لانفصالٍ جوهري عن المفهوم التقليدي والراسخ منذ زمنٍ بعيد عن طبيعة القرآن بصفته كلمة الله، من ناحية، ونصًّا من ناحيةٍ أخرى. قد يكون من المهم هنا أن نذكُر تردُّد محمد عبده في رسالته في علم الكلام، «رسالة التوحيد»، في تبني المفهوم المعتزلي العقلاني لخلق القرآن. فقد كان خيار محمد عبده غير واضح؛ إذ تبنَّت الطبعة الأولى من عمله (١٨٩٧) المفهوم المعتزلي، لكنه في الطبعة الثانية، المنشورة في مجلة «المنار»، تحوَّل للمذهب الأشعري في التفرقة بين السمة «الأبدية» لكلمة الله وتجلِّيها المخلوق المتمثل في «تلاوة» البشر. ليس من الواضح ما إذا كان هذا التحول دلالةً على تغيير محمد عبده لرأيه أم أن رشيد رضا كان هو من أجرى هذه التغييرات (عبده ١٩٧٧: ١٣ و٥٢).

أكد طه حسين البعد الجمالي الخاص والفريد للأسلوب القرآني؛ أي، إعجازه، بالإشارة للطبيعة الأدبية التي تجعل القرآن نوعًا أدبيًّا قائمًا بذاته (حسين ١٩٩٥: ٢٠–٢٦). ولما كان مؤرخًا وناقدًا أدبيًّا بامتياز، فقد ذهب للقول بأن القرآن ليس بشعر ولا نثر؛ إنه بمنتهى البساطة قرآن. واعتبر طه حسين قصة القرآن عن ذهاب إبراهيم وزوجته هاجر وابنه إسماعيل لمكة، روايةً شفهية تعود لزمنٍ بعيد يسبق نزول القرآن. وقال إن هذه القصة كان الهدف منها تخفيف حدة التوتُّر بين العرب الوثنيين، السكان الأصليين ليثرب، والقبائل العربية اليهودية التي استقرَّت في المدينة. ولم يستخدم القرآن هذه القصة لوضع الإسلام في سياق التراث اليهودي المسيحي فحسب، ولكن كذلك لإثبات أولويته كدينٍ توحيدي. كان غرض حسين هو توضيح أنه لا ينبغي اعتبار أن هذه القصة تعبِّر عن أي واقعٍ تاريخي يمكن على أساسه أن نبني افتراضاتٍ بشأن الوضع اللغوي في شبه الجزيرة العربية (حسين ١٩٩٥: ٣٣–٣٥). ومن الغني عن القول أن هذا الطرح لفرضية محمد عبده كان متأثرًا بدرجةٍ بالغة باهتمام طه حسين بخطاب المستشرقين بشأن قصص القرآن وعلاقتها بقصص الكتاب المقدس (باريت، د.ت.: ٩٨٠–٩٨١).٤ ورغم أن هذه إنما كانت نقطةً واحدة في تسلسُل حُجته بشأن أصالة الشعر الجاهلي بأكمله، فقد كانت القشَّة التي قصَمَت ظهر البعير. فقد أشعل كتاب طه حسين خلافًا حاميًا، مع أنه عَد القرآن أكثر المصادر ثقةً وأصالة لفهم الحياة الاجتماعية والدينية قبل الإسلام. وقد بلغ الخلافُ البرلمانَ المصري في النهاية، مع ادعاءاتٍ بأنه يُهين الإسلام. وقبل إرساله للمحاكمة، استجوَب النائب العام طه حسين، وأعلن براءته من أي نيةٍ سيئة ضد الإسلام.٥ وعلى الرغم من ذلك، فقد أُرغم على حذف الفِقرة المحدَّدة، في الطبعة الثانية الموسَّعة من الكتاب، التي ظهرَت بعنوانٍ جديد، وهو «في الأدب الجاهلي».

لا بد أن نضع في اعتبارنا أن كتابات طه حسين كانت جزءًا من حركةٍ فكرية تجديدية شاملة ارتبطَت بالجامعة الأهلية المقامة حديثًا. وكتابات أحمد أمين (١٨٨٦–١٩٥٤) عن تاريخ الحضارة الإسلامية، في عمله المهم «يوم الإسلام»، هي مثالٌ آخر لهذا التيار الجديد من الدراسات (أمين ١٩٢٨). كانت مطالعة تاريخ الإسلام وسيرة النبي من منظورٍ نقدي من الاهتمامات الأساسية لهذه الحركة الجديدة، التي تأثَّرَت بالطبع بالشغف بالتاريخ الذي ساد في القرن التاسع عشر. كما أنها أثَّرَت على التوجُّه المسيحي لتناول سيرة النبي. يرى بعض المسلمين أن سيرة النبي التي كتبها محمد حسين هيكل (١٨٨٨–١٩٥٦) وطه حسين كانت من «الأسباب وراء التغيرات الهائلة في مستوى مناقشة حياة النبي» (أمين ١٩٣٧؛ أمين ١٩٥٣). فإنهم يعتقدون أن النقاش «تحوَّل بدرجةٍ كبيرة من أسلوب المواجهة إلى الحوار» (بوابن ١٩٩٦: ٣١٧). يتجلى هذا التحول عند المقارنة بين الخطاب الاستشراقي العدائي في القرنَين الثامن عشر والتاسع عشر عن النبي محمد وسيرته، وأشكاله الأقل تحيزًا في القرن العشرين. وقد ضمَّت أعمال طه حسين الكثيرة عن التاريخ المبكر للإسلام كتبًا مثل «على هامش السيرة» (١٩٤٣)، و«الفتنة الكبرى» (١٩٤٧)، ثم «الشيخان».

إن إخراج لجنة تحقيق الأزهر لعلي عبد الرازق من زمرة العلماء، ومحاكمة طه حسين، يُبرهِنان على شدة الخلافات السياسية والاجتماعية في مصر. كما أنها وقعَت في كل بلدٍ إسلامي تقريبًا، مما يعكس التوتُّر بين الحداثة والتمسُّك بالقيم الإسلامية التقليدية.

فيما كانت رياح التجديد منتشرة في أنحاء الحياة المصرية بدأ أمين الخولي (١٨٩٥–١٩٦٦) عمله أستاذًا في كلية الآداب في جامعة القاهرة. فجعل يطبِّق منهج التجديد على دراسة النحو والبلاغة وتفسير القرآن والأدب (الخولي ١٩٦١). وليس من السهل أن نحدِّد أيًّا من هذه المجالات الدراسية الأربعة يقدِّم النموذج الأمثل لمنهج التجديد لدى الخولي. إلا أنه تبنَّى وجهة النظر — التي يؤيدها التاريخ — القائلة بأن التجديد في الفنون والآداب هو بداية النهضة (الخولي ١٩٦١: ٢١٩). فذلك التجديد حتمي لتطوير الوعي الفكري والجمالي لدى الناس في مصر لتحقيق نهضةٍ وطنية حقيقية وشاملة (الخولي ١٩٦١: ١٨٥؛ ١٩٥؛ ٢٦٥). فالأدب الجديد والملهم يحتاج لمنهجيةٍ أدبية جديدة لتُوضِّح بنيته وتشرح وظيفته. وينطوي هذا على دراسةٍ جديدة للنحو والبلاغة وبالتالي ضرورة التجديد في المجالَين. وما دامت النهضة والتجديد قوامهما الحركة والصحوة، فلا بد أن تكون نقطة البداية هي دراسة التراث القديم دراسةً شاملة ودقيقة، في كل مجالٍ من مجالات المعرفة. وكان شعار الخولي هو: «أول التجديد قَتْل القديم بحثًا» (الخولي ١٩٦١: ٨٢؛ ١٢٨؛ ١٨٠). هذا وإلا فستكون النتيجة «تبديدًا لا تجديدًا» (الخولي ١٩٦١: ١٤٣). وإذا كانت دراسة الأدب والنحو والبلاغة في الماضي تخدم أغراضًا دينية، فلا بد أن يتغير هذا الآن (الخولي ١٩٦١: ١٨٨).

لم يَرَ الخولي أن الدراسة الأدبية للقرآن مسألةٌ اختيارية. فقد أشار إلى أن إيمان العرب بالقرآن وبالتالي الإسلام كان قائمًا على تفوُّقه التام على أي نصٍّ بشري. بعبارةٍ أخرى، لقد آمن العرب بالإسلام بناءً على تقييمهم للقرآن كنصٍّ أدبي (الخولي ١٩٦١: ٩٧–٩٨؛ ١٢٤–١٢٥). هذا معناه أن المنهج الأدبي لا بد أن ينسخ أي مقاربةٍ أخرى، سواء كانت دينيةً لاهوتية، أو فلسفية أو أخلاقية أو صوفية أو شرعية (يانسن ١٩٧٤: ٦٥–٦٧). من المهم أن نتذكر هنا أن المذهب الرومانسي، أو بعبارةٍ أدقَّ الشكل العربي منه، كان هو النظرية الأدبية المهيمنة آنذاك (البحراوي ١٩٩٣).٦ على نهج هذه النظرية، أقام الخولي الرابط بين دراسة النحو والبلاغة والأدب من ناحية، وتفسير القرآن من ناحيةٍ أخرى. فما دامت النظرية الكلاسيكية للإعجاز قد قامت على المفهوم الكلاسيكي للبلاغة، فلا بد أن يُستبدل بهذا المفهوم النظرية الحديثة للبلاغة التي ترتبط بالنقد الأدبي. يتطلب هذا الارتباط ارتباطًا آخرَ بعلم النفس، وهي علاقةٌ موازية لتلك التي بين النقد الأدبي وعلم الجمال (الخولي ١٩٦١: ١٤٤ و١٧٥ و١٨٢ و١٨٩). ولا بد إذن أن تركِّز دراسة البلاغة على دراسة الأسلوب الأدبي وتأثيره العاطفي على المتلقي/القارئ (الخولي ١٩٦١: ١٨٥). فلا بد أن يكون هدفها تنمية الوعي الجمالي لدى المؤلف والقارئ؛ فلا بد أن تُعاد تسميتُها بفن القول. وحدها المقاربة الأدبية للقرآن، من خلال النظرية الأدبية الحديثة، ستستطيع أن تكشف عن إعجازه، ذلك الإعجاز المعبِّر في جوهره والمثير للنفس (الإعجاز النفسي) (الخولي ١٩٦١: ٢٠٣–٢٠٤).

أحمد خلف الله (١٩١٦–١٩٩٨) وشكري عياد (١٩٢١–١٩٩٩)، وهما اثنان من طلابه، وزوجته عائشة عبد الرحمن (المعروفة أيضًا باسم بنت الشاطئ) (١٩١٣–١٩٩٨)، طبقوا المنهج الأدبي للخولي في الدراسات القرآنية وذاع صيتهم. كذلك سيد قطب، المُنظر الشهير للأصولية الإسلامية الحديثة، كان قد بدأ كتاباته عن القرآن مطبقًا منهجًا أدبيًّا مشابهًا، وإن كان أكثر انطباعية. يتضح هذا في كتبه «التصوير الفني في القرآن» و«مشاهد القيامة في القرآن»، وتفسيره للقرآن «في ظلال القرآن». طبَّقَت رسالة الماجستير التي تقدَّم بها خلف الله والتي كانت بعنوان «جدل القرآن»، وأشرف عليها الخولي، تلقائيًّا مبادئ المنهج الأدبي المقدَّم في تعليق الخولي على مقال التفسير في الترجمة العربية للطبعة الأولى من «دائرة المعارف الإسلامية». أما رسالة الدكتوراه التي تقدم بها خلف الله، بعنوان «الفن القصصي في القرآن الكريم»، فقد طوَّرَت إلى حدٍّ ما منهج الخولي، وإن كانت اتبعَت نفس الخطوات المنهجية التي طرحَها أستاذه. كانت الخطوة الأولى هي جمع القصص القرآنية، والثانية هي إعادة ترتيبها حسب تاريخ نزولها. وهو ما يُفترض أن يسمح بالتحليل حسب سياقها الأصلي؛ أي، البيئة الاجتماعية، والحالة الانفعالية للنبي، وتطوُّر الرسالة الإسلامية (خلف الله ١٩٧٢: ١٤). إذ يؤكد خلف الله أن تلك المراعاة للسياق ستساعد على الكشف عن المستوى الدلالي الأصلي لقصص القرآن، وكذلك المستوى الذي كان مفهومًا لدى العرب عند نزول الوحي (خلف الله ١٩٧٢: ١٥). وتجدُر هنا الإشارة إلى أن خلف الله لا يطبِّق منهج التحليل الموضوعي بجمع شذرات القصص المذكورة في السور المختلفة. فإنه يعُد كل جزء من القصة قصةً مستقلة في حدِّ ذاتها. قصة موسى مثلًا ليست قصةً واحدة. فكلٌّ من القصص التي يأتي فيها ذكر موسى تمثل وحدةً قصصية تستحق الدراسة وحدها. من ثَم فإن التحليل الموضوعي سيفسد البعد السياقي الذي ركز عليه خلف الله.

يبدو أن خلف الله كان مشغولًا جدًّا بما قد يحدث له شخصيًّا، نتيجة لمقاربته. فقد جعل يؤكد على مقدار صعوبة إنجاز أطروحته، وكيف أنه عرَّض نفسه للخطر. إلا أنه أصر على أن المعرفة الأكاديمية والعلمية تحتِّم عليه مواجهة تلك المخاطر (خلف الله ١٩٧٢: ١٧). وكذلك أشار للصعوبات التي يُجابِهها مفسرو القرآن، لا سيما المتكلمون. وهي مشكلاتٌ ناتجة إما عن فرض أيديولوجيا مسبقة على القرآن أو عن السعي لإثبات الأصالة التاريخية لقصصه. وفي كلتا الحالتَين يُغفَل المعنى النصي للقرآن (خلف الله ١٩٧٢: ٢–٥). ومن ناحيةٍ أخرى، يشكِّك خطاب المستشرقين عن القرآن في صحته التاريخية استنادًا لتناقُض قصصه، أو على الأقل لعدم مطابقتها للحقائق التاريخية (خلف الله ١٩٧٢: ٦). إن دراسة القصص القرآنية باعتبارها قصصًا أدبية — كما يقترح المنهج الأدبي — يجعل الصحة التاريخية بلا أهمية أو بالأحرى سؤالًا في غير محله. وباقتباس بعض الملحوظات من مصادرَ كلاسيكية منها القاضي عبد الجبار والزمخشري والرازي، وكذلك من مصادرَ حديثة مثل كتابات محمد عبده، أكد خلف الله أن قصص القرآن «أمثال»، وليس الهدف منها إعطاء حقائق تاريخية. ولأنها أمثالٌ فإنها تدخل في فئة «المتشابهات». ومحاولة المفسرين القدامى تفسير غموضها تجعل كتبهم تفيض ببياناتٍ مأخوذة من آثارٍ يهوديةٍ ومسيحيةٍ سابقة، أو ما يُطلق عليه الإسرائيليات. المنهج الأدبي في المقابل لا يستلزم تلك البيانات؛ إذ إنه يفرق بين جسم القصة، ومعناها. تقوم هذه التفرقة على تفسيراتٍ قديمة وحديثة. يتناول التفسير القديم القصص باعتبارها أمثالًا، ويفرِّق في بناء الأمثال بين «المعنى» و«اللزوم»، وتطابقهما ليس ضرورة (خلف الله ١٩٧٢: ٥٦).٧ والتفسير الحديث مأخوذ من قصصٍ أدبية تتناول شخصياتٍ تاريخية أو حوادثَ تاريخيةً معيَّنة؛ مثال على ذلك الملكة المصرية كليوباترا، التي تظهر في أعمال شكسبير وبرنارد شو وأحمد شوقي والسير والتر سكوت (خلف الله ١٩٧٢: ٥٧). قد يبدو جسم تلك الأعمال تاريخيًّا، إلا أن معناها أو رسالتها لا يعكسان التاريخ بالضرورة. فعلى عكس المؤرخ، تتيح الضرورة الأدبية للكاتب تطويع التاريخ في عمله الأدبي.

بجانب البرهان النظري الموضَّح أعلاه، لدينا أيضًا عدة براهينَ قرآنية تُثبِت الحاجة لتطبيق المنهج الأدبي. الأول، مواظبة القرآن على عدم ذكر زمان أو مكان الأحداث التاريخية في قصصه، وكذلك حذف بعض الشخصيات. والثاني أن القرآن في تناوله الكثير من القصص التاريخية يختار بعض الأحداث ويتجاهل أخرى. والثالث أنه يغيِّر الترتيب الزمني للأحداث. والرابع أن القرآن يُبدل أحيانًا الشخصيات التي أتت أفعالًا معيَّنة. والخامس هو أن حوار الشخصية قد يختلف عند تكرار القصة في سورةٍ أخرى من القرآن عما جاء في سياقٍ سابق. والسادس أن القرآن بترتيب نزوله أحيانًا ما يضيف وقائعَ لاحقةً للقصة. وكل هذا يشير بوضوح إلى أن القرآن يستخدم نفس الحرية التي تتمتع بها القصص الأدبية عند تناولها للتاريخ (خلف الله ١٩٧٢: ٦٠–٦٣).

يبدو أن المعضلة الكبرى التي واجهها خلف الله وأستاذه كانت حالة الفصام التي صارت تُحاصِر الحالة العقلية للمسلمين عند مواجهة تحديث البِنى الاجتماعية السياسية للمجتمعات الإسلامية. ولا تنحصر المعضلة في الصحة التاريخية؛ فهي تخُص كذلك مستقبل الفكر الإسلامي. فإنه مما يسترعى الانتباه أن خلف الله داوم على استخدام عبارة «العقل الإسلامي»، عند تناول مشكلاتٍ متعلقة بفهم القرآن. فهو مثلًا يفسر عدم قدرة العقل الإسلامي على إدراك الأبعاد الأخلاقية والروحانية للقصص القرآنية لانشغاله الشديد بالصحة التاريخية. العقل الإسلامي غير قادر أيضًا على تفسير السبب لتكرار القصة، أو سبب اختلاف التفاصيل عند تكرارها (خلف الله ١٩٧٢: ٣٧–٤٠). الأصعب من ذلك التباينات الواضحة في المعلومات التاريخية والعلمية في القصص القرآنية (خلف الله ١٩٧٢: ٤٠–٤١). يذكُر الخولي حالة طه حسين في مقدمته للطبعة الثانية لعمله «الفن القصصي في القرآن الكريم» (القاهرة ١٩٥٧). فهو يُصرِّح بكل وضوح أن المنهج الأدبي في تناول القرآن هو الطريقة الوحيدة الممكنة لإنقاذ المفكرين المسلمين من حالة الفصام. فمن الممكن أن يؤمن المسلمون بالإسلام والقرآن الكريم إيمانًا حقيقيًّا من دون الاعتقاد بأن القصص المذكورة في القرآن صحيحة تاريخيًّا (الخولي ١٩٥٧). ويُشير الخولي في مراجعَ مثل تلك لحالاتٍ أخرى تعكس حالةً ذهنية مماثلة. وكما رأينا، كانت هناك كذلك هجماتٌ مشهودة على كتابات قاسم أمين وعلي عبد الرازق وطه حسين.

من المفترض عمومًا أن يقدِّم المنهج الأدبي حلًّا. فهو يحرِّر العقلية المسلمة من حالة الركود. يحاول خطاب التجديد إثبات أن «القرآن ليس بكتاب للعلوم ولا التاريخ ولا النظريات السياسية». القرآن كتابٌ روحاني وأخلاقي للهداية، يُستخدم ما فيه من قصص لتحقيق هذه الغاية. بعبارةٍ أخرى، قصص القرآن هي قصصٌ أدبية موظَّفة لتحقيق أغراضٍ أخلاقية وروحانية ودينية. ومن ثَم فإنه خطأٌ منهجي فادح أن نتعامل مع قصص القرآن على أنها وقائعُ تاريخية محضة (الخولي ١٩٥٧).

في ١٣ أكتوبر عام ١٩٤٧، بعد أكثر من سبعة شهور من الجدال في الصحافة والبرلمان، قرَّرَت الجامعة رفض رسالة خلف الله، ونُقل لوظيفة أخرى بعيدًا عن التدريس. وقرَّرَت كذلك عدم السماح للمشرف على الرسالة، أمين الخولي، بتدريس الدراسات القرآنية، أو الإشراف عليها. كان الأساس الذي استند إليه هذا القرار قائمًا على أن الخولي كان رئيسًا لقسم اللغة العربية في كلية الآداب منذ تعيينه في السادس من أكتوبر عام ١٩٤٦. ومن ثَم فإنه لم يكن من المفترض أن يتولى الدراسات القرآنية (سعفان ١٩٩٤: ٣٨).٨ ونُقل جميع طلاب الخولي في مجال الدراسات القرآنية لمشرفين آخرين. أما هو فقد ظل أستاذًا جامعيًّا لكنه اقتصر على تدريس النحو والبلاغة والأدب. وبعد عدة أعوام، سنة ١٩٥٤، سيكون الخولي واحدًا من ٤٠ أستاذًا جامعيًّا نُقلوا لوظائفَ بعيدةٍ عن التدريس. المفارقة أن من اتخذ هذا القرار هو النظام العسكري الجديد لحركة الضباط الأحرار، فيما يُفترض أنه تطهير للجامعة من الفساد.
ومضت ٣٠ سنة تقريبًا قبل أن يُقرِّر طالبٌ آخر للخولي، وهو شكري عياد، أن ينشر أطروحته لدرجة الماجستير التي عنوانها «يوم الدين والحساب في القرآن»، وهي التي كان قد أنجزها تحت إشراف الخولي تقريبًا في نفس فترة أطروحة خلف الله. وقد علَّل في مقدمتها تردُّده عن نشر أطروحته قبل ذلك، مشيرًا إلى الصعوبات الأكاديمية الناتجة عن سوء فهم عامة الناس وضيق أفقِ ردود الأفعال تجاه المنهج الأدبي في تناول القرآن خلال أربعينيات القرن العشرين. واحتَج بأن عدد القُراء القادرين آنذاك على قبول منهج استخدام علم اللغويات والنقد الأدبي بما لديهم من معرفةٍ غنية بعلم الاجتماع وعلم النفس كان عددًا قليلًا جدًّا. ورغم أن هذه الصعوبات كانت قد ردَعَته عن نشر أطروحته، فقد أقنعه تشجيع زملائه وأصدقائه فيما بعدُ بأن الوقت قد حان لنشرها في كتاب (عياد ١٩٨٠: ٥). لكن ما لم يذكُره عياد هو أنه اضطُر بعد إتمامه لرسالة الماجستير لمواجهة تبعات السجال الحاد بشأن أطروحة خلف الله. فكان أمامه الاختيار بين الاستمرار في الدراسات القرآنية تحت إشراف أستاذٍ آخر، أو الاستمرار مع أمين الخولي، مما كان سيجعله يخرج من مجال الدراسات القرآنية. وعلى غرار أغلب طلاب الخولي، كان عيَّاد شديد الارتباط بأستاذه حتى إنه فضَّل الاختيار الثاني.٩ مع كل هذه الصعوبات والتهديدات بالتعسُّف، ظلَّت الدراسات القرآنية القائمة على مبادئ المنهج الأدبي في ازدهار خارج الحدود الأكاديمية. وقد تكون أهم النتائج المترتبة على ذلك هي استمرار مبدأ إعادة الوضع في السياق.

(٦) الحالة الأولى: الإسلام الثقافي في إندونيسيا: الديمقراطية والتفكير الحر وحقوق الإنسان

كان نور خالص مجيد (١٩٣٩–٢٠٠٥) من بدأ حركة التجديد الديني في إندونيسيا على نهج الأفغاني ومحمد عبده، ناسبًا انحدار الفكر الإسلامي لفشل المسلمين في فهم الإسلام فهمًا صحيحًا. فقد قال إن الإندونيسيين المسلمين يعانون من ركود الفكر الديني، وفقدوا «الطاقة النفسية المحفزة» في صراعهم (مجيد ١٩٧٠: ١–١٢). ومن الأدلة المهمة على هذا القصور في إسلام الإندونيسيين، حسب رؤية مجيد، عدم قدرة الغالبية العظمى من الإندونيسيين المسلمين على التفرقة بين القيم المتسامية والزمنية. كذلك أشار إلى أن ترتيب القيم كثيرًا ما يكون معكوسًا؛ إذ يُتصور أن القيم المتسامية زمنية والعكس. فكل شيء عرضةٌ لاعتباره متساميًا، وبالتالي يُعد كل شيء، دون استثناء، مقدسًا. ويترتب على أسلوب التديُّن هذا «رؤية الإسلام كأنه مساوٍ في القيمة للتراث؛ ويصير كون المرء إسلاميًّا مساويًا لكونه متمسكًا بالتراث» (مجيد ١٩٧٠: ٤). للتعامل مع تلك المشكلات، ركَّز مجيد على ثلاث مراحلَ فكريةٍ مترابطة؛ العلمنة، والحرية الفكرية، والتقدُّم والانفتاح الذهني. وهو يعرِّف العلمنة على أنها عملية، لا رؤية للعالم أو نظام معتقدات. وهي تنطوي على تحويل المعتقدات والممارسات في اتجاهين؛ الأول لأسفل، ويتعلق بعلمنة شيء كان يُعد فيما مضى مقدسًا. والاتجاه الثاني لأعلى، ويتعلق بتقديس شيءٍ متسامٍ وأبدي ومقدس بحق (مجيد ١٩٨٥: ١٦٥–١٧٠). يهدف هذا الفهم للعلمنة لتجديد فهم أغلبية المسلمين للتراث الإسلامي، الذي يعُدونه في قدسية المصادر الدينية. فالكتب الإسلامية المستخدمة في البيسانترين (المدارس الداخلية الإسلامية التي شكَّلَت نظام التعليم الإسلامي القديم في إندونيسيا) يحسبها الناس عمومًا مقدسة. وهو ما أدى بدوره إلى الركود. ويرى مجيد أنه من الضروري أن يُرد هذا التراث الأدبي لمكانته الأصلية. وتتعلق الخطوة الثالثة بإتاحة الحرية الفكرية لمناهضة أي حدود تضعها السلطات البشرية. وبما أن باب الاجتهاد مغلق، فلا بد من فتحه من خلال الحرية الفكرية. وهذه الخطوة نحو التقدم والانفتاح الذهني تشير إلى الموقف النفسي الناتج عن إعادة فتح باب الاجتهاد.

لما كان قد تخرج من جامعة شيكاغو، التي صار فيها ملمًّا إلمامًا عميقًا بالتراث الفكري لدى الغرب، فقد تحوَّل مجيد إلى مفكرٍ حر عقلاني لديه أفكارٌ مختلفة راديكاليًّا عن أفكار علماء الدين الإندونيسيين. ولأن الإسلام السياسي للمنظمتَين الرئيسيتَين في إندونيسيا كان قد اصطدم بالحكم الاستبدادي لنظام سوهارتو الجديد، فقد اعتقد مجيد أن المنهج الثقافي وحده سيُقدِّم الفهم المناسب للإسلام للمجتمع الإندونيسي (سيامسودين ١٩٩٥: ٤٧–٦٨). إذ سيظل الإسلام السياسي يُنحَّى دائمًا لموقع هامشي في ظل نظام سوهارتو، ولن يتمكن من إعطاء المجتمع الإسلامي الزخم الكافي للنهوض بمستويات المعيشة. وهكذا، على خلفية سادها الفقر ونقص التعليم والفهم الجامد للإسلام، دعا مجيد لتجديد الفكر الإسلامي من خلال الإسلام الثقافي.

عبد الرحمن وحيد (المولود عام ١٩٤٠)، الرئيس السابق لمنظمة نهضة العلماء، هو مروِّجٌ آخر للإسلام الثقافي؛ إذ أدخله في مدارس البيسانترين. وبعيدًا عن معالجة مشكلات البيسانترين، تتناول كتاباته في أغلبها المشكلات المعقدة الكامنة في الاستجابة لتحديات الحداثة. إن فهم وحيد للإسلام موجَّه لخير البشرية. فهو يعرب في مقالاته في الإعلام الإندونيسي عن قناعته بأن التعبير الصحيح عن الإسلام لا يتحقق إلا بإعطاء الأولوية لروح القانون، الحقيقة الباطنة. ترتبط هذه القناعة ارتباطًا وثيقًا بفكرتَين رئيسيتَين أخريَين من أفكار وحيد؛ اقتناع وإيمان عميقان بأنه مع استمرار السعي العقلاني، يستطيع الإسلام مواجهة تحديات الحداثة على أفضل وجه. علاوةً على ذلك، لدى وحيد اقتناعٌ بأن عناية الإسلام الأساسية بخير البشرية، وتعاليمه بشأن التسامح والاهتمام بالانسجام الاجتماعي، كلها تبرهن أنه ليس على المسلمين الخوف من الطبيعة التعددية للمجتمع الحديث وإنما عليهم التعامل معها بنحوٍ إيجابي (وحيد ١٩٧٩: ٥٢).

المجتمع الريفي في إندونيسيا، بصفته الخلفية للبيسانترين، عليه مواجهة مشكلة الحداثة والتغير الاجتماعي. على خلاف مجيد، في استخدامه كلمة «تجديد» الرائجة، يتبنى وحيد كلمة «تحريك» في دعوته للتغيير في مجتمع البيسانترين. وهذا يشتمل على عمليتَين؛ إنعاش القيم الإيجابية الموجودة، وإحلال قيم مثلى محل القيم الفاسدة (وحيد ١٩٧٩: ٥٤–٥٥). كذلك تمكَّن وحيد من الدعوة إلى إقامة الديمقراطية باستخدام مفهوم «الإسلام الثقافي». فقد أنشأ «منتدى الديمقراطية» في أوائل تسعينيات القرن العشرين، بالتعاون مع الجيش والحزب الحاكم، حزب العمال. وهو ما أدى لعدد من التمييزات غير الواضحة بين ما يُسمَّى دولة ديمقراطية ودولة ديكتاتورية. فرغم أن الدولة رسميًّا ديمقراطية، فلا يزال الجيش الإندونيسي قوةً عظمى في مجال السياسة. ولا يمكن عزل الكفاح من أجل إقامة الديمقراطية الذي بدأه وحيد وآخرون عن تفسير النصوص الدينية. فقد جادل وحيد بأن ليس هناك ما «يفصل» بين الإسلام والديمقراطية. الديمقراطية في الأساس عمليةٌ مستمرة تؤدي لمجتمع أفضل؛ يوازيها دين الإصلاح (وحيد ١٩٩٩: ٨٧–٨٨).

من أفكار وحيد أيضًا موضوع حقوق الإنسان. هذا لأن السعي لإقامة الديمقراطية هو سعي نحو احترام حقوق الإنسان. وهو يستنتج من معرفته بالكثير من النصوص الدينية أن ثمَّة ثلاثة جوانب للكرامة الإنسانية، وهي الكرامة الفردية، والكرامة الاجتماعية، والكرامة السياسية (وحيد ١٩٨٣: ٩٤). يعطي الإسلام حق الحياة بمعناها المادي والذهني، وكذلك يكفل المساواة بين الأعراق، وكذلك حقهم في التعبير عن أنفسهم سياسيًّا.

ويؤيد علماء إندونيسيون آخرون رؤية وحيد، ومن بينهم نور خالص مجيد وشافعي معارف، وهو رئيس منظمة المحمدية الآن. يرى معارف أن عناصر الديمقراطية متجسدة بوضوح في مبادئ التعاليم الإسلامية، مثل العدالة والمساواة والشورى واحترام التعددية. فمن بين مصادر فهم مبدأ العدالة الآية ١٣٥ من سورة النساء والآية ٨ من سورة المائدة. الآية الثانية التي تقول: «اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى»، هي روح العدالة من منظورٍ إسلامي. وهذا ما يعُده بعض المفكرين الإندونيسيين المسلمين أساس مبدأ الديمقراطية. ويُعد واجب مساعدة المحتاجين مثالًا على تطبيق العدالة الاجتماعية. أما مبدأ المساواة في الإسلام فمن المعتقد أنه قائم على الآية ١٣ من سورة الحجرات.

في السياق الإندونيسي، حيث حَظيَت المجموعة الدينية الأكبر للمسلمين بتاريخ طويل نسبيًّا من التعايش السلمي مع البروتستانت والروم الكاثوليك والهندوس والبوذيين، يعطي العلماء المسلمون أهميةً كبيرة للتعدُّدية الدينية بوصفها أحد أعمدة الديمقراطية. ولذلك فإن تطوُّر الإسلام في إندونيسيا مختلف كليةً عنه في سائر الدول المسلمة أو حتى الإسلامية. ويستخدم العلماء مثل نور خالص مجيد وغيره الآية ٢٢ من سورة الروم للاحتجاج بأن الاختلافات بين البشر هي نقطة البداية للتنافس الإيجابي. إذ يرون أن القرآن يعبِّر عن ضرورة أن تكون التعددية أمرًا مسلَّمًا به (مجيد ١٩٩٢: ٥٨). وفي هذا محاولةُ تأويلٍ منطقية حيث يُستخدم النص الديني أساسًا لفهم عُرف الديمقراطية الحديثة.

أفكار أحمد وهيب (١٩٤٢–١٩٧٤) وملحوظاته لها نفس درجة الأهمية في خطاب التجديد الإسلامي. وكتابه الصادر عام ١٩٨١، «ديناميكيات الفكر الإسلامي: مذكرات أحمد وهيب»، يوضح ثلاثة مبادئ رئيسية للتجديد. الأول هو حرية الفكر. فالفكر الحر من وجهة نظر وهيب ليس مجرد حق وإنما واجب. والإسلام الذي يقيد الحرية ليس الإسلام الذي يريد اعتناقه: «... ما زلتُ حتى الآن أعتقد أن الله لا يريد تقييد حريتي؛ فإنه سيعتز بإصراري على طرح أسئلة بشأنه. أعتقد أن الله متجدد وحي؛ إنه لا يريد أن نحسبه متجمدًا» (وهيب ١٩٨١: ٤٥؛ بارتون ١٩٩٥: ٣٥). وحيث إنه مفكرٌ حر بارع، فإنه يجادل بأن الحداثة ضرورة لا مفر منها. الحداثة باعتبارها عمليةً اجتماعية تستلزم استجابةً إيجابية، استجابة لا بد لها من تجديدٍ ديني. وإنه يرى في شخصية النبي محمد نموذجًا للتجديد والإصلاح والابتكار؛ إذ إن جوهر أسلوب النبي في الإدارة يكمن في الطريقة التي غيَّر بها العالم الاجتماعي والفكري في زمنه. ومن ثَم فإن وهيب يتساءل: «ما دور النبي في تحديث الفكر؟ لقد نجح محمد في اقتلاع عقليةٍ طبقية وإقامة توجُّهٍ ديمقراطي؛ حيث يتمتع كل الناس بنفس الفرص؛ فعليهم الاعتماد على أنفسهم من دون ضرورة الاتكال على ذوي الشأن (وهيب ١٩٨١: ١١٧–١١٨؛ بارتون: ٤١).» ولا يمكن تحقيق هذا التجديد في الفكر الإسلامي إلا من خلال الاجتهاد. يرى وهيب أنه بالقول بأن محمدًا كان من بادَر بعملية الإصلاح المستمر يصير من الواجب أن نسير على خطاه، حتى إن كان في سياقٍ مختلف. وهو بِناءً على ذلك يُعارض الفهم الجامد للنصوص الذي كان السمة الغالبة لجيله. فإنهم يفسرون القرآن تفسيرًا حرفيًّا وجامدًا، وبذلك يحولون دون إمكانية الفهم العقلاني (وهيب ١٩٨١: ٢٦).

موناوير سادزالي (المولود عام ١٩٢٥)، الوزير السابق للشئون الدينية في أواخر ثمانينيات القرن العشرين، روَّج ﻟ «تجديد» الإسلام عن طريق «إعادة التحقيق». ومحور حُجته هو تشجيع المسلمين على الإقبال على الاجتهاد الديني بإخلاص، لجعل الإسلام أكثر استجابةً لاحتياجات إندونيسيا المكانية والزمنية. ومن أكثر الموضوعات التي ظل يناقشها في هذا الصدد هو مبدأ الميراث في الإسلام. إن الإسلام ينُص على أن يرث الذكور ضعف نصيب الإناث. وإنه بناءً على تجربته الشخصية أيضًا، يستنتج أن هذا الحكم تحديدًا يبدو في بعض الظروف مناقضًا لمبدأ العدالة نفسه. وقد فطن الكثير من العلماء لذلك، على حد قول سادزالي، لكنهم غير مستعدين لحسم المسألة. وإنما يفضِّلون، على غرار الكثير من المسلمين الآخرين، أن تُتخذ خطواتٌ استباقية بالحد بدرجةٍ كبيرة من التركة الموروثة. ويكون ذلك غالبًا بتوزيع التركة في صورة هبات على الأبناء، كيفما يشاءون، قبل وفاتهم (سادزالي ١٩٨٨: ١–١١).

وتتعدى أهمية منهج سادزالي لإعادة التحقيق خطاب مسألة الميراث. فإن إنعام البصر في إطار عمل فكره الديني يكشف عن أنه يميل للاحتجاج بأن هناك أحكامًا قرآنية — خاصة المرتبطة بمسائلَ اجتماعيةٍ غير طقسية — لم تعُد مناسبة لاحتياجات العصر الحالي (مثال: قانون الميراث، والعبودية … إلخ). في حالة الميراث، لا بد من تفسير النص الديني بما يتفق مع الظروف الاجتماعية في إندونيسيا؛ أي إن النساء لا بد أن يتساوين مع الرجال في الميراث. وفي هذا الشأن يستند بدرجةٍ كبيرة (لكن ليس حصريًّا) لممارسات وأفعال ثاني الخلفاء، عمر بن الخطاب، الذي يُقال إنه نتيجةً لتغير الظروف الاجتماعية طبَّق سياسات لا تتفق تمام الاتفاق مع الأحكام التي وضعها القرآن وسنة النبي.

من الناحية التأويلية، أضفى سادزالي «الطابع الإنساني» على النص الديني بِناءً على التغير الثقافي والاجتماعي. وهو على وعي أيضًا بأن عددًا من العلماء المسلمين القدامى قد فعل نفس الشيء، وإن كان لاعتباراتٍ مختلفة ربما. وتشترط محاولته وجود آفاقٍ جديدة لفهم النص الديني في السياق الإندونيسي. فعلى سبيل المثال، أثارت أفكاره عن المساواة بين الرجال والنساء في الميراث سجالًا حادًّا بين العلماء الإندونيسيين. فقد رفض المعارضون اقتراحه، محتجين بأنه يخالف صريح القرآن. وشددوا على أنه رغم الاختلافات الثقافية والاجتماعية في تاريخ البشر، فإن تطبيق القرآن فرض. فقد انتقده مثلًا رفيال كعبة، رئيس المحكمة العليا ومحاضر القانون، لعدم قدرته على إدراك تواني الكثير من العلماء القدامى عن تفسير القرآن وفقًا للعقل المحض، وكذاك لقصوره عن فهم تمسُّكهم بسنن النبي (كعبة ١٩٨٨: ٦٠–٦١).

كذلك اشتُهر سادزالي بتأكيده على ضرورة اعتبار البانتشاسيلا الدستور النهائي للدولة الإندونيسية، وضرورة غلق باب النقاش عن احتمال إقامة دولةٍ دينية في إندونيسيا. ويرى سادزالي أن أهم شيء هو ألا يغفل المسلمون عن متطلبات الحداثة. وإنما عليهم أن يكونوا قادرين على إقامة حوارٍ بنَّاء وذكي بين عالمية التعاليم الإسلامية وما تمليه السمات المميزة لإندونيسيا، وفي ذلك خصائص البنى الاجتماعية الدينية للأرخبيل وتوجهاته السياسية. وهو يعبِّر عن هذه الأفكار الخاصة بالعلاقة بين الإسلام والدولة في كتابه «الإسلام وإدارة الدولة»، حيث يتمعن في أحكام القرآن والسنة للتأكد مما إذا كان الإسلام يحدِّد فعلًا شكلًا معينًا للدولة. هو يُورد أقوال عددٍ كبير من المفكرين المسلمين من العصر القديم، منهم الفارابي والماوردي، بالإضافة إلى إصلاحيين جُدد مثل الأفغاني ومحمد عبده وعلي عبد الرازق، ثم ينتهي إلى أن الإسلام ليس له اهتمامٌ بالغ بتنظيم الأمور المتعلقة بشئون الدولة. فليس هناك في القرآن ما يشير لأي مفهوم للدولة بمعناها السياسي. ويسهب أكثر فيقول إن مفهوم «الدولة الإسلامية» هو نتاج مواجهة الاستعمار الغربي، وإن الإعلان الرسمي عن الدولة الإسلامية لم يحدث قط خلال العصور القديمة أو الوسطى للإسلام (أفندي ١٩٩٥: ١١٢–١١٣). كان لأفكار عبد الرازق عن شكل الدولة صدًى ملحوظ في الخطاب الإندونيسي. فالكثير من المفكرين الإندونيسيين يرَون أنه لا يُوجد دليلٌ واضح على أن القرآن والسنة يجبران المسلمين على إقامة دولةٍ إسلامية. وإنهم يجادلون بأن التجربة السياسية لمحمد لم تشمل إعلان دولةٍ إسلامية. ومن ثَم فإنهم يجادلون بأن الإسلام لا يحتوي على قائمة مبادئ اجتماعية سياسية.

وقد راجت في إندونيسيا الأفكار الإصلاحية التي دعا إليها الأفغاني وعبده عن طريق معهد الدولة للدراسات الإسلامية، وهو مؤسسة أكاديمية تديرها وزارة الشئون الدينية. وقد لعب المعهد دورًا مهمًّا منذ إنشائه عام ١٩٥٣. فقد كان من البداية وسيلة للتحول الفكري. وقد درس مجيد في البيسانترين ومعهد الدولة للدراسات الإسلامية قبل أن يمضي لإكمال رسالة الدكتوراه في شيكاغو. مجيد وغيره من العلماء مثل وهيب ووحيد ومعارف وسادزالي، قدموا جميعًا تفسيراتٍ دينية تعطي إطارًا اجتماعيًّا لا ينفصل عن تأثير الحداثة، وإن كانوا يستخدمون شعاراتٍ مختلفة. وإن رد فعلهم إيجابي؛ أي إنهم يحاولون جعل الرسالة الدينية منسجمة مع القيم الحديثة بتقديم تفسيرٍ ليبرالي. وجهودهم في سبيل التحريك وإعادة التحقيق، شعارَي التجديد الإسلامي، تأثرت أيضًا إلى حدٍّ ما بالحداثة الجديدة لفضل الرحمن (١٩١١–١٩٨٩). فقد كان مجيد ومعارف طالبَين لدى فضل الرحمن خلال دراستهما للدكتوراه في جامعة شيكاغو. كذلك اطلع وحيد وسادزالي على أفكاره، وإن لم يكونا من طلابه المباشرين (بارتون ١٩٩٥: ٦).١٠

(٧) الحالة الثانية: الدولة الإسلامية في إيران

الثورة الإيرانية (١٩٧٨–١٩٧٩) كانت أكثر الأحداث التي عزَّزَت الثقة في النفس لدى الكثير من المسلمين في أنحاء العالم الإسلامي. أخيرًا لم يعُد الإسلام متمثلًا في «رجل البوسفور المريض»؛ صورة لإمبراطورية مضمحلة. بيَّنَت الثورة ما يمكن لثورةٍ إسلامية أن تفعله بحق؛ فقد استطاعت الإطاحة بأشد الأنظمة تسليحًا في الشرق الأدنى بأَسْره. كان شعار الخميني الذي أعلنه تلقائيًّا بعد إقامة الجمهورية الإسلامية في ١٩٧٩ هو «لا شرق ولا غرب، بل الإسلام وحده». وفي السنوات التالية ظلت العلاقات بين إيران والغرب في جمودٍ تام، وبين إيران والولايات المتحدة على الخصوص. وكانت المشكلات بين الاتحاد السوفيتي وإيران في السياسة اليومية أقل، على الرغم من إعلان الخميني عن توقُّعه تفكك الاتحاد السوفيتي قريبًا بسبب عدم تدينه. فقد كتب رسالةً تاريخية إلى ميخائيل جورباتشوف، الذي كان آنذاك رئيس مجلس السوفيت الأعلى، قال فيها: «من الواضح للكل أنه سيتعين البحث عن الشيوعية في متاحف التاريخ السياسي؛ لأن الماركسية لم تتمكن من تلبية ولو واحدة من الحاجات البشرية الحقيقية» (الخميني ١٩٩١: ٩٥–١٠٠؛ ٩٦).

وعلى الرغم من ذلك، فقد كانت العلاقة بين الدولتَين قائمة عامةً على البراجماتية، خاصةً عند المقارنة بينها وبين العلاقات الأمريكية الإيرانية. وقد صارت واشنطن تعُد الجمهورية الإسلامية تجسيدًا للشر، في أعقاب احتجاز طلابٍ إيرانيين لموظفين دبلوماسيين أمريكيين رهائن لمدة ٤٤٤ يومًا عام ١٩٧٩. وفي الوقت نفسه اعتبر الخميني الولايات المتحدة الشيطان الأكبر الذي لا ينشد سوى هزيمة الإسلام ومعه الجمهورية الإسلامية. رأَت الحكومة الإيرانية، خلال السنوات التي أعقبَت سقوط الشاه، حتى إن الولايات المتحدة فعلَت بحق كل ما يلزم لتصير العدو اللدود الذي سيُعزز قوة الهوية الإيرانية. فقد ساند الأمريكان صدام حسين في حربه ضد إيران؛ وأعلنوا عن ميزانية لإسقاط الحكومة الإيرانية؛ وأسقطوا طائرة ركابٍ إيرانية وأعطوا وسامًا للشخص المسئول عن ذلك؛ وأخيرًا ساندوا نظام طالبان في أفغانستان. وحقًّا لم يكن هناك طريقة لصرف الانتباه عن الأخطاء الداخلية أفضل من الإشارة إلى القائمة الطويلة للخطايا الأمريكية.

رأى الكثير من القادة الإيرانيين أن الجمهورية الإسلامية بلا ريبٍ معادية للغرب على الصعيدَين السياسي والثقافي. وقدَّموا في المقابل هُويةً إسلامية مستقلة. ففي منتصف تسعينيات القرن العشرين، كان لوزير الإرشاد الإسلامي آنذاك، مير سالم، موقفٌ صريح تمامًا إذ قال: «لا بد أن يشمل عنوان الكتاب الذي يتحدث عن الثقافة الغربية عبارة: «الثقافة الغربية المنحلة»» (جولشيري ١٩٩٧: ٧). في الوقت نفسه، لخشية المحافظين في السلطة مما سُمِّي الغزو الثقافي الغربي، فقد أصدروا حظرًا على أطباق الأقمار الصناعية والبرامج الإذاعية الغربية، وحاولوا السيطرة على استخدام الإنترنت. وأعلنوا أن الهدف السياسي هو الانعزال عن التأثير المفسد للغرب. إلا أن عموم الإيرانيين المطلعين، العلمانيين والمتدينين على حدٍّ سواء، تشرَّبوا الثقافة الغربية، على عكس الكثير من علماء الدين المحافظين. والدليل على ذلك، العدد الهائل من المنشورات الغربية التي تُرجمَت إلى الفارسية في العقود الأخيرة، خصوصًا في الفلسفة والعلوم السياسية والأدب. فسيندهش الأجنبي من عدد الكُتَّاب الغريبين الذين تُرجمَت أعمالهم إلى الفارسية. فعلى سبيل المثال، تشير فهارس جامعة قم الدينية لمدى ضخامة الأعمال الغربية التي تُقرأ في إيران، ومنها حتى كتب عن اللاهوت المسيحي وعلم الاستشراق الغربي. إلا أن هذا لا يمنع مسئولي الجمهورية الإسلامية من وصم أي دعوة لمزيد من الحرية باعتبارها «تغريبًا» ورغبةً بلا طائل لمفكرين منحلِّين.

مصير الغرب السقوط، أو على الأقل هذا ما لا يكل بعض المُنظِّرين المتزمِّتين من ترديده على الإطلاق. إنهم يقولون إن الغرب في الواقع في أزمةٍ كبرى، ومحكوم عليه بالتدهور والسقوط في النهاية، ليكون النصر للإسلام عندئذٍ. وهذه أيضًا وجهة نظر عالم مثل رضا الداوري الأردكاني (المولود عام ١٩٣٥)، أستاذ الفلسفة ورئيس التحرير المرموق لمجلة «الثقافة»، الذي كرَّس كتبًا كثيرة لهذا الموضوع (الداوري ١٩٨٠). وعلى غرار الداوري، هناك الكثير من المفكرين من جيل ما بعد الثورة الذين تبنَّوا نقد الحداثة الذي طرحه الفيلسوف الألماني مارتن هايدجر. وهم يجادلون بأن الطريقة الوحيدة للنجاة من الأزمة هي العودة للجذور. إلا أن منتقديهم، ومنهم جواد الطباطبائي (المولود عام ١٩٤٥) يجادلون بأن أتباع هايدجر في إيران لا يفهمون هايدجر فهمًا صحيحًا. فيذكر الطباطبائي أن الموضوعات التي يركِّز عليها هايدجر لا تنطبق على إيران: «كيف يمكن أن تتحدث عما بعد الحداثة ولا علم لك حتى بموقعك وما إذا كنتَ قد مررتَ بالحداثة؟» (الطباطبائي ١٩٩٩: ١٨–٢٤). وهو يتهم الداوري بمحاولة الإجابة على أسئلة تنطبق على الغرب، لكن لا تنطبق على الإيرانيين، كما فعل آل أحمد وشريعتي من قبله. يهدف الطباطبائي للتفاعل البنَّاء مع الغرب وقيمه، لا سيما أن التفسير السائد للإسلام فشل في حل مشكلات المجتمع الإيراني.

ولهذا السبب يطالب كذلك الفيلسوف المعروف عبد الكريم سروش (المولود عام ١٩٤٢) بتفسيرٍ جديد للإسلام. وإن نظرياته الحداثية عن التوافق بين الإسلام والديمقراطية تجعله أحد أكثر المفكرين الإيرانيين المعاصرين إثارةً للجدل. في أكتوبر عام ١٩٩٥، اجتذب سروش اهتمامًا إعلاميًّا كبيرًا في الغرب، بعد أن هدَّده متعصبون إسلاميون بالقتل (أميربور ١٩٩٦: ٤٦٥–٤٨١). وسريعًا ما صار المُعارض المفضَّل لدى الكل؛ حتى إن البعض سمَّوه لوثر العالم الإسلامي، وهي مقارنةٌ مضللة وجزافية (رايت ١٩٩٥). وعلى الرغم من ذلك، فمن المؤكد أن سروش ينتمي لطليعة المفكرين الإيرانيين الحداثيين. وتتناول كتاباته أيضًا العلاقة بين إيران والغرب. فهو يجادل بأنه لا بد من اتباع ريادة الغرب في العلوم، لا في مجال التكنولوجيا فقط وإنما في الفلسفة والعلوم الاجتماعية أيضًا. فالعلوم ليست امتيازًا ينفرد به الغرب؛ فليس لها «حقوق ملكية فكرية» ثقافية. وهكذا تختلف حُجة سروش هنا مع الكثير من المُنظرين الإسلاميين الذين يدَّعون أن العالم الإسلامي إنما يستعيد ما منحه للغرب حين كان في ذروة تقدُّمه العلمي. فإنهم يقولون إن الطب الغربي قائم على أعمال ابن سينا الإيراني (المعروف في العالم الغربي باسم أفيسينا)، وإن الفلسفة الإغريقية لم يحفظها إلا ترجمتُها إلى اللغة العربية (سروش ١٩٩٣: ١٠٥–١٣٠؛ ١٢٦؛ ١٢٨).

وقد صار رضا الداوري أشد معارضي سروش في هذه المساجلة. إذ رأى الداوري أن سروش يعمل بمبدأ انتقاء المفاهيم ويغُض الطرف عن حقيقة أن الفكر الغربي نتاجٌ لتطور لم تَمُر به إيران بعدُ. يذهب الداوري إلى أن تبنِّي المفاهيم الفلسفية الغربية يستلزم ما يوازيه من السياق الفكري والتاريخي (الداوري ١٩٨٦: ١٢–١٤؛ بروجردي ١٩٩٤: ٢٣٦–٢٥٩؛ ٢٣٩ وما بعدها). وسروش بدَوْره يتهم الداوري بأنه يسلك مسلكًا غير متفقٍ مع التاريخ، بما أن التأثير الغربي ليس أمرًا جديدًا. كما أنه من الخطأ الادعاء بأن التطور الغربي لا يلائم الثقافة الإيرانية، بما أن الثقافة الإيرانية كانت دائمًا بوتقة انصهار لثلاث ثقافات، وهي العربية والإيرانية الأصلية والغربية. كذلك يدحض سروش الإدانة الراديكالية للغرب التي يعبِّر عنها شعار «التسمم بالغرب». فهو يفضِّل الاختيار بِناءً على ذهنٍ نقدي، قادر على التفرقة بين ما ينبغي تبنِّيه وما لا ينبغي تبنِّيه. وهو يريد زرع أفضل ما لدى الثقافات الأخرى بداخل ذلك الذهن، بنفس الطريقة التي طوَّر بها المسلمون الفلسفة الإغريقية. فهو لا يرى التأثُّر بالغرب مرضًا وإنما واقعًا تاريخيًّا: «لم نكن لنتطور أكثر لو لم يأتِ الغرب. فأغلب الظن أننا كنا سنَهلِك» (سروش ١٩٩٣: ١١٢). وهو يعتقد أن اللقاء الأول مع الغرب من خلال ترجمة أعمال الفلاسفة الإغريقيين كان لقاءً مفيدًا للإسلام وإيران على حدٍّ سواء؛ ومن الممكن للتبادلات المستقبلية بين الثقافتَين أن تكون بنفس القَدْر من الفائدة. كذلك لا يرى سروش منطقًا في شعار شريعتي الداعي للرجوع للجذور؛ يقول: «ما لدى العقل والقلب الاستعداد لقبوله يئول إلينا». ويضيف: «لو لم يكن الأمر كذلك، لكان سينبغي علينا أن نرفض الإسلام كذلك لأنه غريبٌ عنا. فهو ليس إيراني الأصل على كل حال» (سروش ١٩٩٣: ١٢١).

سروش هو أكبر المُنظِّرين الإيرانيين في موضوع «الإسلام والحداثة». وهدفه هو استحداث نظريةٍ سياسيةٍ للحكم تكون إسلامية وديمقراطية في الوقت نفسه. فهو يستخدم العلوم الغربية في المقام الأول، لكنه ينقل هذه الحجج إلى نظام ديني المرجعية. وكان سروش قد درس في بريطانيا العظمى، ويعرف مُنظِّري التأويل الحديث عن ظهر قلب، كما أنه متفقه في الفلسفة الألمانية، خاصةً أعمال كارل بوبر. وعلى حذو بوبر، يجادل سروش لصالح مجتمع منفتح، ويذهب لتعديل نظرية الفهم لدى بوبر لتُلائم الموقف. فينطلق سروش من أن الفهم ينطوي على إمكانية النمو بلا حدود، وأنه لن يتعدى التخمين أبدًا. فلن يعرف البشر مطلقًا أبدًا ما يتوقَّعه الله منهم. ولن يعرف البشر ما هو قانون الله، ولا نوايا الله؛ فهي تتجاوز حدود فهم البشر. إنما يستطيع المرء فقط فهم غاية الله ومعرفتها. وبالطبع لا يمكن لغاية الدين أن تكون معاكسةً للمفاهيم الإنسانية. والنص القرآني، شأن أي نَصٍّ آخر، هو نصٌّ «مفتوح» يستدعي التفسير. ويجادل سروش بأن تفسير الدين تفسيرًا حرفيًّا هو ظاهرة من ظواهر الحداثة؛ فدائمًا كانت تُعد الرؤية الدينية قابلة للتغيُّر فيما مضى. وتفتح هذه القابلية للتغيُّر المجال لتفسيراتٍ جديدة، ولهذا السبب فإن الإسلام وحقوق الإنسان متفقان.

عالم الكلام الإيراني الكبير، مرتضى مطهري (١٩٢٠–١٩٧٩) قال ذات مرة إن الإصلاح لا بد أن يأتي من علماء الكلام وعلماء الدراسات الإسلامية لكي يكون له أثرٌ باقٍ في إيران. ويطرح السير هاملتون جيب حُجة مشابهة على علماء الكلام السُّنيين (فيلانت ١٩٧١: ١٦٨). ومن ناحيةٍ أخرى، أشارت فيلانت إلى أن علماء الكلام في العالم السني يتعمدون الإحجام عن الدخول في التفسيرات الحديثة. لكن الوضع مختلفٌ في إيران. فالاقتراحات التي قدَّمها علماء الكلام بتفسيراتٍ جديدة للدين متعدِّدة وجريئة. من علماء الكلام هؤلاء محمد مجتهد شبستري (المولود عام ١٩٣٩)، الذي تعود أفكاره لعلم التأويل أو الهرمنيوطيقا، واللاهوت المسيحي بدرجةٍ كبيرة. لا شك أنه لأمرٌ جدير بالاهتمام ومؤثِّر كذلك أن يتقدم عالِم كلام بفكرٍ حداثي، من بين الناس جميعًا. ولأن شبستري رجلُ دين، فمن الأيسر له أن يجد جمهورًا بين زملائه من علماء الكلام مما قد يجد المفكرون الحداثيون الآخرون. وبينما يرفض الكثير من رجال الدين من الجيل الأقدم سروش ويستبعدونه من أي خطابٍ كلامي خاص لأنه لم يرتَدْ جامعةً دينية، فإننا نجد لشبستري تأثير على خطابهم. وهو يروِّج لتفسيرٍ حديث للإسلام، وقد أنشأ في مجال التأويل علمًا يقدِّم نظرةً جديدة للفكر الإسلامي. فهو يزعم أنه من الممكن حل كل مشكلات الحداثة بإدخال مبادئ تأويل في تفسير القرآن. ولما كان يتحدث الألمانية بطلاقة، فهو يريد تقديم هذا العلم في إيران. ويخصِّص كتابه، «التأويل، الكتاب والسنة» مساحةً كبيرة لهذا المسعى. فهو يشرح جادامر ودائرته التأويلية، ويشير أيضًا إلى دلتاي (شبستري ١٩٩٦: ٢٣). وعلاوةً على ذلك، يشرح شبستري مصطلح «الاهتمام الإبستمولوجي» شرحًا تفصيليًّا، وهو أهم مفاهيم التأويل؛ إذ يتناول بكثيرٍ من التفصيل كيف يمكن الاقتراب من الموضوعية عند قراءة النصوص، أو «لأي درجة يمكن الاعتماد على الإدراك» على حد تعبير هابرماس (هابرماس ١٩٩١: ١١). وهو ينتهي إلى أنه لا يمكن لأحد أن يفهم النصوص أبدًا، وهو استنتاجٌ يمتد إلى القرآن أيضًا. كذلك يطبِّق شبستري نظريات هابرماس عن الاهتمام الإبستمولوجي على تفسير القرآن قائلًا إن كل المفسرين يكون لديهم اهتماماتٌ إبستمولوجية معيَّنة عند قراءة نص من النصوص، وإن فرضياتهم ستكون قائمة على هذه الاهتمامات. ويذكُر فكرة محمد باقر الصدر (١٩٣٥–١٩٨٠)، الخاصة ﺑ «الاقتصاد الإسلامي» مثالًا على ذلك (شبستري ١٩٩٦؛ ١٣٥؛ ملاط ١٩٩٣: ١٤٥–١٦٥). فمن رأي شبستري أن باقر الصدر وجد اقتصادًا إسلاميًّا في القرآن لمجرد أنه أراد ذلك. والنص إنما يجيب على الأسئلة التي تُطرح عليه، وكل شخصٍ يجد في القرآن الإجابات التي يريدها. وهذا ما يسمح كذلك بتفسيرٍ ديمقراطي للإسلام (شبستري ١٩٩٦: ٣٨). ولا يشير كتاب شبستري لمُنظِّري التأويل الغربيين وطليعة المنهج التأويلي في العالم العربي فحسب، وإنما يتحدث أيضًا عن أمين الخولي. فقد كان كما رأينا أول عالم من العصر الحديث يحاول تفسير القرآن بمناهجَ فيلولوجية.

وبجانب علم التأويل الغربي، فقد تأثَّر شبستري باللاهوت المسيحي الحديث. إذ يبحث فيه عن حلول لكل مشكلات إنسان العصر الحديث فيما يتعلق بالدين. فقد أراد أن يعرف من اللاهوت المسيحي «كيفية التحدث عن الإيمان في العالم الحديث من الأساس» (شبستري ١٩٩٧: ١٠٦ وما بعدها). وإن المقصود بتحديث العلوم الإسلامية معالجة مسائل الحداثة وليس «وضع القرآن على قرصٍ مدمج ليعتقد المرء أنه بذلك قد انسجم مع الحداثة».١١ لا بد لعلم الكلام من تناول الحداثة لأنه «لا يُوجد يقينٌ علمي أو فلسفي في الجو الفكري الجديد، وقد باتت محاولات أسلافنا بلوغ اليقين بلا طائل. فالشك يسود الفكر الإنساني في جميع المجالات» (شبستري ١٩٩٣: ٩). لا بد من وضع نظرياتٍ جديدة يستطيع بها البشر العثور على الإيمان رغم ذلك. يقول شبستري إن العامل الحاسم هنا هو التعبير عن تجاربَ إيمانيةٍ جديدة. ويذكُر لوثر كمثالٍ مهم على القدرة على فعل ذلك، والمفكر والشاعر الباكستاني محمد إقبال (١٨٧٧–١٩٣٨) كمثالٍ آخر (بروجردي ١٩٩٦: ٢٥٣).١٢ وهو يرى أن حركات الإصلاح خلال آخر ١٥٠ عامًا منذ محمد عبده حتى علي شريعتي لم تكن محاولاتٍ حقيقيةً للإصلاح في مجال الدين. وإنما كانت مجرد الأساس لحركات نحو التغيير السياسي والاجتماعي استخدَمَت الدين وسيلةً لغاية وناقلًا لأفكارها (حائري ٢٠٠٤: ١١٦–١٢٨؛ كيدي ١٩٨٣).١٣ ويُصِر شبستري على اتخاذ طريقٍ مختلف، لأن «تجديد الدين ليس إلا تجديدًا للإيمان» (شبستري ١٩٩٧: ١١٧ وما بعدها). ولهذا فهو يأخذ المفهوم المسيحي للوحي، ويتخذ موقف اللاهوت المسيحي من العلاقة بين الله والعقل. وهو يناقش باستفاضةٍ توما الأكويني ولوثر وشلايرماخر، المفكرين الثلاثة الذين كانوا مؤثِّرين في تشكيل مفهومَي العقل والوحي. كما أنه يذكُر النقد الإلحادي للدين لفيورباخ وماركس، ويشرح الاتجاهات اللاهوتية الديالكتيكية الحديثة لكارل بارث ورودولف بولتمان، ويُحلِّل أفكارهما عن الله باعتباره «الآخر تمامًا». وبذلك يطلع الخطاب الإيراني على دحضهما للاهوت شلايرماخر، الذي يبدأ من ثقة الإنسان المطلقة في نفسه ويعُد الإيمان موقفًا بشريًّا محضًا. كما أنه يتناول الأصوات الناقدة للاهوت الديالكتيكي، ومن بينها بول تيليش وطريقه الثالث بين اللاهوت الديالكتيكي واللاهوت الليبرالي، وولفهارت باننبرج ونقده للاهوت الوجودي لدى بولتمان.

على الرغم من اختلافاتهم بل مواقفهم المتعارضة، فثمَّة شيء مشترك بين توما الأكويني ولوثر وشلايرماخر، شيءٌ يعُده شبستري حاسمًا، ألا وهو أن كلًّا منهم صاغ تعريفاتٍ ووظائفَ جديدةً للدين واللاهوت. وتدُل كتاباتهم على أن فهم «الدين» يتغير بمرور الزمن. ويشعر شبستري بالتفاؤل بشأن مستقبل اللاهوت الشيعي؛ لأن جامعات إيران تُدرِّس الفلسفة وعلم الاجتماع وعلم المناهج وفلسفة العلم، ومجالاتٍ شبيهة، كما تربطها علاقاتٌ علمية كثيرة بالعالم الغربي. لكن مجرد السماح بدراسة اللاهوت المسيحي لن يكون كافيًا للاهوت الشيعي ليحُل صراعه بما فيه من تناقضات في العالم الحديث. فلا بد أن يسمح اللاهوتيون بنقد الفكر الديني؛ أي، الفكر الذي تناول الدين في فتراتٍ معيَّنة. فهذا الفكر لا يماثل الدين، وإنما بالأحرى يماثل «إيمان المؤمنين»، بمعنى أفكارهم وقناعاتهم التي امتزجَت بعواطفَ واعتقاداتٍ بشرية قوية. وبما أن الفكر الديني دائمًا ما يرتبط بشخص أو مجتمع أو زمن، فإنه مختلف عمَّا أرسله الله عن طريق نبيه.

لدى شبستري اقتناع بأن المجتمع الديني سيظل يستفيد دائمًا من نقد الفكر الديني لأنه ليس الدين نفسه وإنما إدراك البشر له على كل حال. وبناءً على ذلك، لا بد من دعم النقد وتيسيره بالأجواء المنفتحة (شبستري ١٩٩٤: ١٩). فيُتاح حق التعبير حتى للملحدين على غرار ماركس وفيورباخ. وتكون الأيديولوجيات وأشكال الإيمان كلها حرةً في التنافُس على الاتباع. بل إنه يؤكِّد أنه لا بد حتى من السماح بتأليف كُتبٍ ضد الإيمان، «من دون وضع أي حدود» (شبستري ١٩٩٧: ٨٢). ويبدو أن شبستري نفسه قد قرأ بتمعُّن نقدًا غير ديني للدين، مستوعبًا كُتبًا بالكاد تندرج ضمن الأشياء التي يقرؤها رجلُ دينٍ شيعي عادةً، على غرار كتاب فيورباخ «جوهر المسيحية» (١٨٤١)، الذي يقتبس منه، و«جوهر الدين» (١٨٥١).

كيف يتصور شبستري ذلك الإيمان الذي سيبدأ ظهوره في جو من الحرية ويقبله البشر، بل على الرغم من تعدَّد المفاهيم المتداخلة؟ كيف سيحل التناقضات بين الوحي والعقل الحديث، مع الاستمرار في مواجهة اختبار النقد طيلة الوقت، من اللاهوتيين أنفسهم حتى؟ هل سيكون إيمانًا لم يعد عقيدة وإنما مجرد إيمان؟ يستند شبستري إلى أبيه الفكري إقبال من أجل الإجابات. كان إقبال يعتقد أن التجربة الدينية تشكل الإدراك الديني؛ أي الوعي الحي بتجربةٍ لا مثيل لها. ويرى شبستري أن الفكر الإسلامي المعاصر قد اقترب من تلبية دعوة إقبال للتحديث. فإن تسييس الإسلام في أجزاءٍ عدة من العالم الإسلامي يدل على عدم اعتبار الإسلام بمعزل عن الحياة اليومية. فالإسلام يصير بذلك دنيويًّا. ورغم أن شبستري لا يعد هذا إصلاحًا حقيقيًّا، فإنه يعتبره شيئًا إيجابيًّا أن الظروف المتغيرة للحداثة قد أحدثَت استجابة. وهو ما يؤدي به لتحديد مهمةٍ واضحة وهدفٍ واضح لعلم الكلام الشيعي الحديث: «الروح الجديدة لعلم الكلام الإسلامي، والتي هي في طور الولادة الآن، لا بد أن تكون مكرَّسةً تحديدًا ﻟ «التجربة الدينية» وعلى أساسها تؤسِّس علم الكلام».

منتقدو شبستري يتهمونه بأنه قد قضى وقتًا طويلًا جدًّا في الغرب، وبأنه مفرط في اهتمامه بالنقد التاريخي للإنجيل واللاهوت المسيحي الحديث. ويدَّعون أنه سينتهي به الحال بلا دين. وفي الوقت نفسه، يؤكد هو صدقه كناقد؛ فثمَّة فرقٌ هائل بين النقد من «الخارج» والنقد من «الداخل». فقد انتقد الملحدون أمثال ماركس وفيورباخ وفرويد الدينَ من الخارج. أما هو، فعلى العكس، يجادل من وجهةِ نظرٍ دينية. فإنه على النقيض من المفكرين الملحدين، لا يهدف لاقتلاع الإيمان الديني، وإنما لدعم أسس الدين، من خلال نقده، بما أن هناك عقيدةً واحدة لن تُمحى أبدًا، وهي عقيدة التوحيد.

الآن بعد مرور ٢٥ عامًا على الثورة، لم يعُد الانفتاح الإيراني إزاء الغرب والأدب والأفكار والقيم الغربية محصورًا على الإطلاق في الجماعات الفكرية المخالفة للتيار السائد. فإن سيد محمد خاتمي (المولود عام ١٩٤٣)، الرئيس السابق لإيران، يشجع هو الآخر التعامل البنَّاء بين الغرب وثقافة المرء. كان خاتمي قد درس العقيدة الشيعية وتُراثها في قم في نفس وقت دراسته الفلسفة في جامعة طهران. وفي الفترة السابقة للثورة مباشرةً، كان مدير المركز الإسلامي في هامبورج في ألمانيا. وبعد انتصار الثورة عاد لوطنه وصار عضوًا في البرلمان. وفي عام ١٩٨٩، عُين وزيرًا للثقافة، ثم استقال من المنصب عام ١٩٩٢. وخلال السنوات السابقة لتوليه الرئاسة، كان مدير المكتبة الوطنية. وقد ركَّزَت مساعيه العلمية على النظريات السياسية القديمة والحديثة، وكذلك حركات الإصلاح في العالم الإسلامي. وإن كتابه «من عالم المدينة إلى مدينة العالم»، يصرِّح بالتشجيع على التماس سبيلٍ وسطٍ صحي بين الصفات الطيبة والسيئة للغرب؛ فإن الليبرالية والديمقراطية جديرتان بأن يأخذهما الفرد عن الغرب، لكن لا ينطبق هذا على انعدام الروحانية لديه (خاتمي ١٩٩٦: ٢٨١ وما بعدها). كذلك يناقض خاتمي نظرية هنتنجتون الخاصة ﺑ «صراع الحضارات» بالدعوة لروح التشارك البنَّاء مع الغرب والحوار بين المسيحيين والمسلمين وأتباع الديانات الأخرى. وبفضل مبادرته أُعلن عام ٢٠٠٠ عام الحوار بين الثقافات.

كما أوضحنا، شَهِدَت إيران في عام ١٩٧٩ بناء نظام عرَّف نفسه صراحةً بأنه غير غربي. ويوضح هذا سبب جدل إيران والإيرانيين بانفعالٍ بالغ حول المكاسب والقيم المرتبطة بالغرب؛ أي حقوق الإنسان والديمقراطية وإصلاح الإسلام. المثير للاهتمام أن هذا الجدل وصل لمستوًى متقدم تمامًا، داخل نظام حكم من المفترض أنه دينيٌّ أصولي. في الواقع قد تكون هذه نتيجةً منطقية لتطبيق الإسلام السياسي في الحياة اليومية. فقد طُبق هذا النظام في إيران، على عكس أجزاءٍ أخرى من العالم الإسلامي؛ حيث كان «الإسلام هو الحل» مجرد شعارٍ يهتف به بعض الإسلاميين في الشوارع.

لكن لا تزال الغلبة لآراء آية الله الخميني، مؤسس الدولة الدينية. إنه يرى أن الله وحده هو الذي له حقوق. فعلى عكس الرؤى الغربية، ليس للبشر أي حقوق، «لمجرد أنهم بشر». إن عليهم واجبات نحو الله، لكن الله وحده هو الذي له حقوق. الله — أو من يمثله على الأرض — له أن يمنح حقوقًا للبشر، لكن له كذلك أن يسلبها منهم بما أن الحقوق ليست أصيلة للبشر. علاوةً على ذلك، يطالب الخميني بوجوب خضوع كل البشر للمصلحة العامة، أو بمعنًى أدقَّ صالح المجتمع الإسلامي. وتُجيز هذه الرؤية المضادة لليبرالية انتهاك حقوق الأفراد من أجل الصالح العام؛ لأن المجتمع يأتي أولًا دائمًا. إذا كان هذا ما يقتضيه صالح الأمة، فالرقابة والقهر وانتهاكات حقوق الإنسان مبرَّرة: «على من يتولى حكم المسلمين أن يظل دائمًا واضعًا في حساباته مصالح الأمة، ويبتعد عن الأهواء الشخصية. فالإسلام يعطي الأولوية للمصالح الجماعية للأمة على المصالح الفردية، ولهذا قضى على الكثير من الجماعات التي كانت مصادر للفساد والخراب على المجتمع البشري». وبذلك ينكر خميني الافتراضات الليبرالية بشأن حقوق الأفراد على الدولة. فحقوق الإنسان هي بالأحرى عمل الشيطان الذي جُل همه عرقلة مسيرة الإسلام نحو النصر.

ما زالت هذه الحُجج هي السائدة في الجدال الإيراني الحالي على حقوق الإنسان. كثيرًا ما يحتج علماء الدين وعلماء الكلام الإيرانيون بأن المجتمعات المعروف عنها تَعاطي المخدرات والبطالة لا السعادة الشاملة، تعاني أيضًا من مشكلات في وضع حقوق الإنسان. وهم يُصِرون في مقابل المطالبات بالشرعية العالمية لحقوق الإنسان على أن المقارنة بين الأنظمة المختلفة لا بد أن تضع في الحسبان الاختلافات في التطورات الثقافية والتاريخية والاجتماعية. ويحتجون بأن ذلك المنهج سيضع في الاعتبار أن المسلمين يفضِّلون احترام حقوق الله على حقوق الإنسان، فيما وضع الغرب نظامهم الخاص لحقوق الإنسان المُتمحوِر حول الإنسان.

ويعتقد الكثير من الإيرانيين اليوم أن الإسلام ليس الحل، لا سيما الإسلام الذي يدعو إليه المحافظون في السلطة؛ الإسلام الذي ينتهك حقوق الإنسان ويصف نفسه صراحةً بأنه غير ديمقراطي. بالنسبة للنظام الإيراني، إن إرادة الناس ليست ذات بال؛ فإرادة الله هي التي تُنفذ. وتُحدَّد إرادة الله حسب تفسير المرشد الأعلى الذي يرأس الدولة أيضًا. ووفقًا لتعريف النظام الإيراني لنفسه ومنطقه المتأصل فإنه يطبِّق وسائلَ غيرَ ديمقراطية، لكن أهدافه النهائية ديمقراطية، بما أنه يفعل ما في صالح البشر بتنفيذ إرادة الله.

وعلى مدى السنوات الكثيرة الأخيرة، انتقد الكثير من الناس في إيران هذا التفسير للعلاقة بين البشر من ناحية والله والإسلام من ناحيةٍ أخرى، ومن بينهم شيرين عبادي (المولودة سنة ١٩٤٧)، التي حازت جائزة نوبل للسلام عام ٢٠٠٣. تُجمِع حركة الإصلاح الإيرانية على عدم وجود تعارُضٍ بين الإسلام وحقوق الإنسان. وفيما بين علماء الكلام الإيرانيين، واجه التفسير المتشدد للإسلام تيار معاكسًا. يوازي هذا قوًى اجتماعية تسعى للإصلاح، راح تأثيرُها ينتشر وراء حدود إيران في أجزاءٍ أخرى من العالم الإسلامي. فكما تحتج شيرين عبادي: «لا يُوجد في الإسلام كنيسة ولا كهنوت.» ومن ثَم «فإننا المسلمين وحدنا المسئولون عن أفعالنا. وعلينا الدفاع عن أنفسنا يوم الحساب أمام الله وحده.» إن كلماتها انتقادٌ صريح لمجموعة المحافظين الحاكمة التي تحاول وضع أدق التفاصيل لطريقة تطبيق الإيرانيين لدينهم. ولم يكن من المستغرب أن المحافظين لم يَرُق لهم فوز شيرين عبادي بجائزة نوبل للسلام. فقد كانت تُواجههم كناقدة أولًا وقبل أي شيء. وكانت علاوةً على ذلك امرأةً تطالب بالمساواة للنساء في الحقوق واحترام حقوق الإنسان. فالمحافظون يعتبرون حقوق الإنسان «مجموعة من الأعراف الفاسدة ابتكَرَها الصهاينة لتدمير كل الأديان الصحيحة»، اقتباسًا من تعريف الخميني، مؤسس الدولة الدينية. بالإضافة إلى ذلك، تدأب شيرين عبادي على التشكيك في احتكار التفسير الصحيح الفذ، الذي يحتفظ به المحافظون لأنفسهم، باعتبارهم مفسرين لمشيئة الله. تقول: «إننا بحاجة لتفسيرٍ مختلف للإسلام، تفسير يُتيح المجال لحقوق الإنسان وحقوق المرأة» (أميربور ٢٠٠٤). وهي تكرِّر هذه الجملة الجوهرية مرارًا وتكرارًا متى سألتها وسائل الإعلام الغربية عما يبدو من تعارُض بين الإسلام وحقوق الإنسان.

شيرين عبادي ليست وحدها التي تحمل القرآن في يدها في معركتها للدفاع عن حقوق الإنسان. فهناك الكثير الذين يحذون حذو عبد الكريم سروش ومحمد مجتهد شبستري، أهم المنظِّرين والمخطِّطين لما سُمِّي «علم الكلام الجديد». تطرح النظرية العلمية الرئيسية لسروش الطبيعة المتغيرة للرؤية الدينية؛ بما أن الرؤية البشرية متغيرة بطبيعتها، فإن فهم البشر للدين متغير لأن الرؤية دائمًا ما تتوقف على الزمن والعلوم الحديثة. يرى سروش أن تفسيراتٍ جديدة للدين تتطور مع الزمن؛ إذ إنها تتكيف مع الظروف التي يعيش فيها المفسِّرون. هذه الحُجة تنطبق على حقوق المرأة كذلك بالطبع. ورغم أن سروش لم يُدلِ برأيه قَط في موضوع حقوق المرأة، ومن المفترض أن لديه وجهةَ نظرٍ متحفظة بعض الشيء بخصوص هذا الأمر، فقد كان له تأثيرٌ بارز جدًّا في حركة النساء الإيرانيات. فإنهن لتقديم تفسيرٍ صحيح للقرآن، يستخدمن التفرقة بين الأجزاء القابلة للتغيير وغير القابلة للتغيير في الدين. وكما عبَّرَت ذات مرة عن الأمر زيبا مير–حسيني (المولودة عام ١٩٥٢) المتخصصة في الشئون الإيرانية، لقد جعل سروش من الممكن للنساء الشديدات التديُّن أن يوفِّقن بين إيمانهن بالدين والحركة النسوية؛ إذ «إن فهمه للإسلام فتح المجال لإعادة التفكير راديكاليًّا في العلاقات بين الجنسَين» (مير–حسيني ١٩٩٩: ٢١٧).

اتخذ سروش موقفه بالاستناد لمفهوم «النسبية الثقافية». إلا أن توجُّهَه الفكري مختلفٌ عن مدرسة التفسير القرآني القائمة على المُثل الديمقراطية، التي تستنتج هي الأخرى أن القرآن متفقٌ مع حقوق الإنسان والديمقراطية. هذا النوع من التفسير، الذي ما زال يُمارَس بدرجةٍ كبيرة في إيران وأجزاءٍ كثيرة من العالم الإسلامي، يحاول تفسير القرآن في سياقه الفريد. هناك مثلًا، رجل الدين الإيراني، حسن يوسفي أشكوري (المولود عام ١٩٥٠)، الذي يستخدم هذا الأسلوب في قراءته لسورة البقرة، الآية ١٩٣. إذ تقول الآية: «وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ.» من الجائز تفسير هذه الآية بمعنى أن على المسلمين واجب مقاتلة الكفار إلى أبد الآبدين، وجعلهم جميعًا يعتنقون الإسلام. لكن حسب تفسير أشكوري، تشير الآية إلى حدثٍ تاريخي محدَّد، وهو غزوة الحديبية. إذ إنه في عام ٦٣٠، نقض النبي محمد هدنةً كان قد عقدَها بنفسه قبل عامَين، وغزا مكة. يعتقد أشكوري أن الآية إنما تشير فقط إلى هذا الحدث السياسي على وجه التحديد؛ وجوب مقاومة مُشركي مكة لأنهم أخطئوا في حق جماعة النبي. هذا لا يعني أنه يجب مواجهة البشر جميعًا إلى الأبد، أو حتى يؤمنوا بالله الواحد الأحد.

يطبق أشكوري أسلوبًا قديمًا هنا. ثمَّة فرعٌ كامل من علم الكلام مخصَّص لدراسة ما يُسمى «أسباب النزول». كذلك افترضَت العلوم الإسلامية التقليدية وجود علاقةٍ ديالكتيكية بين النص والمتلقي. ويدُل التاريخ الطويل لهذه العلوم على مدى لاعقلانية الكثير من الإسلاميين الراديكاليين في زعمهم بوجوب تفسير كل آية قرآنية تفسيرًا حرفيًّا، وانطباق كل واحدةٍ منها الآن وإلى أبد الآبدين. وتفسير أشكوري هو دليل على نقطةٍ أخرى، وهي أن القول بأن كذا وكذا مذكور في القرآن لا يحقق فائدةً بالغة.١٤ فمجرد قراءة ذلك النص من دون فهم تفسيره وتاريخ التفسيرات القرآنية لن يُجديَنا كثيرًا. وعلى حد قول علي، رابع الخلفاء وأول أئمة الشيعة إذ علَّق على تفسير القرآن فقال: «وهذا القرآن إنما هو خطٌّ مستور بين الدفَّتَين لا ينطق بلسانٍ ولا بد له من ترجمان. وإنما ينطقُ عنه الرجال.» ظل القرآن يُفسَّر طيلة قرون وما زال. هناك تفسيراتٌ صوفية وفلسفية وعقلانية، وكلها تصل لاستنتاجاتٍ مختلفة. وإنها لظاهرةٌ حديثة أن تحاول مجموعاتٌ أو أفرادٌ احتكار التفسير الصحيح الأوحد للنص القرآني.

إلا أن سروش تجاوز التساؤل حول ما إذا كان الإسلام وحقوق الإنسان متماشيَين معًا. فإنه يرى أن حقوق الإنسان من صميم ضروريات العقل البشري؛ فلا يمكن مطلقًا أن تكون مناقضةً للدين، بما أنه لا يمكن أن يكون في مشيئة الله شيءٌ غير عقلاني. يرى سروش أن حقيقة نشأة مفهوم حقوق الإنسان في سياقٍ غير ديني لا تعوق فرص دخوله في نظام الدولة الإسلامي. صحيح أن البشر هم من وضعوا حقوق الإنسان؛ إلا أنها ما دامت لا تُناقِض الدين، فستظل حقوق الله مصونة. حُجة سروش هي أول خطوة نحو نظام للتأويل العلماني. والنتيجة المنطقية التي ستترتَّب على هذا عدم الحاجة لتطبيق الكثير من الأحكام في الشريعة الإسلامية، مثل قطع اليد عقابًا على السرقة. ويمضي سروش للقول بأنه ليس من الضرورة تمامًا اتباعُ كل أحكام الشريعة الإسلامية في أدق التفاصيل. وهو يقيم هذه الحُجة على أساس التفرقة بين القيم من الدرجة الأولى والدرجة الثانية؛ تشير القيم من الدرجة الثانية تحديدًا إلى الأحكام التي تتطرق لتفاصيل الدين، وهي تختلف من دينٍ لآخر. أما القيم من الدرجة الأولى، مثل العدالة، فهي القيم البالغة الأهمية؛ ولهذا تتفق الأديان المختلفة والعقل البشري جميعًا على أهميتها. ومِن ثَم فإن العدالة قيمةٌ دينية، لكنها قيمةٌ عالمية أيضًا.

فما غاية الدين إذن إن لم يكن أساسًا للقيم؟ إن إجابة سروش على هذا السؤال براجماتية، ومفادها أنه قد تكون القيم المهمة على غرار الحرية والعدالة وحقوق الإنسان مستقلةً في الأصل عن الدين، إلا أن الدين يساعد على نقلها لعامة الناس. القيم المهمة هي القيم من الدرجة الأولى، التي يُجمِع عليها المسلمون وأتباع الديانات الأخرى. أما التفاصيل مثل قانون العقوبات الإسلامي، أو قواعد الزي فهي أقل أهمية. فهي لا تعدو كونها «قشرة» تجعل الدين متماسكًا من الخارج، لكنها ليست جزءًا من جوهره. يحتج سروش بأنه شيعيٌّ بالمعنى الأصيل للكلمة كلُّ من يؤمن بالعقائد الشيعية الخمس غير القابلة للتغير؛ وحدة الله، والنبوة، والأئمة الاثنَي عشر، والبعث، وعدالة الله. ومن ناحية حقوق الإنسان فإنه يتخذ الموقف الذي لا يتخذه إلا العلمانيون عادةً؛ إذ يقول إن للبشر بالفعل حقوقًا بعيدًا عن الدين لمجرد أنهم بشر. ولا يمكن لأي شخصٍ أن يسلبهم هذه الحقوق الطبيعية؛ ولا يجوز أن يخضعوا لما رأى الخميني أنه «المصالح الجماعية للأمة». كذلك يعتقد سروش أن حقوق الإنسان من الممكن أن تتحقق على أفضل وجه في نظام الدولة الديمقراطية.

تنبع أهمية حُجج سروش للمصلحين الدينيين من واقع أن الدين هو ما يحفزُهم دائمًا. وهو يعتز بدينه. ولهذا أدى به ٢٥ عامًا من معايشة «الإسلام السياسي يوميًّا» لاستنتاج أنه لا بد من الفصل بين الدولة والدين: «المجتمعات الحرة، سواء كانت دينية أو غير دينية، تحفظ حقوق الله والبشر في الوقت نفسه. أما المجتمعات الشمولية فلا تراعي حق البشر ولا الله.» بل يذهب سروش لأبعد من ذلك؛ فهو يرى أن الديمقراطية كنظام للدولة تحمي الدين؛ أي حقوق الله، أفضل من أي نظام آخر. فمن سمات الأنظمة الديمقراطية على أي حال أنها تحول دون استغلال السلطة. يريد سروش حماية الدين من استغلال «من يُسمَّون رجال الله» من أجل دوافعَ تُخالف مشيئة الخالق. وحده النظام الديمقراطي يستطيع منع استغلال الدين بما أنه يسيطر على مدى تحقُّق حقوق الإنسان. وما دامت حقوق الإنسان محفوظة، فلا يمكن استغلال الدين. من وجهة نظر سروش، نظام الحكم الديمقراطي مُجتمعًا مع نظام اقتصادي ليبرالي يوفِّر أفضل الضمانات لتلبية الحاجات الأساسية للبشر. وهذا على المدى البعيد أضمن سبيلٍ لتلبية غاية الدين، بما أن «البطون الخاوية لا تعرف دينًا».١٥ الحكومة المثالية، في رأي سروش، ليست ديمقراطية فحسب، لكنها متدينة كذلك من ناحية أنها توفِّر الظروف التي يستطيع الناس أن يعيشوا بها دينهم. وبذلك تكون مثل تلك الحكومات في النهاية أكثر تدينًا من الحكومات الإسلامية التي «حسبها» تطبيق أحكام الشريعة. وبالتالي فإن الحكومة الدينية ليس لديها بنيةٌ محدَّدة لا تتغير وإنما تتخذ شكلًا مختلفًا في كل فترة. بهذا المفهوم تكون الحرية الدينية شرطًا مسبقًا للمجتمع المتدين بحق؛ وبالتالي فهي حُجة لأفضلية النظام الديمقراطي. لا يمكن للتدين الحقيقي أن يزدهر إلا في مجتمع ديمقراطي، حيث الإيمان قائم على حرية الاختيار؛ أي، على الإرادة الحرة. وعلى العكس، يتناقض التدين الإجباري مع مشيئة الخالق. الأنبياء أيضًا فهموا رسالتهم على هذا النحو: «جاء الأنبياء ليكسبوا قلوب الناس بسحر كلماتهم، وليس للسيطرة على أجسادهم»، حسبما عبَّر سروش عن الأمر في محاضرة ألقاها في لندن عام ١٩٩٦.١٦ وبما أنه لا يمكن للبشر أن يعرفوا ما يتوقعه الله حقًّا منهم، فلا ينبغي على الحكومات أن تفضِّل دينًا معينًا على آخر، أو تفسيرًا معينًا للدين على التفسيرات الأخرى. فكل ما عليهم فعلُه هو حماية تلك الحقوق العامة لكل البشر. وأي تصرُّفٍ آخر سيكون من قبيل التطاول.

لا يتوقف مثل هذا المفهوم عند أي تفسيرٍ معيَّن للقرآن؛ فإنه يجعل مشيئة الخالق العليا مرجعًا له. ومن ثَم فإنه يختلف جوهريًّا عن الخطاب الإسلامي الليبرالي حيث تُبذل المحاولات لمحضِ إثبات كَم كان الإسلام متسامحًا مع الأديان الأخرى على مدى تاريخه، بأسلوبِ محاجَّةٍ قائم على الدفاع. حيث تُقلل أهمية الاعتداءات على المرتدِّين بالاحتجاج بأنها كانت نادرةَ الحدوث، ومدفوعةً عادةً بأسبابٍ سياسية لا أسبابٍ دينية حقيقية. أما سروش من جهةٍ أخرى فهو لا يحفل بما إذا كان الإسلام متسامحًا أو غير متسامح تاريخيًّا. ولا يذكُر الحُجة المحبَّبة بدرجةٍ كبيرة القائلة بأن الحكَّام المسلمين الإسبان منحوا اليهود حرية أكبر من الغزاة المسيحيين. ولا يحاول تجميل ما حدث من فرض ضرائب أعلى على غير المسلمين وخفض دِيَتِهم. فهذه التفسيرات لا دخل لها بحُجج سروش البتة لأنه يحاول المواءمة بين فهمه للدين والمفهوم «الحديث» لحقوق الإنسان.

رغم أن سروش بالفعل يفسِّر بعض الأجزاء من القرآن، فإنه يؤكِّد أنه حين يفسر آيةً ما بالطريقة التي يفسِّرها بها فهذا لأنه «يريد» ذلك، وهو يؤسِّس تفسيره بالاعتماد على مبدأ عقلانية الدين. ومن ثَم، فإنه يوضِّح تمامًا من البداية أن خطابه وقراءته للقرآن مبنية على اهتمام معرفي محدَّد يعُده مشروعًا ويتفق وروحَ الدين. وإن تفسيره لآية «لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ»، الآية ٢٥٦ من سورة البقرة، مثالٌ على ذلك. يشير سروش إلى أن هذه الآية من الممكن فهمها بطريقتَين مختلفتَين: إما «لا تُكرِه الناس على اعتناق الدين»، أو «حتى إذا أجبرتَ الناس، واعتنقوا العقيدة سطحيًّا، فهذا ليس إيمانًا». وهو يستنبط من التفسيرَين أنَّ على الحكومة الدينية خَلْق بيئة يستطيع أي شخصٍ فيها اعتناق عقيدةٍ من دون إجباره على ذلك. علاوةً على ذلك، لا بد أن يكون كل شخص قادرًا على ممارسة دينه وما يؤمن به من دون خوف من اضطهاد. وبهذه الطريقة تُلبِّي الحكومة الواجب الذي كلَّفها به الخالق لحماية الدين، وليس بإجبار المواطنين على طاعة القانون الديني: «لا يكون الإيمان إيمانًا إلا إذا قام على الحرية والشجاعة. ويكون المجتمع متدينًا حين يكون قائمًا على مثل ذلك الإيمان.»

هذه الحُجة متأثرة بدرجةٍ بالغة بسياقها التاريخي السياسي، من تجربة جمهورية إيران الإسلامية؛ حيث بات المزيد والمزيد من الناس يرتدون عن الإسلام نتيجة للفساد المتفشي وسوء الإدارة والمحسوبية، وكلها أشياء يُلْقون على الإسلام تبعَتَها. يحاول سروش تقديم صورة مختلفة للإسلام. علاوةً على ذلك فإن سروش، لأنه عالمٌ تأويلي ومفسر للقرآن، فهو يعلم جيدًا مدى تنوُّع التفسيرات القرآنية المتعددة. أضِف إلى ذلك أنه شهد مباشرةً في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين كيف أن القرآن استُخدم أساسًا لأيديولوجيا؛ فقد رأى كيف أُرسل الناس باسم القرآن لميادين القتال في الحرب الإيرانية العراقية في ثمانينيات القرن العشرين، وكيف أُعدم باسمه أيضًا آلاف الأبرياء. وقد أدت به هذه المعرفة والتجارب لاستنباط أن القرآن تعرَّض للتشويه على مدى العقود الماضية، وأن الوقت قد حان لإعادة وضع هذا الكتاب على «طاقجه». وكلمة «طاقجه» في اللغة الفارسية تشير إلى المكان الذي يُوضع فيه القرآن؛ والذي لا بد أن يكون في أعلى مكانٍ في المنزل، ليكن الرف العلوي من خزانة الكتب مثلًا.

في سبعينيات القرن العشرين، علي شريعتي، العقل الأيديولوجي المدبر للثورة الإسلامية، جعل يَرْثي فَقْد القرآن أهميته في الحياة اليومية للمسلمين، فكانوا لا يُخرِجونه من الطاقجه الخاصة به إلا في المناسبات الاحتفالية. أراد شريعتي أن يكون القرآن حاضرًا في الحياة اليومية للمسلمين، حتى يصير مرةً أخرى مرشدًا للأفعال السياسية والاجتماعية للمسلمين. كان ذلك شعار الحركة الإسلامية، وكذلك نقطة الانطلاقة الأيديولوجية لعبد الكريم سروش فيما مضى. فعلى مدى السنوات، ازداد اقتناع سروش بأن القرآن مكانُه على الطاقجه، حيث سيكون في أمان من التشويه على الأقل. يُبرهِن هذا باختصارٍ على ما مَرَّ به الكثير من أنصار أسلمة الدولة في إيران من تغيير في القناعات. على الطاقجه، من الممكن أن يظل القرآن كما كان دائمًا على مدى التاريخ الإسلامي؛ مصدر إلهام للفنون والعلوم، والرابط الشخصي بين البشر وربهم.

تشكَّلَت شخصية محمد مجتهد شبستري هو الآخر من معايشة «الإسلام السياسي يوميًّا». فاليوم، بعد مرور ٢٥ عامًا من العيش في دولةٍ غير علمانية، يطالب شبستري بإقامة نظام ديمقراطي. وهو يستند في هذا إلى رؤيته للدين، وهذه نقطةٌ حيوية في الخطاب الإيراني، بما أنها تُعطي الدفاع الوحيد الذي يمكن ﻟ «المستنيرين الدينيين» استخدامه في مواجهة الاتهامات بكونهم متأثرين بالغرب وعملاء للقوى الأجنبية. يجادل شبستري بأن القرآن ينادي بنظام اجتماعي سياسي عادل، ولا شيء غير ذلك. لكن ليس من الممكن استنباط فلسفة دولةٍ من مبادئه الأخلاقية العامة، كما يدَّعي المحافظون في الحكم أنهم يفعلون. من ثَم فإن دعوته للفصل بين الدولة والدين تستبعد كذلك الحُجة القائلة بأن الرسول نفسه كان قائدًا دينيًّا وسياسيًّا في الوقت نفسه. وهو يقول إن هذه الحقيقة جزء من التاريخ الإسلامي للخلاص بلا شك، لكنها ليست توجيهًا من أجل المستقبل. هنا نرى شبستري رافضًا ليس لحُجة الأصوليين الإسلاميين فحسب، ولكن كذلك لحُجة المُحلِّلين الغربيين، الذين يدَّعون أيضًا بالإشارة لعصرٍ إسلامي سابق أن الإسلام يقضي قضاءً حاسمًا بالوحدة بين الدين والدولة.

يزعم شبستري أن القرآن يقدم «مبادئ» فقط وليس «شكلًا» معيَّنًا من الحكم. وأهم برهان يقدمه على هذا هو ما يُسمى ﺑ «العهد»، وهي وصايا الحكم التي أرسلَها الإمام علي إلى وليِّه على مصر، مالك الأشتر، في القرن السابع الميلادي. إن القائد ذا السلطات الدينية، علي، يعهد بحكم مصر لحاكم علماني وليس دينيًّا. وفي «العهد»، يعطي عليٌّ توجيهاتٍ أخلاقية لوليِّه لكنه لا يطالبه بإقامة نظام دولة إسلامي. الدولة الجديدة إسلامية، وتُرضي الله، ما دام ليس فيها قهرٌ أو طغيان. تقول التوجيهات: «يا مالك، أنصف الله، وأنصف الناس … ومن ظلَم عباد الله تعالى، كان الله عَز اسمه خصمه دون عباده.» وبما أن القرآن لم يقضِ بنظام محدَّد، فالبشر أحرارٌ من وجهة نظر شبستري أن يختاروا النظام الذي يريدون أن يعيشوا في ظله. إن الحُجة الرئيسية للديمقراطية لدى شبستري حُجة دينية؛ وحده الدين الذي يختاره المرء بمحض إرادته هو الإيمان الحق والذي يرضي الله؛ ومبدأ الحرية يتحقق على أفضل وجه في نظام ديمقراطي.

رجل الدين محسن كديور (المولود عام ١٩٥٩)، وهو عضوٌ آخر بارز في حركة «التنوير الديني»، له رأيٌ أجرأ حتى من ذلك فيما يتعلق بالتوافق بين الإسلام وحقوق الإنسان. فبعد قيامه بتحليلٍ واضح، يصل لاستنتاج راديكالي؛ ثمَّة نقاطٌ مهمة في الشريعة الإسلامية لا يمكن أن تتفق مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. لكن ما دامت أولوية إنسان العصر الحديث هي أن يعيش وفقًا لمبادئَ عقلانيةٍ وإنسانية «فلا بد أن يتبلور إسلامٌ روحاني من القشرة الصُّلبة للإسلام التاريخي المتقيدة بالشريعة» (نيرومند ٢٠٠٣). هذا هو نوع الإسلام الذي تدعو له شيرين عبادي، ومعها حركة الإصلاح الإيرانية، وقطاعاتٌ كبيرة من الشعب الإيراني التي صوَّتَت لصالح المصلحين في ثلاثة انتخاباتٍ متتالية بين عامَي ١٩٩٧ و٢٠٠١.

المثير للسخرية أنه يبدو حاليًّا أن الأمر ينطبق حتى على أقرب أقارب الخميني، مؤسس الدولة. فإن حفيدته، زهرا إشراقي، (وهي زوجة شقيق رئيس إيران وقائد جبهة المشاركة الإيرانية الإسلامية) انتظرَت شيرين عبادي بباقة من الورود البيضاء عند عودتها لمطار طهران، لتهنئها على فوزها بجائزة نوبل للسلام. من الممكن أن تكون هذه اللفتة — والرأي الذي تعبِّر عنه — قد كلَّفَت حفيدة الخميني مقعدها كمرشحة للبرلمان. فإنه في يناير ٢٠٠٤، استبعد مجلس صيانة الدستور ذو الأغلبية المحافظة أكثر من ثُلث المرشحين، ومنهم أكثر من ٨٠ من أعضاء البرلمان وقتذاك. وكان هذا ما أشعل شرارة أكبر أزمةٍ دستورية مرَّت بها الجمهورية الإسلامية من قبلُ، وكان هذا في الذكرى الخامسة والعشرين لتأسيسها. وكان السبب المذكور للرفض في أغلب الحالات هو عدم إيمان المرشحين بالأسس الإسلامية للدولة. قد يكون هذا صحيحًا، لكنه قد يكون أيضًا نتيجة للدور المهيمن للمحافظين في تفسير الإسلام.

ولا يقتصر الخطاب عن الإسلام والحداثة على الدوائر المثقَّفة الخاصة. فإن مجلة «كيان»، المعبِّرة عن آراء عبد الكريم سروش، ظلت لسنوات تبيع بأعدادٍ كبيرة، لقُراء أغلبهم من الطلبة، وذلك حتى منعها. كذلك تُقرأ أعمال «دُعاة التنوير الديني» في الجامعات الدينية في إيران. وهذه المراكز التعليمية، التي يُفترض أن تُمِد النظام بالجيل الجديد من المسئولين، صارت اليوم موقعًا لمناقشاتٍ تقدمية. فإلى جانب التعليم الكلاسيكي المتمثل في العلوم القرآنية، بإمكان الطلاب أيضًا الاستفادة من مجموعةٍ كبيرة من العلوم الحديثة وفي ذلك علم التأويل الأوروبي ونقد النصوص الأدبية، وهي أشياءُ يتعلمونها بالأخص من كتابات المصلحين الدينيين. وبالاعتماد على هذه الأساليب، يناقش الملالي الشبان مسائل على غرار الإسلام وحقوق الإنسان، والإسلام ودور الدولة، ودور النساء في الإسلام. وبدلًا من التفسير المحدود للقرآن الذي تنشره الجهات الرسمية، استحدث هؤلاء الملالي الشباب تفسيراتٍ بديلة.

كذلك اكتسب آخرون من دعاة التنوير الديني نفوذًا متزايدًا في السياسة المعاصرة. فعلى مدى العامَين الماضيَين، كان أحد تلاميذ سروش وهو عالم الاجتماع، أكبر جانجي (المولود عام ١٩٥٢)، صحفيًّا استقصائيًّا، فكشف عن دسائس كبار المحافظين الإيرانيين. وقد صك مصطلح «الفاشية الدينية»، الذي استخدمه أيضًا رئيس إيران، محمد خاتمي. ويتحدَّث جانجي عن المصطلح فيقول إن الفاشية الدينية التي يُمارِسها من يحكمون إيران لا تُقر «بفهم إنساني للدين، وترى الناس عبيدًا للحكَّام، وتفصل بين الدين والعقل، كما أنها عدوانيةٌ ومتعصبة ومتزمتة.»١٧
من الممكن لهذه الجدية أن تُعرِّض المرء للخطر في الجمهورية الإسلامية. فقد سُجن جانجي منذ أبريل عام ٢٠٠٠. وفي الكثير من المناسبات قاطع بعضُ المشاغبين المستأجَرين محاضرات سروش، وتلقَّى هو نفسه تهديداتٍ بالقتل. وقضى محسن كديور في السجن ١٨ شهرًا، وخرج منه بطلًا للطلاب الإيرانيين. فمتى ظهر رجل الدين هذا أمام العامة، حتى إذا كان أحد الجماهير في مناظرةٍ عامة، حيَّاه الناس في الحال بتصفيقٍ حاد. كذلك، فإن أسماء وأفكار المصلحين معروفة جيدًا بين أفراد الشعب، خاصةً الشباب. وليس في هذا مفاجأة، نظرًا لأنهم يتحدثون دون مواربة في محاضراتهم وخطبهم. وقد قال الإصلاحي حجة الإسلام عبد الله نوري (المولود عام ١٩٤٩) لجمهور من آلاف الطلاب المتحمسين في جامعة طهران: «لا يمكن إجبار الناس على اعتناق عقيدة.» وأضاف: «فإنك إن أجبرتَهم، لم يُعد هذا دينًا.»١٨ وفي قُم، العاصمة الدينية لإيران، سمعه جمهورٌ آخر من الآلاف وهو ينادي بالتعدُّدية الدينية والسياسية، ذاكرًا أن أوروبا تضرب مثالًا يستحق أن تحتذي به الجمهورية الإسلامية: «في أوروبا في العصور الوسطى، فعل كهنتُهم كل ما بوسعهم لكبت حرية الرأي. لكن الديمقراطيين الأوروبيين اليوم هم من يحافظون على التقاليد الإسلامية للتعدُّدية والديمقراطية.»١٩

الجدال الإيراني يكون باللغة الفارسية، مما يجعل من الصعب على العرب أن يتابعوه. والعكس صحيحٌ فيما يتعلق بتدفق المعلومات الواردة إليهم، بما أن أغلب المفكرين الإيرانيين الذي يدرسون الإسلام يعرفون العربية. نضيف إلى ذلك أن حُجج الإصلاحيين الدينيين الشيعة الإيرانيين لا تنسجم مع السياق السني في أغلب الأحوال. ورغم ذلك فإن الجدال الإيراني بشأن الإسلام والحداثة لديه جمهورٌ من المسلمين في أنحاء العالم. فمنذ الثورة والعالم الإسلامي لديه اهتمام بإيران. وقد تُرجمَت كتب الكثير من الإصلاحيين إلى اللغة العربية، كذلك يجتمع المفكرون ويشاركون أفكارهم في المؤتمرات. ورغم ذلك فلنا أن نتساءل ما إذا كانت هذه المداولات بشأن الإسلام والحداثة تصل حقًّا لجماهيرَ عريضةٍ في العالم الإسلامي. وبما أن الكل في الجمهورية الإسلامية الإيرانية قد عايش الإسلام السياسي، فإننا نجد هناك مشكلة التوفيق بين الإسلام والحداثة أكثر إلحاحًا والجدال أنشط بالطبع. يُبيِّن هذا الجدال أن هناك طرقًا لا تحصى لتفسير الإسلام في سياقٍ حديث. فالإسلام والحداثة ليسا متعارضَين بحكم طبيعتهما. بل إن لدينا في الجدال الإيراني مثالًا مفيدًا للسبيل لمواجهة الحُجة التي وصل إليها بعض المسلمين والكثير من ناقدي الإسلام من دون تروٍّ القائلة: «هذا ما ينص عليه القرآن». وحين تأتي تفسيراتٌ حديثة للإسلام من نظام حكم ديني يُعد عمومًا «أصوليًّا»، فإنه من المنطقي أيضًا بلا شك أن تنمو في بيئاتٍ أخرى، ولماذا لا نبدأ بالمسلمين الأوروبيين؟ فإنهم على كل حالٍ يعيشون في أفضل الظروف التي تؤهلهم أن يصيروا الأصواتَ الرائدة في تطوير إسلام ليبرالي. إن الجدال الإيراني استعراضٌ ممتاز لتنوُّع الآراء التي من الممكن أن ينطوي عليها الإسلام. في الواقع قد يكون هذا أحد الأسباب وراء قرار لجنة جوائز نوبل اختيار امرأةٍ إيرانية. من الجائز أيضًا أنهم كانوا يسعَون لدعم حركة الإصلاح الإيرانية. فقد أثبتَت انتخابات فبراير ٢٠٠٤ ويونيو ٢٠٠٥ أن حركة الإصلاح السياسي الإيرانية قد توقفَت. وعجز السياسيون الإصلاحيون عن تحقيق أهدافهم في مواجهة قوةٍ محافظة راسخة. ومنع فقدانُ الأمل في حركة الإصلاح الكثير من الناس من الذهاب لصناديق الاقتراع. إلا أن المفكرين أمثال شيرين عبادي ما زالوا متفائلين، لأنه حتى إن كانت حركة الإصلاح السياسي قد فَشِلَت، فإن حركة الإصلاح في المجتمع لم تفشل. لقد تغيَّر المجتمع الإيراني كثيرًا على مدى الخمسة والعشرين عامًا الأخيرة. فالناس يريدون الديمقراطية، ويدركون أن حقوق الإنسان والمساواة بين الجنسَين من الضروريات، بغَض النظر عما إذا كانا من القيم الإسلامية أم لا.

(٨) الخلاصة

لقد تبين كيف أن الغرب طالما كان ولا يزال حاضرًا في الجدال بشأن «الإسلام والحداثة» في مصر وتركيا وإندونيسيا والهند وإيران وفي كل مكان. ومع أن ثقافة الغرب هي التي حفزَت تبنِّي القيم الحديثة وشجَّعَت عليه، فقد ولَّدَت سياسة الغرب إحجامًا عن قبول هذه القيم. بل إنها في الواقع أثارت مقاومةً حادة للحداثة، التي يُنظر إليها باعتبارها تغريبًا ينشُر الهيمنة الغربية. حالة إيران هي أبرز مثال على تطبيق الإسلام السياسي بنجاح وإقامة دولةٍ ذات حكم ديني. ورغم ذلك فإنه مع ذروة موقفهم السياسي المضاد للغرب، ظل المفكرون الإيرانيون يهمُّون بترجمة النصوص الفلسفية الغربية المعروفة ونشرها، وهو ما مهَّد الطريق لنقاشٍ فكري قوي ونشط. إن تجربة المسلمين في إيران للإسلام السياسي تمكِّنهم من نقد تجربتهم والكفاح من أجل دولةٍ ديمقراطية وليبرالية حيث يمكن احترام حقوق الإنسان وحمايتها. في الوقت نفسه، لا بد أن نضع في اعتبارنا أن نجاح الثورة كان الأساس لإقامة جمهورية؛ أي، نظام سياسي غربي، لا خلافة أو إمامة. ومن ثَم فقد كانت الانتخابات البرلمانية والرئاسية جزءًا لا يتجزأ من نموذج الدولة الذي تبنَّته إيران، وإن كانت تُجرى في حدود الشريعة الإسلامية. ووجود هذه الأدوات الديمقراطية يعني أن الشعب الإيراني بإمكانه التصويت لليبراليين الذين أرادوا تغيير الأيديولوجيا الدينية لإيران. إلا أن الغرب السياسي، متمثلًا في الولايات المتحدة، قاطع هذا التطور الإيجابي حين أعلن السيد بوش أن إيران جزء من «محور الشر»، إلى جانب العراق وكوريا الشمالية. وهذا جعل نقد الأيديولوجيا الإيرانية المحافظة مساويًا للتعاون مع العدو؛ إذ صار مفهوم التعاون البنَّاء مع الغرب الذي دعا إليه معظم المفكرين الليبراليين، وفيهم الرئيس الإيراني خاتمي، أمرًا ملعونًا. وحتى حصول شيرين عبادي على جائزة نوبل لم يحتفل به إلا الليبراليون في حين أدانه المحافظون. في الواقع يمكن اعتبار الهزيمة السياسية لليبراليين في انتخابات يونيو ٢٠٠٥، نتيجةً لقرار مجلس صيانة الدستور، بمنزلة أثرٍ جانبي للتدخل الغربي.

إلا أن ثمة ارتباطًا قويًّا بين هذه النكسة السياسية والمستوى المتقدم للنقاش الفكري الذي يتناول الآن الكثير من الموضوعات التي كانت من المحظورات فيما مضى. هذا الجدل الدائر عن الديمقراطية، وحقوق الإنسان، والحرية الدينية، والدولة العلمانية والفردية أسَفر عما هو أكثر من قراءة جديدة للتراث أو معنى القرآن؛ فقد أدى لإضفاء طابع إنساني على القرآن بصياغة علم كلام ليبرالي، وكذلك إنشاء منهج جديد للتفسير. وهذا المنهج يُسمى في الفلسفة الغربية علم التأويل.

هوامش

(١) يصف ألفيان المحمدية بأنها حركة معارضة للنظام وبالتالي ضد الاستعمار. وهي لم تكن منظمةً سياسية بقَدْر ما كانت حركة إصلاح ديني. وتساعد أنشطتها التعليمية الواسعة في تفسير السبب الفعلي لتبنيها فعليًّا لنهج الاعتدال والتعاون مع النظام الاستعماري.
(٢) مجلة «المنار»، المجلد ٥، صفحة ١٥٧؛ المجلد ٨، صفحة ٣٠٣؛ المجلد ١٥، صفحة ١٣٨؛ المجلد ٢١، صفحة ٢٢٦؛ المجلد ٢٥، الصفحات ٥٣٩ و٥٩٣ و٦٧٣؛ المجلد ٢٦، صفحة ٣٩٤ و٤٥٤؛ المجلد ٢٧، الصفحات ١ و١٦٧ و٤٦٣ و٧٩١؛ المجلد ٢٨، صفحة ٥٤ و٢٩٣؛ المجلد ٢٩، صفحة ١٦٢؛ المجلد ٣٠، صفحة ١٥٣ و٢٢٥، القاهرة ١٩٢٥–١٩٢٨. جُمع في كتاب بنفس العنوان بعضٌ من هذه المقالات وغيرها التي نُشرت في جريدة «الأهرام» بين عامَي ١٩٢٥ و١٩٢٨.
(٣) يقول الدستور الإيراني إن سنة ١٩٦٣ — اللحظة التي بدأ فيها العامة الاحتجاج وألقى فيها الخميني خطبته — هي السنة التي بدأَت فيها الثورة.
(٤) كان كريستيان سنوك هرخرونيه مَن بدأ دراسة كل الآيات القرآنية التي ذُكر فيها النبي إبراهيم بترتيبها الزمني. واستنتَج أن النبي محمد، عند خلافه مع اليهود، أعلن أن أبا العهد القديم كان «حنفيًّا» وأول المسلمين. وهكذا لم يعلن القرآن أن إبراهيم وإسماعيل كانا أسلاف العرب، وأنهما من بَنَيا الكعبة وأدخلا مراسم الحج، إلا بعد الهجرة. لم يصبح إبراهيم، وما زالت العهدة على سنوك هرخرونيه، أهم المبشرين بالنبي العربي إلا في هذه المرحلة، وبما أن دين التوحيد الخالص كان قد نشره إبراهيم بالفعل، فقد استطاع الإسلام ادعاء الأسبقية على اليهودية والمسيحية. وقد انتقد إدموند بيك فرضية هرخرونيه استنادًا لأن الثلاث السور المنسوبة للحقبة المكية الثالثة (سورة إبراهيم: ٣٥–٤١؛ سورة النحل: ١٢٠–١٢٣؛ سورة الأنعام: ٧٩ و١٦١) تتحدث بالفعل عن دور إبراهيم، وهذا من سمات الحقبة المدنية. وصارت فرضية سنوك هرخرونيه معروفة أكثر من خلال ملحق، أضافه إيه جيه فِنسنك لمقالة «إبراهيم» في «دائرة المعارف الإسلامية». وهي التي أثارت الخلاف والإنكار، من المسلمين على الخصوص، بعد إصدار أول مجلد من الترجمة العربية. ولا شك أنه من المقدَّر أن تظل الآراء المتباينة بين المسلمين وغير المسلمين بخصوص قصص القرآن عامةً وشخصية إبراهيم خاصة، بلا حل. «فالمسلمون يعتقدون أن إبراهيم كان بالفعل في مكة، وأنه بنى الكعبة مع إسماعيل، ونشَرَا عقيدة التوحيد الخالصة. أما غير المسلمين فيعتبرون هذا محضَ أسطورةٍ دينية. وليس هناك مجال للتوفيق بين وجهتَي النظر في المرحلة الحالية من الحوار.»
(٥) أُعيدت طباعة نسخةٍ كاملة من تقرير المحاكمة في عدد خاص من المجلة الشهرية «القاهرة» (١٩٩٦: ٤٥٠–٤٦٢).
(٦) يتناول كتاب البحراوي بتعمق ونقد أربعة كتبٍ كبرى مؤثرة، وهي «الديوان» (١٩٢٠)، و«في الشعر الجاهلي» (١٩٢٦)، و«مقدمة بروميثيوس طليقًا» (وهي مقدمة للترجمة العربية لمسرحية شلي «بروميثيوس») (١٩٤٦) و«في الثقافة المصرية» (بيروت ١٩٩٥).
(٧) المصدر القديم هو «شرح التلخيص» للقزويني.
(٨) جاء القرار ردًّا على سؤال من عضو في البرلمان إلى رئيس الوزراء بشأن حالة الجامعة وموقفها.
(٩) كانت أطروحته للدكتوراه عن «كتاب «الشعر» لأرسطو وأثره في البلاغة العربية».
(١٠) زار فضل الرحمن إندونيسيا لأول مرة عام 1974 وظل من ساعتها على اتصالٍ مستمر بعدد من المفكرين المسلمين الإندونيسيين.
(١١) من حوار في طهران في ٤ ديسمبر ١٩٩٤.
(١٢) يعرب بروجردي عن الرأي الذي يقول بأن شبستري يروج «لبروتستانتيةٍ إسلامية متأثرة بالفلسفة».
(١٣) تقدِّم نيكي كيدي هذه الفرضية في الاستشراق الغربي. لكن يفنِّد عبد الهادي حائري حُجتها.
(١٤) وبالتالي فإنه لا جدوى بالمرة من رجوع الكثير من الألمان الآن إلى القرآن لمعرفة ما قاله «الإسلام» عن حقوق الإنسان والإرهاب والنساء. إذ يفيد باعة الكتب الألمان بأن نُسخ القرآن بيعت بالكامل بعد يومَين من أحداث ١١ سبتمبر.
(١٥) من اتصال شخصي مع كتايون أميربور في نوفمبر ١٩٩٧.
(١٦) قال سروش ذلك في محاضرةٍ خاصة. تجدون مناقشة أكثر تعمقًا للموضوع في سروش ٢٠٠٠: صفحة ٣٧ و٦٤.
(١٧) من مخطوط الخطبة المرسل إلى كتايون أميربور، كاتبة هذا الجزء، في فبراير من عام ١٩٩٨.
(١٨) من مخطوط الخطبة، الذي أعطاه الكاتب إلى كتايون أميربور في فبراير ١٩٩٩.
(١٩) من مخطوط الخطبة الذي أعطاه الكاتب لكتايون أميربور في فبراير ١٩٩٩.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤