الفصل الرابع

آراء مفكرين مسلمين مختارين حول الشريعة والديمقراطية وحقوق الإنسان

مقدمة

كما ذكرنا في الفصل الرابع، أتى النصف الثاني من القرن العشرين بمناقشاتٍ شديدة التنوع بشأن موضوعات الشريعة والديمقراطية وحقوق الإنسان في أرجاء العالم الإسلامي، وخاصةً في مصر وإندونيسيا وإيران. وقد رأينا الكثير من المفكرين الساعين لتخليص الإسلام من التفسير المتمسك بالتراث والفقه بالتركيز على نسخه المتمثلة في «الإسلام الثقافي» و«الإسلام المستنير» و«الإيمان الفردي». يرى هؤلاء المفكرون أن الإسلام المتزمت الذي أسسه المحافظون ودَعمَه السلفيون والأنظمة السياسية الشمولية قد عفَّى عليه الدهر، فلا بد من التخلص منه والأخذ بالإسلام الروحاني والأخلاقي «الحقيقي» بدلًا منه. إنهم يرَوْن أن الإسلام السياسي ليس إلا انحرافًا عن الإسلام الوجودي الأساسي الموجود في القرآن والذي علَّمه النبي. ولكي نصل للمعنى الإنساني والديمقراطي الحقيقي للإسلام، لا بد من تأمل رؤًى جديدة وتطبيق منهجياتٍ حديثة. وهذه بدورها بحاجة لأن نتعلمها ونتقبلها ونطبِّقها من دون أي قيود ومن أي مصدر للمعرفة، سواءً كان شرقيًّا أو غربيًّا. وعلى حد تعبير عبد الكريم سروش، المفكر الإيراني، المعرفة ليست لها جنسية أو حقوق ملكية. ويرمي هذا الفصل الأخير لمتابعة الجدال حول الشريعة والديمقراطية وحقوق الإنسان — وهو ما يشتمل كذلك على موضوعَي الاستقلال الشخصي والمساواة بين الرجل والمرأة — الذي يديره حاليًّا علماءُ مسلمون مختارون على غرار محمد أركون وعبد الله النعيم وطارق رمضان. ويقيم الكثير من هؤلاء خارج العالم الإسلامي، في أوروبا والولايات المتحدة.

(١) محمد أركون: نظرة جديدة للإسلام

لقد طُبِّقَت «النظرة الجديدة» على مجالاتٍ معيَّنة من التراث الإسلامي، وهو ما أدى بدوره إلى قراءة جديدة لمعنى القرآن. وقد رأينا في السياق الإيراني التحوُّل من «القراءة الجديدة للمعنى» إلى «القراءة الجديدة لمنزلة القرآن نفسه»، وهو ما ينعكس في استعارة الطاقجه. وقد انتقل هذا بالدراسات القرآنية من التفسير إلى التأويل، أو من علم الكلام إلى الفلسفة. محمد أركون الجزائري المولد (المولود عام ١٩٢٨) هو أستاذٌ فخري في جامعة السوربون، بباريس، ومدير مجلة «أرابيكا» وهي مجلة للدراسات العربية والإسلامية. وهو نشط جدًّا في تطبيق المنهج المتعدد التخصصات الحديث في الدراسة النقدية للثقافة والتراث والنصوص الإسلامية. وشاغله الأكبر هو تفكيك «المغفل عنه» و«ما لا يُسمح بالتفكير فيه» في الفكر الإسلامي الكلاسيكي والحديث، مما يؤدي لتحوُّلٍ غير مسبوق من «النظرة الجديدة للتراث» أو حتى «النظرة الجديدة للقرآن» إلى «النظرة الجديدة للإسلام». ويعكس الكثير من كتبه باللغة الإنجليزية والفرنسية هذا الاهتمام، مثل «المغفل عنه في الفكر الإسلامي المعاصر» وكذلك «نظرة جديدة للإسلام: الأسئلة الشائعة والإجابات غير الشائعة». بتحليل خلفياتها التاريخية والثقافية والاجتماعية والنفسية واللغوية، يسعى أركون لتحرير الموضوعات «المغفلة» و/أو «غير المسموح بالتفكير فيها» — مثل دور القانون والمجتمع المدني — من قيدها التقليدي والعقائدي، وكشف السبيل نحو «إعادة بناءٍ راديكالي للعقل والمجتمع في العالم الإسلامي المعاصر» (أركون ١٩٩٤: ١). فموضوعات، على غرار الوحي وطبيعة القرآن والعلمانية والتصوُّر الفردي كلها مغفلة وغير مسموح بالتفكير فيها، بسبب هيمنة الأرثوذكسية في تاريخ الثقافة الإسلامية. ولعدم رغبته في الحديث عن «الثقافة» أو «المجتمع الإسلامي»، يفضِّل أركون استخدام «الثقافات والمجتمعات المسلمة» بصيغة الجمع.

إن نقد العقل الإسلامي مفهومٌ رئيسي في مشروع أركون. فهو ينطلق من الحاجة لهجر ممارسة الاجتهاد الكلاسيكي المحدود والمقتصر على الإطار الإبستمولوجي الذي أسسه فقهاء في القرنَين الثامن والتاسع الميلاديَّين، ويمضي نحو تحليلٍ نقدي حديث لبنية العقل الإسلامي (أركون ١٩٩٢: ١٧). تنطوي هذه الخطوة على تجاوُز كلٍّ من منهجية الدراسات الإسلامية التقليدية التي يتبعها المسلمون، والتحليل التاريخي الفيلولوجي لدى المستشرقين. ويرى أركون الأخير على أنه إسلامياتٌ كلاسيكية، التي بمجرد أن تفكك الفكر الإسلامي لا تخلِّف سوى الأنقاض (أركون ١٩٩٢: ٥٦). وهو يرى أنه ما دامت الدراسات الإسلامية التقليدية لا تفعل سوى تكرار المنهج الكلاسيكي ولا تأتي بتجديد، فسوف تظل الإسلاميات الكلاسيكية بعيدةً عن الموضوعات الملحة في المجتمعات المسلمة المعاصرة، والتي هي كذلك المشكلات والهموم التي تشغل مسلمي العصر الحالي. يريد أركون بنقده للعقل الإسلامي أن يؤسس «إسلاميات تطبيقية» تتناول الموضوعات الحديثة بجدية من منظورٍ إسلامي مهتم اهتمامًا حقيقيًّا يستفيد من منجزات الفيلولوجيا التاريخية من دون الاقتصار على نقائصه (أركون ٢٠٠٢: ١٠).١
لماذا هذا الارتباط القوي بين «نقد العقل الإسلامي» و«الإسلاميات التطبيقية»؟ يصيب أركون إذ يشير إلى أن الإسلاميين السياسيين الحاليين عند مناقشة الموضوعات المُلحَّة المعاصرة دائمًا ما يشيرون إلى نشأة الإسلام الجليلة باعتبارها مرحلته المجيدة في مجالَي التشريع والأخلاق. كما أنهم دائمًا ما يَستشهِدون بعصره الذهبي التاريخي بصفته نقطة الانطلاق المثالية للحضارة الإسلامية. ويعتقد أركون أن قصور مناهج الإسلاميات التقليدية والكلاسيكية في مواكبة الموضوعات المُلحَّة للحداثة ترك فراغًا ملأه علماء سياسيون والإسلاميون النشطون. وهو يشرح ما حدث خلال ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين فيقول:

«ركَّز علماء السياسة على الإسلام السياسي، وخصوصًا الحركات الأصولية، لدرجة أنهم نجحوا في تهميش الإسلاميات الكلاسيكية، متجاهلين التطوُّر المنهجي الذي تقدمه «الإسلاميات التطبيقية». وينطبق هذا الوضع على كلٍّ من الإسلاميين الكلاسيكيين، الذين ظلوا طويلًا مقتصرين على التطبيق الفيلولوجي والتاريخي للنصوص الكلاسيكية الأكثر «نمطية»، وعلى الموجة الجديدة من الإسلاميين الذين لم يتلقَّوا تدريبًا على الفيلولوجيا في اللغات الإسلامية الرئيسية (العربية والفارسية والتركية والأردية) والذين قصَروا بحوثهم على الموضوعات الاجتماعية السياسية من منظورٍ قصير المدى. تؤكِّد الإسلاميات التطبيقية على الحاجة لممارسة أسلوب «تقدمي رجعي»، يجمع بين المنظور التاريخي بعيد المدى والمنظور قصير المدى؛ لأن الخطاب المعاصر كله المنبثق في السياق الإسلامي يشير حتمًا لفترة نشأة الإسلام، و«العصر الذهبي» لحضارته مستخدمًا إياهما كإشاراتٍ أسطورية إلى «قيم» خلَّاقة — أنساقٍ أخلاقية وتشريعية — والتي هي بحاجةٍ لإعادة تقييم وفقًا لما أُسمِّيه «نقد العقل الإسلامي» (أركون ٢٠٠٢: ١٠–١١).

ومن ثَم فإن تحديد ما إذا كان «نقد العقل الإسلامي» أو «الإسلاميات التطبيقية» هو ما يأتي أولًا، يبدو مستحيلًا بما أنهما مرتبطان ارتباطًا شديدًا. الهدف من دراسة ذلك المنهج المعقد هو بحث آليات إنتاج المعنى في مجتمعات النصوص المقدسة، سواء كانت يهودية أو مسيحية أو مسلمة. وهو ما ينطوي على تحليلٍ متعدِّد المباحث يستخدم علم النفس الاجتماعي التاريخي، والأنثروبولوجيا الثقافية، وعلم العلامات (السيميوطيقا)، وعلم الدلالة، وعلم التأويل.

من المكوِّنات الرئيسية في هذا المشروع إعادة تعريف القرآن. يقول أركون إن القرآن في الواقع هو القرآن الشفهي الأصل، الذي آمن محمد ومستمعوه بأنه وحي من الله. وهكذا يميِّز أركون بين هذا «الواقع» وما يُسمِّيه «النص الرسمي المغلَق»، وهو نص القرآن المكتوب الذي جمعه عثمان؛ أي المصحف. القرآن الشفهي — الخطاب — جاء بلغة وبأجناسٍ نصية مرتبطة بموقفٍ تاريخي محدَّد، وبأساليبَ تعبيريةٍ أسطورية ورمزية. وهو يحتوي بالفعل على تفسيرٍ كلامي لطبيعته ولا بد أن يخضع لتحليل بنيته. وتراث التفسير بأكمله هو عملية استئثار مختلف فصائل المجتمع الإسلامي لهذا «الواقع». أما النص في حد ذاته فمفتوح ربما لعددٍ لا نهائي من التفسيرات الدائمة التجدُّد مع استمرار التاريخ، وإن كان أنصار الأرثوذكسية يُصِرُّون على جعل تفسيرٍ معين وُضع في مرحلةٍ مبكرة من هذه العملية هو الحقيقة المطلقة. إن أي دراسةٍ علمية للقرآن ولتراث التفسير الذي يشير إليه، لا بد أن تضع في الاعتبار أن الحقيقة الدينية، بقَدْر ما يستطيع المسلمون ومعتنقو «الأديان الكتابية» الأخرى فهمها، تصيرُ فعَّالةً حين تُوجد في علاقةٍ ديالكتيكية بين النص المُنزَّل والتاريخ.

على العلماء المعاصرين استخدام أدوات علم العلامات التاريخي وعلم اللغويات الاجتماعي للتفرقة بين تفسيراتٍ تقليدية معيَّنة للنص القرآني والمعنى المعياري الذي قد يحمله هذا النص لقُراء العصر الحالي (فيلاند ٢٠٠٢: ١٣٧). ويشكو أركون قائلًا: «من المؤسف الاستمرار في تجاهل النقد الفلسفي للنص المقدس، وإحجام علماء المسلمين عن الاعتماد على مثل تلك الأبحاث مع أنها ستفيد في دعم الأساس العلمي لتاريخ المصحف ولاهوتية الوحي» (أركون ١٩٩٤: ٣٥). وبهذا يبتعد فكر أركون عن أي تفسيرٍ دفاعي يميل لإثبات التوافق بين الحداثة والمصادر الإسلامية؛ فهو بالأحرى يحصُر نفسه في العرض التحليلي والنقدي للموضوع قيد النقاش، ويشير إلى احتمالات واتجاهات. ففي موضوع وضع المرأة وفقًا للقرآن على سبيل المثال، يفضِّل أركون «التحول بالتحليل والأسئلة نحو مجالاتٍ ظلت مغفلة حتى الوقت الراهن». ثم يمضي لتحليل موضوعاتٍ لم يكن من الممكن تعديلها في الزمن الذي ظهر فيه القرآن، ألا وهي البِنى الأولية للقرابة وضبط السلوك الجنسي. تكشف الدراسة الأنثروبولوجية للثقافات أن ثمَّة أعرافًا ثقافية يمكن تقديسها والسمو بها، وهذا يفسِّر نشأة الفقه الإسلامي. وفي النهاية، يلتمس أركون لنفسه العذر «لعدم قيامه بتحليلٍ مفصَّل لآياتٍ متعددة [من القرآن] جعلَت وضع المرأة ثابتًا على مدى قرون. إذ لم يتم ذلك العمل بعدُ في سياق نقد العقل الإسلامي» (أركون ١٩٩٤: ٦٠–٦٣).

ورغم ذلك في دراساتٍ أخرى، خصوصًا كتابه «قراءات في القرآن» و«المغفل عنه في الفكر الإسلامي المعاصر» — خصوصًا الفصل الثاني الذي يحمل عنوان: «المكانة المعرفية والوظيفة المعيارية للوحي: مثال القرآن» — يعطي أركون تحليلًا وافيًا لآيات وسورٍ معيَّنة من القرآن ليوضِّح كيف أن الأرثوذكسية الإسلامية قد تأسَّسَت، من خلال التفسير، عن طريق اختيار قراءةٍ معيَّنة وتدوينها على حساب قراءاتٍ أخرى مقبولة على المستويَين النصي واللغوي بدرجةٍ أكبر. وقد مكَّنَت هذه الأساليب الانتقائية الفقهاء من تقديس ممارساتٍ تقليدية معيَّنة فيما يخُص وضع المرأة والأقليات الدينية في المجتمعات الإسلامية. ولتحليل وضع النساء يذكُر أركون حالة وراثة من مات من المسلمين وليس له ورثة من الذكور. فقد جاء في تحليل أركون أن الآيات القرآنية في هذا الصدد (سورة البقرة: ١٨٠، ١٨٢، ٢٤٠؛ وسورة النساء: ١٢، ١٧٦) قد أُسيء استخدامها عن عمدٍ باعتماد قراءةٍ معيَّنة للحد من نصيب الإناث في الميراث؛ ولولا ذلك، كان سيحق لهؤلاء النساء كل شيء (أركون ١٩٩٢: ٢٥–٧٦).

لمثل ذلك التحليل أهميةٌ عظيمة، فهو يفتح المجال لمنظورَين تاريخيَّين أحدهما قصير المدى والآخر بعيد المدى. إذا اعتبرنا المنظور القصير المدى هو تناول شئون المرأة، فالمنظور بعيد المدى هو أولًا وقبل أي شيء كشف الآلية الدينامية التي استخدمها العقل الإسلامي الكلاسيكي في «إنتاج المعنى»، ومن ثَم تأسيس الإجماع الذي أدَّى لترسيخ الأرثوذكسية. الخطوة الثانية هي إعادة بناء علم كلام أنثروبولوجي للوحي من العناصر المفكَّكة المتبقِّية. هذا هو المنهج التقدمي الرجعي المذكور أعلاه ﻟ «الإسلاميات التطبيقية»، الذي يجمع بين المنظورَين التاريخيَّين البعيد المدى والقصير المدى.

تكمُن الأهمية الكبرى لعمل أركون في اهتمامه بالأسئلة المنهجية التي تكاد تكون غائبة في دراسات المسلمين للإسلام عمومًا، وللقرآن على وجه التحديد. وهذا ما جعل مفكرين مسلمين حداثيين ساعين لتطبيق منهجيةٍ حديثة يُقدِّرون محاولاته بالغ التقدير. ويتجلى تأثيره على المفكرين في أنحاء العالم الإسلامي في ترجمة أعماله إلى الفارسية والتركية والإندونيسية، علاوةً على العربية (أبو زيد ١٩٩٩: ١٩٣–٢١٢).

(٢) عبد الله النعيم: الشريعة وحقوق الإنسان

نشأ عبد الله النعيم (المولود عام ١٩٤٦) في السودان وهو ناشط في مجال حقوق الإنسان وأستاذ القانون في جامعة إيموري (أتلانتا، جورجيا، الولايات المتحدة). وهو يدعو لإعادة بناء الشريعة بحيث تراعي القانون الدولي وحقوق الإنسان. والنعيم أحد طُلاب المفكر السوداني محمود محمد طه، الذي أُعدم عام ١٩٨٤ بعد أن أدانه نظام النميري القضائي بتهمة الردة والزندقة. وعندئذٍ غادر النعيم إلى المنفى، ومن هناك تابَع طرح الحُجج الرئيسية لمُعلمه في كتابه «الرسالة الثانية من الإسلام»، التي عبَّرَت عن القرن العشرين بصورةٍ أفضل.

الحُجة الأساسية التي بعثَت على هذه الرسالة الثانية تنبُع من تفسير طه الشخصي لاثنَين من العلوم الكلاسيكية للقرآن، ألا وهما التفرقة بين السور المُنزلة في مكة والمدينة، ومفهوم النسخ؛ حيث من الممكن عند نشأة تعارُض أن تنسخ الآية الجديدة ما جاء قبلها. ويرى تفسير طه أن الرسالة المكية، بجوهرها الروحاني وإعلائها قيم العدالة والحرية والمساواة، نسخَتها الرسالة المدنية التي تركِّز على القانون والنظام والطاعة. وقد حدث هذا لأن العرب لم يكونوا قادرين على تقدير الرسالة المكية في سياق شبه الجزيرة العربية في القرن السابع الميلادي. إلا أنه من الممكن بل حتمي أن نعود للرسالة المكية وننسخ الرسالة المدنية التي صيغَت لتُناسِب الحدود الاجتماعية والثقافية التي كان العرب يعيشون في إطارها في القرن السابع. كانت نقطة انطلاق النعيم هي رسالة طه القائلة بأن شريعة القرن السابع لا تُناسب القرن العشرين الذي نعيش فيه (طه ١٩٨٧). وبتطبيق مفهوم النسخ على الرسالة المدنية، سيُعاد إحياء الرسالة المكية (التي نسخَتها الرسالة المدنية) وإجازتها مجددًا. وبهذا يكون هدف النعيم أساسًا هو إعادة بناء الشريعة بحيث تنسجم مع الحقوق المدنية، وحقوق الإنسان، والقانون الدولي. ومع أن هذه المفاهيم من نِتاج الحداثة، فإنه على ما يبدو لا يقبل بأُسسها العلمانية. فهو بفصله بين مجال الإصلاح الإسلامي ومجال الحداثة، يحاول أسلمة هذه المفاهيم بتقديم إعادة قراءة وإعادةِ تفسيرٍ جديدة لمصادرها من أجل إعادة بناء الشريعة.

لنفهم موقف النعيم بوضوح، علينا أن نضع في اعتبارنا أنه كان من نخبة حزب مُعلمه طه، حزب الإخوان الجمهوريين، وأنه لم يستطع بعدُ الخروج من عباءة مُعلمه.٢ لانتقاده الشديد للاشتراكية والرأسمالية على حدٍّ سواء باعتبارهما من الأيديولوجيات الغربية، مع تقديمه الإسلام نظامًا بديلًا يجمع مزايا النظامَين، لم يسعَ طه لإصلاح معنى الإسلام فحسب، وإنما لتحويله في الاتجاه الموضَّح أعلاه. علاوةً على ذلك، يدعم النعيم ثنائيات الغربي مقابل الإسلامي، والعلماني مقابل الديني. فهو، في مقدمة ترجمة كتاب طه، يطرح وجهتَي نظر، أو بمعنًى أدق أيديولوجيتَين مختلفتَين، فيقول:

«البحث عن إجاباتٍ علمانية لن يؤدي إلا لترك المجال للأصوليين، الذين سينجحون في استمالة الغالبية العظمى من الناس بإقناعهم بأن سياساتهم ونظرياتهم متجذرة في النصوص الدينية. لذلك من الأفضل للمسلمين المثقَّفين والمستنيرين أن يظلُّوا داخل الإطار الديني ويُحاولوا تحقيق الإصلاح الذي يجعل الإسلام أيديولوجيا عمليةً حديثة» (طه ١٩٨٧: ٢٨).

لا شك أن السعي من أجل «أيديولوجيا إسلامية» تستطيع مخاطبة غالبية الجماهير وكسب تأييدهم لهُو غايةٌ مشروعة، لكنه مناسب أكثر لحزبٍ سياسي لا من أجل الدراسة. ومن ثَم لا بد أن تكون الأيديولوجيا الإسلامية مختلفة عن سائر الأيديولوجيات العالمية الحالية، لتخلق بذلك فرقًا بين الإصلاحَين الغربي والإسلامي. وبموجب هذه الثنائية، لا بد أن يُعرف كلٌّ من الغرب والإسلام بأنه كيانٌ عالمي، من دون تفاوتاتٍ داخلية. فالعالم الإسلامي أمةٌ موحَّدة، بتفاوتاتٍ محدودة، ومن ثَم فالشريعة لها أوجهٌ عامة ذات نطاق للتفاوت. وهو ما يعبِّر عنه النعيم فيقول: «ثمَّة حدودٌ للتنوع والخصوصية المحليَّين، وإلا فسيكون علينا التكلم عن دينٍ مختلف أو نظام قانوني مختلف» (النعيم ١٩٩٠: ١٤). بالتالي فإن مشروع إصلاح أو إعادة بناء الشريعة، من وجهة نظره، محصور في إعادة النظر في المصادر وإعادة تفسيرها في سياقٍ حديث. من الجلي أنه لا يُدرِك أن السياق الحديث للعالم الإسلامي يتحدد ويُعاد بناؤه في الوقت نفسه بسياقٍ عالمي حديث عام أكثر اتساعًا. وإن تحوُّل مناطق متعددة من العالم الإسلامي بلا رجعة تحولاتٍ اقتصاديةً واجتماعية وثقافية وسياسية، مع بقاء أجزاءٍ أخرى في منتصف ذلك التحوُّل، لا يبدو أنه مسألةٌ تتعارض مع مشروعه الإصلاحي. فالهدف الرئيسي لمشروعه هو أسلمة المفاهيم العلمانية للحريات المدنية وحقوق الإنسان والقانون الدولي، بإقرار حق المسلمين في تقرير المصير. بعبارةٍ أخرى، رغم أن النعيم يدحض الإجابات العلمانية التي يرفضها الإسلاميون السياسيون رفضًا باتًّا، فهو لا يزيد على أنه يكسو هذه الإجابات نفسها بلباسٍ إسلامي.

يجادل النعيم بأن الشريعة التي يقدمها الإسلاميون حافلة بالموضوعات المثيرة للجدل، مثل وضع الأقليات الدينية والنساء، وحرية الاعتقاد والتعبير وتكوين الجمعيات. ففي الواقع، هذه الشريعة تنكر أساس القانون الدولي الحديث:

«الطريقة الوحيدة للتوفيق بين هذه الضرورات المتعارضة لإدخال تغيير في القانون العام في الدول المسلمة هو إعداد صيغةٍ من القانون العام الإسلامي تتماشى مع المعايير الحديثة للدستورية، والعدالة الجنائية، والقانون الدولي، وحقوق الإنسان» (النعيم ١٩٩٠: ٩).

لأي درجة يختلف مشروع النعيم عن المحاولات المشار إليها سابقًا، أو عن محاولات أسلمة القانون أو الثقافة أو الفلسفة أو العلوم الإنسانية؟ بقَدْر ما يعتمد إطاره المرجعي على القانون المدني وحقوق الإنسان العلمانية، فإن مشروعه الإصلاحي يأتي استمرارًا لجهودٍ أخرى تزعم أنها تسعى لنزع الطابع السياسي عن الإسلام لكنها تنتهي لشكلٍ آخر من التسييس رغم ذلك. إذا كان الأمر كذلك فعلًا، فمن الصعب أن نتفق تمامًا مع جون فول في مقدمة كتاب نعيم، حين قال:

«إن مشروعه ليس محاولةً للدمج بين الفكر الغربي والفكر الإسلامي التقليدي (كما هو الحال في الغالب مع مواقف المحدَثين) ولا بمحاولةٍ أصولية للعودة للمبادئ الأصلية. إنه يحاول تغيير فهم أسس الشريعة التقليدية نفسها، لا إصلاحها» (النعيم ١٩٩٠: ١٠).

في الواقع هذا الكتاب تحديدًا، وكتاباته عامةً، هي محاولة للدمج بين الفكر الغربي والمعايير الإسلامية عن طريق أسلمة الأول وتفسير الثاني من جديد داخل دائرةٍ تأويلية مرتبكة ومربكة بدرجةٍ كبيرة. وإذا احتكمنا لتعريفه للإصلاح، فسنجد أن هذا المفهوم لا ينطبق على عمله. فإن «الإصلاح»، كما يزعم هو شخصيًّا، مفهومٌ غربي «يستحضر صورًا لأوروبا في فترة القرنَين السابع عشر والثامن عشر: صور مجتمع مدني حيث كان هناك تحدٍّ لسلطة الكنيسة، وحيث نشأ الفصل بين الكنيسة والدولة» (النعيم ١٩٩٤: ٧). إلا أن مفهوم الإصلاح المفضَّل لديه ليس هو بالإحياء عن طريق الرجوع لدولة أو مجتمع من المزعوم والمفترض أنه إسلاميٌّ خالص:

«إن فكرتَي التخلي عن الدين بالمعنى الغربي، أو الرجوع إلى ماضٍ مثالي مطمئن أكثر، كما هو حال الكثيرين المعروفين بتأييدهم للحركة الحالية للنهضة الإسلامية، لا تُناسب حاجاتنا. فإننا لا نريد العودة للماضي، ولا يمكننا ذلك. ولا نريد تكرار — أو الانخراط في — محاكاة من أي نوع لتجربةٍ أوروبية مسيحية. فإننا نحتاج بالأحرى لمنهج أصلي وأصيل خاص بنا، بل علينا أن نحصل عليه. وهو شيءٌ يُمكِننا الحصول عليه بالفعل، ما دمنا قادرين على مواجهة التحدي الفكري الذي يشكِّله له، بديننا بروحه وأفضل ما له من تقاليد» (النعيم ١٩٩٤: ٨).

تلك الدعوة للأصالة المتشبِّثة بالتراث، وإن كانت بدرجاتٍ متفاوتة من التفسير الحديث لمصادره ومعاييره، هي ما تجمع بين كل المناهج الإصلاحية، سواء التي يقدمها الأفراد أو المؤسسات. لنا هنا أن نذكر عددًا كبيرًا من المؤسسات والمنظمات المهتمة بحقوق الإنسان عمومًا، أو بحقوق المرأة والأطفال على وجه التحديد. مثالٌ عليها مؤسسات الدراسات الجنسانية، التي أُنشئت مؤخرًا في عدة دولٍ إسلامية. بعض هذه المؤسسات منظماتٌ غير حكومية تموِّلها مؤسساتٌ أوروبية لتقديم المعونة، والبعض الآخر أقامتها حكوماتٌ وطنية. وكلها تسعى لترسيخ هذه الحقوق داخل نطاق الثقافة الإسلامية. وأغلبها شعارها هو: «التغيير يأتي من أسفل لا من أعلى». ويقدِّم المشروع التابع للمعهد الدولي لدراسة الإسلام في العالم الحديث بعنوان «الحقوق على الصعيد المحلي» نموذجًا لمثل تلك الجهود.٣ بدأ المشروع عام ٢٠٠١ تحت إدارة النعيم، واشتغل كاتب هذه السطور فيه خبيرًا طوال عامَين ثم مستشارًا خارجيًّا. وعلى خلفية الضغط الأمريكي من أجل الإصلاح السياسي والاجتماعي والتعليمي في العالم العربي والإسلامي، واستعراض الإدارة الأمريكية لقوَّتها في أفغانستان والعراق، وكذلك تهديدها لكلٍّ من إيران وسوريا، أقامت عدة دولٍ إسلامية وزاراتٍ لحقوق الإنسان ترأستها نساء. لكن يتناقض هذا البرهان على الاستعداد للامتثال مع الرفض الفكري الخطابي للإصلاح الجبري حسبما يعبِّرون عن ذلك في المؤتمرات والندوات في أنحاء العالم العربي والإسلامي.

(٣) رفعت حسن وآخرون: التأويل النسوي

كما أوضحنا سابقًا، بدأ ظهور موضوع تحرير المرأة مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. فقد بدأ مع رجالٍ مثل الطهطاوي ومحمد عبده وقاسم أمين في مصر، الذين سعَوا لإتاحة التعليم العام للنساء وإيجاد مجال لمشاركتهم الاجتماعية. وأُقيم أول اتحادٍ نسائي في مصر عام ١٩٠٩. وكانت طلبات عضواته في المقام الأول هي المساواة مع الرجال في الحياة العامة والقضاء على عدم المساواة في نطاق الأسرة. وقدَّمن هذه المطالب للمجلس التشريعي، مُطالباتٍ بوضع قيود على حقوق الرجال في موضوعات على غرار تعدُّد الزوجات والزواج والطلاق بالاستناد للقرآن والسنة. وشاركَت النساء كذلك في هذا الجدل. وكان من بين المشاركات شخصياتٌ بارزة مثل ملك حفني ناصف من مصر ونظيرة زين الدين من سوريا، التي صدر لها كتاب عام ١٩٢٩ ضد تعدُّد الزوجات وارتداء الحجاب، استشهَدَت فيه بآياتٍ قرآنية وأحاديثَ نبوية. وقد شَهِدَت الحركة القومية المصرية لعام ١٩١٩ التحرُّر الثوري للنساء؛ حيث خلَعَت هدى شعراوي وأخرياتٌ الحجاب عند عودتهن من مؤتمرٍ دولي للنساء. هذه المطالب بالمساواة في الحقوق لم تُوقِظ المصادر والمشاعر الدينية فحسب، ولكن كذلك المشاعر الوطنية التي قاومَت الاحتلال البريطاني لمصر.

في ١٩٣٠، كان التونسي الطاهر الحداد (١٨٩٩–١٩٥٦)، حسبما أرى، أول من تحدى تاريخية الأحكام القرآنية، لا سيما في مجال حقوق النساء. فقد صاغ الرؤى بشأن التوافق بين التراث والقيم الحديثة الذي عبَّر عنه الروَّاد مثل الطهطاوي ومحمد عبده وقاسم أمين. يعتقد الحداد أن الأحكام القرآنية تُمثل خطوةً متقدمة عن الأعراف الاجتماعية قبل الإسلام نحو المزيد من المساواة بين الحقوق. إلا أن هذه المساواة في الحقوق ليست غايةً في حد ذاتها. وبدلًا من الاقتصار على تطبيق هذه الأحكام بغَض النظر عن أحوال البشر الدائمة التغيُّر، لا بد أن يتعلم المسلمون «الاستراتيجية القرآنية» (الحداد ١٩٩٢: ٣١). فهذه الاستراتيجية تشجِّع على التطور والتغير وفقًا للواقع المتغير، كما في مثال النسخ. ومن ثَم فإنه من الضروري أن نفرِّق بين ما يأتي به الإسلام ويقدِّمه من ناحية، والظروف البشرية العارضة في شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام من ناحيةٍ أخرى. فالقيم الجوهرية التي جاء بها الإسلام هي التوحيد والأخلاق السامية، وإقامة العدل والمساواة، وما إلى ذلك. على النقيض، الظروف الإنسانية في شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام، من استرقاق وتعدُّد زوجات، التي كان على الإسلام معالجتها، ليست إسلاميةً في الأساس. فإذا كنا سنطبق الاستراتيجية القرآنية، فسندرك أن التغيير يجوز عليها (الحداد ١٩٩٢: ١٢–١٣).

لن يكون من قبيل المبالغة أن نقول إن الطاهر الحداد كان أول من مهَّد الطريق لحركة التأويل القرآني النسوي التي نشأَت في تسعينيات القرن العشرين. في إدخالَين من «الموسوعة القرآنية»، المجلد ٢، دار نشر بريل، لايدن ٢٠٠٢ (النسوية، ١٩٩–٢٠٣، والجندر ٢٨٨–٢٩٢)، تشرح مارجوت بدران الفرق بين النسوية الإسلامية وحركات حقوق المرأة السابقة. فبينما ركَّزَت الثانية على الحقوق، تتخذ النسوية الإسلامية رؤيةً أشمل بعض الشيء بالتركيز على المساواة بين الجنسين والعدالة الاجتماعية باعتبارهما مبدأَين أساسيَّين ومتداخلَين راسخَين في القرآن، وبدحض السلطة الحصرية للرجال في تعريف الإسلام. فإنهم يرَون أنه مبدأٌ أساسي وجذري أن ثمَّة أفكارًا أساسية معيَّنة في القرآن لا يمكن أن تكون متعارضة مع أيٍّ من أجزائها. وذلك المبدأ ليس بجديد؛ فهو صدًى للتفرقة التي حدَّدها الطاهر الحداد المذكورة أعلاه، أو المفهوم القديم للمقاصد الذي وضعه الفقهاء. لكن الأهم من المبدأ الأساسي هو رؤية كيفية تكشُّفه في الإجراء التأويلي. تقول مارجوت بدران إن المقاربة النسوية تنطوي على ثلاثِ خطوات؛ الأولى مراجعة الآيات التي يَستشهِد بها الذكور لترسيخ عدم المساواة؛ ثانيًا، ذكر الآيات المعبِّرة عن المساواة بوضوح؛ وأخيرًا، تفكيك الآيات المهتمة بنواحي الاختلاف بين الذكور والإناث.

قصة القرآن عن آدمَ وحوَّاءَ هي الموضوع الرئيسي الذي ينبغي مراجعته. رفعت حسن الباكستانية المولد (المولودة عام ١٩٤٣)، التي درسَت في المملكة المتحدة ثم انتقلَت إلى الولايات المتحدة، والعالمة الأمريكية ذات الأصول الأفريقية آمنة ودود (المولودة عام ١٩٥٢) كلتاهما تؤكد أن القرآن، على عكس الإنجيل، لا يُحمِّل حواء أي مسئولية عن خطيئة آدم. فالقرآن يقول إن كليهما أكل من الثمرة المحرَّمة وهبط إلى الأرض (سورة طه: ١٢١). والآية الحاسمة المؤكدة هي الآية ١٣ من سورة الحجرات، حيث يُذكر أن التقوى هي المعيار للتمييز بين البشر.

أما من ناحية الآيات المعبِّرة بوضوح عن المساواة، فالتأويل النسوي يستشهِد بكل الآيات التي استشهَد بها الإصلاحيون منذ أوائل القرن العشرين، من دون إعطاء وجهة نظر إضافية. فهو يؤكِّد أن القرآن يخاطب البشر، وليس الرجال وحدهم، وأن هناك كذلك آياتٍ تُخاطب الرجال والنساء باعتبارهم متساويَين. وكما تشير رفعت حسن دومًا: «متساويَين عند الله؛ غير متساويَين في عين المجتمع». بيد أن ما ترتَّب على هذه المقاربة هو أن التأويل النسوي بالكاد يتطرق لقضية اللامساواة في حالة الميراث والشهادة في المحكمة، بما أنها غير قادرة على تجاوُز التأويل الذكوري القائمة (أبو زيد ٢٠٠٠أ؛ ١٩٩٨ب). بالنسبة للمحامية عزيزة الهبري على سبيل المثال، إن المساواة بين الرجال والنساء من العناصر التي تشكِّل جوهر عقيدة الإسلام، عقيدة التوحيد؛ فهي لا تفهمها بمعنى توحيد الإله فحسب وإنما بمعنى الوحدة والمساواة. وحتى تؤكد حُجتها تستحضر عقيدة الخلافة، التي وضعها مفسرون تقريبًا في القرن الرابع الهجري/الحادي عشر الميلادي ثم استغلها لاحقًا كل الإصلاحيين لتأكيد الوضع المحوري للرجل المسلم باعتباره نائبًا لله (أبو زيد ١٩٨٨: ١١١–١٣٣). وبذلك تحتج عزيزة الهبري بأن البشر جميعًا خلفاء لله، بغَض النظر عن نوع الجنس.

أما المنهج الثالث، وهو تفكيك الآيات التي تركِّز على الاختلافات بين الذكر والأنثى، فيُطبَّق على الآيات التي تشير إلى تعدُّد الزوجات، والطلاق، وقوامة الرجل، والنشوز. الطريقة التي تُحل بها هذه المسائل في التأويل النسوي ليست بالجديدة ولا بالأصيلة. فالتأويل النسوي شأن المقاربة الإصلاحية للقرآن، يواجه مشكلة أنه ما دمنا نعامل القرآن بصفته محضَ نص — له مؤلف (وهو الله جل جلاله) — فإننا مُضطَرُّون لأن نجد نقطةً مرجعية تُربط بها كل التفسيرات. وهذا يستتبع تلقائيًّا أن يصير القرآن تحت رحمة أيديولوجيا مفسِّره. فالشيوعي يرى أن القرآن يعبِّر عن الشيوعية، والأصولي يحسبه نصًّا أصوليًّا بدرجةٍ كبيرة، والنسوي يراه نصًّا نسويًّا، وهكذا.

(٤) طارق رمضان: الإسلام الأوروبي

كل أنماط الخطاب التي حلَّلناها أعلاه أنتجها في الغرب علماءُ مسلمون مهتمون بهذا المجال. والوحيد بينهم الذي تقدَّم بمفهوم الإسلام الأوروبي، أو المواطنة الإسلامية الأوروبية، هو طارق رمضان (المولود عام ١٩٦٢)، الكاتب والمحاضر الجامعي المقيم في جنيف. جد رمضان هو حسن البنا، الذي أسس الإخوان المسلمين في مصر عام ١٩٢٨. وأبوه، زوج ابنة البنا وأقرب معاونيه، كان قد اضطُر إلى الفرار من مصر بعد حظرِ جماعة الإخوان وسجنِ أو إعدامِ كل أعضائها. يُعرِّف رمضان نفسه بأنه أوروبي لا ينكر أصوله المسلمة لكنه يريد خلق هُويةٍ تجمع بين الهوية الإسلامية والهوية الأوروبية. فهو يشعُر أن الوقت قد حان مع وجود نحو ١٥ مليون مسلم في أوروبا لنبذ المفارقة الكائنة في الفكر الإسلامي التي تعُد الإسلام نقيضًا للغرب. وهذا ممكن إذا فصلنا المبادئ الإسلامية عن ثقافتها الأصلية وزرعناها في الواقع الثقافي لأوروبا الغربية. يقول رمضان: «أنا أوروبي ترعرعتُ هنا. ولا أُنكر أصولي المسلمة، لكنني لا أذم أوروبا كذلك. فبإمكان هُويتي أن تمتزج بأي شيء لا يُناقِض ديني» (رمضان نقلًا عن لو كين، د.ت.). ليس الإسلام وحده ما يستحق إعادة تعريفٍ في السياق الأوروبي؛ فأوروبا هي الأخرى بحاجة لإعادة تعريف. يقول: «إذا كان وجود المسلمين يؤدي بالأوروبيين للتساؤل عنهم وعما يؤمنون به، فهذا يجب أن يكون أمرًا إيجابيًّا.» ولأنه مسلمٌ أوروبي، فإن رمضان يُباعِد بينه وبين الثقافة العربية وموطن الإسلام: «لا بد أن نتخلص من فكرة أن علماء العالم الإسلامي يستطيعون التفكير نيابةً عنا. لا بد أن نبدأ في التفكير لأنفسنا» (رمضان نقلًا عن لو كين د.ت.).

هل حقًّا أن رمضان هو «مارتن لوثر المسلم»، كما يُحِب أن يدعوه البعض؟ إن دعوته لإعادة قراءة النصوص الإسلامية لتعدُّد الاعتقادات المغلوطة داخل المجتمعات الإسلامية، تُشابِه إلى حدٍّ ما دعوة لوثر للرجوع لما يُفترض أنه «النص الصافي»، المتحرِّر من المفاهيم الخاطئة المتراكمة الكثيرة. بيد أنه في حين حرَّرَت إعادةُ قراءة لوثر النصوص المسيحية من احتكار الكنيسة وفتحَت المجال لترجمتها لكل اللغات الأوروبية، فإن إعادة القراءة التي يقدِّمها رمضان لا تتجاوز المعايير الراسخة على ما يبدو. فليس هناك جديد في التفرقة التي يطرحها بين السمات العالمية والأبدية للإسلام من جهة، والسمات المؤقتة والمحدَّدة من جهةٍ أخرى. والمثال المستخدم للتدليل على هذه التفرقة — أي الفرق بين العبادات والمعاملات — إنما هو مثالٌ كلاسيكي، وموجود منذ البداية.

إن الوعظ ضد مفهوم «الغيرية» أو «نحن ضد الآخرين» مهمٌّ وقيِّم، لكن لا بد من إثبات تجذُّره في المصادر الدينية؛ أي في القرآن والسنة. إلا أن رمضان غير قادر على فعل ذلك؛ لأن ثمَّة دعمًا في القرآن لمفهوم التمييز ببناء حواجز بين المسلمين وغير المسلمين. ورغم أن أركون قد عالج هذه المسألة في تحليله المستفيض لسورة التوبة، فلا يبدو أن رمضان ملمٌّ بهذا البحث المستفيض لزميله الأوروبي (أركون ٢٠٠٢: ٩٩–١١٣). أكثر ما يهمُّ رمضان هو استفاضة الفقهاء في مفهومَي «دار الإسلام» (أي، المناطق الخاضعة لحكم المسلمين) و«دار الحرب» (أي، المناطق الخاضعة لحكم غير المسلمين). ومن دون تفكيك الأساس النصي للتفرقة، لن يحصُل إصلاحٌ حقيقي على الأرجح. إن تبنِّي تعريف المذهب الحنفي لدار الإسلام بدلًا من تعريف المذاهب الأخرى، سيجعل من رمضان مجتهدًا بالمعنى الكلاسيكي للكلمة؛ أي شخصًا يفضِّل موقفًا شرعيًّا على غيره من المواقف المحتملة؛ وهذا لا يجعله مفكرًا حرًّا حتى. وهو يقترح في هذا السياق أن نستبدل بثنائية دار الإسلام ودار الحرب مفهومًا جديدًا ألا وهو «دار الشهادة». ورغم أن هذا المفهوم سيجمع معًا جميع المؤمنين — المسلمين وغير المسلمين على حد سواء، وفي ذلك المسيحيون واليهود — الذين يتشاركون في قيم معيَّنة، فإنه لا «يحلُّ» مشكلة غير المؤمنين.

رجوعًا للمسلم الأوروبي، أيُّ الهُويتَين تأتي أولًا، هُوية المواطن أم الهُوية الدينية؟ بعبارةٍ أخرى، هل نحن بصدد مسلم سويسري أم سويسري مسلم؟ وهنا يفرِّق رمضان بين «الجنسية» و«الفلسفة». فإن جنسيته سويسرية؛ فهو مواطن سويسري، لكن فلسفته؛ أي رؤيته، قد تكون إسلامية:

«حين أتحدث عن المواطنة فإنني سويسري ذو خلفيةٍ مسلمة. لكن حين أتحدث عن الفلسفة، نظرتي للحياة، فإنني مسلمٌ ذو جنسيةٍ سويسرية. لدينا في فرنسا مشكلة أي الكلمتين يأتي أولًا: مسلم فرنسي أم فرنسي مسلم؟ وإننا نصطنع مشكلةً كبيرة من هذه الصيغة أو العبارة. إنها معضلةٌ مُصطنَعة: حين نتحدث عن الفلسفة، وتسألني أيُّهما يأتي أولًا، فسأقول إنني مسلم. وإذا سألتَني عن العمل المدني والسياسي، فإنني سويسري. المسألة بهذه البساطة» (دونلي، د.ت.).

من الواضح تمامًا أن طارق رمضان وغيره من المفكرين الذين تناولناهم أعلاه، باستثناء أركون، ما زالوا عالقين في مسألة الهُوية غير المحسومة. وهذا ما يوجِّه حركة الإصلاح الإسلامية في واحد من اتجاهَين فقط، اتجاه الجدل أو اتجاه الدفاع.

(٥) نصر أبو زيد: نظرة جديدة للشريعة والديمقراطية وحقوق الإنسان ووضع المرأة

دعوني أبدأ بعرضٍ موجز لوجهة نظري العلمية فيما يخُص مكانة النص التأسيسي ووضعه، وأقصد هنا القرآن. من دراستي لتاريخ التفسير الكلاسيكي ومنهجيته، صرتُ مدركًا بأنه لا يُوجد لا تفسير موضوعي ولا بريء. فقد ظل علماء الكلام زمنًا طويلًا يرسِّخون مبدأً تأويليًّا استنبطوه من آيةٍ معيَّنة في القرآن (آل عمران، ٧) قسَّمَت القرآن إلى آياتٍ «متشابهات» — أي مبهمة أو غير محسومة — من جهة، وآيات «مُحكمات»؛ أي واضحة أو محسومة من جهةٍ أخرى. ومن ثَم فقد اتفقوا بالمنطق على أن الآيات المحكَمة لا بد أن تكون المعيار لتفسير، أو بالأحرى إزالة اللبس عن، الآيات المتشابهات. لقد اتفقوا من الناحية التأويلية، لكنهم اختلفوا عند تطبيق هذا المبدأ. فقد قرَّرَت كل جماعة حسب موقفها الكلامي ما هو المتشابه وما هو المحكم. وفي النهاية، ما اعتبرَتْه جماعةٌ معينة متشابهًا اعتبرَه المخالفون لها مُحكمًا والعكس صحيح. وهكذا بات القرآن ساحة معارك يحدِّد فيها الخصوم مواقفهم السياسية والاجتماعية واللاهوتية.

الفقهاء، الذين كان همهم الأول المسائل الفقهية وكانوا بحاجةٍ لمنهجيةٍ للتحقيق حسبما يقتضي تشريع الأحكام، حيَّرهم التنوُّع والتناقض اللذان شابا الأحكام الفقهية القرآنية من حينٍ لآخر فيما يتعلق بمسائل النساء والزواج، والطلاق وحضانة الأطفال، والطعام، وما إلى ذلك. ولوضع القواعد الفقهية، جاءوا بمنهج «النسخ» المُستنبَط هو الآخر من آياتٍ قرآنية معيَّنة (سورة النحل: ١٠١؛ وسورة البقرة: ١٠٦)، حيث اعتبروا بموجبه الآية التي جاءت في وقتٍ لاحق قاعدةً نهائية، مع اعتبار التي جاءت قبلها منسوخة. مرةً أخرى، لم يتوصل الفقهاء لإجماع بشأن ما نُسِخ، فقط لأن الترتيب الزمني الفعلي للقرآن دائمًا كان متنازعًا ومختلفًا عليه، ولا يزال كذلك.

قامت إبستمولوجيا وضع الأحكام على أساس الاستنباط والاستقراء من النصوص التأسيسية بعد اعتماد السنة النبوية، باعتبارها وحيًا يكافئ القرآن في مرجعيته الشرعية. وقد أُلحق بهما مصدرٌ ثالث وهو الإجماع، خصوصًا إجماع الجيل الأول. وقد رفضَه بعض الفقهاء لكن الغالبية قبلَتْه. وكان المصدر الرابع هو الاجتهاد في شكل القياس؛ وهو ما لم يَشِع الأخذ به. كاد الاجتهاد أن ينحصر في تطبيق آلية القياس، وهي الوصول إلى حل لمشكلةٍ معيَّنة فقط بمقارنتها بمشكلةٍ مشابهة حلَّها من قبلُ أيٌّ من المصادر الثلاثة الأخرى، القرآن والسنة والإجماع. أدبياتُ الشريعة بأكملها، كما جاءت في المذاهب السُّنية الأربعة الرئيسية على الأقل، قائمةٌ على المبادئ المذكورة أعلاه. وهذا يعني أن الشريعة من إنتاج البشر وليس فيها ما هو إلهي. ولا يمكن لأحد أن يدعي صلاحيتها بعيدًا عن الزمن والمكان.

رجوعًا لمكانة القرآن ووضعه في هذا النسق الموجَّه للشريعة، لنا أن نذكُر أن الآيات القرآنية التي يبدو أنها تحمل مضمونًا تشريعيًّا، والتي تُعد أساس الشريعة، تصل إلى نحو ٥٠٠ آية وفقًا للمصادر التراثية. وبناءً على هذه الآيات، التي تشكِّل في مجملها سُدس القرآن بأكمله، أو ١٦ في المائة منه، بنى الفقهاء نظامهم الإبستمولوجي في الاستقراء والاستنباط. ماذا عن نسبة اﻟ ٨٤ في المائة المتبقية من القرآن، إذا كان التركيز على ١٦ في المائة والاهتمام بها فقط؟ في الواقع، لم يُغفَل شيء أو يُهجر؛ وإنما لعبَت النسبة المتبقية من القرآن دورًا مساعدًا في دعم النظام القانوني للشريعة. وفي العموم، كان على الفقهاء وضع أهدافٍ مركزية للقرآن عُرفَت باسم «المقاصد الكلية للشريعة». وقد انقسمَت إلى خمسة مقاصدَ رئيسية وهي:
  • (١)

    الحفاظ على النفس.

  • (٢)

    الحفاظ على النسل.

  • (٣)

    الحفاظ على المال.

  • (٤)

    الحفاظ على العقل.

  • (٥)

    الحفاظ على الدين.

لا تُوجد صعوبة في توضيح أن هذه المقاصد الخمسة مستقاةٌ بدرجةٍ كبيرة من العقوبات في الإسلام. فالمقصد الأول مستنبط من العقوبة الخاصة بالقتل بغير وجه حق. فالقرآن يقول إن القصاص فيه حفاظٌ على الحياة (سورة البقرة: ١٧٨–١٧٩). والمقصد الثاني مأخوذ خصوصًا من العقاب على ارتكاب الزنا أو الفجور، سواء كان بالثمانين جلدةً المذكورة في القرآن، والتي يظهر لاحقًا أنها عقوبة غير المتزوجين فقط، أو الرجم للمتزوجين (وهو ما ليس له سند من القرآن). والمقصد الثالث مشتق من عقوبة قطع يد السارق. والمقصد الرابع متعلق بحظر شرب الخمر، وهو ما لم يحدِّد له القرآن عقوبة. فقد جاءت العقوبة لاحقًا، بعد وفاة النبي. أما الحفاظ على الدين فهو مقصد يبدو أنه استُنبط من عقوبة قتل المرتد. وقد وضعه الفقهاء لاحقًا؛ فإن القرآن نفسه لا يذكُر أي عقابٍ في الدنيا لأولئك الذين ارتدُّوا عن الإسلام، بعد أن آمنوا به. أما ما يذكُره القرآن فهو عقاب الآخرة: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ» (سورة آل عمران: ٩٠، وسورة النساء: ١٣٧). رغم ذلك، فقد أُضيفَت لاحقًا عقوبة القتل، لأسبابٍ سياسية في أغلبها؛ فقد كانت حماية السلطات السياسية مقترنةً بحماية الإسلام.

إذا تمعَّنا سياقيًّا في أغلبية الأحكام الشرعية القرآنية المسماة بالحدود (مثل عقوبة الزنا، أو السرقة، أو الحرابة، أو القتل)، فمن المنطقي أن نسأل: هل جاء الإسلام بهذه الأحكام في الأصل لتكون إسلاميةً بذلك؟ الإجابة هي «لا» قاطعة؛ فقد كانت كلها سابقة للإسلام عمومًا. جاءت بعض العقوبات من القانون الروماني وتبنَّاها التراث اليهودي، فيما انتمت عقوباتٌ أخرى لتراثٍ أقدم. أما في عصرنا الحديث حيث الاهتمام بحقوق الإنسان واحترام سلامة الجسد البشري، فلا يمكن اعتبار بتر أعضاء من الجسم أو الإعدام عقوباتٍ دينيةً أقرَّها الله. وثمَّة جوانبُ أخرى من الشريعة بحاجة هي الأخرى للمراجعة وإعادة النظر، مثل تلك الخاصة بحقوق الأقليات الدينية، وحقوق المرأة، وحقوق الإنسان في العموم. ستُبيِّن المعرفة بسياق الحكم القرآني وفحص بنيته اللغوية والأسلوبية — بصفته خطابًا — أن مهمة الفقهاء كانت أساسًا كشف معناه وإعادة معالجة هذا المعنى في سياقاتٍ اجتماعية متنوعة. القرآن ليس في حد ذاته كتابَ قانون؛ فكما رأينا هنا، الأحكام الشرعية مذكورة بأسلوبٍ خطابي، وهي تدُل على سياق من الاهتمام بالحاجات البشرية في زمنٍ معين. وهذا بدوره يتيح تكييف «المعنى» المقصود حسب كل نموذجٍ للمعنى. والقرآن بصفته خطابًا يتيح اختياراتٍ متعددة وحلولًا متنوعة، وكذلك مجالًا مفتوحًا للفهم.

وختامًا أقول إن الادعاء بأن أدبيات الشريعة ملزِمة لكل المجتمعات المسلمة، بغض النظر عن الزمان والمكان، إنما هو نسب لصفة الألوهية لإنتاجٍ فكري تاريخي بشري. وإذا كان الأمر كذلك، فليس هناك ما يُلزِم بإقامة دولةٍ دينية يُزعم أنها إسلامية. فهذا المطلب ليس سوى دعوةٍ أيديولوجية لإقامة سلطةٍ دينية سياسية لا مجال لمساءلتها؛ ومن شأنه إقامة نظام ديكتاتوري بغيض من جديد على حساب البعد الروحاني والأخلاقي للإسلام.

مسألة الشريعة ومناداة حركات الإسلام السياسي بالإسراع بتطبيقها بعثَتا الكثير من الجدالات والنزاعات في أنحاء العالم الإسلامي. وقد وصلَت هذه الجدالات لذروتها عقب إنشاء الجمهورية الإسلامية في إيران ومحاولة الكثير من حكومات الدول ذات الأغلبية المسلمة أن تُبارِي مطالبات الإسلاميين بتطبيق الشريعة بتعديل التشريعات القائمة. أما مسألة الديمقراطية، فقد اختصرها خطاب الإسلاميين المُوجه للشريعة في المفهوم الكلاسيكي للشورى. لقد نشأ الإسلام في بيئةٍ تقليدية، وهو ما انعكس في الكثير من سماته. واليوم، يعيش الناس في أوروبا، والشرق الأوسط، والكثير من المجتمعات الإسلامية الأخرى، في بيئاتٍ حديثة أو في سبيلها للتحديث وهي تختلف كثيرًا عن البيئة التي ظهر فيها القرآن. إن مجتمعاتها تتسم بتنوُّع الرؤى والهُويات والاهتمامات. والسبيل لمواكبة التعدُّدية في مجال السياسة هو إحدى المشكلات الرئيسية في العالم الحديث. تنُص بعض الآيات القرآنية على وجوب تشاور رئيس القوم مع قومه (سورة الشورى: ٣٨). ولهذا معنًى محدَّد جدًّا في البيئة التقليدية، وهو الأخذ بالشورى رأسيًّا، من أعلى لأسفل، لكن دون التوغُّل في الطبقات الدنيا. ومثل تلك الشورى ليست ديمقراطية البناء بالطبع؛ فهي تشكل جزءًا من نظام سلطوي أو أوتوقراطي. إذن، ما معنى الشورى في البيئة الحالية؛ أي في عالم تعدُّدي يواجه مشكلات المشاركة السياسية الجماعية والشورى الواسعة المجال؟ ما نوع الشورى الذي نتحدث عنه فعلًا؟ كيف يمكن رأب الفجوة بين المفاهيم القديمة والعالم الحديث بتعدُّديته وطابعه السياسي؟

ما أقصده هو أن الشورى كانت ممارسةً من قبل الإسلام والمجتمع الإسلامي. فقد كانت وسيلة للأخلاق الاجتماعية انطوت على التداول بين شيوخ القبائل فيما يخُص العمل في موقفٍ ما. علاوةً على ذلك، رغم أن القرآن يخبرنا أن الرسول كان يتشاور في شئونٍ معينة، فهذا الأسلوب لم يأتِ به الإسلام. إنه ظاهرةٌ تاريخية، وأنا أزعم أنها ممارسةٌ تاريخية. أما ما أراه عند وضع القرآن في سياقه في هذه الحالة فهو أنه في السياق السابق للإسلام كان من عادة رؤساء القبائل أن يلتقوا في مكان محدد يُسمَّى دار الندوة. فكان من الوارد أن يلتقوا في مناسباتٍ متعددة لمناقشة مشكلات النبي الجديد. يُوجد الآن مجلس شورى في السعودية. فقد أقيم منذ بضع سنوات، ويُعيَّن كل أعضائه بأمرٍ ملكي. إلا أن الشورى لا يمكن أن تتطور لشيءٍ ديمقراطي لأنها تقليدية. ومن ناحيةٍ أعم، لا بد أن تقوم النظرية السياسية على حقيقة أنه لا تُوجد نظريةٌ سياسية في الإسلام، كما جاء في القرآن؛ فلا تُوجد مبادئُ سياسية، ولا حتى للمجتمع التقليدي. والمذكور عن المجتمع التقليدي وصفي بالأحرى. فإنه لا يخبر المسلمين بما يجب عملُه، وبناءً على ذلك فإنه لا يُوجد نظامٌ سياسي في القرآن؛ ولا هو يذكُر أي شيء عن الدولة أو حُكمها. ومن ثَم فإن المجال مفتوح أمام المسلمين ليختاروا ما يريدونه؛ وبالتالي فليس الإسلام ما يقف ضد الديمقراطية أو التقدم أو الحداثة.

عند هذه النقطة، لا بد أن أتناول موضوع الركود الاجتماعي والسياسي في المجتمعات المسلمة. فالإسلام ليس هو غير القادر على تقبُّل الحداثة، وإنما المسلمون المعاصرون. العائق الحقيقي في سبيل التحديث هو الفكر المسلم، لا سيما الطريقة التي تعلَّم بها المسلمون التفكير منذ زمنٍ طويل. إنهم خائفون. ويعتقدون أن الحداثة ستُضعِف دينهم وهُويتهم، وذلك لأن الهُوية كانت مرتبطة بالدين حصرًا في الماضي. وهذا يأخذني للتاريخ الحديث للعالم الإسلامي وعلاقته بأوروبا. بعد إشارتي مرارًا ﻟ «الوضع في السياق» و«إعادة الوضع في السياق» باعتبارهما عمليتَين، أو بالأحرى إجراءَين، منهجيَّين، للتفرقة بين التاريخي والعام، والعَرَضي والأساسي في رسالة القرآن، وبالتالي في مضمون الإسلام أيضًا، فمن المناسب الآن أن أوضِّح للقارئ المدى الذي وصلتُ إليه في التأويل القرآني الخاص بي. لقد بدأتُ بتأييد فكرة أن القرآن نصٌّ لا بد أن يخضع لتحليلٍ نصي. وفي كتابي، «مفهوم النص» (الذي نُشر لأول مرة عام ١٩٩٠) قدَّمتُ البُعدَين التاريخي واللغوي للقرآن بإعادة قراءة العلوم الكلاسيكية للقرآن قراءةً نقدية، مستنتجًا أن القرآن كان إنتاجًا ثقافيًّا، بمعنى أن ثقافة ومفاهيم ما قبل الإسلام أُعيدَت صياغتها من خلال بناءٍ لغوي محدد. وركَّزتُ على أنه رغم أن القرآن صار منتِج الثقافة الجديدة، فعلى أي محاولة تأويلٍ حقيقية أن تضع في اعتبارها الثقافة السابقة للإسلام كسياقٍ رئيسي، فمن دون ذلك ستظل التفسيرات الأيديولوجية تطغى دائمًا.

وفي محاضرتي الافتتاحية عام ٢٠٠٠ عند تعييني أستاذًا لكرسي كليفرينخا للقانون والحرية والمسئولية في جامعة لايدن، والذي يشغله صاحبه مدة عام واحد، أضفتُ البُعد الإنساني للبُعدَين التاريخي والثقافي للقرآن. وبذلك أكون قد قدَّمتُ مفهوم القرآن باعتباره مجالًا للتواصل بين الإله والبشر. فتحت عنوان «القرآن: التواصل بين الله والإنسان»، حاولتُ الاستفاضة في قراءتي وتفسيري الجديدَين ﻟ «العلوم القرآنية»، لا سيما العلوم التي تتناول طبيعة القرآن وتاريخه وتكوينه. وقد استخدمتُ في هذه المهمة عددًا من المقاربات المنهجية، منها علم الدلالة وعلم العلامات، إلى جانب النقد التاريخي وعلم التأويل، وهي لا تُطبَّق عمومًا ولا تلقى التقدير في الدراسات القرآنية التقليدية في العالم الإسلامي. فركَّزتُ على البُعد «الرأسي» من الوحي؛ أي، عملية الاتصال بين الله والنبي محمد التي نتج عنها القرآن. هذا الاتصال الرأسي، الذي استغرق أكثر من ٢٠ سنة، أنتج خطاباتٍ متعددة (في شكل آيات وسورٍ قصيرة وطويلة). وكان لهذه الخطابات ترتيبٌ زمني في الأصل، لكنه اختفى في عملية التدوين حيث خرج النص المدوَّن في صورة المصحف (المصحف العثماني). فقد استُبدل به ما يُعرف الآن باسم «ترتيب التلاوة»، أو كما يُسمِّيه أركون: «النص الرسمي المغلَق». حسب وجهة النظر التقليدية، حُفظ القرآن على أكمل وجه في شكلٍ شفوي من البداية ودُوِّن في حياة الرسول أو بعد وفاته بفترةٍ قصيرة حين «جمَعه» ورتَّبه الصحابة لأول مرة. يُعتقد أن النص دُوِّن كاملًا بلا تشكيل في عهد الخليفة الثالث، عثمان (٦٤٤–٦٥٦)، ثم كان اعتماد النص بالتشكيل في صورته النهائية في أوائل القرن العاشر الميلادي. وحتى إذا كنا سنتبنَّى وجهة النظر التقليدية بلا تفنيد، فمن المهم أن ندرك بعدًا بشريًّا آخر موجودًا في عملية التدوين هذه، ألا وهو إعادة الترتيب في البداية، ثم وضع علامات التشكيل لاحقًا للنص الخالي من التشكيل (أبو زيد ٢٠٠٠ب).

لانهماكي الشديد في الجدال حول قضايا اليوم المُلحَّة بشأن تحديث الفكر الإسلامي و/أو أسلمة الحداثة، فقد بدأتُ أُدرِك أن كلًّا من الحداثيين وخصومهم يحاولون دعم موقفهم بالقرآن بالاحتجاج بأنه نص، سواء ضمنيًّا أو صراحةً، شأنهم في ذلك شأن علماء الكلام الكلاسيكيين بالضبط. وبصفته نصًّا، لا بد أن يكون خاليًا من التناقُض، بما أنه من عند الله. وأيًّا كان ما يريد المفسر إثباته، فإنه دائمًا ما كان يستخدم الخلفية التاريخية في التحقُّق أو التبرير؛ فالتاريخ قابل هو الآخر لقراءاتٍ متعددة، على كل حال. ومثل علماء الكلام والفقهاء الكلاسيكيين، يحاول أنصار علم التأويل الحديث التعبير عن مواقفهم بخلق نقطةٍ مرجعية يمكن الاحتجاج بأنها عامة؛ أي، الحقيقة المحسومة والأبدية. أما مُعادُو الحداثة فإنهم سيغيِّرون النقطة المرجعية لادعاء العكس فحسب.

كما قلتُ سابقًا في تعليقي النقدي على التأويل النسوي، ما دمنا نعامل القرآن كنص فقط (وهو ما ينطوي على مبدأ المؤلف؛ مؤلف سماوي، وهو الله)، فالطريقة الوحيدة هي العثور على نقطةٍ مرجعية تُربط بها كل هذه التفسيرات. بيد أن هذا سيؤدي لجعل القرآن تحت رحمة أيديولوجيا المفسر؛ فالقرآن من وجهة نظر الشيوعي سيُوحي بالشيوعية، وسيرى الأصولي أن القرآن نصٌّ شديد الأصولية، وستقول مؤيدة حقوق المرأة إنه نصٌّ نسوي. لذلك فإنني في محاضرتي الافتتاحية حين شغلتُ كرسي ابن رشد للإسلام والإنسانية في جامعة الإنسانيات في أوتريخت (٢٧ مايو ٢٠٠٤) توسَّعتُ أكثر في فرضيتي عن الجانب البشري للقرآن، منتقلًا من البعد الرأسي إلى البعد «الأفقي». وأقصد بالبعد الأفقي شيئًا أكبر من التدوين، أو ما يرى بعضُ العلماء أنه نشر النبي لرسالة القرآن على مراحل بعد تلقيه إياه، أو ما يُسمِّيه أركون نشر الرسالة من خلال «النص المفسِّر». ما أقصده هو البعد المضمن في بناء الإسلام والذي كان جليًّا خلال عملية التواصل الفعلية. لن يكون إدراك هذا البعد الأفقي ممكنًا إلا إذا تحوَّلنا بإطار مفاهيمنا من اعتبار القرآن «نصًّا» إلى اعتباره «خطابًا» (أبو زيد ٢٠٠٤أ).

دائمًا اعتبر العلماء المسلمون القرآن نصًّا منذ لحظة تدوينه وحتى الوقت الراهن. بيد أننا إذا انتبهنا للقرآن باعتباره خطابًا أو خطابات، فلن يعود من الكافي أن نُعيد وضع جزء أو أكثر منه في سياقه لمقاومة الحرفية والأصولية، أو مقاومة ممارسةٍ تاريخية معيَّنة لا تبدو ملائمة في سياقنا الحديث. بالمثل، لن يكفي الاستعانة بعلم التأويل الحديث لتبرير تاريخية ومن ثَم نسبية كل نسَق للفهم، مع الادعاء بأن تفسيرنا الحديث أنسبُ وأصلحُ في نفس الوقت. فهذه المقاربات القاصرة تسفر عن تأويلاتٍ جدلية أو دفاعية. ومن دون إعادة النظر في القرآن ومن دون إعادة التفكير فيه بوضعه الحي ﮐ «خطاب»، سواء في المجال الأكاديمي أو في الحياة اليومية، لن يمكن الوصول لتأويلٍ ديمقراطي ومنفتح.

لكن لماذا يجب أن يكون التأويل ديمقراطيًّا ومنفتحًا؟ لأنه يتعلق بمعنى الحياة. إذا كنا نريد بحقٍّ تحريرَ الفكر الديني من سلطة الاحتكار، سواء سياسية أو اجتماعية أو دينية، ونريد تمكين جموع المؤمنين من صياغة «معنًى»، فعلينا بناء تأويلٍ ديمقراطي ومنفتح. التنوُّع التجريبي للمعنى الديني هو جزء من التنوع البشري بشأن معنى الحياة في العموم، وهو ما يُفترَض أنه قيمةٌ إيجابية في سياق الحياة الحديثة. ولإعادة الربط بين مسألة معنى القرآن ومسألة معنى الحياة، من الضروري أن نشير إلى أن القرآن كان نتاج حوار وجدال ومحاجاة وقبول ورفض، مع أعراف وعادات وثقافةٍ سابقة على الإسلام، وكذلك ما يخُصه من تقديرات وافتراضات وقناعات.

هوامش

(١) يقر أركون صراحةً بأنه بصكه مصطلحات مثل «الإسلاميات التطبيقية» كان يحذو حَذْو مجموعة من اختصاصيي الأنثروبولوجيا الذين بدءوا ممارسة الأنثروبولوجيا التطبيقية.
(٢) كان النقد اللاذع الذي وجَّهه طه للفرع السوداني للإخوان المسلمين لتحالفهم مع النظام السياسي وراء اتخاذه اسم «الجمهوريين» لجماعته. هذا هو السياق الأيديولوجي السياسي لنشأة الجماعة، التي بالكاد تُعد حزبًا.
(٣) يقع المعهد الدولي لدراسة الإسلام في العالم الحديث في لايدن. ويمكن العثور على تفاصيل المشروع وأهدافه ونظامه وأنشطته على الموقع التالي: www.isim.nl.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤