زيادة القُدرة الإنتاجية لدى العُميان

لم يقصُر سيكولوجيو المِهن والحِرف اهتمامَهم على الأصحَّاء من العُمَّال، بل شملت عِنايتُهم ذوي العاهات والعَجَزة وكلَّ مَنْ نقصت قُدرته على العمل والإنتاج بتأثير حادِثٍ أو إصابة مرَضية. وقد نشطَت البحوث والدراسات الخاصة بتأهيل العَجَزة وذوي العاهات في الولايات المُتَّحدة وإنجلترا وروسيا السوفيتيَّة وألمانيا والبلاد الإسكندينافية وفرنسا، وأثمرت هذه البحوث في المجال التطبيقي ممَّا أدَّى إلى تخفيف العبء الذي يُلقيه العَجَزة على الاقتصاد القومي، فضلًا عن المزايا المَعنوية التي يَجنيها العَجَزة من كرامةٍ واطمئنان، وخاصَّة شعورهم بأنهم قادِرون على كسب قُوتِهم بعمَلهم بدلًا من الالتِجاء إلى دُور البرِّ والإحسان.

وقد أخذت هذه الدِّراسة تنشَط في مصر، والتَّحقيقات العمليَّة في مَيدان تأهيل العَجَزة في سبيلها إلى التنفيذ على نِطاقٍ واسع. ويجِد القارئ في هذا الكتاب السَّنوي المَقالة القيِّمة في تأهيل العَجَزة وذوي العاهات للدكتور مُختار حمزة أخصائي التأهيل في مصر. وتكملةً لهذه المقالة أودُّ أن أشير هنا إلى تجربة ناجِحة في تأهيل العُميان في باريس في مصنعٍ للصابون ٧٠٪ من مُوظَّفيه وعُمَّاله من العُميان.١

تُواجِه المُؤسَّسات مَطالِب عُمَّالها الذين أُصيبوا في أثناء العمل إصابةً تجعلُهم عاجِزين عن مُواصَلة عملِهم بمنحِهم إعانة أو معاشًا. وكذلك تَسلُك السُّلُطات إزاء ذَوي العاهات المُستديمة ومُشوَّهي الحرب. غير أنَّ الإعانة — وإن كانت ضربًا من التَّعويض — لا يُمكِنها أن تُعَوِّض الوظيفة، كما أنها عاجِزة عن سدِّ الحاجة وإزالة الضَّرر؛ فمن الوِجهة الإنسانية والاقتصادية معًا لا يُمكِن اعتِبار الإعانة أو المَعاش غايةً في ذاتها، فهي لا تعدو أن تكون نَوعًا في الإحسان. ولا يَخفى ما ينطوي عليه هذا الموقف من إذلالٍ للعاجِز، فلا بُدَّ من العمل على أن يَسترجِع العاجِز وظيفتَه الاجتماعية بشكلٍ من الأشكال.

ولا يَخفى من جهةٍ أخرى ما سَيَجنيه الاقتصاد القومي من فوائد بتأهيل العَجَزة؛ فالظروف الراهِنة التي تَجتازُها بعض البلاد التي تُعاني في آنٍ واحد زيادةً في السكان وخفْضًا في مُستوى الإنتاج، تقتضي استِخدام اليد العامِلة وقُدرات الجميع إلى أقصى حد. ويجِب أن نذكُر في هذه المُناسبة أنه يَموت في العالم كلَّ سنةٍ أربعون مليون شخصٍ من تأثير الجُوع والحِرمان.

والدراسات التي يقوم بها سيكولوجيُّو المِهَن والحِرَف مُفيدة جدًّا في هذا المجال، فقد قاموا بجانب إجراء الاختبارات وتطبيق الأقْيِسَة السيكوفنِّيَّة بتحليل أنواع الشُّغل المُختلِفة ومَعرفة ما تتطلَّبه كلُّ شُغلةٍ من قُدرات حسِّية وحركيَّة وعقلية.٢ وفي ضَوء هذه الدِّراسات يُمكِن وضع الأسُس التي تقوم عليها عمليَّة التأهيل وتَمكين العاجِز من استِرداد وظيفتِه الاجتماعية، وتتلخَّص هذه الأسس في ثلاثة:
  • أولًا: تقوم عملية الاختيار والتَّوجيه على ما لدى كلِّ شخصٍ من قُدرات، فإذا أردْنا اختيار عاملٍ لشُغل الخِراطة فإنَّنا نعتمِد على ما يُمكِن تأدِيَتُه من الأعمال لا على ما لا يُتقِن من الأعمال، فيجب أن تكون النظرة إلى المُرشَّح نظرةً إيجابية لا سلبية، فلا تقول مثلًا: إنَّ الأعمى غير قادِر على الإبصار، والأصمَّ غير قادِر على السَّمع، بل تبحث عمَّا لدى الأعمى من قُدرات خِلاف القُدرة البصريَّة، وكذلك في حالات العاهات الأخرى.
  • ثانيًا: ويترتب على ما سبَق أنَّ العجز الجِسمي لا يَعني بالضرورة عجزًا مِهنيًّا؛ لأن العاهة محصورة في وظيفةٍ واحدة ولا تُصيب الوظائف الأخرى.
  • ثالثًا: لا يُوجَد إنسان يَتمتَّع بقُدراتٍ وظيفيةٍ مطلقة؛ فكلُّ إنسان يشكو عجزًا في ناحيةٍ من النواحي، وهذا العَجْز مُتفاوتٌ في دَرجة شدَّته ومَداه، وبالتالي في درجة تأثيره على تأدِيَة عملٍ من الأعمال، ثم يَجِب أن نُقِيم حِسابًا لعوامل التَّعويض والتكيُّف، فالوظائف الحِسِّية والحركيَّة تمتاز بقدْرٍ من المُرونة تَسمَح بتكيُّف العاجِز الجُزئي لمُقتضَيات عمَلِه دُون أن يتأثَّر هذا العمل تأثيرًا محسوسًا، فمِهنة الخِراطة مثلًا تقتضي من الوِجهة النظريَّة الإبصار بالعَينين لكي يتحقَّق إدراك البروز بوضوح، غير أنَّنا نُشاهِد عددًا من الخرَّاطين العُور يَقومون بعملِهم خيرَ قِيامٍ بفضل عمليَّات التعويض والتكيُّف التي تسمَح للعَين الواحدة بإدراك العُمق والبُروز. هذا فضلًا عن العوامل الضَّوئية التي تُساهِم في إدراك البروز.٣

ونظرًا إلى أن القُدرات الحسِّية والحركية تختلف باختلاف الأفراد، كما أنَّ القُدرات المَطلوبة تختلِف باختِلاف وظائف العمَل، فمن اليَسير أن نُلاحِظ أن عدد الوظائف التي يُمكن أن يشغَلَها العَجَزة وذوو العاهات أكبر من عدد أولئك الذين نُريد تَوظيفهم. فطريقة التَّوظيف الانتِقائي كفيلةٌ بِحلِّ المشكلة.

وحيث إنَّ توظيف العاجِز يقوم على قدرٍ أكبر من العِناية والفحص العِلمي، فقد لوحظ أنَّ إنتاجيَّتَه تفوق إنتاجيَّة الشَّخص السَّليم من حيث الجَودَة والمِقدار، ما دام يَشغَل وظيفةً تُلائمه؛ ولهذا يُمكن أن نقول: إن كلَّ عجزٍ يَنطوي على ميزةٍ ما. وفي المثال الآتي تَوضيح لذلك.

أعلنت شَركة وستنجهوس في الولايات المُتَّحدة عن حاجتِها إلى عُمَّال لِلَحْم المَعادِن، فتقدَّم صانع من المُحاربين القُدامى عن طريق مكتب تأهيل قُدامى المُحاربين الأمريكيِّين وكان مَبتور اليد، فرفضتْهُ الشَّركة في بادئ الأمر ثم قَبِلَت أن تَختبِرَه. ولَشدَّ ما كانت دَهشة رئيس العمَّال عندما لاحَظ أنَّ العامِل سريع جدًّا في عمله ويُضيِّع قدرًا أقلَّ من الوقت لكي تبرُد يَدُه … أي اليد الصناعية التي كان يُحرِّكها بِمهارةٍ فائقة، فمن المَعلوم أنَّ المَعدِن إذا كان يَسخُن بسرعةٍ أكثر من الجِسم البَشريِّ فإنه أيضًا يبرُد بسرعة.

ومن ميزة الصَّمَم والبَكَم أنه يَحُول دُون ضياع الوقت في الثَّرثرة، والعَمى يَحمي من عوامِل السَّهو والشُّرود البصريَّة وبتْر الأطراف السُّفلى من كثرة التحرُّك والتنقُّل.

وفي ضوء ما سبَق يُصبح من اليسير تشغيل المَبتور السَّاقَين أو المُصاب بِشَلل الأطراف السُّفلى في أعمالٍ لا تتطلَّب لأدائها سوى الجُزء الأعلى من الجِسم، والأصمِّ والأبكَمِ في أشغالٍ تَستلزِم الدِّقَّة والتركيز والصَّمت والمَهارة اليدوية، والأعمى في وظائف تقتضي دِقَّة الإحساس اللَّمسي والسَّمعي، والسرعة اليدويَّة والحرَكات الآليَّة، والترتيب والنِّظام واستِخدام الكلام والذَّاكرة مثل عامِل التليفون، والكتابة على آلة الاختِزال Sténotypie، وصُنع العُلَب والأغلِفة، وأعمال الضَّبط بالصَّوت … إلخ.

وليس ما يدعو إلى أن نذكُر أنَّ تحقيق برنامج التأهيل يقتضي اشتِراك طبيب العمل والسيكولوجي مع المُهندس ورئيس العمال ومُمثِّلين للكادِر الفنِّي بوجهٍ عام. وبهذا العمل التَّعاوُني يُمكن التوفيق بين مَطالِب العَجَزة من العمَّال ومُقتضَيات الإنتاج بِضمان أجرٍ كريمٍ للعامِل مع صيانة كرامَتِه دُون الإضرار بِسَير العمل والإنتاج.

والتجربة التي أُجْرِيَت في باريس في تأهيل جماعةٍ من العُميان من الجِنسين قامت بها جمعية دراسة إنتاجيَّة العُميان Société d’Etude de La Productivité des Aveugles.

وقد أسَّس هذه الجمعيَّة ثلاثة من المُبصِرين وثلاثةٌ من العُميان في عام ١٩٥٢م برأس مال قَدرُه مليون فرنك (ألف جنيه مصري تقريبًا)، وبدأت المؤسَّسة نشاطَها في مصنعٍ صغير للصَّابون، يعمَل فيه ٣٦ شخصًا مُوزَّعين كالآتي:

٩ من المُبصِرين في الكادِر الفنِّي والإداري.
٨ لصِناعة قِطَع الصَّابون، منهم ٦ من العُميان.
١٦ للفِّ القِطَع ووضعِها في العُلَب، منهم ١٥ من العُميان.
١ عامِل أعمى للتَّغليف.
١ عامل مُبصِر لتصدير البِضاعة.
١ عامل تليفون أعمى.

فيكون مجموع العُميان ٢٣ منهم ١٠ من النِّساء. وحيث إنَّ مجموع العُمَّال ٢٧ بعد استِبعاد مُوظَّفي الكادِر الفنِّي والإداري فتكون نِسبة العُمَّال العُميان ٧٠٪ تقريبًا وهي نِسبة كبيرة جدًّا.

ثم هناك حَوالي مائة يَطوفون على المَحلَّات لعرض العَيِّنة وأخذ الطلبات ٣٠٪ منهم من العُميان أو العَجَزة.

ومن بين الثلاثة وعشرين عاملًا ١٤ مُصابون بعمًى كُلِّي والباقِي لا يزيد بَصرُهم عن ١ / ٢٠. والأعمار تتراوَح بين ١٨ و٤٠ سنة وهي حوالي ٢٥ سنة للأغلبية.

ثلاثة منهم كانوا يَعملون في ضبط أوتار البِيان، واحد حاصِل على ليسانس الآداب، اثنان من العازِفين على الأرغن، واحد حاصِل على الجائزة الثانية من معهد الموسيقى، خمسة كانوا يعملون في صناعة الكراسي والفُرُش في منازِلهم، والبقيَّة لم تكن تُزاول أيَّ عمل.

وحيث إنَّ هذه الحِرَف أصبحت في حالة كبيرة من الكساد، كانت حالة هؤلاء العُميان من الوِجهة الماديَّة سيئةً للغاية.

وتتكوَّن سلسلة العمل في مصنع الصَّابون من العمليَّات الآتية، وقد وَضَعْنا خطًّا تحت العمليَّات التي يقوم بها العُميان:

إعداد المَزيج بالنِّسب المطلوبة – عمليَّة السحن – خروج العَجينة مُقطَّعةً من الماسورة – وضع القِطَع الخام على المِنشفَة – تَوصيلها إلى آلة الضغط – ضغط القِطع – إعادة استِخدام البقايا – عمليَّات النقل والتَّغليف – عمليات التعبئة (ثَنْي الكرتون، وضع القِطَع في العُلَب، إعداد الطُّرود للتَّسليم) ثم أعمال الرَّقابة وإصلاح الآلات ويقوم بها المُبصِرون.

وقد دُرِّبَ جميع العُميان على مُختلِف هذه الأعمال، وقد لوحِظ أن مدَّة التدريب لمِثل هذه الأشغال — وهي عادة ٨ أيام — لا تزيد بالنسبة إلى العُميان إلَّا في حدود يومٍ أو يومين. ويرجِع هذا الفرق إلى حاجة الأعمى إلى تعرُّف المكان وأوضاع الآلات وشكلها وأجزائها وطبيعة المواد وخصائصها. وتتمُّ عملية التعرُّف عن طريق اللَّمس.

ومما يجِب مُراعاته في مصنعٍ للعِميان عدم تغيير الأمكِنة وأوضاع الآلات والأشياء التي يقتضي العمل استخدامَها، فإن تَثبيت الأوضاع يُساعد على زيادة آلية الحركات، وبالتالي دِقَّتها وسُرعتها مما يزيد الإنتاج.

ومما هو جدير بالذِّكر أن نِسبة حوادِث العمل لا تزيد على النِّسبة العادية، بل هي أقلُّ منها؛ لأنَّ الأعمى أكثر حذرًا من المُبصر، كما أنه أقلُّ تعرُّضًا لعوامل السهو وشرود الذهن؛ إذ إن انتباهَهُ انتباهٌ لمْسِيٌّ في جوهره. وكان يُخشى أن ينزلِق الأعمى أثناء سيره داخل المَصنع نظرًا لوجود بقايا في الصَّابون على الأرضيَّة. غير أن هذا الخطَر لم يظهَر، وقُدرة الأعمى على الاحتِفاظ بتوازُنه لا تقلُّ عن قُدرة غيره من المُبصرين.

وعِميان هذا المصنع يستخدمون في ذَهابهم وإيابهم طُرق المُواصلات العادية كالأتوبوس والمترو دون أن يرافِقَهم أحد، وعندما يَستخدمون المترو — وهو قِطار يسير تحت الأرض — يَسترشدون بالدلائل الصوتيَّة لمَعرفة المَحطَّة التي يُريدون الوصول إليها، إذ إنَّ الصوت الذي يُحْدِثه القطار أثناء سيره يختلِف باختلاف الأحياء التي يَجتازُها.

ومن المعروف أن نِسبة الغياب لدى العُميان أقلُّ منها لدى المُبصرين، فهم أكثر استِقرارًا وثباتًا في عملِهم كما أنَّهم أشدُّ مُثابرةً في بذل المجهود الذي يتطلَّبه العمل. وممَّا يدفعُهم إلى المُواظبة أنَّ حياتهم خارج المَصنع لا تخلو من الملل؛ إذ إنَّ كثيرًا منهم ليس لهم أهل للاجتماع بهم في حين أن جوَّ المصنع يبعَث في نفوسِهم الفرَح والانشِراح.

وإنتاج الأعمى لا يقلُّ عن إنتاج المُبصر بل يفوقه أحيانًا، فالحدُّ الأدنى المطلوب من المُبصر هو حوالَي ألف قِطعة صابون في الساعة، فبعض عِميان هذا المصنع يصِل إنتاجُهم في الساعة إلى ١٨٠٠ قِطعة.

وقد وصَل إنتاج المصنع في بعض الشهور إلى أكثر من أربعين طنًّا في الشهر، وأجر العامل في هذا المَصنع حوالي ١٢ قرشًا في الساعة أي بزيادة ٨٪ على الأجر الذي تُعيِّنه النقابة. ويصِل الأجر الشهري إلى حوالي ١٦ جُنيهًا، هذا فضلًا عن مُساهَمة المصنع في ٣٠٪ من ثمن وَجبة الغذاء التي يتناولُها الأعمى في مَطعمٍ قريب من المَصنع.

ونجاح هذا المشروع من الوِجهة الاقتصاديَّة لا يقلُّ عن نجاحِه من الوِجهة الإنسانية، فعلى الرَّغم من صِغَر رأس المال وعجْز صاحِب المصنع عن القيام بحملة إعلاناتٍ ودِعاية كبيرة فإن نِسبة الأرباح لا تقلُّ عن نِسبتِها في المُؤسَّسات الصِّناعيَّة الأخرى المُماثلة. هذا فضلًا عن الرِّبح المعنوي الذي يَجنِيه مدير المُؤسَّسة في مُساهمَته الإنسانية في تخفيف عبء الحياة على العجَزَة والمحرومين مع صيانة كرامتهم، وإعادة الثِّقة والاطمئنان إلى نفوسهم.

١  P,-I. Soucasse et L.R Weill: La Savonnette a Servi de Test à La Productivité des Aveugles. In “Productivité”, No. 25, Janvier 1954. p. 34–37. II, Rue du Faubourg St. Honoré, Paris.
٢  راجع في هذا الكِتاب السنوي مَقالَنا: «دراسات حديثة في علم النفس الصناعي».
٣  تفصيل هذه العوامل موجود في كتابِنا «مبادئ علم النفس العام» الطبعة الثانية، ١٩٥٤م، ص١٦٨–١٧٠، دار المعارف، بمصر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤