مقدمة

مما ذاع بيننا نقلًا عن المصطلح الفرنجي تقييدُ استعمال الكلمة «إسلامي»، فكما أنَّ العلماء الأوروبيين لا يستخدمون في دراساتهم التاريخية الوصف «نصراني»، إلا على الأزمنة السابقة للعصور الحديثة والمعاصرة، أوْ لا يُطلقونه إلا على ما يتصل بالعقائد، فإنا أيضًا أخذنا عنهم تحديد طور «إسلامي» داخل أطوار نمو الأُمم الإسلامية، هذا الاستعمال الفرنجي له ما يبرره عندهم؛ هو نتيجة الفصل بين ما سَمَّوْهُ السياسة وما سموه الدين، أما عندنا، فما وجه تبريره؟ وما مقياس «الإسلامية»؟ أهو وقوعُ الشيء في عصر سابق للقرن الثالث عشر أو الرابع عشر الهجري مثلًا؟ أو أن المؤثِّر الفلاني في حياة المسلمين كان مصدره أوروبيًّا معاصرًا؟

إنا نعلم جميعًا أن الحضارة الإسلامية التاريخية كانت مزيجًا من عناصر متباينة، شرقية وغربية، فليس من سبب معقول لاستبعاد الوصف «إسلامي» عن الحياة الفكرية للمسلمين في دور تأثُّرها بفلسفة ديكارت أو سبنسر، بينما لا نجرِّدها من هذا الوصف في دور تأثُّرها بفلسفة أفلاطون أو أرسططاليس، مثل ذلك يُقال عن الحكومة الإسلامية، لا يمنعنا تأثرها بنظم الساسانيين أو الروم من أن نحتفظ لها بإسلاميتها، بينما ننزع عنها ذلك عندما يكون التأثير — كما هو حالنا الآن — مصدره الثورة الفرنسية أو البرلمانية الإنجليزية.

والواقع أننا لا نستطيع بحال أن نعتبر الحضارة الإسلامية أمرًا طواهُ الزمان كما طوى حضارة الفراعنة طيًّا تامًّا، أو أن التطور الإسلامي قد وقف عند حدٍّ معين، بل — على العكس — نعتبره مستمرًا متصل الأدوار، ويحق لنا — على هذا الأساس — أن نُحاول الترجمة لمحمد علي، على الرغم من أنه عاش في القرن الثالث عشر الهجري، وعلى الرغم من أنه وَلَّى وجهَه صَوْب الحضارة الأوروبية؛ علمًا من أعلام الإسلام.

وكانت دار الإسلام وقت مولد محمد علي؛ أي في القرن الثاني عشر الهجري (الثامن عشر الميلادي) قد اكتسبتْ مظاهرُها الخارجية وحياةُ أهليها الداخلية حدودًا ومعالم وصبغات يرجع أهمها لحوادث القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي)، ففي ذلك القرن الحافل في تاريخ دار الإسلام، وفي تاريخ أُوروبا حدث في العالم الإيراني من دار الإسلام الانفجار الهائل الذي سببتْه ثورة الشاه إسماعيل الصفوي الدينية، وكان من جرائه تفكك أوصال ذلك العالَم الإيراني، وانقطع عن أُممه ودوله في الهند والأناضول والبلقان وفيما وراء النهر الدمُ الذي غذى ثقافة إيرانية إسلامية حية زاهرة.

وإيران نفسها اتخذت لحياتها منذ أيام إسماعيل أساسًا مذهبيًّا ضيقًا، وكان من جراء ذلك الانفجار أيضًا طغيانُ الدولة العثمانية — وكانت حتى ذلك القرن جزءًا هامًّا من العالم الإيراني — على العالم العربي وضمتْه لحكمها قسرًا؛ ففسد أمر العثمانيين وفسد أمر العرب.

وفي القرن السادس عشر أيضًا كان انفجارٌ آخرُ أثر آثارًا قوية في دار الإسلام، وكان من جراء حركة الكشف الجغرافي وانتشار النفوذ الأوربي، ولم يبسط الأوربيون حكمهم حتى نهاية القرن الثامن عشر إلا على مسلمي الهند وجزائر المحيط الهندي، ولم يمسوا بعد إلا الإمارات والشياخات والسلطنات الإسلامية القريبة من الطرق التجارية البحرية الكبرى، ولكن وضعت في خلال تلك القرون — من السادس عشر إلى الثامن عشر — أُسس علاقات المستقبل بين دار الإسلام وأوروبا، وخرجت في أثناء تلك القرون دار الإسلام عن دور المساهمة والمشاركة في الحركات العالمية الثقافية والاقتصادية (دورها أيام عز الإسلام) إلى دور آخر: دور مناطق الاستغلال والاستعمار، دور الأمم التي تترقب من يوم لآخر نزول العدو.

ولم تستطع الدولة العثمانية ولا غيرُها من دول دار الإسلام في خلال تلك القرون من السادس عشر للثامن عشر منع نزول تلك الكوارث، كما أنها لم تستطع إذ ذاك أن تحول من أنظمتها؛ بحيث تستطيع المساهمة في التطورات العالمية الجديدة، والواقع أن فتوح العثمانيين على عظمتها — وعلى الرغم من أنهم وضعوا أيديهم على مفاتيح الطرق الكبرى — حدثت متأخرة عن أوانها، ففاتتهم فرصةُ تعطيل الانقلاب التجاري الكبير؛ نزلوا بساحل الجزائر من أقطار المغرب الإسلامي فيما بين ١٥١٢–١٥١٩، ولو بَكَّروا قليلًا لاستطاعوا أن يمدوا أيديهم لشد أزر ما بقى للمسلمين في الأندلس، ولَمنعوا بذلك انصراف فرديناند وإيزابلا إلى حركة الاستعمار الإسباني. وقصروا نفوذهم على الجزائر ولم يبسطوه على السواحل المراكشية، ولو فعلوا لاستطاعوا أن يعرقلوا تَقَدُّم البرتغاليين في اتجاه رأس الرجاء الصالح حول الساحل الإفريقي الغربي، كذلك كان فتحُهم لمصر في ١٥١٧، وللعراق في ١٥٣٤ متأخرًا عن وقته، ولو بَكَّروا فيه لَسبقوا البرتغاليين إلى المحيط الهندي.

مثل ذلك يُقال عن فشلهم في الوصول في الوقت المناسب لِما وراء النهر، وعن عدم انتفاعهم من ضعف إمارة موسكو لتثبيت أقدامهم في المناطق شمالي البحر الأسود، ولم تحاول الدولة العثمانية — فيما نعلم — أن تنتفع من امتلاكها أقصر الطرق بين الشرق وأوروبا للمشاركة في الحركة التجارية الكبيرة، ولكنها على العكس كانت تعمل على أن يكفي العالم العثماني نفسه بنفسه، وأن يقل الاتصال بينه وبين بقية الدنيا بقدر الإمكان.

وإذا بحثنا عن سر رضا العثمانيين عن أنفسهم واطمئنانهم إلى ما هم عليه نجده في نجاحهم الباهر في إنشاء أداة قوية للحكم والحرب، بهذه الأداة استطاعوا أن ينشئوا ملكا عريضًا وأن يحافظوا عليه قرونًا عديدة وأن يقودوا — كما يقود الراعي قطيعه — أُممًا وأقوامًا وقبائل من سلالات بشرية مختلفة وعلى أديان ومذاهب متعادية، وعلى درجات متفاوتة من الثقافة نحو الطاعة والانقياد.

حقيقة أنه مما سهل على السلطان العثماني وأعوانه قيادة رعاياه أن هؤلاء الرعايا كانوا عند دخولهم في طاعة السلطان على نوع من الإعياء؛ نتيجة للاضطراب الذي ساد أقطار الشرقين الأدني والمتوسط، على أثر انهيار الدولة العباسية ودولة الروم الشرقية، ولكنَّ براعة القيادة العثمانية كانت أيضًا حقيقة ينبغي التسليم بها، والظاهرُ أن مشقات الحرب والحكم استنفدت من السلاطين كُلَّ جهدهم، وأنهم خشوا عواقب التغيير والتعديل، فأوصدوا الأبواب دون كل فكرة سياسية اجتماعية جديدة ولم يتيحوا لرعاياهم العديدين المختلفين فرصة تنظيم علاقاتهم المختلفة فيما بينهم وفيما بينهم وبين دولتهم على غير ما عرفوا من المبادئ، فضاعت عليهم بذلك الإفادة مما كان لهذا الملك من موقع جغرافي فريد في نوعه، ومن ميزات اشتماله على أمم لها ما لها من نصيب وافر في تقدُّم الإنسانية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤