الفصل الرابع

جاشت في صدر محمد علي هذه المعاني ومثيلاتُها من أول الأمر، وجال بصرُهُ في الميدان حوله فوجده ممتلئًا بأنقاض الماضي، فكان لا بد له من شَقِّ طريقه بينها وحولها قبل أن يستطيع أن يزيح الأنقاض ويُمهِّد الأرض للبناء.

وقد ورث محمد علي فيما ورث عن الماضي القريب والبعيد أن تكون مصر مما يهم بعض الدول امتلاكه ومما يهم البعض منع ذلك الامتلاك وقد خفي ذلك الوضع المؤلم الجارحُ للكرامة في السنوات الواقعة بين جلاء الفرنسيين عن مصر وولاية محمد علي أمرها (أي بين ١٨٠١ و١٨٠٥)؛ ففي تلك السنوات كانت وقائعُ الكفاح بين فرنسا — وقد قبض الجنرال بونابرت على أزمة حكمها — وحلف أوروبي قوي يرمي إلى نقض ما أبرمه بونابرت في داخل فرنسا وخارجها، وانصرف جهد بونابرت كله إلى إفساد خطة أعدائه وتوطيد نظامه الجديد.

وقد نجح في ذلك نجاحًا كبيرًا؛ فتوج عمله الداخلي بإعلان الإمبراطورية، وهزم النمسا والروسيا هزائم مضعضعة، وربط فتوح فرنسا بشخصه عن طريق أقاربه، ولكن النجاح لم يكن تامًّا والتسوية لم تكن نهائية؛ فإنجلترة لم يتغلب عليها بعد (وما بقيت إنجلترة قائمة فلا سيادة لأحد على أوروبا)، وضرباته الحربية لأعدائه في القارة كانتْ مضعضعة ولكنها لم تكن قاتلة، ولم يظهر بعدُ أن أواصر الرحم بين الحاكمين أقوى على ربط الفتوح بفرنسا من اتفاق المصالح والعواطف بين المحكومين، وكان من شأن انهماك كلٍّ مِنْ فرنسا وأعدائها — فيما وصفنا — أن انعدم التأثيرُ الأوروبي انعدامًا يكاد يكون تامًّا في الحوادث التي جَرَتْ في مصر فيما بين ١٨٠١–١٨٠٥ والتي انتهت — كما رأينا — ببلوغ محمد علي ولاية الأمر.

ولا صحة لِما اختلقوه من بحث القنصل الفرنسي عن رجل جدير بعطف الحكومة الفرنسية واهتدائه إلى محمد علي وكتابته لحكومته بهذا «الترشيح» وتأييد فرنسا لذلك لدى الباب العالي، لم يحدث شيءٌ من هذا قطعًا، ولم يتجاوزْ هَمُّ القنصلِ الفرنسي حماية نفسه ومواطنيه في الاضطراب السائد في القاهرة، وقد ضعُف النفوذُ الفرنسيُّ في القسطنطينية في تلك السنوات لدرجة أن حكومة الباب العالي رفضت الاعتراف بنابليون إمبراطورًا على الفرنسيين، وكان ذلك تحت إملاء الروسيا، وانسحب السفير الفرنسي وانقطعت العلاقات بين الدولتين زمنًا، ولكن انتصار نابليون في أوسترلتز قرب نهاية سنة ١٨٠٥، وتمزيقه التأليب الأوروبي بإخراج النمسا من الحرب؛ غَيَّرَ الموقف للدولة العثمانية ولمصر تغييرًا كبيرًا وواجه محمد علي بعد ١٨٠٥ نتائج ذلك التغيير.

فقد اتخذ نابليون ابتداءً من سنة ١٨٠٦ من الميدان العثماني الفسيح عنصرًا هامًّا في خططه السياسية والحربية وعمل على ما سماه: «إحياء ما لأراضي السلطان من أهمية حربية وسياسية»، وسعى إلى بث روح التحمس في السلطان وحكومته ضد الروسيا، وأن يُقنع السلطان بربط مصيره بالإمبراطورية الفرنسية لإحياء مجد الدولة، وقد قبلت الدولة أن «تتحمس» ولكن بقدر وحساب؛ بالقدر الذي يدفع عنها الضغط الروسي دون أن يربطها بالتنظيم النابليوني الأوروبي ربطًا محكمًا أو نهائيًا.

ورأت الحكومة البريطانية — بإزاء ذلك — أن تضغط هي أيضًا على الدولة العثمانية لتعاونها على التخلُّص من النفوذ الفرنسي والبقاء داخل نطاق النفوذ الروسي، واختارت إنجلترة القيام «بمظاهرة بحرية» أمام العاصمة يتلوها احتلالٌ عسكريٌّ لثغر الإسكندرية إن أخفقت المظاهرة في حمل الدولة العثمانية على إبعاد السفير الفرنسي وقَطْع علاقاتها بفرنسا، وكانت حجة الإنجليز أن رفض قطع العلاقات معناه الخضوع العثماني لفرنسا، وتكون إنجلترة إذن في حِلٍّ من أن تستولي على ما يهمها من أرض السلطان حذر وقوع الكل في أيدي الفرنسيين.

وأخفقت المظاهرة، واحتلت قوة إنجليزية ثغر الإسكندرية، سلمها للإنجليز دون قتال حاكمُها العثماني المستقل بها عن محمد علي، وعلى الرغم من أن تعليمات الحكومة الإنجليزية لقائدها في الإسكندرية كانت تقضي بألا يحاول التوغل فيما وراءها، وبألا يتدخل فيما كان يجري بين الأحزاب المختلفة في مصر، فإن القنصل الإنجليزي — وكان يود أن يكون احتلال الإسكندرية ممهدًا لاستقرار إنجلترة نهائيًّا في المناطق الساحلية المصرية — أقنع القائد بأن تموين الإسكندرية بما يلزم أهلَها من الماء والغذاء يستلزم احتلال رشيد وإنشاء مواصلات محمية بين الثغرين؛ فحاول القائد ذلك مرتين ومُنِيَ بهزيمتين قبيحتين على يد ألبانيِّي رشيد وأهلها، ثم على يد القوات التي أرسلها محمد علي من القاهرة.

واستقر القائد في الإسكندرية إلى أن أمرتْه حكومته بالانسحاب منها بعد أن زالتْ البواعث التي دعت إلى احتلالها بتغير الموقف في أوروبا تغيرًا تامًّا؛ فخرجت الروسيا من الحرب ضد فرنسا، ولم تكتف بذلك بل قامت بين نابليون والإسكندر معاهدةُ تحالُف؛ هي معاهدة تلست المشهورة، ولم تعد هناك أسبابٌ تحمل الإنجليز على الضغط على الدولة العثمانية إرضاء للروسيا، فسعتْ إنجلترة لتسوية علاقاتها بالدولة العثمانية؛ وقررت أن تعمل على المحافظة على كيانها.

أما إذا تحقق ما ذاع من أن الإمبراطور والقيصر قد اتفقا على تقسيم الدولة العثمانية؛ فإن إنجلترة في تلك الحالة تؤيد الحكومة الشرعية العثمانية في أي مكان تقوم فيه إذا اضطرت لمغادرة العاصمة، وتنشئ من جهة أُخرى علاقات تأييد ومعاوَنة مع الولاة العثمانيين في ألبانيا وفي مصر مثلًا لدفع الفرنسيين أو الروسيين عن ولاياتهم، وقد سارت الحكومة الإنجليزية إلى حد ما على هذه الخطة في السنوات التالية لعقد معاهدة تلست فزاد اتصالها المباشر بمحمد علي وخصوصًا في أمر العلاقات التجارية، وفي أمر تطبيق قوانين الحرب البحرية وما إلى ذلك، ولكنها حذرت أن تزيد على ذلك وذلك؛ لأن الشرط الأساسي لاتخاذ سياسة الاعتراف بكيان خاص للوحدات العثمانية لم يتحقق؛ فإن معاهدة تلست لم يتبعها تقسيم الدولة العثمانية بل — على العكس — تبعها شيءٌ من التوازن مَكَّنَ الدولة العثمانية من التماسُك واجتياز فترة الاضطراب النابليوني بسلام.

وذلك أن التحالف الروسي الفرنسي لم يكن في نظر الإسكندر ونابليون مقدمة لمشروعات سياسية مبهمة كتقسيم العالم بين العاهلين وما إلى ذلك، بل كان على العكس وسيلة تحقيق أهداف عظيمة حقًّا، ولكنها محددة تمامًا، فمن جهة نابليون: حرمان إنجلترة من حليفتها الأوروبية الكبرى وإغلاق ما ينفذ منه الإنجليز إلى القارة، وإقامة الروسيا رقيبًا على النمسا؛ لكي يفرغ لإتمام إخضاع وتنظيم غربي أوروبا ووسطها. وثمن هذه الخدمات الروسية؟ أَحَبَّ طبعًا أن يكون الثمن زهيدًا ما استطاع، وأن يكون «كلامًا» أكثر منه حقائق، ولكن كان لا بد من أن يدفع شيئًا ما، وأقصى ما فعل أن ترك للروسيين إمارتي البغدان والأفلاخ وأن أشار على الدولة العثمانية — برفق فهمتْه تمامًا — أن تسلم للروسيا بملكها.

ومن جهة الإسكندر: وَضْع حدٍّ لمشروعات نابليون في بولونيا وفي العالم العثماني، وثمن هذه الخدمات: الاكتفاء مؤقتًا بملك الولايتين الدانوبيتين والتسليم لفرنسا بمنطقة نفوذ وقواعد في الجزائر اليونانية وعلى الساحل الألباني، وراقب الحليفان أحدُهما الآخر إلى أن حان وقتُ إسدالِ الستار على هذا الفصل المُمتع من تاريخ الرجلين، وأغار نابليون على الروسيا في سنة ١٨١٢ وكانت بداية النهاية.

أتاح هذا كُلُّهُ نوعًا من التوازُن — كما قَدَّمْنَا — وهيأ لمحمد علي أول اختباراته للسياسة الكبرى، وقد عرفها في طور خاص من التاريخ الأوروبي لا يمثِّل حياتها الطبيعية أو العادية أصدقَ تمثيل، فكأنه رآها بعين الرجل يرى الآلات في مصنع من المصانع تدور دورانًا جنونيًّا والصناع يلهثون لحفظ سرعة الدوران على حالتها، أو كأنه رآها بعين الميكروسكوب يكبِّر أجزاءها ويظهر كل ما دَقَّ من معالمها، وقد تأثر محمد علي بنظرته الأولى تلك طول حياته وانتفع بها وخسر.

انتفع بها لأنه فهم سر الحركة وأنها تستطيع أن تُغيِّر كل شيء؛ هذه خريطة أوروبا، الظاهر أن نابليون يستطيع أن يفعل بها ما يشاء، هذه عروش قديمة تزول كأن لم تغن بالأمس، وهذه الإمبراطوريةُ النابليونية نفسها زالت بعد حين، وانتفع أيضًا لأن في مدى تلك السنوات الضيق يتجمع الشيء الكثير من القواعد الأساسية في تشكيل العلاقات السياسية الكبرى: التفوق البحري الإنجليزي، موقع الروسيا ومواردها، تسخير قوى الإنتاج وتنظيمها وتنسيقها لخدمة غايات معنوية، بهرته الحركة تمامًا، وصادف ذلك هوًى في نفس مشرئبة طموحة.

وخسر لأنه لم يَرَ أن السكون هو أيضًا لازمٌ لتلك الحياة السياسية الكبرى وأنه أيضًا عاملٌ فَعَّال وأن في الحياة السياسية الكبرى ما يدفع نحو منع التغيير ونحو محاسبة من يسببه.

ومهما يكن فإن وسائل محمد علي في السنوات الأولى لم تُتِحْ أكثر من فرص التطلُّع من نافذته المصرية، حقيقة أن النظر ينفذ من النافذة المصرية لآفاق بعيدة جدًّا، ولكن الوسائل إذ ذاك لا تسمح بأكثر من استطلاعها، وكان مما لا بد منه في أول الأمر أن يجمع تلك الوسائل في يده على الأقل وأن يُقيم بناء الحكومة الجديدة على أساس جديد.

•••

وكانت فكرتُه فيما يجب أن تكون عليه حكومة مصر واضحةً له تمام الوضوح، أن مصر لا بد أن تتولى أمورها سلطة عامة واحدة؛ فإن تجزئة السلطان وتشتيته السائدَين قبل أيامه أَدَّيا إلى انعدام فكرة الحكومة انعدامًا يكاد يكون تامًّا، فنتج عن ذلك تكوين العصابات الخاصة المسلحة، ونتج عن ذلك إهمال العمال المرافقَ العامة إهمالًا ذريعًا، ونتج عن ذلك أن كل مَنْ يستطيع وضع يده على أموال عامة يفعل ذلك دون تردُّد، بل نتج نوعٌ من التفكير يَعتبر أن الحكومة ما هي إلا مشاركة ومقاسمة في «الأرزاق» وإن شئت قل: نهبًا، وليس توضيح ذلك بعسير. ومرجعنا في وصف هذا التشتيت والتجزئة رسالة حسين أفندي في ترتيب الديار المصرية، ومرجعنا في وصف عقلية المشاركة والمقاسمة الجبرتي.

  • المثل الأول: «سئل حسين أفندي: من أين كان إيراد الباشا وعوائده؟ فأجابه المذكور: إن حضرة السلطان سليم رَتَّبَ للباشا إيرادًا وعوائدَ معلومة على أصناف البهار في كل فرق بين أربعمائة فضة وعوائد على الأمراء والصناجق وقت تلبيسهم وعلى كشاف الولايات وقت توليتهم، وعلى الجمارك مثل ديوان إسكندرية ورشيد ودمياط وبولاق ومصر القديمة، وعوائد على أمين البحرين وأمين الخردة وعلى الضربخانة وعلى أرباب المناصب، وجعل له حلوان بلاد الأموات، وربط عليها أموالًا أميرية في كل سنة تُدفع إلى ديوان السلطان وقدرها خمسمائة وستة وخمسون كيسًا مصريًّا. وأضاف إلى هذا أن الباشا يؤدي ميريًّا نظير عوائده في مال البهار في كل فرق بن أربعمائة فضة وفي نظير الحلوان … إلخ.»

    اخترنا هذا المثل؛ لأنه يمثل فكرة الحكومة ونظامها في أمر عاديٍّ مألوف لنا تمامًا، أمر مرتب الوظيفة، عندنا أمره بسيط للموظف مرتب محدد يتسلمه في مواعيدَ محددة وينتهي الأمر عند ذلك، أما عندهم فالأمر معقد كل التعقيد … هاك — في مثلنا الحاضر — باشا مصر وكيل السلطان فيها وهو رأس الإدارة كلها، لمرتبه مصادر متعددة: عوائدُ على البن، وعوائد على الأمراء والصناجق وقت تلبيسهم كسوة مناصبهم، وكذلك على الكشاف عند تعيينهم في الأقاليم وكذلك على الجمارك وعلى بعض أصحاب المناصب وعلى دار الضرب وعندما يموت أحد الملتزمين فيصبح التزامه «بلد أموات» يتقاضى باشا مصر لنفسه رسمًا خاصًّا على نقل الالتزام لورثة المتوفَّى، وهذا هو الحلوان، ثم يأتي بعد ذلك الأمر الأغربُ وهو أن الباشا لا يأخذ فحسب … بل يؤدي من جانبه للخزانة «ميريا» أو — كما يسمونه كشوفية — يؤدي مالًا نظير تَمَتُّعه بالعوائد السابقة الذكر.

    معنى ذلك أن باشا مصر بدلًا من أن ينصرف لإدارة شئون مصر يصرف وقته في التحصيل لنفسه والمساوَمة والمحاسَبة والتخادع والتحايُل والتناهُب مع «المستحقين الآخرين» في البن والخردة والحلوانات وما إليها. ثم الباشا إيرادُه يَزِيد وينقص لظروف؛ منها ما هو فوق استطاعته ومنها ما يستطيع أن يُوجِدَه. خذ حلوان بلاد الأموات مثلًا؛ قد يفشو وباءٌ فيكثر الموت بين الملتزمين وتكثر بلاد الأموات ويكثر الحلوان، وقد لا يَحدث شيء منه فتطول أعمارهم وينكمش دخلُ الباشا السيئ الحظ، وكذلك أمر العوائد على تعيين الكشاف ألا يستتبع هذا أن الباشا لا يكره — على الأقل — إخلاء وظائف الكشاف وملئها في فترات لا تطول كثيرًا؟! وهكذا.

    وسئل حسين أفندي عن القاضي وخدمته، فأجاب ببيان اختصاصه وأن تحت يده قضاة نوابًا عنه، ولهم عوائدُ على الناس بحسب الوقائع والبيع والشراء وأَنَّ القاضي له عوائدُ على نوابه في كل شهر، وهكذا.

    وقِسْ على ذلك سائر الموظفين العموميين كبارًا وصغارًا.

  • المثل الثاني: ونقصد به توضيح ناحية أخرى من التشتيت؛ نعرف أن القاعدة العمومية عندنا اليوم أن الحكومة لا تربط وجهًا معينًا من المصروفات بوجه معين من الإيرادات، أما عندهم فالعكسُ هو السائد — كما ترى فيما يلي:

    سُئل حسين أفندي عن مال الكوركجي الذي هو مضاف بالمال ما معناه: «فأجابه: إن مال الكوركجي كان يُقبض من البلاد خارجًا عن الميري، ويُصرف في أُجرة المراكب وغيره ولنقل التراب من مصر ويرمَى في البحر المالح، وكان قدر مبلغه في كل سنة نحوا من ثمانية وعشرين كيسًا مصريًّا، واستمر ذلك الحال مدة سنين وهم ينقلون التراب من القاهرة وكانت نظيفة، ولم يكن فيها من الوخم شيء، ومن بعد ذلك حصل تراخٍ وكسل وعدم التفات من الحكام، فصاروا يأكلون ذلك القدر في كل سنة ولم يصرفوه، فبلغ ذلك إلى السلطان وحضر منه أمر إلى وكيله بإضافة ذلك المبلغ على خزينته التي بقيت له في ذلك الوقت من الميري بعد المصاريف التي رتبها.»

    وشرح ذلك أن مال الكركشي (من كلمة كورك التركية، وهي آلة الجرف) ضريبةٌ فُرضت على الملتزمين وخُصصت للإنفاق على إزالة الأتربة وما إليها من القاهرة، وعلى مرور الزمن بطل إنفاقُ هذا المال فيما خُصِّصَ له وأضيف إلى خزينة السلطان (والخزينة أو الخزنة — في اصطلاحهم — هي مجموعُ المال الذي يبقى بعد أداء جميع المصروفات ويرسَل للقسطنطينية)، وبقوا يجمعون مال الكركشي من الناس وإن كان قد بطل إنفاقه فيما فُرض من أجله، وهذا هو السر في تراكم وتكوُّن الكيمان التي كانت تحيط بالقاهرة واستمرتْ يؤذي غبارُها وما ينبعث من رائحتها أهلَ المدينة إلى أن أزالتْها حكومة محمد علي.

  • المثل الثالث: ونقصد به توضيح ناحية أُخرى من التشتيت والخَلْط، القاعدة عندنا أنَّ مهمة الجنود الجندية، أما عندهم فالجنديةُ ربما كانت أقلَّ ما شغل جُنود الأوجاقات (الفِرَق) العثمانية، ولنخير وصف أوجاقين منها: سئل حسين أفندي عن أوجاق جاوشان وخدمتهم وأنفارهم؛ فأجاب: إنهم من أرباب الديوان العمومي، ومنهم كتخدا جاوشان وأمين الشون ومحتسب واختيارية، وخدمتهم أن يحضروا في كل ديوان لتحصيل الأموال الأميرية، وكتخدا جاوشان عوائده على طرف حكام الولايات وعلى حلوان بلاد الأموات على كل كيس مصري ألف فضة، وله عوائدُ على جانب الموجبات، وعوائدُ على طرف الباشا، وعليه ميري يدفعه إلى ديوان السلطان في كل سنة وأمين الشون عوائده على غلال الميري، وعليه ميري يدفعه إلى ديوان السلطان، والمحتسب عوائده على المسببين الذين لم يضبطوا الميزان، وعليه ميري يدفعه إلى ديوان السلطان … إلخ.

من هذا نفهم أن أهم ما شغل فرقة جاوشان كان تحصيل الأموال الأميرية عينًا ونقدًا، وأن حسبة القاهرة كانتْ من اختصاصه أيضًا، وعلينا أن نلاحظ أيضًا ما لاحظناه من قبل عن موارد إيراد كبار رجال الأوجاق وتنوُّعها وتعدُّدها، فها هو كتخذا جاوشان شريكٌ آخرُ للباشا في حلوان بلاد الأموات، وها هو المحتسب رزقة مما يفرضه على المطففين، وهكذا.

وسئل حسين أفندي عن أوجاق الإنكشارية وخدمته، فأجاب: «إن الأوجاق المذكور أوجاق السلطان، منهم الأغا حاكم مصر وسيفُه مطلوق، ومنهم كتخدا الوقت وهو المتكلم بمصر، ومنهم سردار الحج والخزنة والكواخي الاختيارية والجوربجية واليولداشات وهم مقيمون بالقلعة وهم تحت طلب السلطان وعوائدهم مال الدواوين بعد الميري ومنهم الأوضباشية وعوائدهم على الخمامير، وعوائد الأوجاق المذكور على طرف الميري من أصل موجبات العساكر وله أيضًا عوائدُ على الباشا وعوائد على الملاحة والسلاخانة … إلخ»، ومنه نفهم أن بعض كبار أصحاب المناصب الإدارية كالكتخدا (وهو يلي الباشا) ينتمون لهذا الأوجاق كما نفهم أيضًا أن الكثير من شئون الأمن في القاهرة ومدن الريف في أيدي رجال الأوجاق، ونُلاحظ أيضًا تنوُّع موارد الإيراد فمن رسوم الجمارك «الدواوين» إلى الرسوم على الخمامير والملاحات.

ننتقل من هذه الصورة إلى صورةٍ أُخرى تتصل بها وتوضِّح «العقلية» التي تمت في تلك البيئة.

ولم يكن بد مِنْ أَنْ يكون أول ما عمل محمد علي لتجميع عناصر السلطان وجزئياته بعضها إلى بعض وإقامة السلطة العامة التي لا بد لها من أن تكون في يدها كل الموارد حتى تستطيع أن تقوم بواجبات السلطة العامة، كان لا بد من أن يكون أول ما عمل لتحقيق ذلك متسمًا بمظهر الاعتداء على الحقوق المكتسبة، بمظهر الطمع في أيدي الناس، بمظهر «المخرِّب» للبيوت العامرة، القاطع لأرزاق العباد، كان لا بد من أن يتسم العمل في أوله بهذه المظاهر، ولكنه كان في حقيقته غير ذلك، كان وسيلة الخروج من الفوضى والفقر والضعف إلى النظام واليسر والقوة.

وإذا شئنا أن نُجْمل وصف مراحل إنشاء السلطة العامة مستخدمين لغة ذلك العصر قلنا: إن المراحل الأولى كانت مراحل الضبط والكشف والتحقيق والتصفية وبخاصة في أُمور الالتزامات وإلغاء ما لا يستند منها إلى سند شرعي أو تحول إلى منفعة أشخاص أو هيئات. وفي تلك المراحل الأولى أُعيد منح بعض الالتزامات بشروط أصلح لولي الأمر، أما المراحل الثانية فكان فيها الانتقالُ من الالتزام إلى الحجز، ثم يأتي بعد ذلك الدور الباهر دور تحويل الحجر إلى وسيلة قوية للإنتاج الجديد، للثورة الاقتصادية المصرية، ونقتصر في موضعنا الحالي على وصف المراحل الأولى مرجئين دور الإنتاج والخلق لموضع آخر أولى به.

وكان دور الضبط والكشف والتحقيق عنيفًا شاقًّا مؤلمًا، هو إجراءٌ قاسٍ، ولكن لا بد منه، كان قاسيًا؛ لأنه أصاب «ذوي البيوت والمساتير من الناس»، ولكن كان لا بد منه؛ لأن الفساد القديم أدى إلى فقر الجميع حكامًا ومحكومين، وإلى وجود نوع من الحكومة لا تملك مالًا يُمَكِّنها من أن تنشئ قوة حربية مطيعة نافعة أو تُطهِّر ترعة أو تصون جسرًا.

خذ مثلا «الرزق»، وأصلها أراضٍ مرصدة على البر والصدقة ولأهل المساجد والأسبلة والمكاتب والخيرات، وتؤدي ضرائب قليلة جدًّا، ما الذي وجد محمد علي عند الفحص؟ وجد أن تلك الرزق الإحباسية قد زادت مساحتها لدرجة أضعفت إيرادات الخزانة إضعافًا، بينا كما وجد أن إنفاق غلتها فيما رُصدت له كاد ينعدم تمامًا، بل وضع الناس أيديهم عليها واستغلوها لمنفعتهم تمامًا، ولننقل في هذا عن الجبرتي؛ فهو المتألم جد التألم من خطة قطع أرزاق الناس، قال: «إن الواضعين أيديهم لا يدفعون لجهاتها ولا لمستحقيها إلا ما هو مرتَّبٌ ومقرر من الزمن الأول السابق، وهو شيءٌ قليلٌ، وليتهم لو دفعوه … بل يضن ويبخل بدفع القدر اليسير لجهة وقفه ويكسر السنة على السنة …

والذي يكون تحت يده شيءٌ من أطيان هذا الأوقاف وورثها من بعده ذريته فزرعوها وتقاسموها معتقدين ملكيتها تلقوها بالإرث من مورثهم ولا يرون لأحد سواهم فيها حقًّا ولا يهون عليهم دفع شيء لأربابه ولو قل إلا قهرًا، وبالجملة ما أصاب الناس إلا ما كسبت أيديهم ولا جنوا إلا ثمرات أعمالهم، وكان معظم إدارات دوائر عظماء النواحي وتوسعاتهم ومضايفهم من هذه الأرزاق التي كانت تحت أيديهم بغير استحقاق، إلى أن سلط الله عليهم من استحوذ على جميع ذلك وسلب منهم ما كانوا فيه من النعمة، وتشتتوا في النواحي وتغرَّبُوا عن أوطانهم وخربت ديارهم وذهبت سيادتهم»، وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا.

وأضاف إلى ذلك واقعة لها دلالتها، قال: «وفي بعض الأرزاق من مات أربابه وخربت جهاته ونُسي أمره وبقي تحت يد مَنْ هو تحت يده من غير شيءٍ أصلًا، وقد أخبرني بنحو ذلك شمس الدين بن حمودة، من مشايخ برما بالمنوفية، عندما أحضر إلى مصر في وقت هذا النظام أنه كان في حوزهم ألف فدان لا علم للملتزم ولا غيره بها، وذلك خلاف ما بأيديهم من الرزق التي يزرعونها بالمال اليسير وخلاف المُرصَد على مساجد بلادهم التي لم يَبْقَ لها أثرٌ، وكذلك الأسبلة وغيرها وأطيانهم تحت أيديهم من غير شيء، وخلاف فلاحتهم الظاهرة بالمال القليل لمصارف الحج؛ لأنها كانت من جملة البلاد الموقوفة على مهمات أمير الحج وقد انتسخ ذلك كله.»

لنتركْ هذا ولننتقلْ لمفاسد ملتزمي الأرض ومشايخ القرى والجباة والأقباط، وننقل في هذا أيضًا عن الجبرتي المتألم من طريقة محمد علي كل التألم: «كان الفلاحون مع الملتزمين أذلَّ من العبد المشترَى فربما أن العبد يهرب من سيده إذا كلفه فوق طاقته أو أهانه بالضرب، وأما الفلاح فلا يُمكِنه … وكان من طرائفهم أنه إذا آن وقت الحصاد والتخضير طلب الملتزم أو قائمقامه الفلاحين، فمن تخلَّف لعذر أحضره الغفير أو المشد وسحبه من شنبه وأشبعه سبًّا وشتمًا وضربًا، وهو المسمى عندهم بالعونة والسخرة … وهذا خلاف ما يلقونه من الإذلال والتحكم من مشايخهم والشاهد والنصراني الصراف وهو العمدةُ والعهدة، خصوصًا عند قبض المال فيغالطهم ويناكرهم وهم له أطوعُ من أُستاذهم وأمرُهُ نافذ فيهم فيأمر القائمقام بحبس من شاء أو ضربه؛ محتجًّا عليهم ببواقٍ لا يدفعها، وإذا غلق أحدهم ما عليه من المال الذي وجب عليه في قائمة المصروف وطلب من المعلم ورده وهي ورقة الغلاق وعده ولوقت آخر حتى يحرر حسابه، فلا يقدر الفلاح على مراددته خوفا منه، فإذا سأله من بعد ذلك قال: له بقي عليك حبتان من فدان أو خروبتان أو نحو ذلك ولا يعطيه الغلاق حتى يستوفي منه قدر المال أو يصانعه بالهدية والرشوة.

وغير ذلك أُمورٌ وأحكام خارجةٌ عن إدراك البهيمية فضلًا عن البشرية، كالشكاوى ونحوها؛ وذلك كما إذا تشاجر أحدهم مع آخر على أمر جزئي بادر أحدهم بالحضور إلى الملتزم وتمثل بين يديه قائلًا: أشكو إليك فلانًا بمائة ريال، فبمجرد قوله ذلك يأمر بكتابة ورقة إلى قائمقام أو المشايخ بإحضار ذلك الرجل المشتكَى واستخلاص القدر الذي ذكره الشاكي قليلًا أو كثيرًا أو حبسه وضربه حتى يدفع ذلك القدر …»

وأضاف الجبرتي إلى ذلك ملاحظة لا ندهش لها: أن ذلك الفساد أنزل الفلاحين من تفكير الآدميين إلى تفكير آخر فأصبحوا — كما قال — «إذا التزم بهم ذو رحمة ازدروه في أعينهم واستهانوا به وبخدمه، وماطلوه في الخراج، وسمَّوْه بأسماء النساء، وتمنوا زوال التزامه بهم وولاية غيره من الجبارين الذين لا يخافون ربهم ولا يرحمونهم؛ لينالوا بذلك أغراضهم بوصول الأذى لبعضهم. وكذلك أشياخُهم إذا لم يكن الملتزم ظالمًا لا يتمكنون هم أيضًا من ظلم فلاحيهم؛ لأنهم لم يحصل لهم رواج إلا بطلب الملتزم الزيادة والمغارم، فيأخذون لأنفسهم في ضمنها ما أحبوا، وربما وزعوا خراج أطيانهم وزراعاتهم على الفلاحين» ثم ختم كلامه: «وقد انخرم هذا الترتيب بما حدث في هذه الدولة من قياس الأراضي والفدن.»

ولننتقل إلى ناحية أخرى من نواحي خطة الكشف والضبط والتحقيق، وفي هذا ننقل أيضًا عن الجبرتي الناقم على طريقة محمد علي، قال: «إن ديوان المكس ببولاق الذي يعبرون عنه بالكمرك لم يزل يتزايد فيه المتزايدون حتى أوصلوه إلى ألف وخمسمائة كيس في السنة وكان في زمن المصريين، أي في زمن الأمراء، يؤدي من يلتزمه ثلاثين كيسًا مع محاباة الكثير من الناس والعفو عن كثير من البضائع لمن ينسب إلى الأمراء وأصحاب الوجاهة من أهل العلم وغيرهم، فلا يتعرضون له ولو تحامى في بعض أتباعهم ولو بالكذب ويعاملون غيرهم بالرفق مع التجاوز الكثير ولا ينبشون المتاع ولا رباط الشيء المحزوم بل على الصندوق أو المحزوم قدر يسير معلوم، فلما ارتفع أمره إلى هذه المقادير صاروا لا يعنون من شيء مطلقًا ولا يسامحون أحدًا ولو كان عظيمًا من العلماء أو من غيرهم، وكان من عادة التجارة إذا بعثوا إلى شركائهم محزونًا من الأقمشة الرخيصة مثل العاتكي والنابلسي جعلوا بداخل طيها أشياء من الأقمشة الغالية في الثمن مثل المقصبات الحلبي والكشميري والهندي، ونحو ذلك، فتندرج معها في قلة الكمرك وفي هذا الأوان يحلُّون رباط المحزوم ويفتحون الصناديق وينبشون المتاع ويهتكون ستره … إلخ.»

•••

وقد آن وضعُ حد لهذا العبث كله واشتد محمد علي في خطة الضبط والكشف والتحقيق بقدر حاجته الشديدة للموارد المالية؛ لمواجهة طلبات الجند الألباني المستمرة المتزايدة ولشراء تأييد رجال الدولة له وإبقائه في منصبه ولتنفيذ خطته لحل مشكلة الأمراء، وكانت تقوم على جملم على الاستقرار في القاهرة والجيزة في عيش هنيء، وكان من وسائله لزيادة الموارد بعض الاحتكارات الصناعية والقيام بعمليات تجارية في نطاقٍ واسع.

أما الاحتكارات الصناعية فأمرُها في أول الأمر مالي صرف، وهي في هذا لا تخرج عن الاحتكارات التي عرفتْها مصر في كل أدوار تاريخها تقريبًا، ولكنها ستنقلب على يد محمد علي لأمر آخر لم تعرفه مصر قبله — ستنقلب أساسًا لنهضة صناعية وسياسية اقتصادية جديدة تمامًا — وأما العمليات التجارية فترجع إلى أن السنوات ١٨٠٩ و١٨١٠ و١٨١١ كانت سنوات قحط في بلاد البحر المتوسط، ولما كان للإنجليز جيوشٌ في شبه جزيرة أيبريا ومالطة وصقلية والجزائر اليونانية؛ فقد اتجهوا نحو مصر لتموين الجيوش وأهل تلك البلاد، ووجدوا أن محمد علي يملك مقادير كبيرة من الحبوب؛ وذلك أن ضرائب الصعيد كانت تُجبى غلالًا، وأنه وحده يستطيع أن يجمع بالشراء مقادير كبيرة من المنتجين وأنه على استعداد لأن يبيعها بالثمن الملائم، فتمت الصفقات.

ووجه الأهمية في هذا الموضوع ما ظهر لمحمد علي مِنْ فوائد توسيع نطاق التجارة الخارجية بعد أنْ تضاءل شأنُها في الاقتصاد المصري كل التضاؤل، فقرر أن يتخذ من هذا قاعدةً أُخرى لسياسته الاقتصادية.

والوجه الثاني لأهمية هذا الأمر هو تولِّي ولي الأمر بنفسه شئون التجارة الخارجية، وهو في نظرنا ثانوي بالنسبة للوجه الأول اقتضتْه ظروفٌ خاصة؛ أهمها أن مصر إذ ذاك — بما في ذلك البيوت التجارية الأوروبية في مصر — لم تملك شيئًا من أدوات تمويل وتنظيم تجارة خارجية واسعة النطاق، ولا يرجع ذلك بالمرة لميل غريزي أو مكتسَب في نفس محمد علي للتجارة وما إليها، بل يرجع لضرورات الموقف التي دامت تقريبًا طول مدته.

وقد مكنتْه هذه الموارد من مواجهة موقفه الصعب إلا أنها زادتْ في وحدته وانعزاله، ينظر حوله في تلك الأيام فلا يجد مَنْ يستطيع إشراكه معه في أمانيه ومشروعاته، فضلاء العلماء من زمن قديم يميلون للابتعاد عن مسائل الحياة العامة، وهم بعدُ آسفون على انهيار عالَم نشئوا فيه، المنصف منهم يعرف عيوب ذلك العالَم القديم كل المعرفة ولكنه لا يعرف بعدُ ما هو سائرٌ إليه، فإن قلت له: لِمَ لا تتقدم وتساهم في البناء الجديد، أجاب: وهل هذا من شأني، إني رجل علم ودين وللدنيا رجالها.

يمثل ذلك الجبرتي أصدق تمثيل؛ الرجل أمين ودقيق الفهم ومنصف، يعترف حتى للفرنسيين بمحاسنهم ولكنه حزين وناقم؛ حزين على زوال ما أَلِفَ، وناقم على ارتفاع أناس وانخفاض آخرين، يؤلمه خمولُ الفضلاء وتقدُّم مَنْ لا خَلاق لهم، ولكن — نسأل — ماذا فعل؟ وماذا حاول، وهو أول من سَجَّلَ حتى على إخوانه العلماء نواحي الضعف فيهم وفي عصرهم؟ ألا يستطيع أن يرى — وهو الطلعة المهتم بما يجري حوله — أن محمد علي حقيقة جمع في يديه كل شيء ولكنه أيضًا أخذ يضطلع بكل شيء، بضبط الأمن والأعمال العامة والصناعة والتجارة والتعليم؟ نعم، رآه تمامًا فكتب عندما أتم محمد على إصلاح السد الأعظم الممتد من الإسكندرية، وقد كان اتسع أمره وتخرب من مدة سنين وزحف منه البحر المالح وأتلف أراضي كثيرة وخربت منه قرًى ومزارعُ وتعطلت بسببه الطرق والمسالك وعجزت الدولة في أمره ولم يزل يتزايد في التهور وزحف المياه المالحة على الأراضي حتى وصلت إلى خليج الأشرفية التي يمتلئ منها صهاريج الإسكندرية، عندما أتم محمد علي إصلاح ما عجزت عنه الدول السابقة حتى تممه؛ كتب الجبرتي: «وكان له — أي لمحمد علي — مندوحة لم تكن لغيره من ملوك هذه الأزمان، فلو وفقه الله لشيء من العدالة على ما فيه من العزم والرياسة والشهامة والتدبير والمطاولة لكان أعجوبة زمانه وفريد أوانه.»

شيء من العدالة! هي في نظره عدم مس الحقوق المكتسبة على ما قامت عليه من غصب وتبديد وإسفاف وعبث رأينا شيئًا منه في كلام الجبرتي نفسه، ولكن شاء الجبرتي أن يزداد انعزالًا وأن يقف موقف الآسِف الحزين نافثًا مرارة فؤاده في قلمه، وابتُلي في آخر أيامه بفقد ابنه قتيلًا، فبكاه حتى فَقَدَ بصره ومات تاركًا صغارًا كفلهم صديقُه حسن العطار ونالوا شيئًا من نعمة محمد علي.

وحديثُ هذا الرجل الفاضل غير حديث الكثير من أقرانه وزملائه من أهل العلم، إن خلافهم مع محمد علي غير خلافه، وإن ابتعاد محمد علي عنهم غير ابتعاده عن أمثال الجبرتي، إنهم لم يكرهوا عمل التحقيق والفحص والضبط الذي قام به لذاته، إنما كرهوا أن يكون ذلك معهم أو — على الأقل — توهموا أن العمل ما هو إلا تكرار لاغتصابات الماضي لا بأس به إن شاركوا فيه، فلما اكتشفوا أنه ليس مقدمة مقاسمة جديدة بل هو بناء السلطة العامة تتولى الجمع لتتولى الإنفاق على المصالح العامة؛ نفروا واحتجوا، فلم يأبه محمد علي لنفورهم واحتجاجهم علمًا منه بما وراء ذلك النفور وذلك الاحتجاج، وسهل عليه فض الإجماع بشيء من الإخافة هنا وهناك وبشيء من فضلات الأرزاق هنا وهناك.

قال الجبرتي يصف تلك الحالة: «إن محمد علي عندما فرض فرضه المختلفة جعل ذلك عامًّا على جميع الالتزامات والحصص التي بأيدي جميع الناس حتى أكابر العسكر وأصاغرهم ما عدا البلاد والحصص التي للمشايخ خارجة عن ذلك ولا يؤخَذ منها نصف ألفاظ ولا ثلثه ولا ربعه، وكذلك من ينتسب إليهم أو يحتمي فيهم»، وماذا كانت النتيجة؟ كانت النتيجة أنهم «أخذوا يأخذون الجعلات والهدايا من أصحابها ومن فلاحيهم تحت حمايتها ونظير صيانتها واغترُّوا بذلك واعتقدوا دَوَامَه وأَكْثَرُوا من شراء الحصص من أصحابها المحتاجين بدون القيمة»، أرأيت النتيجة؟

وبعدُ … أيُلامُ محمد علي على إلغاء ذلك الإعفاء الذي أسيء استعماله؟ أنلومه أن لم ير فيهم إلا «رجال أعمال» لا رجال علم؟ وهذا الجبرتي يقول: «إنهم هجروا مذاكرة المسائل ومدارَسة العلم إلا بمقدار حفظ الناموس مع ترك العمل بالكلية، وصار بيت أحدهم مثل بيت أحد الأمراء الأقدمين، واتخذوا الخدم والمقدمين والأعوان، وأجروا الحبس والتعزير والضرب بالفلقة والكرابيج، واستخدموا كتبة الأقباط وقطاع الجرائم في الإرساليات للبلاد، وقدروا حق طرق لأتباعهم، وصارت لهم استعجالات وتحذيرات وإنذارات عن تأخر المطلوب مع عدم سماع شكاوى الفلاحين ومخاصمتهم القديمة مع بعضهم بموجبات التحاسد والكراهية المجبولة والمركوزة في طباعهم الخبيثة، وانقلب الوضع فيهم بضده، وصار ديدنهم واجتماعهم ذكر الأمور الدنيوية والحصص والالتزام وحساب الميري والفائض والمضاف والرماية والمراسلات والمرافقات والتشكي والتناجي مع الأقباط …» إلى آخر ما قال.

أُناسٌ هذه حالُهم لا يعطفون على الملك الجديد ولا يفهمونه، وكان لا بد مِنْ أن يمضي زمنٌ قبل أن يكوِّن محمد علي جيلًا آخر، وأن يظهر أمثال رفاعة يفهمون النظام الجديد ويعملون في ظله ويسبكون قواعده وطرائقه وأهدافه في القالب النظري الفلسفي.

•••

تغلب محمد علي على أصحاب الحقوق المكتسبة، ولكن التغلُّب التام على العشائر الألبانية وزعمائها لم يكن ميسورًا بلا قوة حربية نظامية تحت أمره، ولا يُستطاع خلقُ مثل هذه القوة في يوم وليلة، فاستخدم لكبح جماح العشائر الألبانية وزعمائها كل ما أوتي من سحر الشخصية ومن مقدرةٍ على دفع بعض الأغاوات بالبعض الآخر وكل ما بيده من موارد المال، ولم ينجح في ذلك إلا نجاحًا محدودًا، فاستمر الألبانيون في نهبهم وتمردهم وتَقاتُلهم وفتنهم.

وأسوأ من ذلك أن زعماءهم هم الذين دبروا الغدر بالأمراء المصريين فلطخوا يديه — وهو الرجل الذي يمقتُ المذابحَ ويستنكرُ الوحشية والقوة في كل مظاهرها — بدمائهم في مذبحة القلعة في سنة ١٨١١، ولما كان محمد علي أكبر من أن يحمل غيره مسئولية عمل تم بموافقته فقد التزم السكوت ولم يشر إلى أصل الغدر وحقيقته، إن ذلك الغدر كان الشرط الأساسي لقبول الزعماء الألبانيين السفر لمحاربة الوهابيين في بلاد العرب، فقد كانوا على وجلهم القديم من الأمراء، وكانوا لا يستطيعون الابتعاد عن القاهرة وقد أسسوا فيها البيوت واقتنوا ما اقتنوه تاركين منهوباتهم وحريمهم تحت رحمة الأمراء، ولما كانوا أعجز عن محاربة الأمراء في الميدان فقد ارتئوا الغدر والمكيدة — وهما عنصران أساسيان في نوع حربهم — وألزموا محمد علي بالموافقة، ونقول: إنه لو كان نصيب محمد علي في هذه الواقعة نصيب الآمر المنظِّم لَما تم التنفيذ بالدقة التي تم بها.

إن عدم إفشاء سر المكيدة وحده — مع اشتراك عدد كبير في التدبير — يدل على أن المنظمين كانوا ينفذون تدبيرهم هم، وأن نصيب محمد علي لم يكن إلا الإذعان لما يأباه طبعه ويخالف ما جرى عليه حتى ١٨١١ في حل مشكلة الأمراء.

انتهت بهذا الفصل الدموي السنواتُ الأولى من حكومة محمد علي، وهي سنواتُ كفاح وعنف وهدم وتبديل وتعديل، وهي سنواتٌ لم يحبها هو وفي بعض وقائعها لا نحبها له.

وعندما زاره — فيما بعد — الأمير بكلر مسكاو ولاحظ أن وقائع تاريخه الأُولى ليست معروفة تمامًا قال له محمد علي: «أنا لا أحب تلك الفترة من حياتي، إن تاريخي الحقيقي يبدأ عندما فَكَكْتُ قيودي وأخذت أوقظ هذه الأمة من سبات الدهور.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤