الفصل الأول

الإنكليز في أفريقيا

اهتمت إنكلترا منذ زمان بعيد باستعمار أفريقيا. وفي شهر سبتمبر سنة ١٨٧٧ كتب المستر غلادستون في مجلة القرن التاسع عشر يقول: «إذا توطَّدت أقدامنا في مصر تكون هذه المستعمرة الأولى بوجه التَّحقيق بمثابة ذريعة لتأسيس إمبراطورية شاسعة في أفريقيا الشمالية، تأخذ في النمو تدريجيًّا إلى أن تدخل في تخومها منابع النِّيل الأبيض. بل تنتهي بدون شكٍّ بأن تجتاز خطَّ الاستواء لتتَّصل بمستعمرتيْ الناتال ورأس العشم، وذلك بغضِّ النَّظر عن الترنسفال ونهر الأورنج، وكذلك يكون الحال في الحبشة وزنجبار.»

وقد احتلت إنكلترا مصر عام ١٨٨٣، واستولت على الأوغندا ونواحي خط الاستواء والأونيورو سنة ١٨٩٠، ووادلاي سنة ١٨٩٥.

وقد عقدت الاتِّفاقيات الآتية:
  • (١)

    الاتِّفاقيَّة الإنكليزيَّة الألمانية في أول نوفمبر سنة ١٨٨٦.

  • (٢)

    الاتِّفاقيَّة الإنكليزيَّة الإيطالية في أول يولية سنة ١٨٩٠.

  • (٣)

    الاتِّفاقيَّة الإنكليزيَّة مع الكونغو ١٢ مايو سنة ١٨٩٤.

والغرض من هذه الاتِّفاقيات الثلاث تحديد مناطق نفوذ إنكلترا في نواحي أعالي النِّيل والسُّودان الشرقي.

هذا إلى أن فرنسا كانت تُزاحم إنكلترا في القارة الأفريقية.

(١) الأوربيون وأفريقية قبل القرن التاسع عشر

لم يكن الأوربيون يعرفون من أفريقية في قديم الزمان إلَّا سواحلها الشمالية، ثمَّ بدأوا في القرن الخامس عشر يكشفون سواحلها الغربية، ثمَّ داروا حول الرأس وساروا وسواحلَها الشرقية حتَّى وُفِّق فاسكو دي جاما البرتغالي إلى بلوغ الهند، وقد ألهى الأوربيين كنوزُ الهند وبيرو والمكسيك عن ارتياد مجاهل أفريقية «أو القارة المظلمة كما كانوا يسمونها».

(٢) الأوربيون وأفريقية أول القرن التاسع عشر١

ولما وقفت رحى الحرب بين نابليون وأوربة عام ١٨١٥ كان شمالي أفريقية «مصر وطرابلس وتونس والجزائر» تابعًا لتركيا تبعية فعلية أو اسمية، وكان للبرتغاليين السِّيادة على أصقاع على الساحل الشَّرقي تجاه مدغشقر، وكان للإنكليز والفرنسيين وغيرهم على الساحل الغربي محاطُّ أو مستعمرات، وكان كلّ ما للإنكليز في أفريقية هو غمبيا وسيراليون وساحل الذهب على الشاطئ الشرقي ومستعمرة الرأس في الجنوب وجزائر سنت هيلانه وأسنشن وموريشس وسيشل.

وقد نبَّه الدول الأوربيَّة إلى استعمار داخل أفريقية طلابُ كشفٍ أبطالٌ مغامرون رموا بأنفسهم في مجاهل القارة؛ ليُميطوا اللِّثام عنها، ومن أمثال هؤلاء سبيك وجرانت وبيكر ولفنجستون وستانلي، فضلًا عن مصريين أمثال: الضابط المصري البحري الميرالاي سليم مطر بك قائد معسكر خط الاستواء الذي كشف النِّيل الأبيض.

(٣) الإنكليز وأفريقية خلال القرنين التاسع عشر والعشرين

وقد أضاف الإنكليز خلال القرن التاسع عشر إلى مستعمراتهم السابقة ناتال والأورنج والترنسفال، «وتألف من المستعمرات الثلاث ومستعمرة الرأس اتحاد جنوبي أفريقية» وبتشوانالاند ونيسالاند وبسوتولاند وروديسيا وأفريقية الشرقية البريطانية وأوغندا ونيجيريا والصومال، ولما هُزمت ألمانيا في الحرب العُظمى «١٩١٤–١٩١٨» انتدبت إنكلترا لإدارة بلاد تنجانيقا «الألمانية» كما انتدبت حكومة اتحاد جنوبي أفريقية لإدارة أفريقية الجنوبية الغربية «الألمانية».

ولا يتمتع من كلّ هذه المستعمرات بالحكم الذاتي إلَّا اتِّحاد جنوبي أفريقية؛ لهذا نتكلم عنه ببعض التَّفصيل:

(٣-١) كيف استولى الإنكليز على مستعمرة الرأس؟

كان الهولنديون قد أنشأوا لهم مستعمرة عند رأس الرجاء الصالح لتكون محطًّا تتزوَّد منه سفنهم التي تتَّجر مع الشرق، ويُعرف المستعمرون الهولنديون بالبوير، وهي كلمة معناها الفلاحون، ولعلَّها أُطلقت عليهم لاشتغالهم بالزراعة وإيثارهم لها على أية مهنة أخرى. ولمَّا تدخَّلت فرنسا في شؤون هولندة في عهدي الثَّورة الفرنسية ونابليون وأخضعتها لحكمها، قامت إنكلترا عدوة نابليون وانتزعت مستعمرة الرأس من هولندة «١٨٠٦»؛ لأنَّها قدَّرت قيمة تلك المستعمرة في حفظ مواصلاتها مع الهند.

وأقرَّ مؤتمر فينا عام ١٨١٥ ضم الرأس إلى إنكلترا كفاء تعويض يُعطى لهولندة وقدره ستة ملايين من الجنيهات.

(٣-٢) النزاع بين الإنكليز والبوير

غيَّر الإنكليز النُّظم الحكومية التي اعتادها البوير، كما جعلوا اللغة الإنكليزيَّة اللغة الرَّسمية؛ فحنق البوير وأحسُّوا أنَّهم فقدوا حريتهم، واشتدَّ حنقهم لمَّا ألغت إنكلترا الرقَّ «١٨٣٤»، وكان البوير يستعينون بالأرقاء على فلح الأرض، ولم تمنح الحكومة الإنكليزيَّة البوير إلَّا ثلاثة ملايين من الجنيهات تعويضًا، وهذا المبلغ لا يكاد يساوي ثُلث خسارتهم بهذا الإلغاء، لكل هذا فكَّر غالب البوير في الارتحال عن مستعمرة الرأس إلى الشَّمال والشمال الشرقي، حيث يستطيعون أن يعيشوا أحرارًا لا يستلب حريتهم أحد، فبدأوا «الانسحاب العظيم The Great Trek» عام ١٨٣٦، فخرجوا طوائف تهيم في مجاهل البلاد ومعهم قطعانهم وثيرانهم وعجلاتهم السَّاذجة تجرُّ الواحدة منها سبعة أو ثمانية أزواج من الثيران وتحمل أمتعتهم وأثقالهم، وبلغ عدد المنسحبين نحو ١٠٠٠٠ من بينهم غلام نجيب يُسمَّى كروجر «كان له شأن فيما بعد»، ونزل بعض المنسحبين في ناتال، والبعض الآخر استوطن ما بين نهر الأورنج وفرعه المُسمَّى الفال، وقطن آخرون بإقليم شماليِّ نهر الفال.
وأنشأ البوير لهم في ناتال جمهورية «١٨٣٨»، ولكنَّ الإنكليز تعقبوهم هناك أيضًا وضايقوهم، وأعلنوا ضمَّ جمهوريتهم عام ١٨٤٣ بدعوى أنَّ البوير رعاياهم أنَّى رحلوا، وبحجة أنَّ مستعمرة الرأس يهددها نزاع متواصل بين البوير في الناتال وجيرانهم المتوحِّشين المعروفين «بالكافير»٢ أو الكفرة.

لم تر كثرة بوير الناتال بُدًّا من أن ينسحبوا مرة أخرى من الناتال وينضموا إلى إخوانهم النازلين بين الأورنج والفال، فكان ذلك مبدأ تأسيس «ولاية الأورنج الحرة»، فأعلنت إنكلترا ضمَّها أيضًا ١٨٤٨، فخرج كثير من البوير مرة ثالثة لينضموا إلى إخوانهم الذين عبروا الفال في الهجرة الأولى، وكوَّنوا معهم جمهورية الترنسفال أو جمهورية جنوبي أفريقية «١٨٤٩»، فاعترفت إنكلترا باستقلالها «١٨٥٢» قانعة بضمان حرية التجارة فيها، والذي حدا بالإنكليز إلى الاعتراف باستقلال الترنسفال أنهم بدأوا يحسون ثقل التَّبعة المُلقاة على عواتقهم لكثرة مستعمراتهم، وفي عام ١٨٥٤ نزلت إنكلترا عن سيادتها عن ولاية الأورنج؛ لأنها رأت أنها تحمل عبء الدفاع ونفقاته عن هذه الولاية في وجه قبائل البسوتو المتوحشة المجاورة، وظلت ولاية الأورنج حتَّى سنة ١٨٩٦ صديقة لمستعمرة الرأس الإنكليزية.

إذن: صارت للبوير جمهوريتان مستقلتان هما الأورنج والترنسفال، وللإنكليز مستعمرتان هما الرأس والناتال.

(٣-٣) النزاع بين بوير الترنسفال والإنكليز

في عام ١٨٧٧ أعلن لورد بيكنز فيلد رئيس الوزارة الإنكليزيَّة وزعيم المحافظين ضمَّ الترنسفال إلى الأملاك الإنكليزيَّة بحجة أن فتنًا متواصلة تقوم بين البوير والوطنيين في الترنسفال فتُهدِّد أملاك إنكلترا.

ثم تولَّى غلادستون زعيم الأحرار الوزارة بعد بيكنز فيلد «١٨٨٠»، ولم يكن غلادستون قد اعتنق الآراء الاستعمارية بعد، فأراد أن يُرضي البوير، ولكنَّ هؤلاء ثاروا بزعامة ثلاثة من رجالهم أظهرهم كروجر وهزموا الجيش الإنكليزي في موقعة «تل ماجوبا» في فبراير سنة ١٨٨١، ولم تكن الواقعة من الوقائع الحربية المجيدة، إلَّا أن البوير اعتزُّوا بها واغترُّوا بأنفسهم غرورًا جنى عليهم فيما بعد، واعترف غلادستون باستقلال الترنسفال«١٨٨١» تحت سيادة إنكلترا.

ولكنَّ البوير أنِفوا أن يكون لأحدٍ سيادة عليهم، فنازعوا الإنكليز حتَّى عقد الإنكليز معهم معاهدة لندن «١٨٨٤»، ونزلوا فيها عن هذه السِّيادة مقابل ترخيص البوير للأوربيين جميعًا في استيطان جمهوريتهم والاتِّجار فيها.

(٣-٤) عودة النزاع بين الترنسفال والإنكليز

في عام ١٨٥٥ كشف الذهب في الترنسفال، فلم يُقبِل البوير إقبالا كبيرًا على استخراجه؛ لأنَّه لا يروقهم إلَّا الاشتغال بالزراعة ورعي الماشية، واجتذب الذهب إلى بلادهم أفواجًا عظيمة من الأوربيين، لا سيما الإنكليز، حتَّى أربى عددهم على عدد البوير، ونشأت مدينة جوهانسبرج في بضع سنوات، ومُدَّت سكك الحديد.

كذلك كُشف الماس في ولاية الأورنج فنزح إليها الأوربيون أيضًا.

(٣-٥) سسل رودس

كان من بين من نزح إلى جنوبي أفريقية سسل رودس الإنكليزي، فإنَّه بعد أن أتمَّ دراسته في أكسفورد ذهب يبحث عن الماس، وكان مصدورًا فشُفي، وأثرى إثراءً عظيمًا، وصار رئيس وزراء مستعمرة الرأس، وأخذ ينشر فكرة الجامعة البريطانية التي تنطوي على إنشاء إمبراطورية أفريقية تمتد من الرأس إلى القاهرة، والسعي في تلوين معظم أفريقية باللون الأحمر الإنكليزي». وأنشأ عام ١٨٨٩ «شركة أفريقية الجنوبية» على مثال شركة الهند، وتمكَّنت الشركة عام ١٨٩٠ بمعاضدة الحكومة الإنكليزيَّة من إنشاء مستعمرة في حوض نهر الزمبيزي سميت روديسيا «نسبة إلى رودس مُنشِئِها».

(٣-٦) الإنكليز يضايقون بوير الترنسفال

إن استقلال البوير في جمهوريتهم ليتعارض ومشروع رودس، لذلك اعتزم رودس أن يقضى على ذلك الاستقلال، وشاركته الحكومة الإنكليزيَّة في عزمه؛ ولذا نرى الإنكليز يستولون على الساحل الشَّرقي من الناتال إلى أفريقية الشرقية البرتغالية فيقطعون على الترنسفال الطريق إلى البحر، كذلك نرى «شركة أفريقية الجنوبية» تنشئ إقليم روديسيا فتقطع على الترنسفال طريق التوغُّل إلى الزَّمبيزي شمالًا وتهددها كذلك.

أحاطت هذه المستعمرات الإنكليزيَّة بالترنسفال والأورنج، وأدرك البوير ما ينتويه الإنكليز لهم، فرأى كروجر رئيس جمهورية الترنسفال ضرورة اتِّباع سياسة حازمة فعارض في المهاجرة إلى جمهوريته، ولما طلب الأجانب “Outlanders” أن يسمح لهم بحق الانتخاب لينتخبوا من يرعى لهم مصالحهم أبى البوير عليهم ما أرادوا فاستنجد الأجانب بسسل رودس، وصادف هذا الاستنجاد هوًى في نفسه، فبعث إليهم بحملة يقودها الدكتور جيمسن، فأسرها البوير في يناير سنة ١٨٩٦، وسلموها لإنكلترا تسامحًا وكرمًا كي تعاقبهم كما تشاء، فلم تعاقبهم، فاستيقن البوير أن إنكلترا تشارك رودس آراءه، ثمَّ انتدبت إنكلترا لورد ألفرد ملنر حاكم الرأس ليفاوض البوير في السماح للأجانب بحق الانتخاب، فاجتمع ملنر بكروجر رئيس جمهورية الترنسفال وحضر الاجتماع رئيس جمهورية الأورنج بصفة غير رسمية، وأبى كروجر إباءً شديدًا أن يسمح للأجانب بحق الانتخاب، مستمسكًا بأن «أفريقية للأفريقيين» أي للبوير. فنصح ملنر لحكومته بالحرب.

(٣-٧) حرب البوير ١٨٩٩–١٩٠٢

نشبت الحرب بين الإنكليز والترنسفال وانضمت جمهورية الأورنج إلى شقيقتها، وأظهر البوير وهم لا يزيدون على ٣٠٠٠٠٠ استبسالًا عجيبًا في وجه أقوى دولة أوربية، وأغاروا على الناتال والرأس وحاصروا أهم مدنهما. وكان أهم قوادهم بوثا Botha، وكانت إنكلترا تستخفُّ بادئ الأمر بالبوير، ولكنَّها لما رأت ظَفَرَهم، جمعت من بلادها ومستعمراتها جيشًا هائلًا وأمَّرت عليه لورد روبرتس أعظم قوادها، ثمَّ أمدَّته بلورد كتشنر، وبدأ الجيش الإنكليزي يكتسح بلاد البوير مخرِّبًا، وقام كتشنر يحتجز النساء والأطفال كرهائن في نقط عسكرية، ولسوء وسائل الصحة والتغذية كان يهلك منهم الألوف، فأُكره البوير على الصلح إشفاقًا على نسائهم وأطفالهم، وقد كانوا يستطيعون أن يداوموا القتال مدة أخرى.
وخسر الإنكليز في هذه الحرب نحو ٢٠٠ مليون من الجنيهات ونحو ربع جيشهم، ومات سسل رودس «أو نابليون الرأس كما يسميه قومه» قبل أن يعقد الصلح بثلاثة أشهر ودفن في رودسيا، وتم الصلح بمعاهدة فرينيجنج Vereeniging في مايو ١٩٠٢ على يد ملنر وزعماء البوير، وأهم شروطها:
  • (١)

    ضم الترنسفال والأورنج إلى المستعمرات الإنكليزية.

  • (٢)

    احترام لغة البوير كلما سمحت بذلك الأحوال.

  • (٣)

    تكفل إنكلترا بمنح المال اللازم لإصلاح ما خرَّبته الحرب.

وعهد إلى ملنر بإدارة ولايتي الترنسفال والأورنج، وفي عام ١٩٠٧ منحت إنكلترا كلًّا من الولايتين الحكم الذاتي «وكانت الكاب والناتال قد مُنحتا من قبل هذا النوع من الحكم».

وفي ١٩٠٩ وافق البرلمان الإنكليزي على إنشاء «اتحاد جنوبي أفريقية» المكوَّن من الرأس وناتال والترنسفال والأورنج، ويتولى أمر هذا الاتحاد حاكم عام تعينه إنكلترا، ووزارة مسئولة مقرُّها بريتوريا، وبرلمان ذو مجلسين أحدهما للشيوخ٣ والآخر للنواب، ومقر البرلمان مدينة الرأس، وجعلت الهولندية والإنكليزية لغتين، وهذا النِّظام شبيه بنظام ولايات كندا المتحدة.
وبُدئ ذلك النِّظام عام ١٩١٠، وكان (بوثا) قائد البوير أول رئيس وزارة للنظام الجديد.٤

هوامش

(١) تاريخ مصر الحديث — عباس الخرادلي.
(٢) كلمة الكافير كلمة مشتقة من كلمة كافر العربية.
(٣) مجلس الشيوخ مؤلف من ٤٠ عضوًا؛ ثمانية عن كل مستعمرة، وثمانية يعينهم الحاكم.
(٤) كثر أعضاء السلطة التشريعية اليوم من البوير، وهم سائدون في مناصب الحكومة ويحاولون التخلص من كثير من الموظفين الإنكليز.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤