الفصل السابع عشر

السُّودان في الدستور المصري

ألفت وزارة المغفور له عبد الخالق ثروت باشا في سنة ١٩٢٢ لجنة لوضع الدستور، وكان الزعيم سعد وبعض صحبه في المنفى في سيشيل، وفرغت اللَّجنة من مهمتها، وتلقَّت في أثناء اجتماعها ما يلي:

(١) كتاب للأمير عمر طوسون

إلى حضرة صاحب الدولة رئيس لجنة الدستور العمومية حضرة صاحب الدولة حسين رشدي باشا.

إنَّ لجنة الدستور التي ترأسونها دولتكم يجب أن يكون عملها مطابقًا لرغبات الأمة. ومسألة السُّودان من أمهات المسائل الشاغلة للرأي العام المصري، وكان الواجب على الوزارة الحاضرة أن تحصل على الاعتراف ببطلان اتِّفاقيَّة السُّودان سنة ١٨٩٩، وتجعل حل هذه المسألة من الشروط الأساسية التي لا يمكن تشكيل الوزارة قبل البتِّ فيها.

ولكن إذا كان هذا قد فات الوزارة مع مزيد الأسف، فلا يصح أن يفوت دولتكم وحضرات إخوانكم أعضاء لجنة الدستور.

لذلك جئت بخطابي هذا مذكرًا دولتكم بوجوب اعتبار السُّودان ضمن حدود البلاد كما كان قبل الاحتلال، ووجوب تشكيل مجلس نوابنا من المصريين والسُّودانيين على حدٍّ سواء حتَّى يجلس نواب إخواننا سُكَّان السُّودان المصري مع زملائهم سُكَّان الوجهين البحري والقبلي ويعمل الجميع للمصلحة المشتركة التي لا انفصام لها أبدًا.

واقبلوا فائق احترامي.

٣ مايو سنة ١٩٢٣

(٢) السودان في مشروع لجنة الدستور

جاء في مشروع الدستور الذي وضعته لجنة الدستور في صدد السُّودان ما يلي:
  • مادة ٢٩: الملك يلقب بملك مصر والسُّودان.
  • مادة ١٤٥: تجري أحكام هذا الدستور على المملكة المصريَّة جميعها عدا السُّودان، فمع أنَّه جزء منها يُقرَّر نظام الحكم فيه بقانون خاص.
ولمَّا علم المندوب السَّامي اللُّورد اللنبي بذلك لفت نظر دولة ثروت باشا إلى أنَّ هذين النَّصين يخالفان اتِّفاقيَّة ١٨٩٩، وقد استقالت وزارة ثروت باشا قبل أن تصدر الدستور، وتألفت وزارة حضرة صاحب الدولة محمد توفيق نسيم باشا، وعندما أرادت إصداره وفيه هذان النصَّان، وجهت الحكومة البريطانية بلاغًا تهديديًّا ورفعته إلى جلالة الملك. فاضطرت الوزارة النسيمية إلى تقديم الاستقالة، وفيما يلي نص استقالتها:

استقالة نسيم باشا بسبب السُّودان
مولاي

مرَّت على البلاد ظروف عدة أثناء تطورها السياسي وهي تتوقَّع في كلّ يوم حكومة تطأ بها الطريق السَّوي. فلمَّا شرَّفني مولاي أنا وزملائي بخدمة الأمة؛ قبلنا العمل على تحقيق آمالها التي جعلت أمانةً بين أيدينا.

ولما كانت البلاد تجتاز دورًا من أدقِّ أدوارها لحل جملة من مسائلها العامَّة المعلقة بمؤتمر لوزان وإعلان الدستور والفصل في قانون التضمينات توطئة لإلغاء الأحكام العرفية وما يترتب عليها، أقدمنا على بحث هذه المسائل، وابتغينا الوسائل ملتمسين الخُطى مبتدئين بمسألة لوزان التي تشعبت فيها آراء الناس بشأن التَّمثيل والممثلين. ولمَّا لم تكن قد وصلت إلى الحكومة المصريَّة دعوة رسمية لحضور هذا المؤتمر سعت وزارة الخارجية المصريَّة على أثر تسلمنا إدارة البلاد للحصول على هذه الدعوة لدى الدول ذات الشأن في بعث هذه الدعوة. ولكنَّها لم توفق ولم يُقبل البروجرام الذي قبلت هذه الحكومة أن تدخل المؤتمر على مقتضاه.

وفي أثناء هذه المفاوضات كانت اللَّجنة التَّشريعيَّة تفحص مشروعي قانون الانتخاب والدستور، فلمَّا فرغت منهما رفعتهما إلى الحكومة فبحثتهما وأزالت من قانون الانتخاب بعض عبارات، وأدخلت على بعض النصوص تعديلًا، وكان من وراء ذلك عدم حرمان المنفيين والمعتقلين أو المحكوم عليهم من المحاكم العسكرية البريطانية بأحكام وفي جرائم معينة من التمتع بحقوق الانتخاب. ولم ينقص من الدستور ما يمس بحقوق الأمة، بل أبقت فيه ما يتعلَّق باشتراكها في الحكم اشتراكًا فعليًّا، وتركت لها الإشراف ومسئولية الوزارة أمام مجلس النواب، ولقد كان محل البحث والتعديل إلى آخر لحظة. وهو على وشك الصدور مطابقًا لغيره من دساتير الأمم المتمدِّنة لولا ما صادفته الحكومة من اعتراض الحكومة الإنكليزيَّة على النَّصين الواردين فيه بشأن السُّودان طالبةً تحرير أحدهما وقصر الآخر على تلقيب الملك بملك مصر وليس بملك مصر والسُّودان. وقد كان البحث مقصورًا في أول الأمر على المادة ١٤٥، وقد اقتضى تبادل الرأي فيما تقدم إلى مناقشة طويلة أبنت في غضونها بالحجج القانونية والأدلة الفعلية الناهضة على وجوب الاحتفاظ بنص المشروع، وكان من أهم ما لاحظته أن المادة ١٤٥ المقصودة بتبادل الرأي لا تنطوي على شيء ما، يخالف الحالة السائدة الآن فيما يتعلَّق بالسُّودان من جهتي الواقع والقانون، بل إن كلّ ما تحتويه إنما هو مجرد تقرير ما لمصر من الحقوق الشرعية بدون إدخال تغيير على الحالة الراهنة.

وفي نهاية الأمر اقترحت دار المندوب السَّامي نصًّا جديدًا طرح على بساط البحث والمناقشة فبعد تحويره تحويرًا طفيفًا حاز الموافقة أُبلغ إلى وزارة الخارجية.

وخلاصة ما ورد فيه أن الدستور يتناول تطبيقه الأقطار المصريَّة ما خلا السُّودان بشرط ألَّا يمس هذا الاستثناء بسيادة مصر على السُّودان ولا بحقوقها الأخرى فيه، ثمَّ جدت مناقشة تلقيب الملك بملك مصر والسُّودان، وعرضت وزارة خارجية بريطانيا العُظمى نصَّين آخرين يقضي أحدهما بحذف لقب ملك مصر والسُّودان وقصره على ملك مصر، والآخر بتعديل المادة ١٤٥ تعديلًا جوهريًّا. ولمَّا كان ذلك ماسًّا بحقوق البلاد، ما وسعني قبوله ولا تحمل مشئوليته، وقدمت مذكرة لفخامة المندوب السَّامي مبينًا وجهة النَّظر والأسانيد في هذا الموضوع. ولكن مع الأسف الشديد لم تصادف قبولًا لدى الحكومة الإنكليزيَّة التي قدمت أخيرًا لجلالتكم مذكِّرات شديدة ما كانت حكومتكم تتوقَّع صدورها، خصوصًا وقد كانت المفاوضات دائرة بينها وبين دار المندوب السَّامي بروح الوفاق والوئام. فلمَّا اطلعنا على هذه المذكرات لم أقبل تحمل تبعتها، وعرضت في الحال على جلالتكم استقالتي، ولمَّا كان المركز خطرًا والوقت المضروب للإجابة على هذه المذكرات معدودًا بالسَّاعات صار مدةً ريثما يجتمع بقية الوزراء في الصباح.

ولقد جرت مخابرات بين الحكومة ودار فخامة المندوب السَّامي كانت نتيجتها وضع نصَّين ورد فيهما أنَّ هذا اللقب يقرر وقت الفصل النهائي في نظام السُّودان بواسطة الممثلين المفوضين، وأنَّ تطبيق الدستور لا يمسُّ حقوق مصر في السُّودان، ورفع فخامة المندوب السَّامي النَّصين إلى وزارة خارجية إنكلترا منتظرًا الردّ الذي لم يصل بعد.

ونظرًا لما أكَّده فخامة المندوب السَّامي في هذه المذكرات التي قدمها لجلالتكم بأنَّ الحكومة البريطانية لا ترغب قط في أن تتعرَّض لحقوق مصر في السُّودان، ولا لحقوقها في مياه النِّيل، وصرَّح أنَّه إذا لم تُقبل وجهة نظر حكومته في أربع وعشرين ساعة؛ فإنَّ الحكومة البريطانية تستردُّ كامل حريتها في العمل بإزاء الحالة السياسية في السُّودان ومصر، وأُورَى بأنَّها تلجأ عند الضرورة إلى أي تدبيرٍ تراه مناسبًا.

ونظرًا للأخطار الجسيمة التي تستهدف لها البلاد في الحال من جرَّاء هذا الإنذار في حالة الرفض القطعي عند حلول الميعاد، وما كانت تدعو إليه الحالة والظروف، تلافت الحكومة الأمر ووافقت على أن تكتب لجلالتكم بقبول هذين النَّصين المراد وضعهما في الدستور الذي لم يُرفع لجلالتكم إلى الآن، ريثما يَرِدُ ردُّ الحكومة الإنكليزيَّة، وقد مضى ميعاد الأربع والعشرين ساعة المفروضة لوصوله.

بقيت الوزارة غير قابلة إلى آخر لحظة محدودة للردِّ المطلوب من مصر، وهي إذا أجابت نداء الواجب نحو العرش، فإنها أجابت أيضًا من أول الأزمة إلى الآن واجبها نحو البلاد، فقدمت استقالتها قبل أن تسجل في الدستور ما وافقت جلالتكم عليه تحت تأثير الحوادث محافظة على العرش في أحرج المواقف وعلى حقوق البلاد.

أمَّا قانون التضمينات الذي علقت الحكومة الإنكليزيَّة عليه رفع الأحكام العُرفية التي تئن منها البلاد منذ تسع سنوات شاكية آلامها وشدة وطأتها كلّ هذا الزمن، فقد تباحثنا أيضًا فيه وطلبنا لإقراره من الكفالات والضمانات ما يحفظ حقوق البلاد من الوجهتين المدنية والجنائية. وقد خطونا في هذا السبيل خطوات واسعة، ولكنَّنا وقفنا وسط الطريق لاستطلاع رأي الحكومة الإنكليزيَّة فيما حدَّدنا من الطلبات الخاصَّة بحفظ الحقوق المصريَّة ذلك من جهة ولعدم إتمام البحث من جهة أخرى. ولقد جعلنا للمنفيين والمسجونين والمعتقلين حظًّا كبيرًا من تفكيرنا وقسطًا من أعمالنا وطلباتنا من أول توليتنا الحكم، بل وفي كلّ فرصة كانت تسنح فيحدث ما يحول دون إتمام النجاح تارة، ولتعلق بعض الحالات على إنهاء تلك المسائل العامَّة أو بعضها تارة أخرى.

وما رجونا من وراء جهادنا جزاءً ولا شكرًا، وتحملنا ألم السكوت ونقد الناقدين ريثما تنتهي المفاوضات إلى نتيجة حسنة. وما وهنت — يومًا — إرادتنا ولا نفوسنا عن العمل؛ لأنَّنا ما كنَّا نبغي المحال، بل نسعى جهدنا لتحقيق آمال بلادنا وللتوفيق بين مصالح قومنا ومصالح غيرنا، مؤملين إدراك النجاح، فلما أبطأ علينا نزعت يدي من ولاية الحكم قبل أن يتمَّ شيء بلا تثريب علينا، سائلين الرحمن أن يكلأ جلالتكم عنايته، وأن يهيِّئ للأمة حكومة قديرة على تحقيق أمانيها، فتتبوأ في مجلس الحكم مقامًا محمودًا، راجيًا قبول استقالتي، ولا زلتُ لجلالتكم العبد الخاضع والخادم الأمين.

صباح الاثنين ٥ فبراير سنة ١٩٢٣
الإمضاء: محمد توفيق نسيم

(٣) قبول الاستقالة

وقد تلقى حضرة صاحب الدولة محمد توفيق نسيم باشا الإرادة الملكية الصادرة بقبول استعفاء دولته وحضرات زملائه الوزراء من مناصبهم، وهذا نص كتاب جلالة الملك بقبول الاستقالة:

عزيزي محمد توفيق نسيم باشا

اطلعنا على كتاب استقالة دولتكم المرفوع إلينا بتاريخ ٥ فبراير الحاضر، فكان أسفنا لاستقالتكم عظيمًا لما نعلمه عنكم من شرف القصد والإخلاص، ولحسن مساعيكم في خدمة البلاد.

وإنَّا لشاكرون لكم ولحضرات زملائكم تلك الخدم الجليلة التي قمتم بها للأمة والوطن في عهد وزارتكم، وقد أصدرنا أمرنا هذا لدولتكم بذلك.

فؤاد

صدر بسراي عابدين في ١٣ جمادى الثَّاني سنة ١٣٤١ في ٩ فبراير سنة ١٩٢٣ رقم ١٦ سنة ١٩٢٣.

ثم أسندت رياسة الوزارة التي خلفت وزارة حضرة صاحب الدولة نسيم باشا إلى حضرة صاحب الدولة يحيى إبراهيم باشا، وصدر المرسوم الملكي بتأليف الوزارة في ١٥ مارس سنة ١٩٢٣.

وفيما يلي اقتراح وزارة نسيم باشا المشار إليه في كتاب استقالته:
  • الأول: أن المادة الأولى التي تنصُّ على أن ملك مصر هو ملك «مصر والسُّودان» ترفع منها الآن كلمة «السودان» إلى القرار الذي يصدره البرلمان المصري بعد مفاوضات يقوم بها مندوبون ينتخبهم البرلمان ويفوض إليهم المفاوضة في تقرير مركز السُّودان نهائيًّا.
  • الثاني: المادة الثَّانية (١٤٥) أن حذف «كلمة السُّودان جزء من مصر» وتطبيق قواعد الدستور على مصر لا يمس ما لمصر من الحقوق بالسودان.

وكانت استقالت وزارة نسيم باشا في ٥ فبراير ١٩٢٣ نشر كتاب قبول الاستقالة في ٩ فبراير ١٩٢٣.

(٤) وزارة يحيى باشا والدستور

وخلفتها وزارة يحيى باشا التي أعلنت الدستور في ١٩ إبريل ١٩٢٣ الساعة ١٠ ليلًا، وجاء فيه ما يلي:
  • المادة الأولى: مصر دولة ذات سيادة، وهي حُرَّة مستقلة مُلكها لا يُجزَّأ ولا ينزل عن شيء منه، وحكومتها ملكية وراثية، وشكلها نيابي.
  • المادة ١٥٩: تجري أحكام هذا الدستور على المملكة المصريَّة بدون أن يخل ذلك — مطلقًا — بما لمصر من الحقوق في السُّودان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤