الفصل الثاني

الإنكليز كحكَّام ومستعمرين

للإنكليز إمبراطورية واسعة منتشرة في جميع القارات، ويسكنها شعوب مختلفو الألوان والأديان والمذاهب والعادات. وهذه الإمبراطُوريَّة معبود الإنكليز. والمحافظة عليها أهم ما يشغلهم، وسياستهم في مصر والسُّودان تتأثر بالسياسة الإمبراطُوريَّة قبل الاعتبارات الأخرى. ولو لم يكن للإنكليز من أخلاقهم وطبيعة بلادهم ما يدعوهم إلى الاستعمار وحكم بلاد نائية، ما كان ممكنًا أن تقوم هذه الإمبراطُوريَّة وأن تعيش حتَّى الآن، بالرَّغم من الحوادث الكثيرة.

والإنكليز يحتلُّون مصر والسُّودان ولهم أمر ونهي فيهما، وكلمتهم مسموعة أكثر من كلمة الوطنيين أنفسهم؛ ولذا أصبح لزامًا على كلّ مصري وسوداني أن يقرأ تاريخ الإنكليز وأن يعرف سرَّ نجاحهم، سواء بزيارته لإنكلترا أم بملاحظته لأساليب الحكم الإنكليزي وخُلُق الإنكليز في مجتمعاتهم ومع أصدقائهم أم بالاطلاع على المؤلفات التي كُتبت عنهم، وهي مؤلَّفات تُعدُّ بالمئات وبمختلف اللغات. وآخر ما ظهر من المؤلَّفات في العربية كتاب «الإنكليز في بلادهم» لسعادة الدكتور حافظ عفيفي باشا، جمع فيه معلومات عن الحياة الداخلية الإنكليزية، من وجوهها الاجتماعيَّة والتَّعليميَّة والرياضيَّة والسِّياسية والاقتصاديَّة، ومن الخير أن تكثُر الكتب التي تُؤلَّف في تعريف الإنكليز وسياستهم وأحزابهم، وأن يدوِّن المصريون ما يعلمونه عنهم بالاستقراء والمشاهدة، وأن يُعنَى الكاتبون بعلاقة ذلك كله بمصر والسُّودان والاستعمار.

أمَّا نجاح الإنكليز في الاستعمار نجاحًا لا مثيل له، فيجب أن نُرجِعه بالضرورة إلى أسبابه ونأخذه من مظانِّه على النَّحو التَّالي:
  • (١)

    عُزلة إنكلترا عن القارَّة الأوروبية — قد مكَّنتها من أن تتَّخذ لنفسها سياسة خاصة، بينما استهدفت الممالك الأوروبية إلى المنافسات والحروب، التي اغتنمت إنكلترا فرصتها لمصلحة نفسها.

  • (٢)

    حاجتها إلى المواد الخام لصناعتها الناهضة — أدَّت بها إلى البحث عن هذه المواد في البلاد الأخرى وحمل المشاق.

  • (٣)

    بُعد الإنكليز عن الفلسفة والنَّظريات — لا يُتعِب الإنكليز أنفسهم في المناقشات والنَّظريَّات. بل ينظرون إلى المصلحة ويتحرَّونها ويتَّخذون مختلف الوسائل المؤدِّية إلى ذلك. ولذلك لا تعيش إنكلترا على الدستور المكتوب والقوانين المدوَّنة. وينهج قُضَاتها في أحكامهم منهج وزن الوقائع قبل وزن النَّظريات القانونية.

  • (٤)

    ديموقراطيَّة الإنكليز في بلادهم — هيَّأت لكلٍّ منهم أن يُبرِز كفايته.

  • (٥)

    وَلَعهم الطَّبيعي بالألعاب الرِّياضية — جعلهم ينظرون إلى السِّياسة كلُعبة من الألعاب.

  • (٦)

    الاعتماد على الزَّمن وانتهاز الفُرص — لا يُحدِّد الإنكليز أمانيهم بوقت بل يعملون لتحقيقها ويعتمدون على الزَّمن وعلى ظهور الفُرص واهتِبالِها.

  • (٧)

    روح السِّيادة التي يشعر الإنكليزي بها وإحساسه بأنَّه متفوق على غيره، فَلَكَم خَلَقَ الشعور بالسِّيادة والذَّاتية والاعتزاز بالنفس الزعماء والأبطال.

  • (٨)

    نظامهم التَّعليمي ومُطابقته للأخلاق الإنكليزيَّة وطبيعة البلاد وحاجتها.

  • (٩)

    جريهم في حكم المستعمرات ونحوها على الاستتار خلف حكومات وطنية.

هذا شيء من أسباب نجاحهم الاستعماري.

ونُورد فيما يلي آراء بعض الكتَّاب والمؤلِّفين في الإنكليز.

(١) كيف نفهم الرجل الإنكليزي؟

ألقى مستر جيلان بالإسكندرية محاضرة في هذا الموضوع قال فيها:

الطريقة المثلى لِنَفْهم مزاج الإنكليزي وطبائعه إنَّما هو درس حالته في وطنه «إنكلترا»؛ ذلك لأنَّ ما يبدو من التَّفاوت بين الإنكليزي في الخارج من صفات الكبرياء والصَّلَف والغرور واحتقار كلّ ما ليس إنكليزيًّا وبين ما يظهر به في بلاده من الصِّفات والأحوال، إنَّما يرجع إلى أسباب يحسن الوقوف عليها؛ إذ الواقع أنَّه ليس به كبرياء وإنَّما هو شعور بالذَّاتية يرجع إلى ما يقدِّره في نفسه من اتِّجاه الأنظار إليه، وهذه حالة تبعثه على التَّحوط والحذر حتَّى لا يكون عُرضة لقلة التَّرحيب به من الغير؛ ممَّا يؤدِّي إلى الخطأ في تقدير أنَّ مظهره هذا ناشئ عن الصَّلف والغرور. يُضاف إلى ذلك أنَّ الإنكليزي في الخارج إنَّما يتمثَّل في غالب الأحوال في طبقة السُّيَّاح الذين هم من أهل الثَّراء، والذين تعوَّدوا فرض مشيئتهم على الغير في بلادهم والسِّيادة في المناطق الأجنبيَّة.

وقد تكلَّم المحاضر بعد ذلك عن الحياة البَيْتيَّة وحبِّ الإنكليزي للاجتماع العائلي، وضرب لذلك مثلًا ممَّا جاء في كتاب المستر «وينر» في وصف المنزل الإنكليزي، وقابل صفات الإنكليز بغيرهم من أهل أوربا من حيث سهولة الاتِّصال الشَّخصي أو صعوبته، فإنَّ الرجل الأوربِّي قد تتوثَّق الصَّداقة بينه وبين غيره من دون أن يترتَّب على ذلك تبادل الزيارة المنزلية، على عكس الرجل الإنكليزي في بلاده فإنَّه يدعوك إلى الغداء في بيته ولو لم تكن مُستعدًّا لردِّ هذا الجميل إليه — ثمَّ انتقل المحاضر إلى نظام الطَّعام في إنكلترا وبساطته وقال: إنَّ الإنكليز يُعنَوْن بكيفية أكل الطعام أكثر من اهتمامهم بصنوفه، ثمَّ وصف بيان الوجبات التي يأكلها الإنكليز في الصباح والظهر والمساء والليل، واستطرد إلى أسلوب المحادثة، ووصف الإنكليز بأنَّهم قومٌ يميلون إلى الصَّمت والإقلال من الكلام، وأنّ الحديث يبدأ عادة بحالة الطقس، وأنَّهم يستنكرون الإيماء بالأيدي في أثناء المحادثة، ولا يحبون الوقوف للكلام في أثناء السَّير في الطريق للإشارة بعلامات إلى موضوع الحديث أو مسِّ أحد جوانب صديقه بيده؛ فإنَّ هذه الأفعال جميعها غير لائقة في إنكلترا، والتَّعبير بعبارة غير لائقة هو القاعدة أو المبدأ الذي يراعى عند الإنكليز في كلّ ما له علاقة بآداب السُّلوك. واستشهد المحاضر بقول رئيس شرطة إنكلترا من أنَّ قول الرجل للمرأة بلا موجب في الطريق العام «مساء الخير» قد يكون سببًا كافيًا للقبض عليه. ويقول المحاضر: إنَّ الإنكليز يستنكرون مخاطبة الرجل للرجل من دون سبق تعارف، وإنَّه إذا قَدِم أحدهم للآخر كان على الأخير أن يُبدي ابتسامة قائلًا: «كيف حالك؟» وأن يكون الردُّ على ذلك هو أيضًا «كيف حالك؟» وعندئذ تنتهي إجراءات التَّعارف ويسوّغ الشُّروع في المحادثة.

وانتقل المحاضر بعد ذلك إلى التَّعليم في المدارس العامَّة الإنكليزيَّة، وأنَّها تُعِدُّ مُتخرِّجيها لوظائف الحكومة لما هو مفروض فيهم من الاستعداد الخلقي والمقدرة على السَّير في معترك الحياة بأمانة واعتدال. وانتقل من ذلك إلى طبقة الأرستقراطيَّة التي كانت مقصورة على الأسر العريقة في الحسب والنَّسب، ثمَّ اندمج فيها رجال المال من أصحاب الصُّحف والشَّركات والأعمال، وذكر المحاضر أنَّ ممثلي إنكلترا في الخارج وكبار رجال موظفي الخارجيَّة والسِّفارات وحكَّام المستعمرات يُختارون من أفراد الطَّبقة العُليا الحائزين للدَّرجات العِلميَّة والكفايات الممتازة، ويُختار من هؤلاء أيضًا رجال القضاء والكنيسة وعظماء الضبَّاط في الجيش والبحرية، وهذه الطبقة هي التي يبني عليها الأجانب حكمهم عن أخلاق الإنكليز وعاداتهم.

وقد كان المحاضر يقتبس نُبذًا من أقوال الأجانب عن الإنكليز قائلًا: إنَّ كلامهم أوقع في إيضاح ما ينبغي في الموضوع، واستشهد بما يُنسب إلى الإنكليز من أنَّهم قد يضحكون في الأحوال التي لا تُثير الضَّحك عند غيرهم، وأشار المحاضر إلى عدم وجود المقاهي في إنكلترا، وأنَّ أمكنة الشَّراب ضيقة النِّطاق.

وأمَّا الألعاب التي يُعدُّ الإنكليز أصحاب القدح المعلَّى فيها، فقد قال المحاضر: إنَّ نسبة المشتغلين بها من الإنكليز قليلة، فإنَّ كرة القدم التي يلعبها اثنان وعشرون رجلًا في الحلبة يكون المتفرجون فيها عشرين ألفًا، وإنَّ حبَّ الإنكليز للألعاب ينحصر في دور الدِّراسة حيث يُخصَّص لها جزءٌ من برنامج التَّعليم، فإنها تُروِّض الأولاد على النَّظر إلى الحياة نظرة صالحة وأن يتلقَّوا الصَّدمات من دون تذمُّر.

والإنكليز يتمسَّكون بمظهر الانسجام: هم — على حريتهم — يحافظون على التَّقاليد ومصطلحات الحياة، وهم في مدارسهم العامَّة لا يتَّخذون رداءً مُعيَّنًا، ويعتبرون التَّقيد بذلك ماسًّا بحريتهم، ويتركون التلاميذ يرتدون ما يشاؤون، وهذا يُؤدِّي إلى ظهور التَّلاميذ بشكل واحد وليس عليهم مسيطر إلَّا الرأي العام، ولا شكَّ في أنَّ الإخلال والخروج عن المألوف يُعدُّ جريمةً، واللِّياقة عندهم هي ما يكون خاضعًا لِما يتطلَّبه الرأي العام، وكلُّ من يخرج عن هذا المبدأ يُعدُّ خارجًا.

وانتقل المحاضر بعد ذلك إلى المرأة الإنكليزيَّة قائلًا: إنَّ مكانتها عالية في الهيئة الاجتماعيَّة الإنكليزية؛ فإنها ذات نصيب وافر من الثَّقافة، وهي تُعامل بكلِّ احترام وتنتظر كلّ تقدير وتبجيل من ناحية الرجل. وإنَّ النساء أصبح لهنَّ حقُّ الاشتراك في الانتخابات وعضوية البرلمان ومزاولة صناعتي المحاماة والطِّب. وكنَّ السَّابقات إلى الإصلاحات الاجتماعيَّة، وهنَّ صاحبات الفضل في رفع الشَّكوى لإصلاح مساكن الطَّبقات الفقيرة والمحالِّ العُموميَّة، وإنَّ الأمَّ الإنكليزيَّة تحبُّ أطفالها، ولكنَّها لا تُفسد طباعهم ولا تُحجِم عن إرسالهم إلى المدارس الداخليَّة، وتُخفي دومًا شعورها إذا فارقتهم، كما أنَّ الولد من جانبه يرى من اللَّائق عدم إظهار التَّألم عند الفراق. وإنَّ أبناء الإنكليز يُتاح لهم نصيب وافر من الحرية لتكوين جماعات من الأصدقاء والعناية بما يهوون من الرَّغبات البريئة.

وقد استطرد المحاضر إلى نظام فِرَقِ الكشَّافة قائلًا: إنَّها ترجع إلى فكرة إنكليزية، ثمَّ انتشرت إلى البُلدان الأخرى، ولكنَّها تحوَّلت إلى غير معناها ومقصدها الأصلي؛ فإنَّه في البُلدان الأوربيَّة انقلبت نظامًا عسكريًّا، وهو ما ينبغي أن يتجنَّبه منظمو هذه الهيئات؛ إذ إنَّ المقصود من هذا النِّظام هو تكوين خلق النَّشء وتشجيع حبِّ الطَّبيعة والهوايات وحبِّ المطالعة وطرق الانتفاع بالأشياء. وقد وصف المحاضر حي الستي في مدينة لندن التي يرحل إليها كلّ مسافر إلى إنكلترا بأنَّ منطقة هذا الحي مجمع لكلِّ مظاهر النَّشاط والحياة والعمران، فهو مركز حركة الأعمال العالمية، وفيها البورصة الملكية وبنك إنكلترا.

وإنَّ خصائص الستي أنَّ كلّ شيء فيها يدلّ على السرعة، فليس فيها مقاهٍ للجلوس والتَّدخين ولعب الورق، وهناك ترى قاعدة «الوقت من ذهب» ظاهرةً أينما سِرتَ؛ فلا يقف النَّاس في الطَّريق لتبادل الحديث، ولا يسيرون لمجرد الرِّياضة؛ فإنَّ هذا النَّوع إنَّما يُقضى في البساتين، وليس الطريق إلَّا وسيلة الانتقال من مكان لآخر؛ إذ التَّسكع في الطريق جريمة، ورجال الشرطة لا يسمحون لرجل بالوقوف طويلًا إذا لحظوا ذلك.

ورجال البوليس مشهودٌ لهم بحُسن المعاملة وإرشاد الجمهور إلى ما يرغبون، وهم حُجَّة في تقدير الوقت ويراقبون مرور الأشخاص والمركبات بحِذْق ومهارة. والإنكليز مشهورون بحبِّهم للحيوانات، ويرجع ذلك إلى تربيتهم وعلمهم بأنَّ للحيوانات إحساسًا كما للإنسان. وليس من عادة الإنكليزي إذا التقى بآخر أن يرفع قُبَّعته للتَّسليم، وإنَّما يكتفي بإيماءة برأسه، وإذا وقفا فلا يُسلِّمان باليد، ويُلاحظ أنَّ الإنكليز إذا وُجِد اثنان أو ثلاثة منهم أمام باب، فلا يحاول أحدهم دعوة الآخرين للدُّخول بل المتَّبع في ذلك لديهم أنَّ «الوقت من ذهب»، وأنَ أقربهم من الباب يدخل الباب أولًا — وأمَّا المُتنزَّهات فإنها مفتوحة لجميع النَّاس وليس بها إعلانات بمنع السَّير على العُشب.

ويزدحم النَّاس صباحًا أيام الآحاد في هذه المتنزَّهات فيجلسون على كراسي موزَّعة في أنحاء كلّ متنزَّه، ويدفع الزَّائر بِنسين عن تذكرةٍ لاستعمال كرسيٍّ، وهذه التَّذكرة تُخوِّل استعمال كراسي جميع المتنزهات طيلة اليوم، وتمتاز هذه المتنزهات بمن يجتمع فيها من خُطباء الجمهور في أماكن مختلفة من دون أن يعترض للخطيب أو السَّامعين أحدٌ ما داموا محافظين على النِّظام. أمَّا مواعيد المحال العامَّة فهي محددة حسب الأصناف التي تباع فيها. وقد قال المحاضر في نهاية شرحه بأن الديموقراطية تتمثل في بلاد الإنكليز وأنَّ الخدمة العسكرية ليست إلزامية.

وقد طلب إلى السَّامعين أن يحاولوا الوقوف على مزاج وطبيعة الإنكليزي بأن يتَّصلوا به وأن يعلموا أنَّه شخص يحب الصَّراحة في كلامه ويكره المراوغة والدَّوران في المعاملة، وأشار إلى وجوب إزالة أسباب سوء التَّفاهم كلها والعمل على إزالة التَّنافر؛ إذ المعلوم أنَّه ليس من أمَّة إلَّا وفيها أخطاء، وأنَّ أخطاء الإنكليز تعود إلى أنَّهم أمةٌ تعيش في جزائر بعيدة عن المؤثِّرات التي تقع على سُكَّان القارَّات الأخرى، وهم لذلك ليسوا مستعدِّين لسرعة الارتباط بأسباب الصَّداقة بالغير.

وقال المحاضر — وهو أستاذ إنكليزي: إنَّنا نُخلص لمن تتوثَّق الصَّداقة بيننا وبينه، واستشهد بأبياتٍ لشاعر الإنكليز شاكسبير تحضُّ على التَّعارف واجتناب الغِلظة بالأصدقاء، والحذر من كلّ قادم، واجتناب المشاكل، والإصغاء إلى كلّ ما يُقال، والإقلال من الكلام، والتَّحفظ في الحكم على الأشياء. وقال المحاضر: إن هذه الأبيات تدلُّ على كثير من نواحي الخُلق الإنكليزي، وقد شكر الحاضرين لحُسن إصغائهم لكلامه، وطلب منهم اعتبار صراحته في الكلام دليلًا على حُسن قدره لهم، وأعرب عن أمله في أن يكون اطِّراد حسن التَّفاهم مؤدِّيًا إلى تقوية عناصر المودَّة والصَّداقة.

وطلب منهم ألَّا يحكموا على الإنكليز بما قد يجدونه من كلّ إنكليزي يصادفونه، بل الواجب أن ينتقلوا إلى الدِّيار الإنكليزيَّة لدرس أحوال الإنكليز؛ لأنَّهم يجدون كلّ ترحيب ويكتسبون مودة وإخاءً؛ فإنَّ الإنكليزي في بيته يخاطب صديقه كما يُخاطب الرجل الرجل من دون أن يكون للجنسيَّة أيُّ أثرٍ كان.

(٢) رأي أديب في أخلاق الإنكليز

عقد واشنجتون إرفنج Washington Irving١ القصصي الشهير وصاحب كتاب حياة محمد مقارنةً بين أخلاق الإنكليز والفرنسيين فقال:

مَثَل الأمَّتين الإنكليزيَّة والفرنسيَّة كمَثَل خيطين مختلفين في اللون قد تداخل كلّ منهما في الآخر دون أن يمتزج اللونان. وفي الحقيقة نجد أنَّ كلتا الأمَّتين تعتزُّ بتباينها واختلافها عن الأخرى، وذلك الاختلاف الذي لا يمنع قدر كلّ منهما لمحاسن الأخرى.

فالعقل الفرنسي سريع ونشيط وهو قادر على حلِّ المشكلات بسرعة البرق. وبقفزةٍ واحدة يصل إلى النَّتائج البعيدة التي غالبًا ما تُصدَّق بدون أن يُجهد نفسه في التَّحليل والتَّفكير المنتظمين. أمَّا العقل الإنكليزي فهو سريع ولكنَّه أكثر ثباتًا ومُثابرة، وهو أقلُّ فجأة ولكنَّه آكد وأضمن في استنباطه. وعلى ذلك فالسرعة والحركة في الفرنسيين تساعدهم على أن يجدوا السرور في ضروب إحساساتهم المتنوعة. حتَّى لنجدَ أنَّ قولهم وفعلهم يتبعان المؤثرات المباشرة والدوافع المتنوعة أكثر ممَّا يتبعان التَّعقل والتَّفكير. فهم لذلك أكثر حبًّا للاجتماع والمجتمع والأمكنة العامَّة ومواطن اللَّهو والسرور. أمَّا الإنكليزي فهو أكثر تفكيرًا في طباعه، فهو يعيش في دنيا قد حدَّدها ورسمها لنفسه، معتمدًا أكثر ما يكون على نفسه، وهو يحبُّ الهدوء في منزله، وعندما يتركه نجد أنَّه حريصٌ أيضًا على أن يخلق حول شخصه جوًّا من العُزلة والتَّحفظ، فنجده يسير خجولًا وحيدًا محتفِظًا بسرِّه لنفسه.

أيضًا بينما نجد الفرنسيين كثيرًا ما يميلون إلى التفاؤل منتهزين الفرص الحسنة وقت سُنوحِها والمسرَّات وقت مرورها، نجد الإنكليز يتغاضون عن خير عاجل في سبيل الاستعداد لشرٍّ محتمل.

هبْ أنَّ الشمس قد أشرقت لحظة من الزمن في يوم غائم قاتم فإنَّ الفرنسي ذا الطَّبع الزئبقي الذي لا يستقرُّ على حال تراه يلبس أحسن ثيابه ليمرح كالفراشة الجميلة كي يمتِّع نفسه بتلك اللحظة القصيرة من ضوء الشمس غير حاسب أيَّ حساب لما سيعقبها. كذلك هبْ أنَّ أشعتها قد ظهرت على أبهى ما يكون من الوضوح والجمال، فإنَّ الإنكليزي وهو الحذر الفطن يحمل مظلَّته في يده غير واثقٍ بتلك الأشعة المُغرية لو وجد سحابة صغيرة عند الأفق.

وللفرنسي قدرة عجيبة على الاستفادة من الأشياء مهما صَغُرت، فيمكنه أن يعيش سعيدًا ولو نقص دخله كثيرًا عن نظيره الإنكليزي. فالفرنسي مقتصد مدبِّر يخلق من التُّراب تبرًا. أمَّا الإنكليزي فمن طبعه الإسراف والتَّبذير. وتقدير كلّ شيء ضروريًّا كان أو كماليًّا تبعًا لقيمته … كذلك ليس له غرام بحب الظهور فمهما حاول أن يتظاهر فمن المؤكَّد أنَّ غَوْرَ ظاهره كغور باطنه.

نلحظ كذلك أنَّ الفرنسي يتفوَّق في الفهم. أمَّا الإنكليزي ففي المزاج والطَّبع. والفرنسي ذو تصور مرح. أمَّا الإنكليزي فخياله أخصب وأثمر. والفرنسي إحساسه رقيق دقيق ليس أسهل من إثارته، وهو عُرضةٌ للتَّأثر والهياج الشَّديدين وإن كانَا غير ثابتين. أمَّا الإنكليزي فهو أكثر هدوءًا وبرودة، ليس من اليسير أن تستثيره وإن كان قادرًا على أن يصل إلى درجة عظيمة من الحماسة. وعلى هذا فالخطأ في الطَّبعين هو أن خفة الفرنسي عُرضة لأن تكون زَبَدًا وبذلك تذهب جُفاءً. ورزانة الإنكليزي عُرضة لأن تسكن وتهدأ وبذلك تصبح تبلُّدًا. ولو أمكننا — إذًا — أن نرقى بالطَّبعين وننهض بهما إلى حدِّ الاعتدال فإنَّنا نحفظ الفرنسي من أن ينتفخ وينفجر كالفُقاعة ونحفظ الإنكليزي من أن يركض وينتن كماء المستنقع.

كذلك ممَّا لا شك فيه أن التَّباين في الأخلاق يمتدُّ إلى كلّ ما يستهوي كلا الشَّعبين ويجذب انتباهه. فالفرنسي الحقيقي لا يمتزج بدمه أكثر من حبِّه للشُّهرة الحربية، فهو يقاتل ويعمل على الانتصار حبًّا في المجد والعظمة غير مبالٍ بما يدفعه ثمنًا لهذا المجد. وإنك لتعجب إذ تجد الفقير المعدم قد تهلَّل وجهه بالبشر وخفق قلبه بالفرح إذا ما قرأ نبأً رسميًّا حوى نصرًا حربيًّا. وما اللَّحم والكأس أحب إلى نفسه وأسد إلى رمقه من انتصار عظيم يُحرِزه جيش وطنه وانخذالٍ كبيرٍ يُصيب جيش عدوه. وإنَّ رؤية مليكه الباسل وهو يعود إلى أرض الوطن حاملًا غنائم الحرب وأسلابها ليهزَّ نفسه هزًّا حتَّى ليرمي بقبعته القديمة الرثَّة في الهواء ويقفز فوق حذائه الخشبي.

أمَّا «جون بول» فهو على العكس شخص يميل إلى التعقُّل والتفكير، فإذا ما أخطأ كان خطؤه معقولًا وإذا أقدم على حرب فللمصلحة العامة. وهو لا يتأخر عن قتل جاره في سبيل المحافظة على السلم والنظام، كما أنَّه — لحبه كسب المال — يدافع عن تجارته وصناعته ويحميها بقوته.

لهذا كله نجد أنَّ الأمَّتين شغلتهما الحروب من أزمان طويلة، وبينما كان غرض إحداهما المجد كان غرض الأخرى الخير. وفي سبيل المجد نجد أن فرنسا تفقد عاصمتها مرتين،٢ وفي سبيل الخير نجد أن إنكلترا تغرق في بحر من الدَّين.

(٣) أخلاق الإنكليز

ويقول «الأستاذ محمد عطية الإبراشي في كتابه «نظام التَّعليم في إنكلترا»:
يجب أن يعنى نظام التَّربية بالنَّظر في أخلاق الشعب وتقاليده وفي الصفات السائدة بين الأمة، وألا يكون ضد العادات القومية. كلّ هذه الأمور قد لوحظت في التَّعليم بإنكلترا فإنَّ الصفات والأخلاق التي تُعرف بها بين الأجناس البشرية معروفة منذ أجيال متأصِّلة فيها كلّ التَّأصيل. يقول «بيتر ساند يفرد»:

الرجل الإنكليزي مولعٌ بالمنافسة يحب من صميم فؤاده الرحلات والسياحات. ولا يستطيع أحدٌ الاستقرار في إنكلترا إلَّا من كان يميل إلى المنافسة. وإنَّ هذا الميل إلى حبِّ التَّنافس لا يظهر للناظر العادي؛ لأنَّه مغطًّى بطبقة كثيفة من الهدوء العقلي، والرجل الإنكليزي يمقت النظريات والتفكير في النظريات، ويحب أن يقبض على الأمور العملية في الحياة ويحلها وهو سائر في عمله.» ويقول «بيتر ساند يفر» أيضًا: «إنَّ الرجل الإنكليزي يُرى هادئًا وهو في حاجة إلى قوة الخيال، ومن صعب أن تؤثر فيه، فهو كالفحم الحجري الصّلب يتَّقد ببطء، ولكن حينما يتَّقد يحترق إلى النهاية.

ولدى الرجل الإنكليزي قوَّة كبيرة على كتمان شعوره، ويمكنه أن يمتلك نفسه، وهو شديد المحافظة على القديم يحبُّ الحرية الشَّخصيَّة فوق كلّ شيء. ولقد قاتل في سبيل تلك الحرية أكثر من ألف سنة. ويقول «ساند يفرد» في موضع آخر:

الرجل الإنكليزي هادئ من الجهة العقلية، ولديه حبٌّ عميقٌ للحرية. ولقد كانت هاتان الصفتان سببًا في اتِّخاذه سياسة البطء لا في السِّياسة فحسب بل في التَّعليم كذلك». وهو منعزلٌ بطبيعته يحبُّ العُزلة والوِحْدة، لا يُحادِثك إلَّا إذا تعارف بك. وقد يكون هذا الانعزال ناشئًا عن الحياء والخجل. وإن حادثك فلا تخرج محادثته في الغالب عن الجو، والجو لحسن الحظِّ كثير التَّغير والتَّقلب بإنكلترا؛ فمن اعتدال في الطقس إلى ضباب أو مطر أو برودة، أو عاصفة أو رعد وبرق. وإذا زالت الكُلفة وذهب الخجل تحادث معك في أي موضوع كالخيَّالة والتَّمثيل والألعاب الرياضية والموضوعات الأدبية والاجتماعية. يتجنَّب الأمور الشَّخصيَّة فلا يسألك عن مقدار ما يمنحك أبوك في الشهر ولا عن مقدار ما تنفقه أو تدفعه للسّكنى أسبوعيًّا — كما يسأل الفضوليون حيثما يرونك أو يعرفونك أول مرة. ويميل الإنكليزي دائمًا إلى التَّحفظ في الجواب فلا يجيب إجابة الجازم المتحقق، ولكنَّه يجعل للشك دخلًا في كلّ ما يقوله، ويجيب دائمًا بكلمة «أظن، أو ربما» بعكس الرجل الفرنسوي فإنَّه يميل كثيرًا إلى الجزم والتَّخمين.

والإنكليز معروفون بحبهم للمحافظة على القديم. وفي إنكلترا تندر العجلة في تنفيذ نظرية من النظريات أو مشروع من المشروعات في التَّربية والتعليم، فبينما تحاول الولايات المتحدة بأمريكا تجربة طائفة كبيرة من طرق التَّعليم والنظريات الحديثة — وقد لا توافق على شيء منها بعد التَّجربة وعدم الاستحسان — تجد إنكلترا في هذه الحال مثلًا في دور المناقشة والمناظرة في طريقة واحدة من هذه الطرق؛ لأنَّ إنكلترا تخاف الخسارة وضياع الوقت. أمَّا الولايات المتحدة فلا تبالي بما تفقده في سبيل البحث والتجربة، ولذا تجدها اليوم تقود العالم في العلم والاختراع والصناعة، وقد ساعدها غناها على هذا التَّقدُّم والإقدام. فالمحافظة على القديم في إنكلترا لها فوائد؛ ولكن يجب ألَّا ننسى أن لها أيضًا كثيرًا من المضار، فإنكلترا تميل إلى الوقوف عند حدٍّ ما وهي بطيئة في الإصلاح؛ لأنَّها لا تستفيد في الحال ممَّا يقدمه لها المفكرون وما يظهره المصلحون من أبنائها، ولا تشجع البحاثين والمخترعين تشجيعَ الولايات المتحدة لهم، وإنَّ ولع إنكلترا بالمحافظة على ما لديها يظهر جليًّا في القوانين المختلفة للتربية التي وافق عليها مجلس النواب الإنكليزي، فلا تجد مطلقًا حذف قانون من القوانين برُمَّته واستبداله بقانون آخر، بل تجد أنَّ كلّ قانون هو تعديل للقانون السَّابق للتَّوفيق بينه وبين الرأي الجديد الذي يُراد إدخاله. ولا يشك أحدٌ في أنَّ قوانينها في التَّربية ثابتة.

ومع ذلك حدث تغيير في التَّعليم بإنكلترا فمنذ سنة ١٩٠٠ ترى المحافظة على القديم أقلّ منها في الزمن السَّابق وفي الحق أنَّ التَّغيرات الحديثة بإنكلترا كثيرة وظاهرة لمن عرفها من قبل ورآها اليوم. ولا يشعر من الإنكليز بالفائدة الكبيرة من هذا التَّغيير إلَّا قليلٌ منهم، وكل ما تعرفه الأكثرية هو أنَّ هناك شيئًا يجري في عالم التَّربية، وأنَّ الأمور تتغيَّر بسرعة، وهم يشعرون بالحيرة في الابتداء وهم سكوت لا يتكلَّمون. ولا نُنكر أنَّ النِّزاع بين المحافظين والمجدِّدين دائم لا ينقطع ولو أنَّه نزاعٌ صامت.

ويظهر الميل الفطري لحرية الفكر واستقلال الرأي في أحوال كثيرة في التَّعليم بإنكلترا، وإنَّ قوانين التَّربية مفتوحةٌ للتَّغيير البطيء، فحينما تُظهر التَّجارب صواب الفكرة الجديدة ويرى معظم الناس فائدتها، يتغلَّب الإنكليز على كراهتهم لها. فالحرية الشَّخصيَّة تخضع دائمًا للمجتمع حبًّا في المصلحة العامَّة، فمثلًا كان الذهاب إلى المدرسة اختياريًّا يذهب إليها من يشاء من التلاميذ. لكن لمَّا تبيَّن أنَّ من المُحال تعميم التَّعليم إذا ظلَّ اختياريًّا غُيِّر هذا النِّظام وجُعِل إجباريًّا، وكان التَّفتيش الطِّبي على المدارس والتلاميذ اختياريًّا ثمَّ غُيِّر وجُعل إلزاميًّا. وكان إعداد المدرسين اختياريًّا أيضًا ثمَّ ظهر أنَّ المدرس لا يستطيع أن يقوم بمهنته كما ينبغي إلَّا إذا نال قسطًا من التَّربية وعرف طرق تدريس المواد؛ فجُعِل إعداد المدرسين إجباريًّا وَعده من الواجبات لرُقي التَّعليم. وهناك عشرات الأمثلة لأمور كانت اختياريَّة بإنكلترا وأصبحت إجبارية يُطالِب بها القانون.

وإن إنكلترا — وإن كانت أمة عمليَّة لا تدين بالنظريات — لا تمتنع من أن تعمل بما يمكن تنفيذه منها. ولا ينكر أحدٌ أنَّ النَّظرية التي لا يمكن تنفيذها لا فائدة منها ولا خير في العلم إذا لم يصحبه العمل؛ لذا كانت طريقة التَّعليم في إنكلترا طريقة عمليَّة تتَّفق هي والأمور العملية التي تحتاج إليها وتتَّفق مع حاجات الشَّعب وحياته. ولا يمكن أن نفهم هذه الطريقة منفردة عن التَّاريخ القومي والحالة الشعبية. والمهم لدى الإنكليز الوصول إلى العمل بأيِّ طريقةٍ كانت من غير عناء كبير وبحث طويل في النظريات. وتاريخ التَّعليم الإنكليزي مملوءٌ بالأمثلة الدالة على حب العمل وعدم الاكتراث للنظريات. فمدارس إنكلترا إذن مدارس عملية ذات قوة كبيرة وتأثير عظيم في تهذيب الأخلاق وتقويمها وإعداد رجال مخلصين عمليين يثقون بأنفسهم ويشعرون بما وجب عليهم لغيرهم، ولا يفرون من تحمل مسؤولية أيِّ عمل يقومون به، وهي مدارس تُربِّي في كلّ طفل الثِّقة بالنفس، فيقول لك دائمًا: «سأحاول» إذا سألته هل يستطيع أن يقوم بعمل من الأعمال.

(٤) زيادة أعمار المعلِّمين الإنكليز بسبب سلوك الطلبة

قالت جريدة إنكليزية تحت هذا العنوان «تقول لك كلّ أمٍّ في إنكلترا»: إن الأولاد في هذا الزمان يفوقون الأولاد في كلّ جيل سابق في أربعة أشياء:
  • (١)

    أنَّهم أصحُّ أجسامًا.

  • (٢)

    أنَّهم أعظم سرورًا بالحياة.

  • (٣)

    أنَّهم أجمل طلعةً.

  • (٤)

    أنَّهم أشدُّ ذكاءً بكثير وأحسنُ سلوكًا.

وكانت نتيجة حسن سلوكهم أنَّ متوسط أعمار المعلمين الآن زاد خمس سنوات على ما كان منذ ٢٠ سنة.

فقد ظهر من آخر إحصاء أن ٣٠٠ مدرس يبلغون الآن كلّ سنة سن ٧٥، و٥٠٠ مدرس سن ٧٠، وألف مدرس يبلغون سن ٦٠، وهي السن التي يعين فيها معاش لهم.

وقال رجل من وزارة المعارف «الإنكليزية»: إنَّ الجهد العصبي الذي يستهدف له المعلمون الآن أقلُّ ممَّا كان قبل الحرب.

وإنَّ طرق التَّعليم أصلحُ ممَّا كانت والطلبة أكثر قبولًا للتَّعليم ممَّا كانوا.

وقد تحسَّنت المعرفة العموميَّة كثيرًا على يد الصُّحف والراديو والسينما، وهذه المعرفة العموميَّة هي من العوامل المهمَّة في التَّربية.

وأهم من هذا كله أنَّ المعلمين لا يُرهقون الآن بما كان المعلمون يرهقون به منذ ٣٠ سنة بإكراههم على حفظ النِّظام؛ لأنَّ المدارس تُعلِّم الطلبة الآن تنظيم أنفسهم وتُشجِّعهم عليه مع زيادة إطلاق الحرية لهم، وهذا يُنقذ المعلمين من ضرورة إبقاء أنفسهم على مقياسٍ عالٍ من الإشراف والجهد العصبي للمحافظة على النِّظام في المدارس.»

(٥) الإمبراطوريَّة الإنكليزيَّة ومميزاتها

ويقول الدكتور محمد عوض في بحث له عن «الإمبراطورية البريطانية»:

إنَّ الإمبراطُوريَّة البريطانيَّة تشتمل على نحو ١٢ مليونًا من الأميال المربَّعة حسب تقدير المراجع البريطانية، التي تُدخِل في هذه المساحة السُّودان. وسكَّان هذه الإمبراطُوريَّة يبلغون اليوم زهاء ٤٥٠ مليونًا، «أي نحو خُمس سُكَّان الأرض في نحو خُمس مساحة اليابس من سطحها.

وهذه الإمبراطُوريَّة مترامية الأطراف، ومنها أراضٍ في جميع القارات والبحار. وعلى كثير من خطوط العرض. فمتى دارت الكرة الأرضية دورتها فلا بدَّ أن يكون جزء من تلك الكرة مغمورًا بأشعة الشمس، كما أنَّ جزءًا منها دائمًا في ظلام الليل البهيم. ولهذا قيل عنها: إنها لا تغرب عنها الشمس. ويمكن أن يُقال هذا أيضًا في ممتلكات روسيا وفرنسا وهولنده والولايات المتحدة. ولكن بدرجة أقلَّ.

ويقع أكثر من نصف الإمبراطُوريَّة في نصف الكرة الشَّمالي، وأقلُّ من النِّصف قليلًا في نصفها الجنوبي. والمعنى الجغرافي لهذا أنَّ أحد شِقَّي الإمبراطُوريَّة صيفٌ دائمًا أو شتاءٌ. بحيث تتمثَّل فيها جميع الفصول في آنٍ واحد تقريبًا.

بقي أن يُدرك القارئ حقيقةً هامَّة وهي أنَّ سُكَّان الإمبراطُوريَّة موزَّعون على الصورة الآتية:
  • الهند: ٣٢٠ مليون نسمة.
  • الجزائر البريطانية: ٤٥ مليون نسمة.
  • الدمنيون «الأراضي المستقلة»: ٢٥ مليون نسمة.
  • باقي الإمبراطُوريَّة: من ٥٠ إلى ٦٠ مليون نسمة.

وهكذا يرى القارئ المركز الهائل الذي تحتلُّه الهند في هذه المجموعة الفريدة، فإنَّه ليس بعد الهند والجزر البريطانية نفسها والأراضي المستقلة التي ليس لإنكلترا سلطان عليها، ليس لها بعد ذلك سوى أراضٍ يسكنها خمسون أو ستون مليونًا من الأنفس، أي ما لا يزيد عمَّا تملكه دولةٌ صغيرة مثل هولندة، التي تحكم شعوبًا في جزر الهند الشرقية وحدها يزيد عددها على الخمسين مليونًا. فالهند إذن هي ما تمتاز به بريطانيا. والهند هي الإمبراطُوريَّة الحقيقية.

والباقي إلى جانبها لا يكاد يُذكر. وهذه الحقيقة الهامة — أي المركز الفائق الذي للهند في الإمبراطُوريَّة البريطانية — من الحقائق التي لم نستطع أن نعثر عليها في كتاب «الإنكليز في بلادهم»، حيث أجمل الكلام عن الهند إجمالًا، وأفاض المؤلف في حديثه عن الأراضي المستقلة. ولا ندري لماذا اختصر الحديث عن الهند، وعلى كلّ حال ليس حديث الهند بالحديث الذي ترتاح له الآذان.

•••

وبعد — فحرصًا على الوضوح — يجب أن نذكر هنا أنَّ الإمبراطُوريَّة البريطانية تتألَّف من أراضٍ مستقلة استقلالًا أصبح اليوم تامًّا، وهي التي يُطلق عليها اسم دومنيون، وأهمها كندا وأستراليا وزيلندة الجديدة وأفريقية الجنوبية ودولة أيرلندة الحرة، وهذه قد فصَّل الحديث عنها صاحب كتاب «الإنكليز في بلادهم» بأسلوب سهل واضح، وأرانا كيف حصلت هذه الأراضي على استقلالها بالتَّدريج حتَّى أصبحت في يومنا هذا ومركزها في الإمبراطُوريَّة معادل تمامًا لمركز إنكلترا نفسها، وإذا كان هذا الاستقلال مصدر قوة للإمبراطوريَّة في نظر المؤلف فمن الجائز على كلّ حال أن يرى القارئ في هذا رأيًا آخر. والمؤلف يضرب لنا مثلًا بما حدث عام ١٩٢٢ يوم كان هنالك احتمال قيام إنكلترا بحرب ضدَّ تركيا فاستغاث لويد جورج بالدومنيون فلبَّت نداءه أستراليا وزيلندة الجديدة، ولم تلبِّ نداءه كندا أو جنوب أفريقية.

•••

والجزء الثَّاني الذي تتألَّف منه الإمبراطُوريَّة هي مستعمرات التَّاج وأراضٍ تحت الحماية كما هي الحال في أوغندة وفي المستعمرات الأفريقية المختلفة. وهي كلها تحت حكم وزارة المستعمرات.

والجزء الثالث هو الهند أهم أجزاء الإمبراطُوريَّة جميعًا. ويحكمه نائب عن الملك في الهند نفسها، تحت إشراف وزارة الهند الموجودة في لندن. ووزيرها من أهم وزراء الدولة.

والجزء الرابع من الإمبراطُوريَّة هو بالطبع الجزر البريطانية نفسها.

•••

وأكبر ما تمتاز به الإمبراطُوريَّة البريطانية هو أنَّها مترامية الأطراف متباعدة الأجزاء؛ ولهذا كان لا بدَّ من خلق رابطة تربطها، وتصل بين أجزائها. وهذه الرابطة التي بقوتها بقوتها تقوى الإمبراطُوريَّة وبضعفها تضعف، هي قوة الأسطول؛ لأنَّه إذا استحال الاتِّصال البرِّي — كما هو الحال في إمبراطورية الروسيا — فمن الواجب الحرص على الاتِّصال البحري، والتَّفوق فيه أمرٌ حيويٌّ جدًّا للإمبراطورية البريطانية. وهذا التَّفوق أمر حسَّاس جدًّا في الدِّفاع البريطاني، وكانت الدولة البريطانية تحرص أشدَّ الحرص قبل الحرب علي أن يكون الأسطول الإنكليزي متفوقًا في القوة على أيِّ أسطولين لأي دولتين. وهذه هي السُّنة التي استنَّتها إنكلترا قبل الحرب، وحرصت جهدها على أن تحافظ عليها، وسلَّمت لها الدول بها. ولم تحاول أن تجابهها في ذلك سوى ألمانيا، ومن أجل هذا لم يكن مفرّ لإنكلترا من دخول الحرب ضدها لهذا السبب؛ لا لأي سبب آخر.

وهذا المبدأ الذي استنَّته إنكلترا مبدأ تفوق الأسطول الإنكليزي سُنَّة معقولة، بل هو مبدأ لا بدَّ منه لسلامة تلك الدولة المترامية الأطراف. خصوصًا إذا ذكرنا أنَّه ليس للهند ولا لكندا أو أستراليا أو أفريقية الجنوبية أسطول يستحقُّ الذكر. فالمعقول أن يكون لدى إنكلترا أسطولٌ فائقٌ لجميع الأساطيل، خشية أن تتألَّب عليها أساطيل دولتين أو أكثر فتُمزَّق الإمبراطُوريَّة شرَّ ممزَّق.

ولقد كان من أهم حوادث التَّاريخ الحديث أن تخلَّت إنكلترا، أو أُكرهت على التَّخلي عن مبدأ التَّفوق، وقبلت — أو أُرغمت على قبول — المساواة بالولايات المتحدة. حيث تكون نسبة السُّفن القوية بين بريطانيا وأمريكا واليابان وإيطاليا وفرنسا هي على التوالي بنسبة ٥ : ٥ : ٣ : ٢٫٥ : ٢٫٥.

(٦) سياسة الإنكليز في البلاد الخاضعة لنفوذهم

للاستعمار الإنكليزي طابعٌ خاصٌّ يجعله مختلفًا عن استعمار الممالك الأخرى: فلا يبدأ الإنكليز بتعبئة الجيوش وإرسال الأساطيل لاحتلال البلاد التي يريدون استعمارها. بل يبدأون بإرسال الرحَّالة المغامرين والعلماء الكاشفين والمستشرقين وكتابتهم التَّقارير عن أحوال البلاد ولغاتها وحكوماتها الوطنية وأخلاق أبنائها وعاداتهم ونقط الضعف عندهم، ثمَّ تُنشأ مراكز تجارية وشركات تجارية وقنصليات، وتعقد معاهدات تجارية، تتطوَّر إلى معاهدات سياسية، وتبث إنكلترا بعض رجالها كموظفين فنيين ومستشارين في الحكومات الوطنية.

ويعتمد الإنكليز على الفرص وعلى الزمن، ومن الفرص النزاع بين العصبيات والأديان والمذاهب، والثَّورات بين الأمراء، فيستطيع الإنكليزي ولو كان تاجرًا واحدًا — بخُلقه المتين وبما يشعر به من روح السِّيادة — أن ينال ثقة الحكومات الوطنية المتنازعة في وقت واحد، وأن يكون الحكم الذي يُطاع حكمه من غير إراقة نقطة دم. وقد استطاع الكولونيل لورنس أن يظفر بثقة الشريف «الملك حسين» ملك الحجاز سابقًا وأولاده وأن يُلقِّبه الكتاب بملك العرب غير المتوَّج، واستطاع مستر «عبد الله» فلبي أن يظفر بثقة الملك ابن السعود إلى اليوم.

•••

ومن أغراض الاستعمار، ما هو اقتصادي وما هو إمبراطوري وما هو أدبي. أمَّا الاقتصادي فهو السَّيطرة على ينابيع المواد الخام. وأمَّا الإمبراطوري فهو ما كان لحفظ مواصلات الإمبراطُوريَّة، وبإنشاء ثغور ونقط عسكرية برية أو بحرية، مثل السيطرة على البحر الأحمر وتفوُّق النُّفوذ البريطاني في بلاد العرب، بالحمايات والاتِّفاقات، فليس لإنكلترا منافع اقتصادية جوهرية في تلك المناطق.

أمَّا الاستعمار الذي يكون الغرض منه أدبيًّا فهو منافسة البلاد الأخرى وتعزيز مقام الإمبراطُوريَّة وإبرازها قوية. وهناك استعمار مصطبغ بصبغة الإنسانية، وهي دعوى إنقاذ الأمم الضعيفة من الجهل والظلم والفوضى والرِّق!

ويماشي الاستعمار الإنكليزي التَّطورات ويحسب حسابها، أو يحاول أن يحسب حسابها، فلقد أصبحت أستراليا ونيوزيلندة وكندا واتحاد جنوبي أفريقية، متمتعة بالحكم الذاتي وباستقلال داخلي تامٍّ، أو كما يصفها بعض رجال القانون الدولي أنَّها أصبحت ممالك مستقلة متحالفة في اتحاد بريطاني. محتفظة بالتَّاج البريطاني، حتَّى دُعيت إنكلترا بأنَّها «الأم».

لو أنَّ إنكلترا أرادت احتلال طرابلس الغرب، فإنَّني لا أعتقد أنها كانت تفعل ما فعلت إيطاليا من حشد الجيوش والأساطيل، وإضاعة ملايين الجنيهات، وإفناء ألوف الإيطاليين، واحتمال تبعة الفظائع، مع أن طرابلس — في الأغلب — صحراء جرداء كانت إنكلترا تبدأ بالاعتراف بالحكم الوطني ومماشاته والتأثير فيه تدريجيًّا.

ويزن الإنكليز التَّكاليف التي يحتملونها من أجل الاحتلال، فهم يريدون الاستعمار من أيسر السُّبل وبأقلِّ التَّكاليف. وإذا اضطروا للحرب، ففي الغالب حيث لا يكون هناك مناص منها لتعزيز النفوذ، وحيث لا يرون الشعوب تُذعن لغير القوة أو مظهرها، وحيث تكون الحرب مأمونة العاقبة، أي إنَّ النصر هو المصير الأرجح لها، كما حدث في جنوب أفريقيا وفي احتلال مصر والاشتراك في استعادة السُّودان.

وبعد أن تنتهي الحرب، يعمل الإنكليز على إزالة سوء التَّفاهم وتوطيد الحكم، بالعفو عن زعماء الثائرين شيئًا فشيئًا وبحسب الظروف، وبإكرامهم والاستعانة بنفوذهم لتوطيد الحكم. فبعد إعادة السُّودان، جنحت الحكومة السُّودانية إلى تعيين مرتبات لأبناء المهدي وخلفائه وزعماء المهدية، وتعليم الكثير منهم مجانًا وتعيينهم في الوظائف.

أي إنَّه بعد الانتصار في الحرب، يعرف الإنكليز أنَّ هناك مهمة أخرى هي توطيد الحكم الإنكليزي، بإزالة آثار الحرب من النفوس ومصافاة الثائرين، إلَّا إذا أصرُّوا على العداء، فعندئذٍ «يؤدَّبون» بالقوة، حتَّى يُذعنوا أو يموتوا.

ولا يتدخل الإنكليز بالقوة في العقائد الدينية والعادات وفرض لغتهم، فإذا انتشرت لغتهم فإنَّما ذلك يجيء من طريق المكاتبات الرَّسمية وبتفضيل العارفين للإنكليزية في الوظائف، وبتعيين المعلمين الإنكليز في المدارس، وهكذا تنتشر الإنكليزيَّة تدريجيًّا.

ويستعين الإنكليز في الحكم بالفئات الأهليَّة الموالية لهم، وهم يكثرون منها، ويداولون بينها، ويثيرون الخلاف بينها، أو يستغلُّون ما بينها من خلاف، وتُقدِّم الحكومة البريطانية الهدايا والأوسمة للزعماء وكبار القوم، وأحيانًا تُعيِّن مرتبات، كما هو حاصل في الهند والسُّودان والإمارات العربية المحميَّة.

وتعيين الطُّرق، وتسهيل المواصلات بأنواعها، والاهتمام بالسَّواحل والمعاقل، والسَّيطرة على الجيش والسلاح، ومنع تسليح الأهالي، هو أول ما يعني به الإنكليز في المحافظة على المستعمرات والبلاد الخاضعة لنوع من النفوذ البريطاني.

هوامش

(١) واشنجتون إرفنج (١٧٨٣–١٨٥٩) كاتب قصصي عظيم ملأت شهرته الدنيا القديمة والجديدة، ومن بين مؤلفاته العديدة كتابه عن حياة العظماء و«حياة محمد».
(٢) يشير الكاتب إلى دخول الحلفاء باريس يوم ٣١ مارس سنة ١٨١٤ أيام نابليون الأول. كذلك دخول الألمان باريس يوم ٢٨ يناير سنة ١٨٧١ أيام نابليون الثالث.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤