الفصل الحادي والعشرون

النيل يُوحِّد بين مصر والسُّودان

لما كان النِّيل هو العلاقة الطبيعية بين مصر والسُّودان، وهو مصدر الحياة ومرجع السِّياسة والحكم فيهما في عصور مختلفة — فقد آثرنا أن نعقد هذا الفصل لبحث هذا النهر:

النيل نهر من أهم أنهار العالم وثانيها طولًا إذْ يبلغ طوله من أقصى منبعه عند بحيرة تنجانيقا إلى البحر الأبيض المتوسط ٦٥٠٠ كيلو متر أو ما يزيد على الأربعة آلاف ميل، ولا يضارعه في الطول غير نهر المسيسيبي مع فرعه الميسوري؛ إذ يبلغ طولهما ٤٢٠٠ ميل تقريبًا.

ويفوقه الكثير من الأنهر في كمية الماء، ولكن لا يفوقه منها نهر من الوجهة العلمية، ومن المحتمل أن يكون القليل من الأنهر قد درس بتفصيل مثله إلَّا أن تنائي بعض الأجزاء من حوضه وصعوبة الوصول إليها ترك الكثير من المعلومات عنه غير مجموع.

ويشغل حوضه مسطحًا يقرب من ٢٩٠٠٠ كيلومتر مربع أو ثلاثة أعشار القارة الأوربيَّة وكثير من هذه المساحة العظيمة لا يمد النَّهر بالإيراد المائي.

ويمتد حوضه من خط عرض ٤° جنوبًا إلى خط عرض ٣١° شمالًا، ويشمل جزءًا من إقليم تنجانيقا «أفريقيا الشرقية الألمانية سابقًا» وكنيا والكونغو البلجيكي والحبشة، وما يقرب من كلِّ مستعمرة أوغندا كلها والسُّودان ومصر. ويشمل حوضه زيادة على ذلك بحيرة فيكتوريا التي هي أكبر بحيرة عذبة في نصف الكرة الشَّرقي ومدينة القاهرة، وهي أكبر مدينة في أفريقيا وجبل الرونزوري، «ويبلغ ارتفاعه ٥١٢٠ مترًا أو ١٦٨٠٠ قدم»، وهو ثالث جبال أفريقيا ارتفاعًا.

ويشمل حوض النِّيل لاتساع مداه طولًا وارتفاعًا الكثير من مختلف المناخ، وكذا الكثير من مختلف الأحياء النباتية والحيوانية.

فمن نباتاته ما هو من نوع نباتات جبال الألب، وهي تنمو في أعالي جبال كينيا وجبل الراونزوري الذي يغطي الجليد قممه على الدَّوام، ومنها أيضًا الغابات الاستوائية الكثيفة بصعيد البحيرات وحشائش الفيلة الطويلة المنتشرة في أكثر أراضي أوغندا وغابات سفانا القليلة الأشجار التي توجد في الجزء الجنوبي من الحوض والنباتات الكثيفة التي تنمو بالمستنقعات الاستوائية وغابات أواسط السُّودان ذات الأشجار الشوكية والنباتات الضئيلة التي تنمو في الصحراء المكوِّنة للجزء الشَّمالي من الحوض، وبحوض النِّيل زيادة على ذلك المحصولات الوافرة التي تزرع في القطر المصري.

أمَّا حيوانات الجزء الجنوبي من الحوض فتنتظم الكثير من الأنواع، وأكثرها شيوعًا: الفيل والجاموس والأسد والفهد والغزال العوام والتياتل ذوات الألوان المختلفة، والكثير من أنواع الخيول القصيرة وتياتل جنوب أفريقية، وعجل البحر، وغزال الأحراش، والغزال العادي، والخنزير البري، والقردة، وعلاوة على ذلك فالمنطقة غنية بطيورها، وأكثرها شيوعًا الطيور المائية وجوارح الطير وطيور الصيد التي منها الغرغر والقطا.

ومن حيواناته الزاحفة: التمساح، وهو منتشر في البحيرات والأنهر والكثير من أجناس السحالي والأفاعي، وكذا تكثر فيه الأسماك.

ويقطن حوض أعالي النِّيل الكثير من الحشرات المؤذية والوبائية، وعلى الأخص الناموس، وفي بعض الجهات يوجد ذباب تسي تسي وغيره من أنواع الذباب القارص التي تسبب الأوبئة التي تصيب الإنسان والحيوان. ولا يمكن الاحتفاظ بالماشية في بعض جهات الجزء الجنوبي، فلا وسيلة للنقل غير استخدام الحمالين، وقد أغنى عنهم النَّقل الميكانيكي في الجهات التي بها طرق ممهدة.

(١) وصف حوض النيل

ينقسم حوض النِّيل إلى الأقسام الآتية:
  • (١)

    النِّيل الأعظم من مصب العطبرة إلى البحر.

  • (٢)

    العطبرة.

  • (٣)

    النِّيل الأزرق وروافده.

  • (٤)
    النِّيل الأبيض، وينقسم إلى:
    • (أ)

      السوباط.

    • (ب)

      بحر الجبل.

    • (جـ)

      بحر الغزال.

    • (د)

      صعيد البحيرات.

والمنطقة من شمال العطبرة بقليل إلى قرب مدينة القاهرة تكاد تكون عديمة الأمطار إلَّا في تلال البحر الأحمر.

وتنحصر النباتات بجميع أنواعها في جزء ضيق بالقرب من النَّهر وما بعد عن ذلك فهو صحراء. والوادي في هذه المنطقة عادة ضيق وواضح الحدود ومحصور بين تلال الصحراء. ويتسع الوادي شمال القاهرة فيكوِّن دلتا مصر الخصبة. والملاحة ميسورة في النِّيل مدة جزء من السنة من البحر حتَّى وادي حلفا حيث يقع الشلال الثَّاني جنوبها مباشرة، وكثيرًا ما تعيق الشلالات الملاحة من وادي حلفا إلى الخرطوم التي تبعد عن البحر ٣٠٧٠ كيلومترًا نهرًا. وينبع نهر العطبرة من الجزء الشَّمالي من الحبشة، وبالرَّغم ممَّا به من كميَّات الماء الوافرة إبان أغسطس وسبتمبر فإنَّه يأخذ في النقصان من ديسمبر إلى يونية حتَّى يصبح بركًا متناثرة.

ويمتد سهل السُّودان الواسع جنوبًا من شمال نهر العطبرة حيث تحدُّه نجاد الحبشة شرقًا وصعيد البحيرات والأراضي المرتفعة الفاصلة بين حوضي نهري النِّيل والكونغو جنوبًا. أمَّا الحد الغربي فهو أكثر تدرُّجًا وحدوده من الأراضي المرتفعة ليست بمثل هذا الوضوح.

وتظهر تلال منعزلة في السهل لكنها قليلة ومتباعدة.

وينبع النِّيل الأزرق من بحيرة تانا بصعيد الحبشة على ارتفاع ١٨٥٠ مترًا، ويجري النهر بعد تركه البحيرة في وادٍ يتزايد في العمق تدريجيًّا حتَّى يشبه الهوَّة في بعض الأماكن إلى أن يصل إلى سهول السُّودان جنوب الروصيرص، ويتصل به في هذا الجزء الكثير من النهيرات التي تجري كالسيول، وأهمها الديديسا والدابوس، ولا يعرف عنهما إلَّا القليل. والنيل الأزرق سهل الملاحة من الروصيرص شمالًا لمدة من السنة، ويتصل به في جزئه الأسفل الدندر والرهاد من الحبشة، ويمدَّانه بكمية معتدلة من المياه في الفيضان، ولكنهما يجفان بعد ذلك فيصبحان كالعطبرة بركًا متوالية، وتحمل جميع الأنهر الآتية من صعيد الحبشة كمية من الطَّمي إبان الفيضان. وتبعد بحيرة تانا عن مدينة الخرطوم ١٦٢٠ كيلومترًا نهرًا.

ويتَّحد النِّيل الأزرق مع النِّيل الأبيض عند الخرطوم.

ويستمد النِّيل الأبيض ماءه من السوباط وبحر الزراف وبحر الجبل وبحر الغزال. ويتكوَّن السوباط من رافد البارو الذي ينبع من صعيد الحبشة وروافد البيبور الذي يستمد ماءه من الحبشة ومن منحدرات صعيد البحيرات، ويشمل حوض السوباط مساحات شاسعة تتحوَّل إلى مستنقعات في فصل الأمطار. وتتيسَّر الملاحة فيه زمان الفيضان حتَّى جمبيلا على رافد البارو بالحبشة وإلى ما بعد أكوبو على رافد البيبور.

ويبدأ بحر الزراف من المستنقعات التي في بحر الجبل، وقد وصل بحر الزراف ببحر الجبل بقناتين صناعيتين، ويجري جزؤه بين الأسفل ضفتين منتظمتين. أما جزؤه الأعلى فيجري في مستنقعات.

ويجري النِّيل الأبيض بين ملتقى السوباط وملتقى بحر الغزال من الغرب إلى الشَّرق، ويستمدُّ بحر الغزال مياءه من المنحدرات الشمالية لخط تقسيم المياه بين النِّيل والكونغو الذي ينحدر منه الكثير من المجاري إلى سهول السُّودان، حيث تكون مستنقعات يتبخر منها كلّ ما يصلها من المياه، فلا يجري منها في بحر الغزال غير النَّزر اليسير. ويطلق اسم بحر الجبل على المجرى الأساسي للنيل الأبيض من الجنوب، وهذه التَّسمية أطلقها العرب، وقد كانوا أوَّل من أبحر فيه. وتجاوره المستنقعات الواسعة على الجانبين في الجزء الأسفل من مجراه، وتُعرف بمنطقة السدِّ، وتمتدُّ شمالًا من بور إلى بحيرة نو، وكثيرًا ما سدَّت الأعشاب الطَّافية بحر الجبل في سنة ١٩٠٣ حتَّى كانت الملاحة فيه أحيانًا مستحيلة؛ ولذا سُمِّيت بمنطقة السد، وإذا نظرنا إلى منطقة السدِّ من فوق سطح مركب بخار لرأينا مستنقعًا مترامي الأطراف به عُشب البردي وأمُّ الصوف والأمباتش والبوص الطويل. وربما رأينا القليل من الأشجار عن بُعد، وهي دليل على وجود أراضٍ مرتفعة جافة. ويتوقَّف مسطح المستنقعات على ارتفاع منسوب النهر. وهو يختلف كثيرًا من عامٍ لآخر. ومجراه في شمال منجلا ليس محصورًا في قناة واحدة؛ نظرًا لما يخترقه من مجاري المياه والبرك. ومنطقة المستنقعات هذه سبب خسارة فادحة في الماء.
figure
منطقة السدود، حيث الأعشاب ومساحات ماء قليلة العمق في بحر الجبل والزراف والغزال.

ويمكن رؤية تلال جنوب منجلا على بعد. وتنقطع الملاحة عند الرجاف التي تبعد عن الخرطوم ١٧٦٠ كيلومترًا، ويجري النَّهر من الرجاف إلى نمولي على حدود أوغندا في وادٍ ضيق تعيق سيره شلالات أشدها تأثيرًا شلالات فولا جنوب نمولي مباشرة، والإقليم ذو مرتفعات ومنخفضات، لكنه يرتفع تدريجيًّا شطر صعيد البحيرات.

أمَّا فوق نمولي فبحر الجبل أو نيل ألبرت، كما قد يُدعى أحيانًا، سهل الملاحة حتَّى بحيرة ألبرت، وبهذه المنطقة بعض المستنقعات، وتصب في النِّيل بين بحيرة ألبرت والرجاف نهيرات كثيرة. وبالرَّغم ممَّا تمد به النَّهر من كميَّات الماء الوافرة في فصل الأمطار فإنَّ أغلبها يجفُّ باقي السنة، أي من ديسمبر إلى مارس.

وتتكون أعالي النِّيل الأبيض من مجموعتين من الأنهر إحداهما تصب في بحيرة ألبرت، وتشمل بحيرتي جورج وإدوارد، والأخرى تصبُّ في نيل فيكتوريا، وتشمل بحيرتي فيكتوريا وكيوجا.

ويمكن القول إجمالًا إنَّ لهاتين المجموعتين مميِّزات مختلفة:

فمجموعة بحيرة فيكتوريا تشمل مساحات واسعة من المستنقعات، وأكثر نهيراتها مستنقعات.

أمَّا مجموعة ألبرت أو مجموعة وادي الرفت، فأغلبها أنهر جبلية تستمدُّ ماءها من سلسلة جبال الرونزوري أو منحدرات وادي الرفت، ونسبة مساحة المستنقعات فيها صغيرة.

ووادي الرفت العظيم من أهم مظاهر أواسط أفريقية، وهو يمتدُّ مع ما يعترضه من العقبات إلى وادي الأردن. والبحر الأحمر جزء منه. وينقسم جنوب حوض النِّيل إلى فرعين: الغربي منهما ويشمل بحيرات تنجانيقا وكيفو وإدوارد وجورج وألبرت، ويمتد شمالًا على طول بحر الجبل. أمَّا الفرع الشَّرقي من وادي الرفت فيمتد شمالًا مخترقًا مستعمرة كنيا، ولا يدخل في حوض النيل.

وتفصل جبال موفومبيرو بحيرات كيفو وتنجانيقا عن حوض النِّيل، وهي سلسلة براكين تمتد عبر وادي الرفت، وتحيط به، ويبلغ ارتفاع أعلى قممها ٤٥٠٠ متر. ويكون ما يتسرب من ماء الجزء الشَّمالي لهذه السلسلة منبع ماء مجموعة ألبرت، بينما يتسرب ماء الجانب الآخر إلى الكونغو. وبين فرعي وادي الرفت الهضبة التي تشمل بحيرة فيكتوريا، ومتوسط ارتفاعها ١٣٠٠ متر فوق سطح البحر. وهذه الهضبة ليست بمستوية السطح، وتكاد تكون مَلْأى بالتِّلال في كلّ جهة، وهي على العموم تلال مستديرة ليست وعرة ولا كبيرة الانحدار. وبحيرة فيكتوريا هي منخفض قليل الغور في هذه الهضبة. ويبلغ أكبر عمق سير فيها ٧٠ مترًا.

وتأخذ الهضبة في الانخفاض تدريجيًّا إلى الشَّمال حتَّى سهول السُّودان، حيث يتَّصل بها بحر الجبل عند الرجاف.

وفي الشَّرق ترتفع الأرض تدريجيًّا شطر المنحدر الشَّرقي لوادي الرفت، وتكاد تكون الحد الشَّرقي لحوض النيل.

أمَّا شمالًا فالحدُّ الشَّرقي سلاسل جبال تمتد حتَّى الحدِّ الفاصل بين بلاد الحبشة وأوغندا. والجزء المهم في هذه الجبال هو تلال شيرانجاني «يزيد ارتفاعها على ٣٠٠٠ متر» وجبل إلجون «٤٣١٠ أمتار» وجبل دباسيان «٣٠٦٠ مترًا» وجبل ماروثو «٣٠٥٠ مترًا»، وهضبة مورنجول «يزيد ارتفاعها على ٢٠٠٠ متر».

وعلى ذلك فحوض النِّيل يحوي جبلين من أكثر جبال أفريقية ارتفاعًا، وهما جبل الرونزوري، وتبلغ أعلى قمة فيه ٥١٢٠ مترًا، وجبل الجون وارتفاعه ٤٣١٠ أمتار، وفي حدِّه الجنوبي الغربي جبل كاريسمبي، وهو أعلى جبال موفومبيرو، ويبلغ ارتفاعه ٤٥٠٠ متر.

أما الحد الغربي لحوض النِّيل فمكوَّنٌ من المنحدر الغربي للجزء الغربي من وادي الرفت، وليس الحد بين مجموعتي ألبرت وفيكتوريا واضحًا؛ فإنَّ المستنقع نفسه قد يكون منبعًا لأنهار بعضها من مجموعة ألبرت والبعض الآخر من مجموعة فيكتوريا، فنهر النكوسي مثلًا الذي يصبُّ في بحيرة ألبرت ونهر كافو الذي يصب في نيل فيكتوريا ينبعان من مستنقع في هضبة بحيرة فيكتوريا. وهناك ما لا يقل عن اتصالين من هذا القبيل بين مجموعتي ألبرت وفيكتوريا.

والبحيرات سبب ضياع قدر عظيم من الماء في كلّ من جزأي حوض أعالي النِّيل بالتَّبخُّر من سطحها. ومع ذلك فإنها تفي بالغرض في تسوية ماء النِّيل الأبيض. كما أنَّها أهم مورد يمد مصر بالماء إبَّان انخفاض النيل. ولولاها لكان ماء النِّيل إبان انخفاضه قليلًا جدًّا، وليست هناك طريقة لزيادة التسوية في ماء النِّيل إلَّا عمل موازنة على ماء البحيرات بانتظام حتَّى تصل إلى درجة يمكن معها جعل ماء السنين الطيبة يزيد على ماء السنين الشَّحيحة. وعلى كلٍّ فيجب قبل وضع مشروع نهائي من هذا القبيل دراسة حوض أعالي النِّيل درسًا وافيًا، كما يجب ابتكار طريقة تقلل من خسارة الماء الفادحة في منطقة السد.

ويبلغ طول بحيرة ألبرت نحو ١٧٥ كيلومترًا، وعرضها ٤٥ كيلوًا، وتقرب مساحتها من ٥٣٠٠ كيلومتر مربع، وهي على ارتفاع ٦٢٠ مترًا فوق سطح البحر، وأهم الأنهار التي تمدها بالماء هو نهر السمليكي الذي ينبع من بحيرة إدوارد ويصب غرب جبل الرونزوري.

وتبلغ مساحة بحيرة إدوارد ٢٢٠٠ كيلومتر مربع، وهي أعلى من بحيرة ألبرت بما يقرب من الثلاثمائة متر، وتصب فيها جملة نهيرات لا يُعرف عنها إلَّا القليل من وجهة الأبحاث المائية. أمَّا بحيرة جورج فصغيرة ولا أهمية لها.

وتمتد بحيرة فيكتوريا مسافة ° من خطوط العرض، ويخترقها خط الاستواء، ويبلغ طولها من بورت بل شمالًا إلى موانزا جنوبًا ٣١٥ كيلومترًا، ويبلغ اتساعها في أعظم أجزائها عرضًا ٢٧٥ كيلومترًا. ومساحتها ٦٩٠٠٠ كيلومتر مربع، ومتوسط عمقها أربعون مترًا، وأعظمه ٧٠ مترًا، وساحلها على العموم كثير التَّعاريج والتلال وبها جزر كثيرة. وأهم نهيراتها نهر كاجيرا، وأقصى منابعه عند خط العرض ٤° جنوبًا قريبًا من بحيرة تنجانيقا بالأراضي البلجيكية على ارتفاع ٢٠٠٠ متر. أما نيل فيكتوريا، وهو المنفذ الوحيد للبحيرة فيخرج منها عند جنجا فوق شلالات ريبون، ثمَّ يجري في وادٍ عميق فوق جملة شلالات، وتتعذر فيه الملاحة لمسافة. ثمَّ يخترق الطرف الشَّرقي لبحيرة كيوجا، وهي متسع من الماء قليلة الغور ذات ألسن تسدها نباتات المستنقعات.

أمَّا بعد بحيرة كيوجا فالملاحة ممكنة بنيل فيكتوريا إلى نقطة يلتوي عندها نحو الغرب، ثمَّ يعترض مجراه بعد ذلك الكثير من الشلالات حتَّى يبلغ شلالات مورتشيسون، حيث يدخل بعد ذلك بقليل الجزء الشَّمالي من بحيرة ألبرت.

(٢) الأبحاث المائية

إنَّ أغزر سقوط أمطار حوض النِّيل يقع على صعيد البحيرات وفي الحبشة، ويقلُّ على العموم من الجنوب إلى الشَّمال، ثمَّ يتزايد ثانية على ساحل البحر الأبيض المتوسط، ويقرب متوسط سقوط الأمطار في صعيد البحيرات من ١٣٠٠ مليمتر في العام بالرَّغم من اختلافه في مختلف الجهات إلى أن يبلغ حده الأعلى، وهو ١٨٠٠ مليمتر، ويبلغ متوسط ما يسقط بصعيد بلاد الحبشة ١٠٨٠ مليمترًا. أمَّا متوسط سقوط الأمطار من شمال العطبرة إلى بضع كيلومترات من مدينة القاهرة فهو أقل من ٢٥ مليمترًا سنويًّا. وقد ينعدم تمامًا في بعض السنين. ويبلغ متوسط سقوط الأمطار على ساحل البحر الأبيض المتوسط ١٥٠ مليمترًا.

ويبلغ سقوط الأمطار نهايته العُظمى في الجزء الجنوبي من صعيد البحيرات في شهر إبريل ونهايته تتحوَّل إلى نهاية عظمى واحدة في سهول السُّودان في شهري يولية وأغسطس.

وقد تسقط الأمطار بصعيد البحيرات في أي وقت من السنة، ولكن باتجاهنا شمالًا يتميَّز الفصلان: فصل الرطوبة وفصل الجفاف.

ويمكن القول إنَّ سقوط الأمطار يحدث في منطقة تتبع سير الشمس شمالًا وجنوبًا متأخرًا شهرًا أو شهرين، ويعزى أصل الكثير من أمطار حوض نهر النِّيل إلى الجزء الجنوبي من المحيط الأطلسي.

ويمكننا تقسيم ماء النِّيل إلى قسمين: قسم تحمله نهيرات تنبع في الحبشة، والآخر يأتي به بحر الجبل من صعيد البحيرات. ولا يتسرب الكثير من الأمطار التي تسقط بالسُّودان إلى النيل؛ لأنَّ أكثرها إمَّا أن يتبخَّر أو تمتصه النباتات في موقع سقوطه، ويعزى هذا إلى استواء أكثر أراضي السُّودان.

وأهم أنهر الحبشة هي النِّيل الأزرق والعطبرة والبارو، ولها مميِّزات أنهر الجبال؛ إذ ترتفع ارتفاعًا سريعًا في فصل الأمطار مع تغييرات كبيرة، وتحمل كميَّات عظيمة من الماء، أمَّا بعد فصل الأمطار فيقل جريانها في سرعته كما يحدث عادة في العطبرة وفي الرهاد والدندر، إذ يقف جريان الماء فيها لمدة تزيد على نصف السنة، وتجفُّ مجاريها إلَّا في برك منعزلة، وماء هذه الأنهر تكون في أثناء الفيضان مشبَّعة بالطَّمي ممَّا يجعل خزنها في الخزَّانات من أصعب الأمور.

ويستمد النِّيل الأعظم أكثر مائه من النِّيل الأزرق الذي يبلغ معدل تصرفه عند مدينة الخرطوم ١٦٤٠ مترًا مكعبًا في الثَّانية بين سنة ١٩١٢ و١٩٣٣، ولكن معدل تصرفه في شهر أغسطس ٥٦٩٠ مترًا، ثمَّ يتناقص حتَّى يبلغ ١٠٠ متر مكعب في الثَّانية من شهر إبريل.

أمَّا في شهر سبتمبر الذي يبلغ فيه النِّيل الأعظم أعلاه، فإنَّ نسبة ما يستمده من الماء على التَّقريب كالآتي:

٦٩٪ من النِّيل الأزرق، و١٧٪ من النِّيل الأبيض، ويأتي المجرى الأصلي للنيل الأزرق من بحيرة تانا، لكنَّه لا يستمد ماءً كثيرًا منها؛ لأنَّ متوسط التَّصرف من البحيرة يبلغ ١٢٠ مترًا مكعبًا في الثَّانية.

ويبلغ الفرق بين أعلى وأقل منسوب للنيل الأزرق عند الروصيرص التي هي أبعد نقط القياس عليه نحو تسعة أمتار. أمَّا في رافد العطبرة عند خشم القربة فإنَّ متوسط فرق المنسوبين يقرب من خمسة أمتار.

ويبين الجدول الآتي في الصفحة التَّالية متوسط التَّصرف الشهري في بعض المحطات المهمة في حوض النِّيل، وقد بُنِي على التصرفات المقيسة بالرَّغم من استعمال مناسيب النِّيل في بعض الأحيان بوضع الأوساط العديدة للتَّصرفات المقيسة:
figure
بحر الغزال.
معدل المتوسطات الشهرية لتصرُّف النِّيل ونهيراته الرئيسية بالمتر المكعب في الثَّانية سنة (١٩١٢–١٩٣٣)
النيل ونهيراته يناير فبراير مارس إبريل مايو يونيو يوليو أغسطس سبتمبر أكتوبر نوفمبر ديسمبر المتوسط السنوي
النيل الرئيسي عند أسوان خلف الخزان ١١١٠ ٩٤٠ ٧٦٠ ٧١٠ ٨٠٠ ١٠٢٠ ١٧١٠ ٦٣٠٠ ٧٨٢٠ ٥٤٦٠ ٢٨٠٠ ١٤٨٠ ٢٥٨٠
النيل الرئيسي عند وادي حلفا* ١٤٠٠ ١٠٢٠ ٧٤٠ ٥٩٠ ٥٦٠ ٧٣٠ ١٨٦٠ ٧١٣٠ ٨٤٩٠ ٥٦٨٠ ٣٠٠٠ ١٨٨٠ ٢٧٦٠
نهر العطبرة عند الفم ٣٠ ٦٤٠ ٢٠٦٠ ١٣٨٠ ٢٨٠ ٧٠ ٢٠ ٣٨٠
النيل الرئيسي عند الخرطوم ١٢٤٠ ٩٠٠ ٧٠٠ ٦١٠ ٧٠٠ ١١٠٠ ٢٦٠٠ ٦٢٧٠ ٦٧٤٠ ٤٤٢٠ ٢٤١٠ ١٦٦٠ ٢٤٦٠
النيل الأزرق عند الخرطوم ٣٤٠ ٢١٠ ١٤٠ ١٠٠ ١٧٠ ٤٩٠ ٢٠٧٠ ٥٦٩٠ ٥٥٨٠ ٣٠٢٠ ١١٩٠ ٥٨٠ ١٦٤٠
النيل الأبيض عند الخرطوم ٩١٠ ٦٩٠ ٥٦٠ ٥٣٠ ٥٥٠ ٦٢٠ ٥٨٠ ٦٢٠ ١١٤٠ ١٣٩٠ ١٢٢٠ ١٠٩٠ ٨٣٠
النيل الأبيض عند الملاكال ٨١٠ ٦٥٠ ٥٨٠ ٥٣٠ ٥٨٠ ٧٥٠ ٩١٠ ١٠٥٠ ١١٦٠ ١٢٤٠ ١٢٣٠ ١١١٠ ٨٩٠
نهر السوباط عند حلة دوليب ٣٢٠ ١٨٠ ١٢٠ ١٠٠ ١٦٠ ٣٤٠ ٤٩٠ ٦١٠ ٧٠٠ ٧٦٠ ٧٨٠ ٦٣٠ ٤٣٠
النيل الأبيض — السوباط — المستنقعات§ ٤٩٠ ٤٧٠ ٤٦٠ ٤٣٠ ٤٢٠ ٤١٠ ٤٢٠ ٤٤٠ ٤٦٠ ٤٨٠ ٤٥٠ ٤٨٠ ٤٦٠
بحر الجبل عند منجلا ٧٥٠ ٧٠٠ ٦٨٠ ٧٢٠ ٨٧٠ ٨٤٠ ٩١٠ ١٠٣٠ ١٠٧٠ ١٠٤٠ ٩٥٠ ٨٣٠ ٨٧٠
جزء بحر الجبل الذي يصل منجلا من بحيرة ألبرت ٧٥٠ ٧٠٠ ٦٧٠ ٦٦٠ ٦٧٠ ٦٨٠ ٦٩٠ ٧١٠ ٧٣٠ ٧٧٠ ٧٩٠ ٨٠٠ ٧٢٠
النسبة المئوية بين بحيرة ألبرت ١٠٠ ١٠٠ ٩٩ ٩٢ ٧٨ ٨١ ٧٦ ٦٩ ٦٩ ٧٤ ٨٣ ٩٦ ٨٣
نيل فيكتوريا بعد بحيرة كيوجا|| ٦٧٠ ٦٢٠ ٦٠٠ ٦٢٠ ٦٩٠ ٧٤٠ ٧٦٠ ٧٨٠ ٧٨٠ ٧٩٠ ٧٨٠ ٧٤٠ ٧١٠
نيل فيكتوريا عند شلالات ريبون ٥٩٠ ٥٨٠ ٥٩٠ ٦٤٠ ٧٢٠ ٧٣٠ ٦٨٠ ٦٤٠ ٦٢٠ ٦٠٠ ٦٠٠ ٦١٠ ٦٣٠
في السنوات من ١٩٢٥–١٩٣٣ قد عمل حساب تأثير الموازنة عند قناطر سنار.
†  في السنوات من ١٩٢٥–١٩٣٣ قد عمل حساب تأثير الموازنة عند قناطر سنار.
‡  في السنوات من ١٩٢٥–١٩٣٣ قد عمل حساب تأثير الموازنة عند قناطر سنار.
§  ويشمل بحر الغزال الذي يتراوح تصرفه من — ١٢ إلى ٩٥ مترًا مكعبًا في الثانية.
||  هذا المعدل هو للسنين ١٩١٣–١٩٣٣ بعد حذف سنة ١٩١٤.

وبمقارنة المتوسطات السنوية نرى من الجدول أن النَّهر يفقد جزءًا من الماء من العطبرة فصاعدًا شمالًا، وكذا يفقد النِّيل الأبيض جزءًا بين الملاكال والخرطوم.

ويتبيَّن من الجدول أنَّ النِّيل الأبيض هو أهم مورد للماء في طور انخفاض النِّيل الذي يصبح في هذه الفترة عاجزًا عن سدِّ حاجات الرَّي لمصر فتُضاف إلى مائه كمية من الماء المخزون في خزَّان أسوان. ويحجز هذا الماء على الأخص في شهري ديسمبر ويناير، ويصرف منه من إبريل إلى يولية، وفي كلتا الحالتين تحدد حال النَّهر هذه المواعيد التي تختلف من سنة إلى أخرى.

ويرى من الجدول الطريقة العامَّة لموازنة الخزَّان بمقارنة تصرفات وادي حلفا وأسوان. وأول استعمال لخزان أسوان بعد تعليته كان في فترة ١٩١٢–١٩١٣. ومن هنا يتَّضح أنَّ الفترة المذكورة في الجدول هي منذ تعلية الخزان.

ويمد النِّيل الأبيض مصر في أشد الشهور انخفاضًا بما يقرب من ٨٠٪ من كمية الماء. فيبلغ تصرفه نهايته العُظمى عند الخرطوم في شهر أكتوبر بمعدل ١٣٩٠ مترًا مكعبًا في الثَّانية، ويعيق ارتفاع النِّيل الأزرق السريع تصرّف النِّيل الأبيض فيُحفظ ماؤه ويملأ جزء منه واديه إلى أن تطلق حين انخفاض النِّيل الأزرق. ويُرى تأثير ذلك بمقارنة تصرفات النِّيل الأبيض عند الملاكال والخرطوم من يولية إلى أكتوبر. وقد أُقيم خزَّان جبل أولياء على النِّيل الأبيض قريبًا من الخرطوم لحجز هذه الكمية من الماء زمنًا أطول لمدِّ مصر بها في زمن التَّحاريق.

ولتصرف النِّيل الأبيض مصدران:
  • (١)

    السوباط الذي يختلف متوسط تصرفه من ٧٨٠ مترًا مكعبًا في الثَّانية في شهر نوفمبر إلى ١٠٠ متر مكعب في الثَّانية في إبريل.

  • (٢)

    تصرّف بحر الزراف وبحر الجبل، وهو ثابت تقريبًا طول السنة، ولو أنَّه يختلف قليلًا من سنة إلى أخرى.

ويتكون نهر السوباط من التقاء نهري البارو والبيبور أمام محطة الناصر بقليل، والجزء الأعظم من تصرّف السوباط يأتي به نهر البارو من بلاد الحبشة، وتستمدُّ نهيرات جيلا وأكوبو وخور مكواي — التي هي أهم فروع البيبور — ماءها من الحبشة أيضًا، ومعظم فروع البيبور الباقية تأتي من منحدرات صعيد البحيرات، ولكنَّها لا تمده إلَّا بجزء يسير من الماء.

ويبلغ تصرُّف السوباط حدَّه الأعلى عند المصب في أكتوبر ونوفمبر. أمَّا في نهيرات الحبشة فيبلغ هذا الحد في سبتمبر. وسبب هذا التأخُّر هو أنَّ المساحات الكبيرة من الأرض المستوية يغمرها النَّهر ثمَّ يعود بعض الماء منها إلى النَّهر فيما بعد.

وقد غمر الماء مساحات شاسعة بين السوباط، ونجد الحبشة، وصعيد البحيرات، وبحر الجبل في فيضان سنة ١٩١٧ الغزير. وبلغ التَّصرف عند مصبِّ السوباط في هذه الفترة غايته في شهر فبراير سنة ١٩١٨، بينما كان أعظم تصرُّف عند جميلا على البارو في سفح نجد الحبشة قبل منتصف أكتوبر.

ويمكن عد بحر الزراف شعبة لبحر الجبل؛ لأنَّه ينبع من مستنقعات شرق بحر الجبل ويتَّصل به بقناتين حفرتا بالكراكات في سنتي ١٩١٠ و١٩١٣، فماؤه مستمد من بحر الجبل.

أما بحر الغزال فيمد النِّيل الأبيض بقدرٍ يسير من الماء بالرَّغم من اتِّساع مساحة حوضه الغزير الأمطار. وأكبر تصرّف قِيس في مصب بحر الغزال هو ٩٠ مترًا مكعبًا في الثَّانية وقد يجري أحيانًا في الاتجاه المضاد، أي من النِّيل الأبيض إلى بحيرة تو. أمَّا نهيرات خط تقسيم مياه نهري النِّيل والكونغو، فتجري في سهول السُّودان، حيث تُكوِّن مستنقعات يضيع أغلب مائها بالتَّبخُّر وبامتصاص النباتات لها.

ويعادل تصرُّف بحر الجبل والزراف وبحر الغزال الفرق بين تصرُّف النِّيل الأبيض عند الملاكال وتصرُّف مصب السوباط؛ ولذا سُمِّي هذا المجموع في الجدول تصرُّف المستنقعات.

واذا أهملنا ما يأتي به بحر الغزال؛ فإنَّ جميع الماء الذي يجري ويصل إلى أطراف المستنقعات يأتي من البحيرات العُظمى ومن منحدرات صعيد البحيرات مارًّا بمنجلا، ولا يصل إلى نهايات المستنقعات من التَّصرف المار بمنجلا إلَّا نصفه، وهي نسبة متغيِّرة، ففي السنين العالية تزيد النسبة المئوية للضائع وتقل حين انخفاض النيل.

وللمستنقعات تأثير آخر، وهو إعاقة جميع التغييرات عدا الرئيسية منها، وإطالة الزمن الذي تستغرقه تغيرات التَّصرفات بمنجلا ليكون تأثيرها محسوسًا في نهاية المستنقعات. ويبلغ هذا الزمن من ثلاثة إلى أربعة شهور، ولكنَّه يقلُّ حينما تكون المناسيب واطئةً جدًّا عند جفاف جزء كبير من المستنقعات.

وإذا راعينا الفترة التي يستغرقها سير الماء نجد أنَّ التَّصرف الشهري عند نهاية المستنقعات لا يزيد بحال من الأحوال على كمية الماء المارة بمنجلا، وعليه فقد كانت المستنقعات دائمًا سببًا في ضياع الماء، ولم تكن كخزانات في وقت من الأوقات.

وبهذه المناسبة ندوِّن فيما يلي أقلَّ تصرفات السنتين ١٩٢٢ و١٩٢٣:

المتوسط الشهري للتصرف بالمتر المكعب في الثَّانية
منجلا المستنقعات — الملاكال — السوباط
١٩٢١–٢٢ ١٩٢٢–٢٣ ١٩٢٢ ١٩٢٣
ديسمبر ٤٤٠ ٤٠٠ فبراير ٣٧٠ ٣٦٠
يناير ٤٠٠ ٣٧٠ مارس ٣٢٠ ٢٩٠
فبراير ٣٧٠ ٣٣٠ إبريل ٢٩٠ ٢٨٠
مارس ٣٧٠ ٣٢٠ مايو ٢٩٠ ٣٠٠
إبريل ٤٠٠ ٣٥٠ يونية ٣٠٠ ٣٣٠

ويتصل الكثير من النهيرات ببحر الجبل بين منجلا وبحيرة ألبرت، وتمده هذه النهيرات في فصل الأمطار بقدر وافر من الماء، وكلها سيول جارفة سريعة الارتفاع والهبوط. وما تأتي به من الماء من ديسمبر إلى مارس ضئيل لا يستحق الذكر أمَّا مورد بحر الجبل المستمر فهو البحيرات التي تمده على المتوسط بنحو ٨٠٪ من كمية مائه السنوية.

أمَّا المعلومات عن نظام بحيرتي فيكتوريا وألبرت فقليلة جدًّا، وعليه فكل ما يستنتج منها تجريبي. وقد بحث الدكتور ﻫ. أ. هرست المعلومات الحالية في تقرير نُشر عن حوض صعيد بحيرات النِّيل، وطبع بالمطبعة الأميرية سنة ١٩٢٥ ملخصه ما يأتي:

أهم نهيرات بحيرة فيكتوريا هو نهر كاجيرا، وتأتي النهيرات الشرقية والجنوبية بكميات وافرة من الماء في فصل الأمطار، لكنَّها عديمة الأهمية زمن الجفاف. أمَّا نهر كاتونجا الواقع بالجهة الغربية فهو ما تبقى من مجموعة أنهر كبيرة، ولكن ما يمد به البحيرة من المياه قليل؛ لأنَّ بواديه مستنقعات البردي التي تعيق سير المياه — ومستنقعات الوديان هذه من مميِّزات مساحات عظيمة من أوغندا. ويقترب خط تقسيم المياه من البحيرة في شمالها، فتتجه المياه شمالًا إلى بحيرة كافو وكيوجا. ونظرًا لاتساع مساحة بحيرة فيكتوريا التي تبلغ مساحة حوضها، ونظرًا لصِغر النسبة المئوية لماء الأمطار المتسرِّبة إليها، فإنَّ أهم العوامل تأثيرًا على نظامها هو ما يسقط على سطحها من الأمطار مباشرة وما يتبخَّر منه. وهذه العوامل تُقدَّر بأربعة أضعاف العوامل الأخرى، أي ما ينحدر من حوضها وما يصب في شلال ريبون.

ولا يعرف تصرّف نيل فيكتوريا إلَّا بالتَّقريب، ولكن يتَّضح من المعلومات الموجودة أن التَّصرف يتساوى على التَّقريب أمام بحيرة كيوجا وخلفها من الجدول السابق.

وقد يحتمل أن تكون بحيرة كيوجا منبع خسارة في النِّصف الأول من السنة ومنبع زيادة في النِّصف الثَّاني. على أن كلًّا من الزيادة والنقصان عادة قليل الأهمية.

وتأثير ذلك على نيل فيكتوريا هو تأخير موعد النهاية العُظمى والنهاية الصغرى. والنهاية العُظمى أمام بحيرة كيوجا تحصل في يونية والصغرى في يناير وفبراير، بينما النهاية العُظمى خلف بحيرة كيوجا تكون من أغسطس إلى نوفمبر، والصغرى في مارس.

أمَّا في حالة بحيرة ألبرت فإنَّ متوسط ما يدخلها من ماء نيل فيكتوريا يقرب من ضعف ما يتسرَّب من حوضها وما يُخرجه منها نيل ألبرت أو بحر الجبل يزيد بقدر الثُّلث عمَّا يدخلها من مياه نيل فيكتوريا ويبلغ التبخر هذه المقادير، بينما يبلغ ما يسقط عليها من الأمطار مباشرة خمسها، وتحدث النهايتان العُظمى والصغرى متأخرتين شهرًا على التَّقريب عن حصولهما بنيل فيكتوريا.

وما تقدَّمَ هو نتائج عامة استُخلِصت من المعلومات الحالية القليلة عن المباحث المائية لصعيد البُحيرات، وتحتاج للتَّأكيد ولزيادتها بأرصاد تفصيلية تؤخذ باستمرار في سنين كثيرة. وهو ما يقوم به الرَّي المصري في السُّودان.

•••

أمَّا ما سُجِّل من مناسيب النِّيل في مصر فيرجع إلى سنين عديدة، ولكن القديم منها عن سنة ١٨٧٢ غير مستوفٍ؛ إذ ليس به إلَّا مناسيب مبعثرة. وتوجد مجموعة للنهايات العُظمى والصُّغرى للمناسيب عند القاهرة من سنة ٦٤١ إلى سنة ١٤٥٠ ميلادية تكاد تكون كاملة. وممَّا يلفت النَّظر في هذه المعلومات أنَّ الفيضانات كانت أعلى من المتوسط في مدة طويلة تقرب أحيانًا من الخمسين عامًا، وأقل منه في فترات أخرى، كما يحتمل حدوث فيضانات منخفضة جدًّا بين مجموعة من الفيضانات العالية وبالعكس. وقد فحصتُ هذه السجلات للوقوف على هل كانت الفيضانات العظيمة دورية وقد استنتجتُ منها أطوارًا قصيرة. وتطمس الاختلافات معالمها لدرجة تصبح معها عملية التنبؤ عديمة الفائدة.

وتوجد علاقة بين الأحوال الجوية لجنوب المحيط الطلسي وبين فيضان النِّيل، ولكن لم يتيسَّر حتَّى الآن عمل تنبؤ عن الفيضان يمكن الاعتماد عليه في الأغراض العمليَّة. وعلى كلٍّ فقد يمكن في يوم من الأيام بتقدم علم الظواهر الجوية، وبالوقوف بالتَّفصيل على حقيقة العامل الذي ينشأ عنه الفيضان أن يُستنتج تنبؤ دقيق عن حال الفيضان قبل حدوثه ببضعة أشهرٍ. وتزداد قيمة هذا التنبؤ بازدياد مناطق الرَّي في وادي النيل.

ويمكن عمل تنبؤات يُعتمد عليها في حال انخفاض النِّيل قبل حدوثه ببضعة أشهر، ففي شهر ديسمبر مثلًا يمكن عمل تنبؤات عن حالة النِّيل على العموم بمصر لغاية شهر مايو. ولكن ابتداء الأمطار في صعيد الحبشة يجعل هذه التنبؤات بعد هذا الميعاد غير مؤكَّدة، وكذلك يمكن عمل تنبؤات لمدد قصيرة مبنيَّة على حساب التصرفات والمناسيب الأمامية بدرجة عظيمة من التحقيق.

وتُعمل تنبؤات من هذا القبيل باستمرار؛ لتساعد على وضع برنامج الرَّي ولملء خزَّان أسوان وتفريغه.

(٣) المناخ

إنَّ اتساع مدى حوض النِّيل ارتفاعًا وعرضًا ينشأ عنه اختلاف عظيم في المناخ، وللحوض على وجه التَّقريب ثلاثة أقسام رئيسية من المناخ، وهي منطقة البحر الأبيض المتوسط، والمنطقة الصحراوية، والمنطقة الاستوائية. وحدود هذه المناطق ليست معيَّنة، ولكن يمكن القول على وجه التَّقريب إنَّ منطقة البحر الأبيض المتوسط تشتمل على الدلتا، وتمتد مسافة قصيرة في صعيد مصر، وإنَّ المنطقة الصحراوية تشمل جزءًا من صعيد مصر وشمال السُّودان، وتمتد تقريبًا حتَّى العطبرة، وإنَّ المنطقة الاستوائية هي ما بقي من الحوض.

وأهم ما بُني عليه هذا التقسيم هو الدورة الجوية، وللقسم الاستوائي أحوال متعدِّدة من حيث سقوط الأمطار والرطوبة ودرجة الحرارة، وهي العوامل المباشرة في التأثير على الحياة فيه. ومميِّزات النِّصف الشَّمالي من هذا الحوض درجة الحرارة، وانخفاض درجة الرطوبة، وقلة الأمطار، ويندر وجود الماء بعيدًا عن الأنهار في فصل الجفاف حتَّى في سهول جنوب السُّودان.

ولتوزيع الضغط الجوي أربعة فصول يمكن تسميتها بالشتاء من نوفمبر إلى مارس، والصيف من يونية إلى سبتمبر، مع فترتي انتقال قصيرتين بينهما.

ويتمركز الضغط المرتفع على الصحراء الكبرى مدة فصل الشتاء، وتكون رياح وادي النِّيل جزءًا من الرياح التي تدور حوله. وللضغط المرتفع مركز آخر فوق أواسط آسيا. وتخترق أفريقية منطقة من الضغط المنخفض محورها يقرُب من شمال خط الاستواء، وتهب على العموم رياح شمالية على وادي النِّيل حتَّى خط الاستواء، ويعيق هذا الدوران العام الانخفاضات الجوية التي تسير على البحر الأبيض المتوسط من المغرب إلى الشَّرق، فتكثر الرياح الجنوبية في الوجه البحري شتاءً. وفي فبراير حين يكون تأثير الضغط المنخفض على البحر الأبيض المتوسط واضحًا تكون الريح السائدة على مصر من الساحل حتَّى مدينة القاهرة جنوبًا متَّجهة نحو الجنوب الغربي، ويكون الريح العام شماليًّا بين خطَّي العرض ٣٠° و٢٠° شمالًا على مدار السنة.

وفي التَّوزيع الصَّيفي تتكوَّن منطقة منخفضة الضغط فوق الشَّمال الغربي للهند بانحدارها على العموم من الغرب إلى الشرق. أمَّا في الجزء الشَّمالي من الحوض فتهبُّ باستمرار رياح شمالية. وفي النِّصف الجنوبي تكون الرياح على العموم جنوبية غربية تحمل معها النَّدى الذي يسقط أمطارًا في جنوب السُّودان والحبشة.

وعلى العموم توجد منطقة قليلة الضغط ذات خطوط ضغط متساوية مغلقة في أثناء فترتي الانتقال فوق أواسط السُّودان تدور حولها الرياح، بينما تهبُّ رياح شمالية على الجزء الشَّمالي من الحوض، وأكثر ما يتوقَّف عليه اتِّجاه الريح في صعيد البحيرات هو شكل المكان الطُّبوغرافي.

ويمكن القول على وجه التَّقريب بأنَّ طقس النِّصف الشَّمالي من الحوض في أثناء الصيف أكثر انتظامًا من طقس الشتاء، والأمر بالعكس في الجزء الجنوبي.

ويبين الجدول الآتي الظواهر الرئيسية لتوزيع درجة الحرارة:

معدل درجة الحرارة بالسنتيجراد
المرصد الإسكندرية الجيزة (القاهرة) وادي حلفا الخرطوم الملاكال منجلا عين تيبه
المتوسط السنوي ١٩٫٩ ١٩٫٥ ٢٤٫٤ ٢٨٫٢ ٢٦٫٣ ٢٦٫١ ٢١٫٥
أعلى متوسط شهري الشهر أغسطس يولية يولية يونية إبريل مارس فبراير
المقدار ٢٥٫٩ ٢٦٫٧ ١٣٫٦ ٣٣٫١ ٢٩٫٧ ٢٨٫٤ ٢٢٫٢
أقل متوسط شهري الشهر يناير يناير يناير يناير أغسطس يولية–أغسطس يولية
المقدار ١٣٫٥ ١٠٫٨ ١٤٫٤ ٢١٫٤ ١٤٫٦ ٢٤٫٣ ٢٠٫٤
أعلى متوسط النهاية العُظمى الشهر أغسطس يولية يونية يونية مارس مارس يناير–فبراير
المقدار ٣٠٫٨ ٣٥٫٣ ٤١٫٣ ٤١٫٨ ٣٩٫٠ ٣٧٫٣ ٣٦٫٧
أقل متوسط النهاية الصغرى الشهر يناير يناير يناير يناير ديسمبر يناير يولية–أغسطس
المقدار ١٠٫٤ ٥٫٤ ٧٫٧ ١٤٫٩ ١٧٫٦ ١٩٫٥ ١٦٫٤
متوسط المدى اليومي يناير ٨٫٢ ١٣٫٦ ١٦٫٣ ١٥٫١ ١٧٫٧ ١٧٫٥ ٩٫٣
يولية ٧٫٣ ١٥٫٩ ١٧٫٩ ١٤٫٠ ٩٫٨ ١٠٫٩ ٨٫٣

وتحدث أقصى درجات الحرارة في شمال السُّودان، ولو أن درجات الحرارة المرتفعة تحدث في كلّ مكان ما عدا الأراضي المرتفعة. أمَّا في مصر فقد كانت أعلى درجة حرارة سُجلت حديثًا هي ٥١ سنتيجراد في أسوان، وأقل درجة هي: ٤ سنتيجراد في الجيزة. وقد سجلت درجة ٥٢٫٥° سنتيجراد في السُّودان في وادي حلفا و٥٥٫٥° سنتيجراد في طوكر. إلَّا أنَّ الأخيرة مشكوك فيها. وأقل درجة حرارة سجلت في السُّودان هي −٢° سنتيجراد في وادي حلفا.

أمَّا على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، فإنَّ مدى الفروق السَّنوي واليومي أقل ممَّا هما عليه في الداخل، ويزيد هذان المدَيَان في مصر العليا وفي شمال السُّودان، ويؤثر عليهما فصل الأمطار جنوبًا عن ذلك، ولو أنَّ المدى اليومي يظل كبيرًا في فصل الجفاف لغاية نمولي على حدود أوغندا والسُّودان.
معدل النسبة المئوية للرطوبة النسبية
بالمرصد المتوسط السنوي أعلي منسوب شهري أقل منسوب شهري
الشهر المقدار الشهر المقدار
الإسكندرية ٧٢ يولية ٧٧ فبراير ٧٠
الجيزة (القاهرة) ٦٩ ديسمبر ٨١ مايو ويونية ٥٥
وادي حلفا ٣٢ ديسمبر ٤٩ يونية ٢٠
الخرطوم ٣٠ أغسطس ٥٥ إبريل ١٥
الملاكال ٥٨ أغسطس ٨٦ فبراير ٢٤
منجلا ٦٩ يولية وأغسطس ٨٤ يناير ٤٨
بوكوبا (بحيرة فيكتوريا) ٨٠ إبريل ٨٩ يولية ٧١

وأهم ما يلفت النَّظر من الظواهر الجوية من حيث الرطوبة انخفاضها في الجزء الشَّمالي من السُّودان، ويقل متوسطها من ساحل البحر الأبيض المتوسط إلى الداخل حتَّى قرب مروى عند خط عرض ١٨° شمالًا، حيث يبلغ المتوسط السَّنوي ٢٢٪. ومروى بلا ريب من أجف بقاع العالم، وكثيرًا ما سُجلت بها نسب الرطوبة تقرب من الصفر، وكثيرًا ما تبلغ نسبة الرطوبة ٥٪ في القطر المصري والسُّودان من ساحل البحر الأبيض المتوسك إلى مسافة جنوب الخرطوم في الربيع وفي أوائل الصيف.

ويزيد المتوسط السَّنوي من مروى فما بعدها لسقوط الأمطار، ولكن تقل الرطوبة جدًّا في فصل الجفاف من أواسط السُّودان جنوبًا حتَّى الملاكال، وترتفع درجة الرطوبة قرب بحيرة فيكتوريا على طول السنة.

وقد يحدث سقوط الأمطار إلى حدٍّ ما. والجدول الآتي يزيد الشرح بيانًا:
معدل سقوط الأمطار بالملليمتر
المرصد المجموع السنوي أعلى متوسط شهري أقل متوسط شهري
الشهر المقدار الشهر المقدار
الإسكندرية ١٩٢ ديسمبر ٦٠ يونية، يولية، أغسطس صفر
الجيزة «القاهرة» ٣٠ يناير ٧ يولية، أغسطس، سبتمبر صفر
وادي حلفا صفر
الخرطوم ١٥٧ أغسطس ٧٠ نوفمبر إلى فبراير وإبريل صفر
الملاكال ٨٨٧ أغسطس ٢٠٥ ديسمبر إلى فبراير صفر
منجلا ٩٥٤ يولية ١٣٨ يناير ٢
عين تيبه ١٤٩٨ إبريل ٢٥٧ يناير ٦٦
المسافة بين بحيرة فيكتوريا وبين أهم الأماكن الواقعة على النيل ومقدار ارتفاعها عن سطح البحر
الأماكن الموقع المسافة من شلالات ريبون (بالكيلومتر) ارتفاع أوطأ سطح تصله المياه عن منسوب سطح البحر (بالمتر)
شلالات ربيون بحيرة فيكتوريا صفر ١١٣٤*
ماسندي بورت نيل فيكتوريا ٢٢٥ ١٠٣٠
شلالات مارتشزون نيل فيكتوريا ٣٨٥ ٦٦٤
بحيرة ألبرت بحيرة ألبرت ٤١٦ ٦١٩
وادلاي بحيرة الجبل ٤٧٧ ٦١٨
نيمولي بحيرة الجبل ٦٢٦ ٦١٤
جوندو كورو بحيرة الجبل ٨٠٨ ٤٥٢
منجلا بحيرة الجبل ٨٤٥ ٤٤٢
بور بحيرة الجبل ٩٧٣ ٤٢١
بحيرة نو النيل الأبيض ١٥٩٢ ٣٨٨
التوفيقية النيل الأبيض ١٧٢٤ ٣٨٥
الملاكال النيل الأبيض ١٧٣٨ ٣٨٤
الدويم النيل الأبيض ٢٣٥٤ ٣٧٤
الخرطوم النيل الأبيض ٢٥٥٦ ٣٧٢
نهر العطبرة النيل ٢٨٧٧ ٣٤٢
أبو حمد النيل ٣١٢٩ ٣٠٨
كريمة النيل ٣٣٦١ ٢٤١
وادي حلفا النيل ٤٠٨٩ ١١٥
أسوان (المدينة) النيل ٤٤٣٨ ٨٣
الأقصر النيل ٤٦٥٥ ٦٨
قنا النيل ٤٧١٧ ٦٤
جرجا النيل ٤٨٣٩ ٥٧
أسيوط النيل ٤٩٨٢ ٤٥
القاهرة النيل ٥٣٨٤ ١٥
قناطر الدلتا (الأمام) النيل ٥٤٠٧ ١٤
فم رشيد النيل ٥٦٤٣ صفر
أمام الشلالات.
† أمام الشلالات.
المسافة بين بحيرة تانا وبين أهم الأماكن الواقعة على النيل الأزرق ومقدار ارتفاعها عن سطح البحر
الأماكن المسافة من بحيرة تانا ارتفاع أوطأ سطح يصله الماء عن منسوب سطح البحر
بالكيلومتر بالمتر
بحيرة تانا . ١٨٤٤
فازوغلي ٨٧٥ ٤٧٧
الروصيرص ٩٧٥ ٤٤٠
سنجا ١١٧٥ ٤١٥
سنار ١٢٦٥ ٤٠٧
واد مدني ١٤١١ ٣٨٩
الكاملين ١٢٤٥ ٣٨١
الخرطوم ١٦١٧ ٣٧٢

(٤) مصر والنيل

قال سعادة الباحث الفاضل أمين سامي باشا:
إنَّ الديار المصريَّة بما هو قائم بها من صفة العتاقة البليغة وفضيلة الثبات العجيبة والتُّؤدة الغريبة التي كانت توصلت بها إلى أعلى درجات الحضارة، وحصلت على نهاية صلاح الحال والتَّحسين كانت غنيَّة عن اقتباس النور من الغير، وليست محتاجة إلى سواها في اكتساب مناهج الخير،١ وهذا يطابق ما وصفها به موسى، وهيرودوتس، وديودرس الصقلِّي، واسترابون، وابن مارسين أوكلمنوس الإسكندري.
ورغمًا عن العواصف والتَّخريب وتغيير الدول على مصر، فإنها لا تزال حافظة على مميزاتها الخصوصية. فقد وجهت عناية الفراعنة الذين قاموا بأمر شئونها منذ مبدأ مدنيتها الزاهرة الباهرة إلى ما يأتي:
  • أولًا: حفظ مجرى النِّيل واتِّقاء كلّ الغوائل التي كانت تعترض سيره كالرمال التي أهلكت جيوش الفرس وألوف الجنود التي قادها هكس باشا لمقاومة ثورة المهدي وإنجاء غوردون فإنَّه للآن لم يعثر لها على أثر، إذ غمرتها الرمال في مكان لا يعلمه إلَّا الله، وقد قرر مجلس النُّظَّار في ٢٤ مايو سنة ١٨٨٤ اعتبار الخدمة العسكرية والملكية معدومين، واعتبار وفاتهم من ٢٩ فبراير سنة ١٨٨٤، وأن يكون ترتيب المعاش لهؤلاء وهؤلاء ابتداءً من أول مارس سنة ١٨٨٤. تلك الرمال التي كانوا يعانون في إزالتها أشد العذاب لم ينجهم منها إلَّا الحيوان، الذي له أكبر فائدة، وهو الأستاذ الأول للإنسان؛ فقد تعلم طرق الادخار ونظام الجيوش وترتيبها والحروب، وهو النمل. كما استفاد منه أحد ولدي آدم الذي لم يقبل منه ما قُبِل من أخيه القربان، وكما استفاد أيضًا تعلم علم الجسور والقناطر من الحيوان المسمَّى بالكستور، وهو المعروف بالجندباوستز، وهذا الحيوان هو الذي وجَّه نظر المصريين القدماء إلى إقامة الهرم الأكبر؛ فإنَّهم لمَّا رأوا هجرة السمان إلى بلادهم وقت هبوب الرياح الشديدة من الشَّمال الغربي، وأنها ترفع أحد جناحيها كالقلع وتحرك الآخر كالمقذاف وتترك نفسها معها حتَّى تقطع البحر المتوسط الإسكندري فتَصِل منهوكة القوى إلى أماكن استراحتها، فكانوا يقيمون أغصانًا تتكون تحتها كثبان من الرمال تقف عليها لتستريح، ومثل السمان القلق٢ المسمى عند الفرنج سيجوفي، فمصيفه الجهات الشمالية الباردة من أوروبا، وشتاؤه وطنه الأصلي من أفريقية، فيسمع صوته جهة الأهرام وغيرها، فبمشاهدته تكون كثبان الرمال تحت تلك الأغصان.
    وكان لزامًا عليهم أن يذوقوا من العذاب ألوانًا في تطهير مجرى النِّيل من هذه الرمال التي كانت تطمر مجراه الذي كان بالقرب من مكان الهرم الحالي. قام بفكرهم أنَّهم إذا أقاموا هدفًا يمنع الرمال من طمر مجرى النَّهر استراحوا من العذاب المستمر، فأقاموا الهرم الأكبر ذا السطوح المائلة التي إذا سقطت عليها الرمال كانت زاوية السقوط مساوية زاوية الانعكاس، وليس في سطح أي جسم آخر تتوفر تلك المزية، وشيدوه وعانوا في تشييده ما عانوا، وأبدعوا هندسته، وتفنَّنوا في تجميله بما وصلت إليه معارفهم الهندسية والفلكية، حتَّى إنَّهم أحكموا الفتحة البحرية التي في منتصف أسفل تلك الوجهة على امتداد محور العالم، وجعلوا الفتحة القبلية في أعلى السطح المقابل تدخل منها أشعة ضوء الشعرى٣ على جثمان من سيدفن في هذا المكان، وضلع الهرم ١٠٠٠ شبر، وكل شبرين ذراع، وهو من الآثار المصريَّة العجيبة التي تدهش الأبصار؛ فقد هرم الدهر وهو فتى، وتعاقبت عليه العصور وتوالت الدهور وهو باقٍ يشهد بناؤه بعلو درجات المتقدمين، وينطق ببراعة من كانوا بمصر من المهندسين، بوضعه يمكن تعيين الجهات ومعرفة الفصول والانتقالات.
    فهذه هي أهم البواعث على تشييد الهرم، وليس كما يقولون إنه أنشئ ليكون مدفنًا، نعم قد دفن فيه منشئه، ولكن هو كما يحصل الآن فيدفن منشئ أحد المساجد أو الجوامع فيها كما حصل في عهد ساكن الجنان إسماعيل باشا؛ إذ دفن الشيخ العروسي شيخ الجامع الأزهر في مسجده الذي هو في الشارع الممتد من باب البحر إلى باب الشعرية. وكثيرًا ما وجدت مساجد سُمح بدفن منشئها فيها، ولكنَّها قبل كلّ شيء هي بيوت أذن الله أن ترفع ويُذكر فيها اسمه.٤

    وبإنشاء ذلك الهرم استراح الناس من العذاب الأليم الذي كانوا يعانونه كلّ عام في إزالة الرمال الكثيرة التي كانت تعوق سير النِّيل، وبذلك آمنوا طريقه، واتخذ سيره نحو الجهات البحرية، وتولدت من ذلك أرض فسيحة سُمِّيت بهدية النِّيل، وعلى منوال هرم الجيزة عملت أهرام أخرى من الحجر واللبن، ولكن كلها في الجهة الغربية من النِّيل لا في الجهة الشرقية التي كلها أحجار وجبال. أما الجهة الغربية فهي منافس تنسف منها الرمال.

    ولو وفِّق الباحثون من المتأخرين لما قالوا كما قال دوربك مفتش المدارس والمكاتب في مقدمة كتابه «التعليم في مصر»: «أو لقد قدر ما حلَّ من العذاب الجسدي لهؤلاء الألوف من البشر الذين كانوا كقطيع من الحيوان بذلوا النفس والقوى في تشييد الآثار العظيمة التي تسمَّى بالأهرام.»

    ولو علم المأمون سر إنشاء الهرم لما أقدم على الأمر بهدمه عند حضوره سنة ١٩٠ﻫ، ولكن لم يتيسَّر إلَّا إزالة الجزء العلوي منه.

  • ثانيًا: إنشاء خزانات في مجرى النِّيل لادِّخار مياهه وصنع سيالة في كلّ خزَّان تفيض منها إلى ما بعدها مياه بقدر معلوم، «وممَّا يُوجب إعمال الفكر أنَّه يوجد فيما فوق وادي حلفا على القرب من القرية المسماة سحنة — وهذه مسألة فيها نظر — صخور وعرة المرقى رأسية الوضع على حرف النِّيل توجد عليها كتابات بالقلم المصري القديم منقوشة على ارتفاع سبعة أمتار فوق ما تبلغه المياه إذا وصلت إلى أعلى درجة من الزيادة الآن. ومن ترجمتها يعلم أن النِّيل كان في عصر العائلة الملوكية الثَّانية عشرة والثالثة عشرة إذا بلغ أقصى زيادة يصل إلى موضع النقش من تلك الصخور. وإذا صحَّ ذلك فإنَّ النِّيل من قبل هذا العصر بأربعين قرنًا من الزمن يبلغ عند الشلال الثَّاني أكثر ممَّا يبلغه في عصرنا هذا من الارتفاع بسبعة أمتار. ولعل السبب في اختلاف ارتفاع مياه النِّيل وما اعتنى بعمله فراعنة الدولة المتوسطة من الأعمال الجسيمة في ماء النِّيل بقصد الامتناع من غائلته، والانتفاع بزيادته، وللتَّحصن من غارات أعدائهم الذين كانوا يتهجَّمون عليهم من السُّودان يجعل هذا الشلال حصنًا طبيعيًّا ومانعًا قويًّا من نزول سُفنهم إليه وشن الغارة عليهم.
    ولمَّا سافر سير صمويل باكر بحملته التي أعدَّها له ساكن الجنان إسماعيل باشا خديوي مصر، وكانت برياسة الميرالاي رءوف بك، أراد أن يجتاز بحملته ومعداتها وسفنها سيالة الشلال، فاستلزم الحال وقوف الحملة مدة عام حتَّى أزيلت بعمال من بلاد إسنا،٥ وهكذا يجرؤ كلُّ انسان لا يدرك سر ما هو مجسَّم أمامه على هدم كلِّ أثر نافع.
  • ثالثًا: إعداد مصرف للنجاة من طغيان ماء النِّيل عند الفيضانات العالية ليفيض منها على جهة الواحات وما بعدها إلى مريوط ليُكسب تلك الأراضي خصوبة، فتنبت حبَّ الحصيد والنَّخيل والأعناب. وقد قال هيردوت:

    إنَّه بسبب حدوث اختلافات مذهبية بين كهنوت ذلك الوادي وكهنوت مصر، وطول عهد تلك الاختلافات اضطرَّ الطرفان إلى تحكيم الإله آمون للفصل فيها، فاجتمعوا تحت الإله آمون الذي هو من حجر الجرانيت الذي تستقبل مسامه النَّدى ليلًا. وعند حرارة الشمس نهارًا يحصل أزيز تسمع منه أصوات، فاعتقد كهنوت وادي النِّيل بأنَّ ذلك مقبع لكهنوت إقليم الواحات وما جاورها، ولكن الآخرين رأوا أنَّ هذا ممَّا يوجب انحطاطهم في أعين سُكَّان واديهم فأصرُّوا على استمرار الخلاف، فاضطر الأولون إلى الاستعانة بقوة الحكَّام على عدم سريان المياه في المصرف وأغلقوه ولكن بدون إحكام، فكانت المياه في مدة الفيضان تظهر منه كالنافورات تتسرب في كلّ عام، فتظهر في امتداد البحر الذي بلا ماء.

وقد بحث هذا الموضوع المرحوم محمود الفلكي باشا بحثًا مستفيضًا ودوَّن فيه ما يُؤكِّد رواية هيردوت، وتوسع فيما يتعلَّق بما كان في مريوط من آثار العماوية والخير والكروم، وما كان يعمل منها، وحياض العصير وغير ذلك. فلو درس هذا الموضوع درسًا دقيقًا وأُعيد مجرى البحر الذي بلا ماء لأفاد في تصريف ما يزيد من مياه الفيضان في سنة كالتي نحن فيها بدلًا من ضياعها في البحر الأبيض المتوسط.

وزيادة على ما قدمناه فإنَّ بلاد القطر كانت منشأة على مرتفعات عالية، سواء في الوجه القبلي والبحري، وكانت السُّكان تسر بالفيضانات العالية لتكسب الأرض خصبًا يُغنيها عن التَّسميد. وإنَّما كان يُؤلمهم أن يتأخر هبوط النِّيل إلى شهر بؤونة.

وفي عهد ساكن الجنان محمد علي باشا شرع في عمل الرَّي الصَّيفي وأحكام الحوش في الوجه القبلي؛ فأدَّى ذلك إلى تمكُّن الناس من إزالة البلاد العالية، واستعملت الأتربة التي كانت تحت تلك المباني كسماد بالتَّدريج عندما توفرت لديهم وسائل الرَّيِّ الصَّيفي في عهده، فصرنا لا نرى تل أتريب ولا تل بسطة ولا تل حوين ولا تل راك ولا تل مسمار ولا ولا … إلخ من التلول القديمة لا في الوجه القبلي ولا في الوجه البحري، وتلا ذلك تنظيمات أخرى في الرَّي حتَّى أُنشئ الخزَّان وقناطر أسيوط ونجع حمادي، مع تعلية الخزَّان للمرة الأولى والثانية، وأُدخلت مشروعات من بحري أسيوط إلى الجيزة.

ومع هذا فقد توصلوا إلى ما اعترف به الأوربيون من أن مصر هي المنبع الأول للعلوم والفنون ومهد الهندسة وتخطيط البُلدان والزراعة والكتابة. وبينما هم يحترمونها ويقدسونها التقديس الواجب لوطن الشرائع والنظامات السياسية والكهنوتية والرموز الدينية، وبينما هم يعجبون بآثار عمارتها وبهياكلها ومدافنها وأهرامها ومسلاتها وتماثيلها التي منها أبو الهول، وبينما حب العلوم يحملهم على مطالعة كلماتها السرية المرسومة على ذلك الكتاب الحجري الهائل الذي فتحت صفحاته منذ ألوف من السنين من مبدأ الشلالات التي عند أفواه النِّيل نرى أن أهل الشَّرق كانوا فيما مضى لا يرون في تلك الهياكل وتلك القصور الملوكية القديمة وفي تلك التماثيل الفخمة وفي أبي الهول إلَّا خضراء سحرية على كنوز مدفونة. وما تلك الكتابة الرمزية إلَّا إشارات سرية تُعلِّم الناس طرق استخراج الذهب واستكشاف المال المخبَّأ فيها.

ولقد شاركت أوروبا الشَّرق زمنًا في الاعتقاد بتلك الأوهام، وسألت تلك الأحجار عن أسرار الحجر الفلسفي، وأنكرت المعنى المخبأ وراء سر الكمياء التي استعارتها القرون الوسطى من مصر، على أن تعليم الزراعة التي تُحيل ماء النِّيل ذهبًا قد حلت تلك القضية حلًّا طبيعيًّا.

ولقد مسَّ مصر قحطٌ في عهد فرعون يوسف. ويُؤخذ من كتاب «جينيزس» أن سني الرخاء السبع ابتدأت في سنة ١٧١٥م، ثمَّ تلتها السبع الشداد «انظر سورة يوسف».

وهذا ما كانت عليه حالة مصر في عهد دولة الرومان:

في أيام القنصلين سيلانوس Silanus ونوربانوس Norbanus ذهب جيرمانيكوس Germanicus إلى مصر بحجة الاشتغال بأعمال هذه الولاية، ولكن غرضه في الواقع كان موجهًا إلى درس ما فيها من المخلفات القديمة والآثار العتيقة، فأمر بفتح الأهراء الأميرية وأنقص أسعار الحنطة، وصنع أمورًا كثيرة ممَّا يروق العامَّة ويُرضيها، وكان يمشي على قدمه وبغير حرس، وكان يتزيَّا بزي الأغارقة في ملبسه متشبهًا في ذلك ببليوس ثيبون (Publius Seipion) الذي ذكر المؤرخون عنه أنه سلك هذا المسلك في جزيرة صقلية عند اشتداد نار الوغى فيها أثناء محاربة القرطاجيين.
وكان ذلك السلوك وذلك التزيي سببًا في توجيه العتاب بألفاظ رقيقة من طباريوس (Tibere) إلى جيرمانيكوس، ولكنَّه عنَّفه تعنيفًا شديدًا على ذهابه إلى الإسكندرية خلافًا لما تقتضي به الأوامر التي أصدرها القيصر أغسطس (Auguste) محتِّمًا فيها وجوب الاستئذان من صاحب الأمر.

ذلك لأنَّ أغسطس في أثناء توليته زمام الأحكام أصدر جملة أوامر خصوصية، منها منع أعضاء مجلس الشيوخ «السناتور» وأكابر الفرسان الرومان من النزول إلى ساحل مصر بغير إذنه، فقد كان يخشى أن يرى إيطاليا في قحط وجوع من فعل أي إنسان يقبض على تلك الولاية التي هي مفتاح البر والبحر، والتي يتأتَّى الدفاع عنها بقليل من الأجناد ولو كان المغيرون عليها في جيوش كثيفة.

ولما سافر جيرمانيكوس إلى أعلى النِّيل زار أقرب منابعه، وزار الآثار العظيمة لمدينة طيبة القديمة، وترجم له أحد القسيسين ما عليها من الكتابات الهيروغليفية التي تنبئ بعظمة هذه الدولة القديمة وأنَّه كان يعسكر بطيبة ٧٠٠٠٠٠ جندي أخضع بهذا الجيش الملك رعمسيس الكبير بلاد ليبية والحبشة ومدية والفرس وما جاورها، وكذلك البلاد التي يقطنها السوريون والأرمن حتَّى وصل إلى البحر الأسود. ويعلم من هذه الكتابة أيضًا مقدار الجزية التي ضربت على الأمم المغلوبة على أمرها والنقود الفضية والذهبية والأسلحة والخيل والعاج والبخور والهدايا التي أهديت للمعابد والحبوب الكثيرة ولوازم المعيشة التي كانت تَرد إلى مصر من جميع الأمم.

ولمَّا تسلَّم عمرو بن العاص من المقوقس عامل الدولة الرومانية في مصر الذي كان على حربها وخراجها، وظهرت جيوشه على جيوش الروم في عدة مواضع، وتضمَّنت معاهدات الصلح أن ينقاد المصريون للفاتحين كلَّ الانقياد، وأن يدفعوا لهم الخراج والجزية، وتكفَّل لهم عمرو بن العاص بحفظ حريتهم الدينية، وأمَّنهم على أنفسهم وأموالهم، وضَمِن لهم المساواة في العدل والإنصاف، هنالك ولَّاه الخليفة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) على الزكاة والحرب وقيس بن أبي العاص قاضيًا. هذا والبلد في ذلك العهد محفور الأنهار معقود الجسور عندما تسلَّموه من الرومان وخمير العمارة فيه.

وفي سنة ٢٥ﻫ صُرِف عمرو بن العاص عن مصر بعد أن أسَّس فيها حكومتها ونظَّم إدارتها وأقام فيها ميزان العدل، وجبى عمرو الجزية من مصر في هذه السنة فكانت اثني عشر ألف دينار. وبما أنَّ الجزية كانت دينارين على كلّ شخص ذَكَر قادر على العمل بلغ من العمر اثنتي عشرة سنة فأكثر لغاية الستين سنة، فيكون المكلفون بالدفع ستة ملايين، وهو يعادل ثلث السُّكان بمصر وقتئذ، فيكون عددهم إذ ذاك ثمانية عشر مليونًا.

وممَّا يُفيد في هذا الموضوع:

البيان التَّفصيلي للحوادث التي ارتبطت بأمر النِّيل حسب السنين الميلادية

  • سنون لم يحصل فيها فناء وحصل فيها غلاء: ٨٩١، ٩٠٣، ٩٦٣، ٩٦٤، ٩٦٥، ٩٦٦، ٩٦٧، ٩٦٨، ٩٦٩، ٩٧٠، ٩٩٧، ١٠٠٧، ١٠٥٢، ١٠٥٥، ١١٨٤، ١٢٩٤، ١٣٧٣، ١٤٠٣، ١٤٢٠، ١٤٥٠، ١٤٦١.
  • سنون لم يحصل فيها وفاء ولم ينوِّه المؤرخون بحصول أي شيء فيها: ٧٦٩، ٩٤٤، ٩٦٢، ١٠٠٦، ١٠٨٢، ١٠٩١، ١٢٩٧.
  • سنون حصل فيها غلاء بسبب تقصير النيل: ١٦٩٤، ١٧٢٢، ١٧٨٣، ١٧٨٤.
  • سنون حصل فيها غلاء وقحط وفناء بسبب الشراقي: ١٠٥٦، ١٠٥٩، ١٠٦٠، ١٠٦١، ١٠٦٢، ١٠٦٣، ١٠٦٤، ١٠٦٥، ١٠٦٨، ١٠٦٩، ١٠٧٠، ١٠٧١، ١٠٧٢، ١٠٧٣، ١٠٧٤، ١١٨١، ١١٨٦، ١١٩١، ١١٩٢، ١١٩٣، ١٢٠٠.
  • سنون حصل فيها شراقي لعدم علو النِّيل إلَّا في آخر أيام الفيضان لمدة قصيرة: ١٨٩١، ١٨٩٣، ١٨٩٧، ١٨٩٨، ١٩٠٠، ١٩٠١.
  • سنون حصل فيها انحطاط مياه النِّيل تسبب عنه تخلف شراقٍ بكمية كبيرة: ١٨٧٧، ١٨٨٧، ١٨٩٩، ١٩٠٢، ١٩٠٤، ١٩٠٥، ١٩٠٧، ١٩١٣.
  • سنون تأخر الوفاء فيها ولكن لم ينوِّه المؤرخون بحصول شيء فيها: ١٣٣٨، ١٤٤٩، ١٨٠٨، ١٨١٠.
  • سنون كان فيها شحيحًا ولم ينوِّه المؤرخون بحصول شيء فيها: ١٥٠٢، ١٨٠٧.
  • سنون حصل فيها وفاء عادي: ٨٦٣، ١٠٧٣، ١٠٧٥، ١٠٧٦، ١٠٧٧، ١٠٧٨، ١٠٧٩، ١٠٨٠، ١٠٨١، ١٠٨٣، ١٠٨٤، ١٠٨٦، ١٠٨٧، ١١٧٦، ١١٨٠، ١٢٤٠، ١٢٧٣، ١٢٩٦، ١٢٩٨، ١٢٩٩، ١٣٠٥، ١٣١٣، ١٣٢١، ١٣٢٢، ١٣٢٥، ١٣٣١، ١٣٣٧، ١٣٩٧، ١٤٠٥، ١٤١٢، ١٤١٣، ١٤١٥، ١٤١٦، ١٤٢٣، ١٤٢٤، ١٤٢٥، ١٤٢٧، ١٤٢٩، ١٤٣٠، ١٤٣١، ١٤٣٣، ١٤٣٤، ١٤٣٧، ١٤٣٨، ١٤٤٢، ١٤٤٣، ١٤٤٤، ١٤٤٥، ١٤٤٦، ١٤٤٧، ١٤٤٨، ١٤٥١، ١٤٥٢، ١٤٥٤، ١٤٥٥، ١٤٥٦، ١٤٥٨، ١٤٦٠، ١٤٦٢، ١٤٦٣، ١٤٦٤، ١٤٦٥، ١٤٦٦، ١٤٦٧، ١٤٦٩، ١٤٧٠، ١٤٧١، ١٤٧٢، ١٤٧٣، ١٤٧٤، ١٤٧٥، ١٤٧٨، ١٤٧٩، ١٤٨١، ١٤٨٣، ١٤٨٦، ١٤٨٧، ١٤٨٨، ١٤٨٩، ١٤٩٠، ١٤٩١، ١٤٩٢، ١٤٩٣، ١٤٩٨، ١٥٠٠، ١٥٠١، ١٥٠٣، ١٥٠٤، ١٥٠٦، ١٥٠٧، ١٥٠٨، ١٥٠٩، ١٥١٠، ١٥١١، ١٥١٢، ١٥١٣، ١٥١٤، ١٥١٥، ١٥١٦، ١٧٧٧، ١٧٧٩، ١٧٨٠، ١٧٨١، ١٧٨٥، ١٧٨٦، ١٧٨٧، ١٧٨٨، ١٧٨٩، ١٧٩٠، ١٧٩٣، ١٧٩٤، ١٧٩٨، ١٧٩٩، ١٨٠١، ١٨٠٢، ١٨٠٤، ١٨٠٥، ١٨٠٦، ١٨١١، ١٨١٢، ١٨١٣، ١٨١٤، ١٨١٥، ١٨١٦، ١٨١٧، ١٨٤٧، ١٨٤٨، ١٨٧٥، ١٨٧٦، ١٨٧٩، ١٨٨١، ١٨٨٣، ١٨٨٤، ١٨٨٥، ١٨٨٦، ١٨٨٧، ١٨٨٩، ١٨٩٠، ١٨٩٢، ١٨٩٤، ١٨٩٥، ١٨٩٦، ١٩٠٣، ١٩٠٦، ١٩٠٨، ١٩٠٩، ١٩١٠، ١٩١١، ١٩١٢، ١٩١٤، ١٩١٥، ١٩١٦، ١٩١٧، ١٩١٨، ١٩١٩، ١٩٢٠، ١٩٢١، ١٩٢٢، ١٩٢٣، ١٩٢٤، ١٩٢٥، ١٩٢٦، ١٩٢٧، ١٩٢٨، ١٩٢٩، ١٩٣٠، ١٩٣١، ١٩٣٢، ١٩٣٣.
  • سنون حصل فيها وفاء وروى بعض الأراضي ولم ينوِّه المؤرخون بحصول أي شيء فيها: ١٠٠٥، ١٤٢٠.
  • سنون حصل فيها وفاء وسرعة هبوط تسبب عنه غلاء: ١٠٠٨، ١١٢٣، ١١٢٤، ١٢٠١، ١٢٣٠، ١٢٣١، ١٢٦٣، ١٢٩٥، ١٣٠٤، ١٣٠٩، ١٣٢٧، ١٣٣٨، ١٣٥١، ١٣٥٢، ١٣٦٣، ١٤٢٦، ١٤٢٨، ١٤٦٨، ١٤٨٤، ١٤٨٥، ١٤٩٦، ١٧٠٤، ١٧٩١، ١٧٩٢، ١٨٠٣.
  • سنون حصل فيها وفاء وسرعة هبوط ولم ينوِّه المؤرخون بحصول أي شيء فيها: ١٥٠٥، ١٨٧٣، ١٨٨٠، ١٨٨٢.
  • سنون كان فيها النِّيل عاليًا ولم يحصل من علوِّه ضرر: ١١٤٩، ١١٨٣، ١٢٣٢، ١٣٢٩، ١٣٥٩، ١٣٨٢، ١٣٨٩، ١٣٩١، ١٣٩٥، ١٤٢١، ١٤٣٩، ١٤٤٠، ١٩٣٤.
  • سنون كان النِّيل فيها عاليًا وحصل منه ضرر: ١٨٧٤، ١٨٧٨.
  • السنة التي حصل فيها غرق تسبب عنه قحط وفناء: ١٣٠٣.
  • سنون حصل فيها غرق تسبَّب عنه إتلاف الزروع والمساكن: ١٠٨٨، ١١٦٤، ١١٨٢، ١٣٤٣، ١٣٦٠، ١٣٧١، ١٣٨٣، ١٤٠٩، ١٤٢٢، ١٤٧٧، ١٦٢٢، ١٧٧٨، ١٨٠٠، ١٨٠٩، ١٨١٨، ١٨١٩، ١٨٢٠، ١٨٧٤.
  • السنة التي عظمت فيها مياه النِّيل في ٤ بؤونة وحصل منه غرق: ١٤٤١.
  • السنة التي بكَّر النِّيل فيها في نصف بؤونة: ١٧١٨.
  • سنون نوَّه المؤرخون بأنَّها كانت خصبة: ٩٧١، ٩٧٢، ١٠٢٣، ١٥١٥، ١٣١٧، ١٥٧١.

(٥) تطورات نهائيَّة الفيضان (من أول التَّاريخ الهجري الموافق سنة ٦٢٢م لغاية الآن)

في المدَّة من سنة ٦٢٢م إلى سنة ٧٢١م كان أعلى فيضان ٢٣ قيراطًا و١٩ ذراعًا، وكان ذلك في سنة ٦٧١م في خلافة معاوية بن أبي سفيان، وكان العامل على مصر مَسْلَمة بن مخلد.

وفي المدَّة من سنة ٧٢٢م إلى سنة٧٢١م كان أعلى فيضان ١٣ قيرطًا و٨ ذراعًا، وكان ذلك في سنة ٧٤٠، وسنة ٧٤١. وسنة ٧٤٢م في خلافة هشام بن عبد الملك، وكان العامل على مصر حنظلة بن صفوان للمرة الثانية في السنتين الأوليين، وفي السنة الثانية جعفر بن الوليد للمرة الثانية.

وفي المدة من سنة ٨٢٢م إلى سنة ٩٢١م كان أعلى فيضان ١ قيراط و١٨ ذراعًا في سنة ٩١٢، وسنة ٩١٣م في خلافة جعفر المقتدر والحاكم تكين بن عبد الله.

وفي المدة من سنة ٩٢٢م إلى سنة ١٠٢١م كان أعلى فيضان ٨ قراريط و١٩ ذراعًا في سنة ١٠١٩م في خلافة القادر بالله والحاكم بمصر الحاكم بأمر الله.

وفي المدة من سنة ١٠٢٢م إلى سنة ١١٢١ كان أعلى فيضان ١ قيراط و١٩ ذراعًا في سنة ١١٠٦م في خلافة المستظهر بالله الحاكم بمصر منصور أبو علي الآمر بأحكام الله.

وفي المدة من سنة ١١٢٢ إلى سنة ١٢٢١م كان أعلى فيضان ١٨ قيراطًا و١٨ ذراعًا في سنة ١١٧٢م في خلافة صلاح الدين الأيوبي في دولة الأكراد.

وفي المدة من سنة ١٢٢٢م إلى سنة ١٣٢١م كان أعلى فيضان ٢٣ قيراطًا و١٨ ذراعًا في سنة ١٢٨٠م في مدة الملك المنصور سيف الدين قلاوون.

وفي المدة من سنة ١٣٢٢م إلى سنة ١٤٢١م كان أعلى فيضان ٢٤ ذراعًا في سنة ١٣٦٠م في مدة الملك الناصر أبو المحاسن حسن للمرة الثَّانية.

وفي المدة من سنة ١٤٢٢م إلى سنة ١٥٢١م كان أعلى فيضان ٢١ قيراطًا و٢٠ ذراعًا في سنة ١٤٤٠ في مدة الملك الظاهر سيف الدين أبو سعيد جمقمق، وكذلك في سنة ١٤٤٢م في مدة هذا الملك.

وكذلك في سنة ١٤٧٧م في مدة الملك الأشرف أبو النصر سيف الدين قايتباي المحمودي.

في المدة من سنة ١٥٢٢ إلى سنة ١٦٢١م كان أعلى فيضان ٩ قراريط و٢٤ ذراعًا في سنة ١٥٩٣م في سلطنة السُّلطان مراد خان الثالث وولاية أحمد حافظ باشا.

في المدة من سنة ١٦٢٢م إلى سنة ١٧٢١م كان أعلى فيضان ٢٤ ذراعًا في سنة ١٦٢٢م وسنة ١٦٢٤ في سلطنة السُّلطان مراد خان الرابع. الأولى في ولاية الوزير مصطفى قره باشا، والثانية في ولاية الوزير مصطفى باشا قره الحميدي.

وكذلك في سنة ١٦٩٧م في مدة سلطنة السُّلطان مصطفى خان الثَّاني وولاية حسين البشناقي باشا.

في المدة من سنة ١٧٢٧م إلى سنة ١٨٢١م كان أعلى فيضان ١٢ قيراطًا و٢٤ ذراعًا في سنة ١٧٢٨م في مدة سلطنة السُّلطان محمود خان العثماني وولاية مصطفى باشا.

وكذلك في سنة ١٧٥٦م في مدة سلطنة السُّلطان عثمان بن أحمد وولاية علي حكيم زاده باشا للمرة الثَّانية.

في المدة من سنة ١٨٢٢م إلى سنة ١٩٢١م كان أعلى فيضان ١٢ قيراطًا و٢٢ ذراعًا في سنة ١٨٧٤م في مدة سلطنة السُّلطان عبد الحميد وولاية ساكن الجنان إسماعيل باشا.

في المدة من سنة ١٩٢٢م إلى سنة ١٩٣٤م كان أعلى فيضان ٤ قراريط و٢٤ ذراعًا في سنة ١٩٣٤ في عهد جلالة الملك فؤاد الأول. ا.ﻫ.

(٦) بعض معلومات القبط عن منابع النيل

قال الأستاذ توفيق إسكاروس ما يلي:
المفهوم أنَّ الرحَّالة الإنكليزي جنس بروس أف كنارد Janos Bruce of Kinnaird وصل إلى مصر سنة ١٧٦٨ قاصدًا الشخوص إلى بلاد الحبشة، وكان ذلك في أيام نفوذ علي بك بلوط، فألقى رجال الجمرك بالإسكندرية القبض على أمتعته، فاستصدر المعلم رزق مدير الجمارك آنئذ أمرًا من علي بك بالإفراج عنها بغير دفع رسوم جمركية، ثمَّ جهزه بكتاب من البطريرك لملك ملوك الحبشة بالتَّوصية عليه في مأموريته العلمية، وكان موجودًا مدة إقامته في القاهرة في بابليون بمصر القديمة.

وحدث في سنة ٤٢٧ﻫ سنة ١٠٣٦م حينما توفي الخليفة الظاهر وتولى ابنه المستنصر بالله مكانه لم يرتفع النِّيل سنين متوالية، فتعطَّل الزرع وقلَّت المحصولات، وكثُر الغلاء حتَّى بلغ ثمن الإردب الواحد من القمح مبلغًا عظيمًا؛ وإذ علم المستنصر بأنَّ مصدر زيادة النِّيل من بلاد الحبش دعا إليه البطريرك وهو إذ ذاك الأب ميخائيل الملقَّب بالجبس، وبعثه إليه بهدية سنية برسم النجاشي، ولدى وصوله قابله باحتفال عظيم وسأله عن قدومه فأعلمه بما حلَّ بمصر وأهلها من الضَّنك والجوع بسبب نقص زيادة النِّيل، وأنَّه أتى ليستعين به على إيجاد طريقة لمنع هذه الغوائل عن البلاد وأهلها، وقدَّم له هدية المستنصر، فأمر الملك بفتح سد في إحدى الجهات التابعة لبلاد الحبش؛ فجرت المياه منه إلى أرض مصر، وزاد النِّيل في ليلة واحدة ثلاثة أذرع، واستمرَّت الزيادة حتَّى رويت البلاد وزُرعت الأراضي فارتفع الغلاء، وفي أثناء وجوده بتلك الصِّقاع بذل جهده في تمكين عرى العلاقات بين المستنصر وملك الأحباش، فكانت هذه خدمة أخرى قام بتأديتها للخليفة غير الخدمة التي أرسله من أجلها؛ فنال بذلك رضاءه وأحسن إليه وبالغ في إكرامه. ا.ﻫ.

(٧) عيد النيروز

قال الأديب سامي تادرس بشاي ما يلي:

تحتفل الطائفة القبطية الكريمة بالنيروز، وهو رأس السنة المصريَّة القديمة وسنة الشهداء التي اتَّخذها المصريون مبدأً لتاريخهم من سنة ٢٨٤ ميلادية، وهي سنة الضحايا الكبرى التي جاهد فيها الأقباط بثبات عجيب أدهش الإمبراطور دقلديانوس الذي أعمل السيف والنار، واستخدم كلّ وسائل التعذيب في الأقباط ليحملهم على ترك المسيحية والعودة إلى الوثنية، فأبوا إجابته إلى ما طلب.

وإذا أقبل النيروز اليوم فإنَّه يأتي مملوءًا بالذكريات التي تثير الأشجان، غير أنَّها ذكريات تعتزُّ بها الكنيسة القبطية. وإذا كان الشَّرق بلد الشهداء فتكون الديار المصريَّة البلاد التي استُشهد فيها أكبر عدد من الشهداء، حتَّى لقد قالت السيدة «بوتشر» الإنكليزيَّة — مؤلَّفة كتاب تاريخ الأمة القبطية وكنيستها: «إنَّ وجود قبطي أرثوذكسي إلى الآن يعدُّ من عجائب الدنيا السبع.»

ولا شكَّ في أنَّ الأقباط الذين يعرفون لشهدائهم قيمتهم وقدرهم لا يتركون يوم النيروز يمر دون أن يتجاذبوا أطراف الحديث في سيرتهم الطاهرة، فيذكرون أولئك الشهداء الذين تشبثوا بعقيدتهم وصبروا على كلّ ما أصابهم من أجلها؛ لأنَّهم كرهوا أن يدينوا بدين الرومان الباطل، وأنفوا أن يُذعنوا لهم في عالم الجسد وعالم الروح وصمدوا لهم حتَّى أصبح دينهم دينًا لروما عاصمة الدولة الرومانية، وسلطوا أيدي الرومان على معابد الرومان يهدمونها بأيديهم كما هدموا من قبل معابد المصريين المغلوبين، ويذكرون أيضًا أن دماء أولئك الشهداء التي سُفكت حبًّا بالسيد المسيح هي بدار الكنيسة.

انتشرت الديانة المسيحية انتشارًا عظيمًا تبعًا لتعاليمها السامية ليس فقط في أملاك الدولة الرومانية ومستعمراتها، بل في روما نفسها عاصمة الدولة ومقر الإمبراطُوريَّة، وذلك لأسباب كثيرة أهمها:
  • أولًا: ضعف الدين الروماني الوثني الذي كان فيه طقوس وتقاليد منافية للعقل، وكان الغرض من تلك الطقوس والتَّقاليد اتقاء شرِّ الآلهة واستجداء خيرها.
  • ثانيًا: ضعف تأثير التَّعاليم الفلسفية التي قام بنشرها فلاسفة الرومان، ولكنَّها لم تنفُذ إلى قلوب العامَّة، ولم تبلغ منها ما يمكن أن يبلغه دين كالدِّين المسيحي يُعلِّم الوحدانية وحبَّ الله والناس، ويُقدِّر المساواة بين الخلق جميعًا. غير أن انتشار المسيحية لم يرُق حكومة الدولة الرومانية ولم ترضَ عن ذلك معتقدةً بأنَّ الدين الجديد ينقض الأُسس التي قام عليها المجتمع الروماني، وأن مبادئ هذه الديانة تهدِّد مبادئ كيان الإمبراطُوريَّة وتحضُّ على الفوضى؛ فعمدت إلى اضطهاد منتحليها، فضلًا عن أنَّها وجدت أنَّ المسيحيين لم يتظاهروا بالإغراق في الولاء لها، ولم يشتركوا في الحفلات الوثنية، ولم يقدموا القرابين للأباطرة إظهارًا لخضوعهم ودلالة على ولائهم، ورفضوا أن يعبدوا تماثيل الأباطرة المنصوبة في المعابد؛ إذ كانت هذه العبادة فرضًا على الجميع؛ فعدَّت الحكومة هذا الرفض خيانةً وعصيانًا، وحملها ذلك على اضطهاد المسيحيين وعدِّهم فئةً خارجةً على الجماعة.

وكانت المسيحية قد دخلت الدِّيار المصريَّة في القرن الأول للميلاد على يد مرقس الرسول — مؤسِّس الكنيسة القبطية أو الكرازة المرقصية — الذي استشهد في الإسكندرية، فوجدت في مصر أرضًا خصبة؛ إذ كانت أول أرض قوي شأنها فيها ودخل فيها أُناس كثيرون، وكان عدد أتباعها يزداد كلّ يوم، كما كان اعتقادهم فيها يقوى شيئًا فشيئًا؛ إذ فقدت العبادات الوثنية القديمة سلطانها على عقولهم، خصوصًا أنَّهم وجدوا في الدين الجديد عقيدة الحياة الأخرى — وهي من أعظم عقائد المصريين منذ عهد الفراعنة. كما أنهم كانوا شعبًا مستعبَدًا له في تعاليم المسيحية سلوى.

وفي سنة ٢٧٤ ميلادية تولَّى الإمبراطور دقلديانوس فَسَادَت السكينة في مصر وغيرها من أملاك الدولة الرومانية، غير أنَّها لم تستمر طويلًا، بل انقلبت إلى اضطرابات شديدة بسبب اضطهاده للمسيحيين؛ فقد كان وثنيًّا كارهًا للمسيحية، ورغب أن تضعه الرعية موضع الألوهية؛ ليضمن بذلك حياته وملكه فلم يخضع لإرادته المسيحيون خصوصًا في مصر.

وحدث أنَّ والي دقلديانوس في مصر خرج عن طاعته، فسار إليه دقلديانوس وحاصر الإسكندرية ثمانية أشهر ثمَّ فتحها عنوةً، وأطلق الجنود فيها يقتلون وينهبون، وأحرقوا منها قسمًا كبيرًا. وحدث أيضًا أنَّ قصر دقلديانوس بمدينة نيقوميديا اشتعلت فيه النار سنة ١٣٠٣، فاتهمت الحكومة المسيحيين بحرقه، فثار دقلديانوس وأخذ يتوعَّد المسيحيين ويُنذرهم بالويلات التي سيلحقها بهم، خصوصًا لمَّا رأى المستعمرات الرومانية تسعى لتنال استقلالها، ولا سيَّما بعد تديُّنِها بالدين المسيحي، وأفهمه رجاله أنَّ السبب في هذه الاضطرابات في أملاك الإمبراطُوريَّة وعدم خضوع الشعوب له إنَّما منشؤه الديانة المسيحية التي تدين لإله قدير وتُطيعه وتقول إنَّه أعلى من الإمبراطور الروماني وأرفع، وتُنكر أن هذا الإمبراطور نائبه.

وممَّا جعله يزداد حقدًا على المسيحية والمسيحيين أنَّ المنجِّمين والعرَّافين الذين دعاهم مرارًا لينبئوه بما يكون في مستقبله قالوا إنَّه يعسر عليهم إغراء الأرواح على مجاوبتهم وإظهار ما يخبئه القدر ما دام قصر الإمبراطور مفعمًا بجماعة المسيحيين الكفرة الذين يمنع وجودهم في القصر تجلِّي الأرواح وظهورها.

فعزم حينئذ دقلديانوس على محاربة المسيحية في جميع أنحاء مملكته وعلى محوها من وجه البسيطة والقضاء عليها قضاءً مبرمًا لا تقوم لها قائمةً بعده. ولكنَّه بدأ بمقاومتها أولًا في مصر؛ لأنَّه لقي من المصريين مقاومة شديدة فقد أبوا أن يخضعوا للظلم والاستبداد، فكثُرت الفتن الداخلية والثورات على الرومان، فكانت مصر مصدر مشكلات جمَّة للدولة الرومانية.

وبدأ الاضطهاد في فبراير سنة ٣٠٣ فسار الوالي بموكب حافل إلى كنيسة نيقوميديا الكبرى يصحبه جمٌّ غفيرٌّ من الموظَّفين وحاملي الفؤوس، فكسروا الأبواب، وأحرقوا جميع كتب الكنيسة، ثمَّ أخذ العمال في هدم الكنيسة حتَّى دكُّوا معالمها. وفي غد ذلك اليوم صدر منشور إمبراطوري بمحو الدين المسيحي، وهذا نصه:
  • (١)

    يجب هدم جميع الكنائس وإزالتها من الوجود.

  • (٢)

    يجب إحراق كلِّ الكتب المقدسة.

  • (٣)

    جميع المسيحيين الموظفين في خدمة الحكومة لا يُكتَفَى بفصلهم، بل يحرمون من حقوقهم الوطنية أيضًا لكي يتسنَّى لأعدائهم أن يذيقوهم أنواع العذابات وأشكال القسوة.

  • (٤)

    كلّ المسيحيين غير الموظفين يصيرون عبيدًا أرقَّاء.

وحينما عُلِّق المنشور في الأسواق والأماكن العموميَّة وازدحم الناس لقراءته، اقتحم شاب مسيحي جريء القلب شديد المنكب، الجمهور المزدحم، وتقدم ليقرأ المنشور، فلمَّا علم بما فيه غضب من تدخُّل الرومان في أمور الديانة، ومدَّ يده بسرعة عظيمة وتناول منشور العاهل الروماني ومزَّقه تمزيقًا ونثره في الهواء، وفعل ذلك بغاية الشجاعة والحزم؛ فألقوا القبض عليه وأذاقوه من العذاب ألوانًا شتَّى، ثمَّ جرَّدوه من ثيابه ووضعوه في نار خفيفة ليطول عذابه إلى أن تُوُفي. فكان أولَ مَن وقف في وجه دقلديانوس واستُشِهد وضحَّى بنفسه في مصر في عهده. وعُرِف ذلك الشاب فيما بعد باسم الشهيد ماري جرجس.

ثم أخذ ذلك الطاغية ورجاله القُساة يُعذِّبون كلَّ من يُعلن أنَّه مسيحي، وراح كثير منهم شهداء حتَّى قدَّر بعضهم الذين استشهدوا في عشر سنوات من إصدار هذا المنشور في مصر بنحو مائتي ألف شخص.

وإنَّه يعسر على الكاتب البليغ أن يصف مقدار ما تجرَّعه الشهداء من ضروب العذاب، فكانوا يُلبسونهم جلود الحيوانات ويُسلمونهم إلى الكلاب الكَلِبة الجائعة والحيوانات المفترسة في ملاعبهم، فيرى النَّاظر في أقل من لمح البصر أجسامًا وقد قُطِّعت إربًا إربًا. أو يخدشون أجسامهم ويسلخون جلودهم حتَّى يموتوا. أو يدهنونهم بالصمغ وما شاكله من المواد الملتهبة ثمَّ يربطونهم بالأشجار أو بأعمدةٍ من الخشب ليكونوا عبرةً للشاهدين وعرضةً لسخط الناظرين وإهانتهم، ثمَّ يجعلون عند دخول الليل من أجسام أولئك الشهداء مشاعل حية يطوفون بها في الشوارع، وكانوا يستعملون نور ذلك الحريق كمشاعل لإضاءة موائد الإمبراطور وحاشيته يأكلون عليها ما طابت له نفوسهم، أو يستعملونه كمصابيح بشرية لإضاءة الحدائق والبساتين المخصصة لتنزه العامَّة، أو يعلقونهم بالمسامير على خشبة الصليب، أو يذبحونهم ذبح الأنعام في الطرقات. واستخدموا طريقة فظيعة لتعذيبهم وقتلهم؛ فقد كانوا يقرِّبون غصنين قويين من شجرتين متجاورتين فيربطون بهما الشهيد ربطًا محكمًا، ثمَّ يفكًّون الغصنين فيفترقان. وحينئذٍ تتفرق أضلاع الشهيد وأشلاؤه في قسوة شنيعة. أمَّا النساء فكانت تربط إحداهن في رجليها وترفع في الهواء بعد أن يخلعوا عنها ملابسها ويكشفوا كلَّ جسمها، وتظهر أمام جمهور المتفرجين بمظهر تنفر منه الإنسانية وتأباه النفوس الأبيَّة. وحينما كان الجلادون والقائمون بأمر القتل والتعذيب يتعبون كانوا يلقون الشهداء في أتون من نار حامية.

وممَّا هو جدير بالذكر أنَّ استشهاد أولئك الأبرار البسلاء لم يكن استشهاد المُرغَم. بل كان بمحض اختيارهم وإرادتهم ومحبتهم لكنيستهم وخالقهم. فلذلك كانوا يلاقون الموت بثَغْر باسم مستشهدين في سبيل دينهم ما دام مؤسِّس دينهم قد مات شهيدًا على الصليب في سبيل تعاليمه، عالمين أنَّه بضيقات كثيرة، ينبغي أن يدخلوا ملكوت السموات. ولمَّا كان يصدر عليهم الحكم النهائي بالموت كانوا يقابلون هذا الحكم بفرح وتهليل، ويرتلون أغاني الحمد والشكر لله الذي أهَّلهم لأن يموتوا لأجله.

وممَّا يدعو إلى الدهش حقًّا أنَّ بعض المسيحيين والوثنيين كانوا يدفعون أنفسهم للاستشهاد في وسط تلك المجازر التي قام بها دقلديانوس وغيره من أباطرة الرومان في سبيل الدين المسيحي، فكان لا يحكم على شخص منهم بالإعدام حتَّى يندفع آخرون من كلِّ مكان ويعترفون بأنَّهم مسيحيون معتقدون بأنَّ كلَّ وسائل التعذيب والموت في سبيل دينهم أمور هيِّنة بجانب الإكليل الذي سيوضع على هاماتهم بجانب ملكوت الله الذي يرثونه بعد مماتهم.

وقد استشهد في أثناء تلك المجازر في ذلك العصر عدد كبير من كبار الأقباط وقديسيهم وقديساتهم، نذكر منها «مينا» المعروف باسم ماري مينا، والقديسة كاترينة التي تعلقت بالمسيحية فأغضبت أهلها الوثنيين، وانتهى الأمر بإعدامها. ومن بين الذين ألحَّ عليهم الإمبراطور — في الارتداد — القديسة دميانة المشهورة، فقد كانت هذه القديسة من ضحايا ذلك العصر المشؤوم، وكان أبوها مديرًا مصريًّا في إحدى مديريات القطر المصري مُحترمًا في قومه ذا مكانة عند الإمبراطور، وبنى لابنته دميانة ديرًا على بُعد ساعتين عن بلقاس اعتزلت فيه للعبادة، ولمَّا أصدر دقلديانوس منشوره كان في الدير أربعون راهبة، فطلب الإمبراطور من أبيها أن يجاهر بالوثنية فأرسلت دميانة إلى أبيها تستعطفه بأن يرفض رفضًا باتًّا ما طُلب منه، فعمل بمشورة ابنته؛ فاستعمل الإمبراطور معه نفوذه الشَّخصي ليُقنعه بأن يذبح للأوثان؛ لأنَّه لم يكن يودُّ هلاك خادم أمين مثله في بلاد عمَّها الاضطراب والقلاقل وكثر فيها أعداء الإمبراطور. غير أن والد دميانة أصرَّ على رأيه فاستشاط غضبًا منه ومن ابنته، فألقى القبض على دميانة وراهباتها الأربعين، وأمرهنَّ أن يسجدن للأوثان فامتنعن؛ فأخذ يعذبهنَّ تعذيبًا قاسيًا. ولكنهن لم يعدلن عن رأيهنَّ فأمر بقطع رؤوسهن وما زال ديرهن قائمًا حتَّى اليوم.

وقد كانت مذابح دقلديانوس لمسيحيي مصر أعظم المذابح وأفظعها، فتركت أثرًا كبيرًا في نفوس المصريين، حتَّى إنَّهم سموا عصره بعصر الشهداء.

ولم تصنع أمة في الأرض مثل ما صنع المصريون لأولئك الشهداء الذين ذهبوا في سبيل عقيدتهم. فهي قد جعلت ذكرى شهدائها تاريخًا لها تحسب عليه كلَّ يوم من أيامها وكل عام من أعوامها. فقولنا: سنة ١٦٥١ قبطية معناه: مرور هذه السنين على تلك الأيام المشؤومة، وتذكار تمسك الشهداء بالمسيحية.

ولا ريب في أن اضطهاد دقلديانوس للأقباط وغيرهم من المسيحيين كان من أكبر الأسباب لانتشار الديانة المسيحية ونموها؛ لأنَّ قساوة أولئك الظالمين أفناها الدهر. وأمَّا دماء الشهداء فقد صارت زرعًا لمسيحيين آخرين. أي إن الاضطهاد لم يأتِ بالغرض المقصود منه؛ لأنَّ المسيحيين ازدادوا تمسكًا بدينهم، وأخذ الناس يعجبون بشجاعتهم وصبرهم وتحملهم للأذى؛ فدخلوا في دينهم أفواجًا حتَّى زاد عدد المسيحيين على عدد الوثنيين.

ولمَّا أتى قسطنطين الأكبر في سنة ٣١٣م رأى أن يعترف بالديانة المسيحية جهارًا، فجعلها دين الحكومة والأمة؛ لأنَّها دين الكثرة، وانتحلها، وعطَّل الأشغال في أيام الآحاد، وهدم الهياكل الوثنية، وبنى الكنائس، وكان المسيحيون حتَّى ذلك العهد يُقيمون الصلاة في الكهوف والدياميس. وفي سنة ٣٧٨ تولى الإمبراطُوريَّة الرومانية «تيودوسيوس» فعمَّم الدين المسيحي في أنحاء الإمبراطُوريَّة الرومانية، بأن حتَّم التَّمذهب به، ونهى عن الوثنية فحرم عبادة الأوثان وأغلق معابدها، وأخذت الحكومة تضطهد الوثنيين، وعلى ذلك أُنشئت كنائس كثيرة أشهرها كنائس روما والإسكندرية وأورشليم وأنطاكية والقسطنطينية، وكثُر بناء الأديرة والصوامع؛ فتوطدت دعائم المسيحية وأصبحت عنصرًا من عناصر الحضارة الأوربيَّة الحديثة. ا.ﻫ.

(٨) بعض معلومات العرب عن منابع النيل

قال المغفور له أحمد زكي باشا ما يأتي:
البحيرتان المعروفتان الآن باسم فيكتوريا نيانزا وألبرت نيانزا قد كان لجغرافيي العرب فضل السبق بمعرفتهما وبوصفهما. وهذا ابن فضل الله العمري آخر من كتب عنهما، فقد ألمح إليهما في سنة ٧٤٥ﻫ (١٢٣٦م) في كتابه الممتع الحافل الموسوم ﺑ (مسالك الأبصار في ممالك الأمصار)، وذكر عنهما ما أيده بعده بخمسة قرون ونصف قرن روَّاد الإفرنج الذين وصلوا إليهما بفضل مصر وبمال مصر ورجال مصر. وهذا كلامه عنهما بالحرف الواحد: «إنَّ النِّيل ينصب عشرة أنهار من جبل القمر المتقدم الذكر. كلّ خمسة أنهار شعبة. ثمَّ تتبحَّر تلك العشرة الأنهار كلُّ خمسة أنهار تتبحر بحيرة بذاتها. ثمَّ يخرج من البحيرة الشرقية منها بحر لطيف يأخذ شرقًا على جبل قاقولي ويمتد إلى مدن هناك ثمَّ يصب في البحر الهندي. ثمَّ يخرج من تينك البحيرتين ستة أنهار من كلِّ بحيرة ثلاثة أنهار. ثمَّ تجتمع تلك الستة الأنهار في بحيرة متشعِّبة.» ثمَّ أفادنا أنَّ هذه البحيرة تُسمَّى عند بعضهم «البطيحة» وأنَّ فيها تضريسة جبل يفرق بها الماء نصفين.
figure
النِّيل عند خزَّان سنار.
figure
خزَّان سنار «مكوار».

هذا وقد عرفنا نقلًا عمَّا حدَّثه به أقضى القضاة شرف الدين أبو الروح عيسى الزواوي أنَّ الأمير أبا دبوس بن أبي العلى أبي دبوس «ووالده آخر سلاطين بر السعدوة من بني عبد المؤمن» حدَّثه أنَّه وصل إلى هذه البطيحة في أيام هربه من بني عبد الحق ملوك بني مرين القائمين الآن «أي في عهد المؤلف سنة ٧٤٥ﻫ.

وروى لنا أيضًا أنَّ الشيخ الثبت سعيد الدكالي — وهو ممَّن أقام بمالي خمسًا وثلاثين سنة مضطربًا في بلادها مجتمعًا بأهلها) حدَّثه بما نصه:

والمستفيض بلاد السُّودان أنَّ النِّيل في أصله ينحدر من جبال سودتبان على بُعد كأنَّ عليها الغمام. ثمَّ يتفرق نهرين يصب أحدهما في البحر المحيط إلى جهة بحر الظلمة الجنوبي «يشير إلى نهر النيجر المعروف عند العرب بنيل السُّودان، والآخر يصل إلى مصر حتَّى يصبَّ في البحر الشامي.

وروى ابن فضل الله العمري عن ذلك الشيخ قوله أيضًا:

ولقد توغَّلت في أسفاري في الجنوب مع النِّيل فرأيته متفرقًا على سبعة أنهر تدخل في صحراء منقطعة، ثمَّ تجتمع تلك الأنهر السبعة وتخرج من تلك الصحراء نهرًا واحدًا مجتمعًا. كلا الرؤيتين في بلاد السُّودان. ولم أره لمَّا اجتمع بالصحراء؛ لأنَّنا لم ندخلها إذ لم يكن بنا حاجة إلى الدخول إليها.

هذا وقد كان للملك الصالح نجم الدين الأيوبي ولع بمعرفة منابع النِّيل، فلمَّا وصل إليه ما حاوله السلف دون أن يظفروا بفائدة أراد أن يذلل العقبات التي تحول دون تلك الغاية، فاشترى عبيدًا صغارًا من الزنوج ومن شاكلهم واختارهم من الحلب الذين لم يستعربوا، ثمَّ سلَّمهم لصيادي السمك والبحارة ليعلموهم صنعة البحر وصيد السَّمك، ورسم بأن يكون قوتهم من السَّمك لا غير، وقرَّر أنَّهم متى مهروا في ذلك تُصنع لهم مراكب ليركبوا فيها ويأتوه بخبر النيل. ذكر ذلك صاحب مطالع البدور ومنازل السرور المطبوع في القاهرة «صحيفة ٧٤ و٧٥ من الجزء الثَّاني».

والظاهر أنَّ هذا المشروع لم يتمّ نظرًا للاضطرابات التي وقعت في مصر في ذلك الوقت أولًا بسبب هجوم الصليبيين تحت قيادة لويس التاسع ملك فرنسا المعروف بالقديس لويس، والذي يُسميه مؤرخو مصر (ريدافرنس Reade France)، وثانيًا لسبب انقراض الدولة الأيوبية وقيام دولة المماليك. وهذا المشروع قد تمَّ بفضل إسماعيل خديوي مصر الكبير في هذا العهد الجديد.

أردت أن أنشر هذه الصفحة المطوية من مآثر الدول الإسلامية في مصر، حتَّى لا يقول قائل بأنَّ الأجداد لم يعرفوا شيئًا عن النِّيل أو أنَّهم لم يعنوا بمصدر الحياة في مصر. وفوق كلِّ ذي عِلمٍ عليم. ا.ﻫ.

أحمد زكي باشا
figure
خزَّان أسوان.

(٩) الفيضانات العالية والمتوسطة والواطئة

يقول المهندس كامل بخاتي بك:

إذا جارينا الدورة الشمسية لمدة الثلاث والثلاثين سنة من سنة ١٨٦٩ قلنا إنَّ الفيضانات العالية انتهت سنة ١٩٠١ أو ما يقاربها، أي سنة ١٨٩٨، وخلفتها الفيضانات، الواطئة وهي تنتهي في سنة ١٩٣٣، وعلى ذلك تكون سنة ١٩٣٤ هي مبدأ الفيضانات العالية المتتالية التي تعلو مناسيبها ٩٣ مترًا بأسوان.

والآن نورد حدود الفيضانات الواطئة والمتوسطة والعالية والخطرة.

فأوطأ فيضان عُرف في مصر هو في سنة ١٩١٣، وكان مقاسه في أسوان ٩٠٫١١، وتصرفه ٤١٩ مليون متر مكعب في اليوم.

أمَّا أعلى فيضان فكان في سنة ١٨٧٨، وكان مقاسه ٩٤٫١٥، وتصرفه ١٢٨٠ مليون متر مكعب في اليوم.

فالفيضان المتوسط هو ٤١٩ + ١٢٨٠ = ١٦٩٩ مقسومًا على اثنين، أي ٨٤٩ مليونًا، وهو يطابق منسوب ٩٢٫٦٦ خلف أسوان، وهذا ما يُعبَّر عنه بالفيضان المتوسط، فإن زاد عن ذلك دخل في دور الفيضانات العالية، حتَّى إذا وصل تصرفه من ١٠٦٤ مليون متر مكعب في اليوم إلى ٩٣٫٤٨ خلف أسوان يدخل في حالة الخطر، وقد وصل في سنة ١٩٣٤ إلى٩٣٫٣٧، فكان قريبًا جدًّا من الخطورة في أوطأ درجاتها.
figure
نهر النِّيل عند الشلال الثَّاني.
وبناءً على هذا التَّعريف الجديد نذكر السنين التي مرَّت من سنة ١٨٦٩ إلى سنة ١٩٣٣. وكانت فيضاناتها متوسطة، أي للحدِّ المفروض وهو ٩٢٫٦٦، والفيضانات الواطئة المعروفة الدورة الزمانية.
السنة مقياس أسوان
١٨٧٣ ٩٢٫٦٦ حد المتوسط
١٨٧٧ ٩١٫٤٠
١٨٧٨ ٩٢٫٠٨
١٧٩٩ ٩١٫٦٨
١٩٠٢ ٩١٫٧٢ الحد الفاصل بين الفيضانات العالية والواطئة
١٩٠٤ ٩١٫٩٧
١٩٠٥ ٩١٫٩٠
١٩٠٧ ٩١٫٤٨
١٩١١ ٩٢٫٦٨ حد المتوسط
١٩١٢ ٩٢٫٠٥
١٩١٣ ٩٠٫١١ أوطأ المتوسط
١٩١٥ ٩١٫١٨
١٩١٨ ٩١٫٩٩
١٩١٩ ٩٢٫٢٢
١٩٢٠ ٩٢٫٢٩
١٩٢٣ ٩٢٫٤٦
١٩٢٤ ٩٢٫٦٢ حد المتوسط
١٩٢٥ ٩١٫٧٤
١٩٢٦ ٩٢٫٣٨
١٩٢٨ ٩٢٫٠٨
١٩٢٨ ٩٢٫٢٩
١٩٣٠ ٩٢٫٤٨
١٩٣١ ٩٢٫٦٢ حد المتوسط
١٩٣٢ ٩٢٫٧٠ حد المتوسط
١٩٣٣ ٩٢٫٥٩ حد المتوسط
فببحث هذا الجدول يُرى:
  • أولًا: أنَّ الفيضانات التي مرَّت على القُطر المصري من سنة ١٨٦٩ إلى سنة ١٩٠١ كانت كلها عالية ما عدا فيضانًا واحدًا متوسطًا في سنة ١٨٧٣ وثلاثة فيضانات واطئة.
  • ثانيًا: أنَّه من سنة ١٩٠٢ إلى سنة ١٩٣٣ مرَّ اثنان وعشرون فيضانًا، منها ستة في حد المتوسط وستة عشر واطئة وأحد عشر عالية، ولكنَّها كانت في علوها دون الدورة الأولى.

وعلى هذا فالدورة الأولى جاء الفيضان عاليًا فيها ٢٩ مرة من ٣٣، وفي الدورة الثَّانية جاء واطئًا اثنين وعشرين مرة من ٣٣، فحينئذ لا يسعنا الآن إلَّا تصديق الأمر الواقع، وهو أنَّ الدورة الأولى تختلف عن الدورة الثَّانية التي بدأت من سنة ١٩١٢، واستمرت إلى سنة ١٩٣٣ بفيضاناتها العالية كما أنَّ هذه بفيضاناتها المتوسطة والواطئة.

أعني ولو جاءت الأرصاد الآن من الروصيرص تشير إلى هبوط في مقياس النِّيل الأزرق، فإنَّ هذا لا يغير في النَّظرية شيئًا، فإنَّه يعدُّ نيلًا متوسطًا من السنين العالية في الدورة الزمنية الخاصَّة بها. ا.ﻫ.

figure
أوراق البايبرس «البردي» في بحر الجبل.

هوامش

(١) ترجمة من كتاب تاريخ قدماء المصريين، تأليف جوست ماربيت نك ناظر دار الآثار المطبوع في سنة ١٢٨١ﻫ (١٨٦٤م) صفحة ٩٧ سطر ٨.
(٢) لعله اللقلق.
(٣) وقد حسب المرحوم محمود الفلكي باشا تزحزح أشعة تلك الشعرى، التي كانت من أجل معبودات المصريين لاعتبارها في نظرهم إله الآلهة من تلك الفتحة، وعلم ألوف السنين عمر فيها الهرم من يوم إنشائه إلى الآن والغرض من إنشائه.
(٤) وإنه لما انتقل إلى دار البقاء مارييت بك أول ناظر لدار الآثار في عهد ساكن الجنان إسماعيل باشا أمر سموه بأن توضع جثته في تابوت يوضع في حوض من أفخم الرخام عند مدخل دار الآثار. ولما نقلت محتوياتها إلى سراي الجيزة نقل معها، ولما نقلت ثانية إلى محلها الحالي جعل في الجهة الغربية من الباب، وهذا اعتراف بجميله في ترتيب أعمال تلك الدار، ولم يعهد أن دور الآثار قبور، وإنما هو اعتراف بعمله الجليل.
(٥) وكان جاريًا استعمال سفن صغيرة لاجتياز كل شلال، ولقد ترتب على تصميم الذين أرادوا اجتياز تلك الشلالات إعدام مزيتها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤