الفصل الثالث والعشرون

الخزانات

ترتب على مشروعات النِّيل وتنظيم توزيع ماء الرَّي بين مصر والسُّودان، التَّفكير في إنشاء خزانات على النيل، فأُنشئ من الخزَّانات:
  • (١)

    خزَّان أسوان وتمت تعليته مرتين.

  • (٢)

    خزَّان سنار «مكوار سابقًا»، وقد تقررت تعليته قريبًا.

  • (٣)

    خزَّان جبل الأولياء ويتم بناؤه في سنة ١٩٣٧.

  • (٤)

    مشروع خزَّان بحيرة ألبرت.

  • (٥)

    مشروع خزَّان تانا. والأخيران في دور التَّفكير والبحث والمفاوضة والتمهيد، ولم يُوضع لهما تصميم معيَّن، ومن باب أولى لم يُبْدأ فيهما.

وقد اكتنفت السِّياسة هذه المشروعات، وكان أشد مظاهر ذلك هو خوف المصريين من أن يُتَّخذ بناء خزانات مصرية أو سودانية للإضرار بالرَّي المصري، أو أداةً لإكراه مصر على ما تأباه.

ونتكلَّم هنا على منطقة السدود، ومشروع خزَّان ألبرت. ومشروع خزَّان تانا. وفي الجزء الثالث من هذا الكتاب نُسهب الكلام على خزَّان سنار، وخزَّان جبل الأولياء، وخزَّان أسوان؛ لأنَّنا زرنا هذه الخزَّانات، فنحن نكتب عن معاينة لا عن علم فقط.

يقول أحد المهندسين: «إنَّ فكرة التَّخزين قديمة في مصر، وترجع إلى عهد الفراعنة، فقد عنوا بتنظيم التَّخزين، واختاروا له المنخفض الذي تشغله الآن مديرية الفيوم. وقد أطلق الإغريق على هذا الخزَّان اسم بحيرة «موريس» (راجع تاريخ مصر للعلامة السر ملندرس ستري ج١ ص٢٠ إلى سنة ٢٠٤».

وقام قدماء المصريين كذلك بإنشاء خزانات في وديان السيول في الصحراء الشرقية وفي شبه جزيرة سينا لتخزين مياه الأمطار والسيول، والانتفاع بها في سقي بعثات التَّعدين وعمال المحاجر «راجع كتاب علم الآثار المصريَّة للعلامة جاستون مسبيرو صفحة ٣٩–٤١». وكان الرومانيون يخزنون ماء الأمطار في آبار في الصحراء الغربية.

ولمَّا ولي المغفور له محمد علي باشا أمر مصر اهتمَّ بتخزين المياه، فأنشأ خزانًا في مديرية البحيرة على أرض واسعة لا تزال تسمَّى أرض الخزَّان، وهي الآن ملك للأمير عمر طوسون، وكان الغرض من هذا الخزَّان تغذية ترعة المحمودية في الصيف، فلمَّا أنشئت طلمبات العطف بطل استعمال هذا الخزان.

واهتم المغفور له محمد علي باشا كذلك بإنشاء خزانات للنيل لزيادة الإيراد الصَّيفي، وكلف لينان باشا كبير مهندسيه البحث عن مكان خزَّان «موريس» وإمكان إعادته، فلمَّا وجد لينان باشا التكاليف كثيرة اقترح إنشاء سد على النِّيل عند جبل السلسلة «راجع مذكِّرات لينان دي بلفون صفحة ٣٩٧–٤٢٠–٨٨».

ولما احتلَّ الإنكليز مصر أحضروا إليها نخبة من مهندسيهم الذين كانوا في الهند لإصلاح الرَّي، وقد وجدوا أمامهم اقتراحين لتخزين المياه، وهنا يصح أن ندع السير ويلكوكس يتكلم، فقد قال في كتابه «الري في مصر صفحة ٤٢٤ الطبعة الثَّانية» ما يأتي:

في سنة ١٨٨٠ (أي قبل دخول الإنكليز مصر) اهتمَّ الكونت دي لامون الفرنسي بمسألة الخزَّانات، فاقترح إنشاء سد على النِّيل عند جبل السلسلة لتخزين المياه إلى جنوبه، أي في سهل كوم أمبو، وقدر التكاليف بأربعة ملايين من الجنيهات، وذلك عدا التعويضات، وقدر كمية المياه التي يسعها هذا الخزَّان بنحو سبعة مليارات من الأمتار المكعبة.

وفي سنة ١٨٨٢ اقترح المستر كوب هويتوس الأمريكي إنشاء خزَّان في وادي الريان (الذي يقع في الصحراء الغربية إلى جنوب الفيوم)، أي في الوادي الذي سبق للينان باشا أن ذكره ورسمه في خريطته.

ولمَّا نجح الإنكليز في إصلاح قناطر الدلتا وجعلها قادرة على تغذية الرياحات وترع الوجه البحري في الصيف بفضل تهيئة المال اللازم لذلك، بدأوا يدرسون المشروعين اللذين أسلفنا ذكرهما في أثناء كلام السير ويلكوكس، ولكن الأمر انتهى إلى حفظهما لاختلاف الآراء فيهما، ويرجع الفضل في بيان قيمة هذين المشروعين من الوجهة الفنية إلى بعض كبار المهندسين المصريين في ذلك الوقت مثل سالم باشا وغيره.

وإلى هذا الوقت لم تكن فكرة التَّخزين في مجرى النَّهر قد أخذت حظها من الوجود. وقد كان في الإمكان أن تقف فكرة التَّخزين في ذاتها أمدًا بعيدًا لولا أنْ هيَّأ الله لمصر مهندسًا فرنسيًّا هو المسيو برومب — العضو بمجلس إدارة السكك الحديدية المصريَّة — فلفت نظر المهندسين الإنكليز إلى التَّخزين في مجرى النَّهر ذاته، وكان هذا الاقتراح هو مفتاح الفرج، وفي ذلك يقول السير ويلكوكس في كتابه الذي أسلفنا ذكره صفحة ٤٢٥ ما يأتي:

في سنة ١٨٨٩ اقترح المسيو برومب — العضو بمجلس إدارة السكك الحديدية المصريَّة — استخدام مجرى النِّيل نفسه للتخزين ما دامت لا توجد سهول منخفضة متصلة بالنيل وتصلح للتخزين.

وقد رحب المهندسون الإنكليز بهذا الاقتراح، وعيَّنوا السير ويلكوكس لدراسة مجرى النِّيل في بلاد النوبة لتعيين أفضل موقع للسد الذي ينشأ على النِّيل للتخزين، وقد عُيِّن أربعة من المهندسين المصريين مع السير ويلكوكس لهذا الغرض، نذكر منهم المرحومين محمد بليغ (بليغ باشا فيما بعد)، ومحمد صابر، وعبد الرحمن رشدي، وعبد الله حسين.

وقد انتهت هذه الدراسة باختيار رأس شلال أسوان باعتباره أحسن موقع للسد.

(١) خزان أسوان وإنشاؤه وتعليته

وهنا يبدأ دور خزَّان أسوان من حيث إنشاؤه وتعليته. وضع السير ويلكوكس مشروعًا لإنشاء السد. وفي سنة ١٨٩٤ استدعيت لجنة دولية لفحص هذا المشروع، وكانت مؤلَّفة من ثلاثة أعضاء؛ أحدهم إنكليزي، وثانيهم فرنسي، وثالثهم إيطالي. وقد قدمت اللَّجنة تقريرين لأنَّها لم تُجمع على رأي واحد، فقد انضمَّ العضوان الإنكليزي والإيطالي الواحد إلى الثَّاني، وانفرد العضو الفرنسي برأي قدم به تقريرًا مستقلًّا أخذ بأهم ما فيه بعد ذلك عند التَّفكير في حماية مجرى النَّهر من سقوط مياه الخزَّان؛ لأنَّها أحدثت تآكلًا في الصخر.

وقد أدخل تقرير الأكثرية تعديلات مهمة على مشروع السير ويلكوكس.

وفي سنة ١٨٩٨ بُدئ بإنشاء الخزَّان، وأُبعِد المهندسون المصريون عنه ليستقل المهندسون الإنكليز بفخره، وشملت هذه الخطَّة المهندسين الأربعة الذين قاموا بنصيب كبير في دراسة النِّيل وعمل ميزانيته مع السير ويلكوكس. وقد انتهى العمل في الخزَّان وافتتح سنة ١٩٠٢، وبلغت تكاليف إنشائه أربعة ملايين ونصف مليون من الجنيهات، ولكنَّه ما كاد يستخدم حتَّى ظهرت عيوب في بنائه، واقتضى الحال عمل «فرشة» خلفية له انتهى العمل فيها في سنة ١٩٠٧، وقد بلغت تكاليف هذه «الفرشة» ٢٨٢٧٠٠٠ جنيه، وكان إنشاء هذه الفرشة تنفيذًا للملحوظة التي كان قد أشار إليها العضو الفرنسي في لجنة ١٨٩٤.

ولم يكد العمل ينتهي من «الفرشة» حتَّى ظهرت فكرة التعلية الأولى، فاضطر المهندسون الإنكليز إلى إزالة جزء من «الفرشة» حتَّى يتمكنوا من عمل التعلية، وقد بلغت تكاليف التعلية الأولى مليونًا ونصف مليون من الجنيهات.

وهنا يصح أن ننقل رأي السير ويلكوكس في هذه التعلية. فقد قال في الطبعة الثالثة من كتابه السالف الذكر صفحة ٧٤٢ ما يأتي: «وقد حدثت شروخ بسيطة وشقوق في البناء الجديد ففرغت اللحامات لتمرَّ فيها مياه الرشح بعد تغطيتها «بكحلة كاذبة».»

واستدعى الأمر ترميمات كثيرة حتَّى ثبت البناء كما هو مدوَّن في تقارير وزارة الأشغال من سنة ١٩١٢ إلى سنة ١٩١٦.

أمَّا التَّعلية الأخيرة، فإنَّ تاريخها لا يزال عالقًا بالذاكرة، ولا يزال ماثلًا للأعين أنَّ اللَّجنة الدولية التي دُعيت لدرس التَّعلية الثَّانية في سنة ١٩٢٨ لم تأخذ برأي السير ماكدونالد — مستشار الخزَّان الفني — في طريقته الفنية للتعلية، ولا برأي المستر بكلي الذي كان معهودًا إليه بتحضير مشروع التعلية (راجع تقرير اللَّجنة الدولية ص٤ الذي نشرته الحكومة المصرية)، وكان الرأي السائد في اللَّجنة هو رأي المستر كوبر العضو الأمريكي. وممَّا هو جدير بالذكر أن وزارة الأشغال أخذت عهدًا على السير ماكدونالد أن ينفِّذ التَّصميم الذي وضعته اللَّجنة الدولية حين تعيينه مستشارًا فنيًّا للتَّعلية.

(١-١) منطقة السدود

ألقى الدكتور هيرست — مدير مصلحة الطبيعيات — محاضرة علمية بجمعية الفنون الملكية بلندن عن منطقة السدود ننشرها فيما يلي:

إنَّ المقصود بالسدود هنا تلك النباتات الطُّفيلية والحشائش وأشجار البردي التي تعوق انحدار الماء في بعض فروع النِّيل الأبيض. وهي كثيرة وكثيفة في المنطقة الواقعة بين خطي عرض ٦ و١٠، حيث يجري بحر الجبل وبحر الظراف وبحر الغزال ونهر بيبور وبعض فروعه. وهي تنمو كذلك في طريق النِّيل في أوغندا، بيد أنَّ انتظام الملاحة في الوقت الحاضر في بحر الجبل والظراف والغزال تجعل تماسك هذه العشاب نادرًا. وقد كانت في الماضي تلتفُّ حول بعضها وتنمو وتتكاثف؛ فتعيق الملاحة شهورًا كما قال سير صموئيل بيكر.

و(منطقة السدود) تطلق الآن على الإقليم المليء بالمستنقعات الذي يحف ببحر الجبل وبأعالي بحر الظراف فيما بين بحيرة «نو» و«وبور» على خط عرض ٦، ويجوز أن ندمج فيها كذلك إقليم المستنقعات الذي يحف ببحر الغزال، وإقليم بيبور الذي لبعض نهيراته صفات ومميزات بحر الجبل وبحر الغزال.

لم يكن أعالي النِّيل الأبيض معروفًا قبل أن تجوسه البعثات التي أرسلها من مصر المغفور له محمد علي باشا فيما بين سنة ١٨٣٩ وسنة ١٨٤٢. وقد أنشئت بعد ذلك في تلك المناطق محاط تجارية، وأتمَّ السياح الأوربيون اكتشاف ذلك الإقليم بالتدريج إلى أن كانت ثورة المهدي، فامتنع السُّودان على المكتشفين في المدة بين سنتي ١٨٨٢ و١٨٩٨، ولم يكن معروفًا في ذلك الوقت عن نظام فروع النِّيل وأهمية النِّيل الأزرق والنيل الأبيض إلَّا النَّزْر اليسير.

وقد أورد سير هنري لبونز في كتابه (جغرافية النيل) كلَّ ما كان معروفًا عن حوض النِّيل حتى سنة ١٩٠٥. وإنَّه لمن دواعي سروري أن يكون رئيس هذا الاجتماع هو سير هنري ليونز نفسه. الذي كان في مقدمة الذين ارتادوا هذا الإقليم من العلماء الباحثين.

وصف منطقة السدود

يخرج مجرى النِّيل الأبيض من بحيرتي فيكتوريا وألبرت في سهول أفريقيا الوسطى، ثمَّ ينحدر في الوديان المسطحة التي يتكون منها السُّودان الجنوبي. وهناك يلتقي ببحر الغزال ثمَّ بنهر السوباط الذي يستمد أكبر كمية من مائه من مرتفعات الحبشة.

وأكثر فروع النِّيل تفيض بشدة في موسم الأمطار. ويضعف انحدارها أو يكاد أن يتلاشى في موسم الجفاف. وبعض الفروع يفيض في الوديان فيكوِّن المستنقعات، ونظرًا لانتظام سيل الماء من البحيرات ترى أن بحر الجبل يختلف اختلافًا كليًّا عن سائر فروع النِّيل، حيث لا يطرأ عليه تغيير كبير في موسمي الفيضان أو الجفاف. وإلى هذا الانتظام ثمَّ إلى إمكان صيانة الماء من الانسياب في المستنقعات بإقامة السدود على البحيرات يرجع الفضل في أهمية بحر الغزال إلى كلِّ مشروع يُراد به الانتفاع بجميع ماء النيل.

وتقع أبعد منابع بحر الجبل في بُقعة جبلية جميلة قريبة إلى بحيرة (ليفو) وأقرب إلى (الكاب) منها إلى (القاهرة)، ومن هذه البقعة ينبع أيضًا نهر (كاجيرا) الذي هو أهم نهر يصب في بحيرة إدوارد التي يربطها نهر (سمليكي) ببحيرة ألبرت.

وفي هذا الإقليم توجد قمم «رونزوري» التي يبلغ ارتفاع أعلاها ٥١٢٠ مترًا، وتوجد المنطقة الوحيدة في طول حوض النِّيل التي تعلوها الثلوج باستمرار.

وكمية الماء التي يستمدها النِّيل من ذوبان الثلوج قليلة الأهمية. على الرغم من أن بعض المؤلفين قد ذكروا أنَّ النِّيل يستمد ماء الفيضان من ذوبان الثلوج في الحبشة؛ لأنَّ الحبشة في الواقع لا توجد بها ثلوج دائمة بكمية تستحق الذكر.

هذا وتوجد خمس بحيرات في منطقة بحر الجبل هي بحيرات جورج وإدوارد وألبرت في الوادي الغربي. وبحيرة فيكتوريا وكيوجا في الوادي الشرقي. والحوض الأساسي لهذا النَّهر يخرج من بحيرة فيكتوريا عند شلالات (ريبون)، ويمر بنهاية بحيرة كيوجا (حيث يوجد إقليم منخفض كثير المستنقعات)، ثمَّ يهبط إلى بحيرة ألبرت عند شلالات مرشيزون حيث ينحدر مستوى النَّهر انحدارًا عظيمًا.

وثمة فرع آخر يتكون من نهيرات وادي (ريفت) التي تصب في بحيرات إدوارد وجورج وألبرت.

أمَّا البحر الأساسي فإنَّه يستمر في حوض تحفُّ به المستنقعات حتَّى يصل إلى حدود السُّودان عند منيول، ومن ثمَّ ينحدر سريعًا مسافة ١٦٠ كيلومترًا حتَّى يصل إلى (ريجاف) بالسودان.

وفي المنطقة بين بحيرة ألبرت وريجاف يتلقَّى النَّهر أمواه فروع كثيرة سريعة تفقد أهميتها في موسم الجفاف.

وفيما بين ريجاف والخرطوم «وهي مسافة ١٧٥٠ كيلومترًا»، يظل النِّيل الأبيض صالحًا للملاحة طول السنة.

وانحدار الأرض بعد ريجاف عظيم ويسبِّب تآكل ضفتي النَّهر بين ريجاف وبور، وبسبب هذا التآكل قد اختفت وتلاشت مدينة «كبرو» التي كانت مركزًا حكوميًّا هامًّا أثناء احتلال البلجيكيين لمنطقة «لادو» ويتأثر مجرى النَّهر بعد «بور» بالأعشاب أكثر ممَّا يتأثر بالتآكل.

هذا ومجرى بحر الجبل وبحر الغزال يحفُّ بهما المستنقعات الكثيرة. ومساحة هذه المستنقعات تختلف باختلاف موسم الأمطار.

ففي موسم سنة ١٩١٧ مثلًا الذي امتاز بغزارة أمطاره، ترامت هذه المستنقعات حتَّى وصلت إلى بحر العرب. أمَّا مواسم الجفاف الشديد كموسم سنة ١٩٢٢، فإنَّ المستنقعات لا تشمل غير مناطق ضيقة على ضفتي النهر.

وعندما تنهمر الأمطار تنمو في الوديان حشائش كثيفة ترتفع إلى ٥ أقدام أو ستة أقدام. وتجعل السير والنقل مستحيلًا. وعندما ينقطع انهمار المطر تجف هذه الحشائش، وغالبًا ما يشعل فيها الأهالي النيران قبل موسم الأمطار التَّالي.

وقد قامت شركة المساحة الجوية بلندن بتصوير منطقة بحر الجبل، وهي الآن بسبيل وضع خرائط لهذه المنطقة، وسوف تستفيد من جهود هذه الشركة بالحصول على معلومات جديدة صحيحة عن هذه المنطقة لم يكن يتسنَّى لنا الحصول عليها بأية وسيلة أخرى. فاللشركة الشكر على اضطلاعها بهذه المهمة الشاقة الخطيرة في إقليم بلقع موحش.

ويخرج بحر الظراف من المستنقعات الواقعة شرقي «شامبي»، ثمَّ يستقيم في مجراه مسافة مائة كيلومتر فلا تحف به مشتنقعات تُذكر، وقد أُوصِل ببحر الجبل بواسطة قناتين مهَّدتا بواسطة الكراكات في سنتي١٩١٠ و١٩١٣ بقصد الحصول من المستنقعات على أكبر كمية من الماء.

والنبات الذي ينمو أكثر من غيره شمال شامبي هو نبات البردي: فترى النَّهر ينساب هناك كأنَّما من بين جدارين من شجر ذلك النبات.

ويتَّحد بحر الجبل وبحر الغزال عند بحيرة «نو»، وينحدران شرقًا حيث يُعرفان بعد ذلك باسم النِّيل الأبيض، وتحف المستنقعات بالنيل الأبيض إلى قبيل اتصاله ببحر الغزال، وهناك يستقيم مجراه في حوض جاف الضفتين.

وبحر الغزال نهر بطيء يستمد ماءه من نهيرات أهمها نهر «جور» ونهر «لول»، وهما يحملان إليه كميَّات وافرة من الماء. أمَّا النهيرات الأخرى فإنَّها تختفي في المستنقعات.

ونهر «جور» صالح للملاحة في المدة بين يوليو وأكتوبر، وهو يستخدم في نقل كميَّات كبيرة من البضائع من مدينة «واو» عاصمة مديرية بحر الغزال، غير أن البحارة يعانون كثيرًا من جراء ضيق النهر، ثمَّ من جراء انحرافه المفاجئ في بعض المواقع.

المناخ

ومناخ جنوب السُّودان خاضع لموسم الأمطار في المدة بين إبريل وأكتوبر، ثم لموسم الجفاف من نوفمبر إلى مارس من كلِّ عام، وكمية الأمطار في مختلف الوديان تتراوح بين ٨٠٠ و١٠٠٠ ملليمتر. وتبلغ درجة الحرارة أقصى ارتفاع في شهر مارس. وأقصى هبوط في يولية وأغسطس، ولا توجد هناك برودة بالمعنى المفهوم؛ لأنَّ درجة الحرارة تتراوح بين ٣١ مئوية في شهر يولية ودرجة ٣٨ في شهر مارس.

وموسم الأمطار في جنوب السُّودان هو أبدع المواسم جميعًا من حيث المناخ، ولكنَّه للأسف يجعل النَّقل والتنقل غاية في الصعوبة، حيث يضطر الإنسان في أكثر المناطق أن يجتاز المسافات الشاسعة سيرًا على قدميه. والسير يكاد يكون مستحيلًا في بعض الجهات نظرًا لطبيعة الأرض وكثرة المستنقعات. وفي الجنوب الأقصى حيث لا يمكن استخدام وسائل النَّقل الميكانيكية لا يجد الإنسان مناصًا من استخدام الآدميين للنقل بسبب كثرة ذباب «تسي تسي» الذي يفتك بالدَّواب فتكًا ذريعًا.

النباتات

ونباتات المستنقعات في أعالي النِّيل كثيرة ومحيِّرة لمن لا يعرف علم النبات. فالبردي مثلًا كثيف جدًّا في بحر الجبل، ولكنَّه قليل جدًّا في بحر الغزال. وتُوجد في بعض المناطق حشائش طويلة كثيفة تعيق الملاحة، كما توجد في مناطق أخرى حشائش عائمة ذات أنواع مختلفة، وقد لا يكون مضيِّعًا للوقت أو المال أن يتوفر الإنسان على دراسة طبائع النباتات في تلك المناطق لمعرفة النوع الذي يمكن إنماؤه على الشواطئ لمنع التآكل.

على أنَّ أضرار هذه الحشائش والنباتات ليست كبيرة كما كانت منذ ثلاثين عامًا حين كانت تسد بحر الجبل وترغم البعثات العلمية والاستكشافية عل قضاء الشهور الطويلة في محاولة إزالتها. ولعل أهم هذه النباتات هو البردي وتلك الحشائش العائمة التي أتينا على ذكرها. فإنَّها تتماسك في بعض الأحيان حتَّى تحجز الماء فيخرج النَّهر من مجراه الطبيعي. وقد تعددت هذه الظاهرة في المدة بين سنة ١٨٦٣ وسنة ١٩٠٣.

وقد حاول الكثيرون استثمار هذه النباتات، ولا تزال توجد بمقربة من بحيرة «نو» بقايا مصنع أُريد به — ولا شك — الانتفاع بتلك الحشائش؛ إذ لا ريب في أنَّه يمكن صنع الورق والبوتاس والوقود والكحول وغير ذلك كله من النباتات غير المحدودة التي تنمو في منطقة السدود. بيد أنَّ غلاء أجور نقل المواد الأولية والمنسوجات من شأنه أن يقضي على مستقبل كلِّ مشروع صناعي.

على أنَّه لمَّا كان ثمن البترول مرتفعًا جدًّا في جنوب السُّودان وأواسط أفريقيا، فإنَّه من الممكن استنباط وقود جديد من تلك النباتات كالكحول مثلًا. ومن رأيي أن مشروعًا كهذا قد يوتي أُكله ويصبح من المشروعات التِّجاريَّة الهامة.

الحيوانات

توجد في أعالي النِّيل مجموعة عجيبة من الحيوانات الضخمة والصغيرة. فأنت تستطيع دائمًا أن ترى قطعان الفيلة حول بحر الغزال وفي «ريجاف»، وتستطيع أن ترى التماسيح والغزلان والوعول، وقد يسعدك الحظ فترى أسدًا. وقد شهدتُ في إحدى سياحاتي جميع هذه الأنواع كما شهدتُ الحمار البري، والفهد، ووحيد القرن.

وأمَّا الأسماك فكثيرة، وبينها ما يزن مائتي رطل، وأكثرها يزن ٢٠ رطلًا أو ما يقرب من ذلك، غير أنَّه من الصعب اصطيادها بغير الشباك التي يستعملها المصريون.

والطيور كذلك كثيرة، ولكنَّها ليست أكثر من الهوام التي تضايق الإنسان أشد المضايقة، وفي منطقة السدود نوع من الذباب يلدغ الإنسان ويؤلمه، ولكنَّه لا ينقل إليه الجراثيم كما يفعل ذباب «تسي تسي» الذي يحمل جرثومة مرض النوم ويصيب به الإنسان والحيوان على حدٍّ سواء.

وذباب «تسي تسي» غير موجود قطعًا في وديان السُّودان، ولكنَّه كثير في بحيرات الكنغو، وقد عملت الحكومة على إبادته من حوض النِّيل، فلم يعد ذلك الوباء الذي طالما فتك بالأهلين منذ أعوام.

السُّكان

وتقطن وديان تلك المناطق قبائل الدنكا والنوبر والشيلوك، وهم قوم رُحَّل إلى حدٍّ ما؛ لأنَّهم يقيمون حيث تنمو الحشائش، ويرحلون حين تجف، وهم في موسم الجفاف يهاجرون إلى المستنقعات فيعيشون حولها، وكل ثروة هؤلاء القوم هي قطعان الماشية التي يرعونها، والقليلون جدًّا منهم يعيشون في البقاع الجافة الغربية من المستنقعات، ويصطادون السمك أو «جاموس البحر» الذي يقطعونه شرائح ويجففونها في الشمس.

أمَّا في المناطق المحيطة بالأحراش والأدغال، فإنَّ القوم يشتغلون بالفلاحة، فيزرعون الأذرة والبطاطس وأكثر القبائل ميلًا إلى الزراعة هي قبيلة الدنكا.

ورجال النوير والدنكا والشيلوك نحاف القامة، طوال السيقان، يعيشون عُراة الأبدان إلَّا من خيوط من الخرز تستر عوراتهم، أمَّا النساء المتزوجات فيرتدين مآزر من الجلود يمضغونها حتَّى تكتسب شيئًا من النعومة والليونة.

المياه

كنت أريد أن ينصبَّ كلامي على منطقة السدود دون سواها، ولكن أرى لزامًا عليَّ عند تذكر خصائص المياه وطبيعتها في تلك المنطقة أن أتناول المصادر التي يستمد منها النِّيل ماءه.

نرى من خريطة نهر النِّيل أن كمية الماء التي تنصب في هذا النَّهر من فروعه تقدر بمليارات الأمتار المكعبة كلَّ عام، وأنَّ النِّيل الأزرق يمده ﺑ ٥٧ في المائة من هذه الكمية، ويمده النِّيل الأبيض ﺑ ٢٩ في المائة، وعطبرة ﺑ ١٤ في المائة.

ويستمد النِّيل الأبيض نصف مائه من الحبشة، وبذلك تكون الحبشة مصدر ٨٠ في المائة من مجموع ماء النيل، والجزء الأكبر من هذه الكمية يجد سبيله إلى النِّيل في المدة بين يولية وأكتوبر، ويكون محملًا بالطَّمي، وإلى هذا الطَّمي الذي يحمله النِّيل إلى مصر منذ آلاف السنين — وربما ملايين السنين — يرجع الفضل في خصوبة وادي النيل.

أمَّا النِّيل الأبيض فيستمد ماءه من المستنقعات ومن نهر السوباط، ومنه يستمد النِّيل ماءه في الوقت الذي ينحدر فيه منسوبه، وماء النِّيل الأبيض لا يحمل عادة شيئًا من الطَّمي.

بقيت كمية الأربعة عشر مليارًا من أمتار الماء التي يستمدها النِّيل من بحر الغزال وبحر الجبل وبحر الظراف.

فأمَّا بحر الغزال فيمدُّ النِّيل بماء لا يقل عن نصف مليار من الأمتار المكعبة، ويذهب من مائه هباءً خمسة عشر مليارًا بسبب التبخُّر، وبقية الأربعة عشر مليارًا يستمدها النِّيل من بحر الجبل وبحر الظراف، وهذان النهران يفقدان من مائهما أربعة عشر مليارًا «أي ضعف الكمية التي يسعها خزَّان أسوان بعد تعليته» تسيل في الوديان والمستنقعات.

المشروعات

أرى من الضروري أن أتكلم عن نظام الرَّي في مصر قبل أن أتناول موضوع المشروعات التي يمكن القيام بها في أعالي النيل.

إنَّ السنة في مصر تنقسم إلى قسمين: الأول من فبراير إلى يونية، وخلال هذه المدة يتعيَّن إعداد النَّهر بالمزيد من الماء لكفاية حاجة الأراضي الزراعية. والثاني من أغسطس إلى ديسمبر. وفي هذه المدة تزيد كمية الماء عن حاجة الزراع. أمَّا شهر يناير فتغلق فيه الترع لتطهيرها، ولا تكون ثمة حاجة إلى الماء لغير الملاحة.

ففي موسم الجفاف يرتفع منسوب النِّيل بفضل ما يخزن في «خزان أسوان» في المدة بين نوفمبر ويناير عندما يكون الماء صافيًا وخاليًا من الطَّمي بقدر الإمكان؛ ذلك لأنَّه من المقرَّر حتَّى الآن أنَّ الماء المحمَّل بالطمي لا يمكن تخزينه بغير تعريض الخزَّانات لخطر الامتلاء بالطمي. وعليه فقد جرت العادة أن يؤجل ملء خزَّان أسوان إلى أن يصفو الماء.

وهناك مشروعان هامَّان يختصان ببحر الجبل أحدهما إقامة سد عند مخرجه من بحيرة ألبرت بقصد إنشاء خزَّان يسع ٢٠ مليارًا من الأمتار المكعبة، والآخر يرمي إلى الاستفادة بقدر الإمكان من ماء المستنقعات في منطقة السدود شبكة من الترع، وهذان المشروعان يتمِّم كلٌّ منهما الآخر، ولا يزال كلاهما في المهد، والمقصود بخزان بحيرة ألبرت الاحتفاظ بماء الفيض الشديد لسنوات الجفاف، ولمَّا كانت جوانب هذه البحيرة مرتفعة فإنَّ كمية التبخر لا ينتظر حينذاك أن تتجاوز نسبتها الحالية إلَّا قليلًا.

وثمة مشروع آخر يُراد به إنشاء ترعة في جنوب نهر «بور» بقصد تخفيض فيض نهر السوباط إلى النسبة التي تكفل عدم ضياع مائه. بيد أنَّ هذا المشروع يتطلب كثيرًا من الجهد قبل أن يؤتي ثماره.

أمَّا المشروع الأخير فيتلخَّص في إقامة سد على بحر الجبل عند الجميزة، وتوصيله إلى نهر فيفينيو «فرع البيبور»، وبذلك لا يذهب الماء ضياعًا في المستنقعات، بل ينصب في النِّيل الأبيض عن طريق السوباط.

وهناك مشروعات أخرى كثيرة وضعها مكتب مصلحة الرَّي المصريَّة في السُّودان، وسوف تطرح هذه المشروعات على بساط البحث عندما يظهر ما يدعو إلى الحصول على المزيد من ماء النِّيل الأبيض.

أمَّا خزَّان أسوان فسيصبح من الضروري بعد تعليته التبكير في ملئه. ولقد قرر المهندسون المنوطون بأعمال الرَّي في مصر أن يتحاشوا خطر الطَّمي على هذا الخزَّان، وفكروا في مشروع لتلافي طمي النِّيل الأبيض. فكان مشروع خزَّان جبل الأولياء خير كفيل، وسيقام هذا الخزَّان على النِّيل الأبيض على بعد ٢٥ ميلًا جنوب الخرطوم. وسيُملأ في مواسم ارتفاع الفيضان.

وثمة مشروع آخر كان موضع بحث ودراسة هو مشروع خزَّان بحيرة «تانا» الذي تستفيد منه مصر والسُّودان على السواء، وسيُملأ هذا الخزَّان كذلك في موسم الفيضان. بيد أنَّ الشطر الأخير من الوقت اللازم لملئه يُصادف الشطر الأول من الوقت اللازم لملء خزَّان أسوان بعد تعليته، ومن هذا يتبيَّن أن ملء هذه الخزَّانات جميعًا يتطلب نظامًا ودقةً، ويستلزم تحديد الوقت المبكر لملء خزَّان أسوان من الماء غير المحمَّل بالطَّمي. ولهذا الغرض قد أُعدَّت العدة لإجراء تجربة سوف تكون أهم تجربة من نوعها. فإذا ثبت أنه يمكن ملء خزَّان أسوان في بداية الفيضان بغير تعريضه لخطر الطَّمي، فإنَّ الرأي في جميع المشروعات المقترحة قد يتبدَّل نهائيًّا ويصبح من الممكن درس مشروع إنشاء خزَّان أكبر في أسوان. ا.ﻫ

الدكتور هيرست

(٢) بيانات أخرى

وقد أرسلت في سنة ١٩٢٤ وزارة الأشغال العمومية إلى وزارة الخارجية لتبليغها إلى الحكومة البلجيكية بشأن مشروع تحويل بحيرة ألبرت إلى خزَّان للنيل والأعمال التي يتطلَّبها هذا المشروع في جزء يقع في بلاد الكونغو البلجيكية. وقد وقفنا على بيانات تفصيلية عن هذا المشروع منذ بدء التَّفكير فيه، ويؤخذ من هذه البيانات أن سير وليم جارستن كان أول من أشار باستعمال بحيرة ألبرت خزانًا للمياه؛ إذ رأى من مقارنة المطالب المائية اللازمة في المستقبل للقطر المصري بمقادير الإيراد المتيسَّر في السنوات الشحيحة أنه يتبيَّن أن الكمية الإضافية اللازمة لا يمكن تخزينها في أي بقعة من حوض النِّيل عدا بحيرة ألبرت، حيث يتسنَّى ادِّخار الكمية الكافية ادخارًا اقتصاديًّا.

وتبلغ مساحة هذه البحيرة نحو ٥٥٠٠ كيلومتر، فإذا ارتفع منسوب مياهها مترًا واحدًا كان ذلك معادلًا لتخزين ٥٥٠٠ مليون متر مكعب. ولما كانت جروف البحيرة تكاد تكون قائمة فإنَّ مساحة سطحها لا تزداد بدرجة عظيمة بارتفاع منسوب مياهها، ولذلك لا يترتب على هذا الارتفاع زيادة يعتدُّ بها في خسائر التبخر حتَّى لو ارتفع المنسوب سبعة أمتار أو ثمانية كما هو مقترح.

وتقدر النفقات اللازمة لإنشاء الخزَّان عند مخرج البحيرة بما لا يتجاوز مليوني جنيه مصري. وأمَّا إنجازه فيرى أن يتمَّ قبل سنة ١٩٤٠.

وقد قال سير مردوخ مكدونالد مستشار وزارة الأشغال سابقًا: «إنَّه لا فائدة من تخزين كميَّات كبيرة من المياه في بحيرة ألبرت إذا لم يضمن توريدها إلى مصر في المكان والزمان المناسبين، ولهذا يجب إنشاء قناة تخترق الغياض الهائلة بمنطقة السدود؛ لأنَّه إذا اكتُفي بإطلاق المياه المخزونة من بحيرة ألبرت إلى مجرى النِّيل الحالي؛ لتسرَّب معظمها إلى الغياض وتبدَّد هناك، ويوجد الآن في أعالي مسايل النَّهر مجرى صالح للغرض المنشود، وكذلك الحال في أسافل مسايل النِّيل الأبيض. أمَّا في منطقة السدود فلا يوجد مجرى وافٍ بالغرض، وهنا يُراد إنشاء القناة المقترحة.»

وكان السير وليم جارستن أول من أشار باستعمال بحيرة ألبرت خزانًا للمياه، وقد رسم الخطط الأساسية للبحث والاستقصاء في هذا الشأن، وتقدم بعده مسيو ديبوي بأعمال البحث والتجارب مرحلة عظيمة، وواصل هذا العمل كذلك مستر توتنهام.

ويتبيَّن من هذا أن مشروع تحويل بحيرة ألبرت إلى خزَّان النِّيل يتطلب مشروعين آخرين أولهما إنشاء القناة التي تخترق الفيافي بمنطقتي السدود، وثانيهما إنشاء قناطر الموازنة، وقد قال سير مردوخ مكدونالد عن هذين المشروعين:

لا يزال الأمر يقتضي عمل ميزانيات شاقَّة عن الأرض والماء قبل اختيار التَّخطيط الصحيح من بين تخاطيط مختلفة، ولذا كان تقدير النفقات مبنيًّا على التَّخمين، ولكن المعتقد أن مبلغ ١٥ مليون جنيه مصري كافٍ للوفاء بنفقات قناة السدود وما يلزمها من قناطر الموازنة.»

ثمَّ قال:

ويستدل من المباحث الحديثة التي قام بها موظفو مصلحة الرَّي على إمكان اختيار طريق آخر للقناة فيه تخفيض عظيم للنفقات المقدرة آنفًا، ولكن يحسُن الآن اعتماد النفقات على التَّقدير الأكبر، وذلك إلى أن يتمَّ قياس المناسيب اللازمة ووضع الأرقام والبيانات المحددة. أما إنجاز هذا العمل فيجب أن يكون حوالي سنة ١٩٤٠ في نفس الوقت الذي يتم فيه سد بحيرة ألبرت.

ويقولون في وزارة الأشغال إنَّ نتائج هذه المشروعات الثلاثة هي:
  • أولًا: منع ضياع في منطقة السدود منعًا كليًّا في السنوات المنخفضة وجزئيًّا في السنين الآخرى.
  • ثانيًا: الاحتفاظ في بحيرة ألبرت بما كان يضيع في منطقة السدود من المياه حتَّى يتسنَّى إطلاقها في قناة السدود فيما بعد أثناء السنة ذاتها أو ادخارها بمثابة احتياطي لحاجة مصر في سنة ثانية دون أن يفقد منها شيء غير الخسائر المعتادة أثناء الجريان.
  • ثالثًا: تدبير وسيلة للتَّخلص من المياه الزائدة عن الحاجة أثناء الفيضانات العالية؛ إذ يصبح من المتيسر استبقاء الماء منحدرًا في الوادي بحيث يمكن زيادة كميتها ونقصها حسب مطالب الزراعة في مختلف المواسم.

وعلى هذه النتائج الثلاث هناك نتيجة رابعة ولكنَّها عرضية، وهي حرمان الغياض من جانب عظيم عن المياه التي تتسرب إليها، وربما أدَّى ذلك إلى تصغير مساحتها كثيرًا.

أمَّا المكان الذي ينشأ فيه سد بحيرة ألبرت فهو حاجز من الصخر يوجد على بعد خمسين كيلومترًا من مصب البحيرة في نيل ألبرت — وهو الاسم الذي يطلق على مسيل النَّهر في تلك الجهة — ويقولون في وزارة الأشغال إنَّه إذا تمَّ ذلك أصبح من المتيسر التحكم في منسوب البحيرة على ارتفاع سبعة أمتار أو ثمانية، وإنَّ كلَّ متر من هذا الارتفاع يعادل نحو ٥٥٠ مليون متر مكعب من الماء المدخر، وبذلك يكون الخزَّان معدًّا لنحو أربعين مليون متر مكعب من الماء.

وقال سير مردوخ مكدونالد: «إنَّ بحيرة ألبرت يمكن تحويلها بلا كبير صعوبة لاستخدامها في هذه الغاية.» ثمَّ قال عن المشروعات الثلاثة التي نحن بصددها: إنَّ «كل ما لدينا من المعلومات يدلُّ على أنَّها قابلة للتنفيذ وصالحة لإخراجها إلى حيز العمل، ولا غرو فإنَّها تمنِّي بشكل جلي تدبير الكميات العظيمة من المياه اللازمة لمصر، كما أنَّها لا تشتمل على شيء من المشروعات البنائية التي لم تجرَّب في كثير من البلاد، زد على ذلك أنَّها كلها مبنيَّة على الاستنتاج من المعلومات الثابتة، وليست قط مبنية على شيء من النَّظريات التي لم تُؤيَّد بالاختبار».

وختمَ سير مكدونالد كلامَه عن هذه المشروعات الثلاثة بقوله: «إنَّ منطقة السدود ستُحرم في بعض السدود حرمانًا باتًّا من المياه التي تساعد على إنماء ما فيها من مختلف النباتات، وإن ما يصلها من الماء في السنين الأخرى لن يتجاوز القدر الزائد عن الحاجة، وهذه المنطقة مترامية الأطراف وأراضيها بالنظر إلى موقعها ومناخها ومياه أمطارها أثمن من أن تُترك مستنقعات على الدَّوام، فالمنتظر في المستقبل أن تصرف المياه عن جانب عظيم منها بحفظ جزء من المياه الزائدة عن الحاجة في خزَّان بحيرة ألبرت.

وممَّا سيساعد يومئذ على إتمام هذا التَّصرف مباشرة أعمال الموازنة على بحيرة فيكتوريا؛ حتَّى يتسنَّى منع مياه هذه البحيرة العظيمة من الانحدار إلى بحيرة ألبرت في الفترة الحرجة من موسم الفيضان، فإنَّ مجرد ارتفاع بسيط في منسوب بحيرة فيكتوريا يُعادل تخزين مليارات كثيرة من الأمتار المكعبة، ومتى حكم التوفيق بين عملي البحيرتين معًا أصبح من المتيسر استجماع كلِّ المياه التي تضيع الآن سُدًى بمنطقة السدود في سني الفيضانات العالية، ومن ثمَّ تزول المستنقعات من تلك البقاع تمامًا، وإذا كان من المحتمل أن تصبح هذه البقاع أرضًا مثمرةً، وليس هناك ما يحمل على الارتياب في أنَّها سوف تتحوَّل إلى إقليم ذي مراعٍ خضراء أو مزارع نافعة أو غابات فسيحة بدلًا من بقائها كما هي الآن غياضًا وَبيئةً لا ينمو فيها إلَّا البردي والبعوض. وعليه فسيشهد السُّودان القاصي وأوغندا — حيث تقع بحيرة ألبرت — تعديلًا فيما لهما من التأثيرات في مياه النِّيل، فيستمر الحسن منها وهو تخفيف وطأة الفيضانات العالية.

هذه هي البيانات التي رأينا نشرها عن مشروع تحويل بحيرة ألبرت خزانًا للنيل؛ لتكون مرجعًا لكل من يريد البحث في هذا الموضوع الخطير.

(٣) مشروع خزَّان تسانا

وكَّلت حكومات السُّودان والحبشة ومصر إلى شركة هويت الهندسية الأمريكية في عمل الأبحاث والمساحات لإنشاء القناطر على مخرج بحيرة تسانا، وإقامة طريق من السُّودان إلى أديس أبابا عاصمة الحبشة مارًّا ببحيرة تسانا.

قد اعتمدت وزارة الأشغال المصريَّة منح تلك الشركة خمسين ألف جنيه كنفقات لأعمالها التمهيدية.

(٣-١) مطامع الدول في الحبشة

بريطانيا العُظمى وإيطاليا وفرنسا هي الدول التي تحيط مستعمراتها بالحبشة من جميع الجهات وتنافس على تمزيقها، وقد أبرمت عدة معاهدات ثلاثية بين الدول الثلاث وثنائية بين فرنسا وإنكلترا تارة وبين إنكلترا وإيطاليا تارةً أخرى، لتنظيم استعمار تلك الإمبراطُوريَّة الواسعة:
  • (١)

    الإنكليز يحيطون الحبشة بمستعمراتهم الآتية: السُّودان المصري وكينيا وأوغندا والصومال البريطاني.

  • (٢)

    الإيطاليون يتاخمون الحبشة بمستعمرتي الإرترية والصومال الإيطالي.

  • (٣)

    الفرنسيون يتاخمون الحبشة بمستعمرة جيبوتي المعروفة بالصومال الفرنسي، ومنها يمتد خط السكة الحديدية الرئيسي بالحبشة من أديس أبابا إلى ميناء جيبوتي، وهو أهم طريق للتجارة.

الاتفاقات الدولية

الاتفاق الإنكليزي الفرنسي الإيطالي عقد في ١٢ ديسمبر سنة ١٩٠٦، وبمقتضاه تحدَّد سرًّا بين الدول الثلاث مركز كلِّ دولة في الحبشة ومناطق نفوذها ومصالحها الإقليمية، واتِّقاءً لإيغار صدور سائر الدول وذرًّا للرماد في أعين الحبشان تضمَّنت ديباجة هذا الاتِّفاق توكيد استقلال الحبشة والمحافظة على وحدتها والحيلولة دون وقوع الاضطرابات فيها. فإذا وصلنا إلى المادة الرابعة من هذا الاتِّفاق انتهينا إلى بيت القصيد، وضبطنا السادة الثلاثة في حالة التلبس، تضمَّنت المادة الرابعة تقسيم المصالح الاقتصادية في الحبشة بين الدول الثلاث، وإذا قلنا المصالح الاقتصادية في الحبشة قلنا كلّ شيء، وهذه المصالح تتلخص في إطلاق يد كلِّ دولة في المناطق الحبشية المتاخمة لمستعمراتها.

ومن الغريب أن الفقرة الأولى تتضمَّن أن مصالح بريطانيا العُظمى ومصر في حوض النِّيل الأزرق تتناول بصفة رئيسية تنظيم مياه هذا النَّهر وروافده.

لهذا أتمنَّى أن تعود وزارة الأشغال المصريَّة فيما عسى تستطيع مصر أن تفيده من هذا الاتِّفاق الثلاثي الدولي الخطير في حوض النِّيل الأزرق ومنابعه، وتتضمَّن المادة التاسعة من هذا الاتِّفاق على أنَّ الدول الثلاث قد اتَّفقت على أن كلَّ مشروع بإنشاء سكة حديدية في غرب أديس أبابا تنفرد إنكلترا به، كما أن مشروع إنشاء سكة حديدية لربط مدينة بنادر في الصومال الإيطالي بإرترية الإيطالية تنفرد بالإشراف عليه والاستئثار به إيطاليا… أما فرنسا فقد استأثرت عمليًّا بخط جيبوتي أديس أبابا.

وتقدم هذا الميثاق الثلاثي اتِّفاق بين الحبشة وإنكلترا تمَّ في ٢٨ أغسطس سنة ١٩٠٤، تضمن ترخيص النجاشي منليك للإنكليز بإنشاء سكة حديدية من الصومال البريطاني إلى حدود السُّودان المصري، بشرط أن توافق على ذلك كلٌّ من فرنسا وإيطاليا، ولهذا السبب نشطت إنكلترا إلى عمل ذلك الميثاق الثلاثي في عام ١٩٠٦ كما تقدم؛ لتأمن كلَّ عقبة في طيِّ المستقبل.

والواقع أن الإنكليز قد سهروا على رعاية مصالحهم، وقد حوت المادة الثالثة من هذا الاتِّفاق أنَّه لا يجوز إقامة أعمال على النِّيل الأزرق وبحيرة تسانا ونهر السوباط من شأنها أن تمس جريان المياه بغير موافقة الحكومة البريطانية وحكومة السُّودان، ومن المهم أيضًا أن نذكر بأنَّ المادة الخامسة تضمنت الترخيص لبريطانيا العُظمى بإنشاء خط حديدي عبر بلاد الحبشة ليربط السُّودان بأوغندا (كنيا).

وأوضح أن هذا الاتِّفاق الخطير قد خوَّل الإنكليز حق التدخل في إقاليم الحبشة، وأنشأ لإنكلترا حقًّا صريحًا في مسائل الماء والسكك الحديدية ببعض مناطق الحبشة، وهذا ممَّا أكسب الإنكليز نفوذًا عظيمًا لتوطيد الاستعمار البريطاني في شمال أفريقيا.

وقد حفَّز هذا النَّشاط الإنكليزي ساسة فرنسا إلى منافسة جديدة في الحبشة؛ فقد نشطت حكومة فرنسا إلى إقناع حكومة النجاشي بإبرام معاهدة في سنة ١٩١٢ ترخص لفرنسا بحق إنشاء سكة حديدية تمتد من جيبوتي إلى هرر إلى أنطوطو إلى إقليم كافا إلى النِّيل الأبيض، وفيه كسب متبادل للحبشة ولفرنسا، ولكن هذا المشروع لم ينفَّذ حتَّى الآن.

غير أنَّ حكومتي إنكلترا وإيطاليا تحالفتا على الغنيمة حلفًا جديدًا.

ايطاليا وإنكلترا

دخلت إيطاليا الحرب العُظمى مع الحلفاء، فوعدتها إنكلترا في وثيقة رسمية مؤرَّخة في لندن سنة ١٩١٥ بالمادة ١٣ أنَّه في حالة الانتصار واتساع ممتلكات بريطانيا وفرنسا على حساب ألمانيا، فإنَّه يرخص لإيطاليا بتوسيع مستعمراتها وتمديد حدودها في ليبيا «يعني حدود طرابلس على حساب مصر» وفي مستعمرتي الأرترية والصومال الإيطالي.

وفي سنة ١٩٢٠ حصل اتِّفاق بين لورد ملنر والسنيور شيالوجا بمنح إيطاليا ٩٠ ألف كيلومتر مربع في ليبيا شرقًا تستغرق جغبوب، ونص على تخويل إيطاليا حق تمديد مستعمرتيها المجاورتين للحبشة مقدارًا بمقدار ١١٦٠٠٠ك.م في الأرترية و٢٠٠٠ك.م في الصومال.

واقترحت إيطاليا على إنكلترا أن تتعاقد سويًّا على تنظيم مصالحهما العليا بالحبشة، وتتلخص في الجانب الإنكليزي في إنشاء قناطر على بحيرة تسانا، وعمل طريق من السُّودان إلى البحيرة، وللجانب الإيطالي إنشاء خط حديدي يخترق غرب الحبشة بين الأرترية والصومال مارًّا غربي أديس أبابا، وتخويل إيطاليا حقوق الامتياز على غرب الحبشة، ودخلت هذه المفاوضات الجديدة إلى دور تبادل الوثائق في المدة من ١٤ إلى ٢٠ ديسمبر سنة ١٩٢٥، ولا تزال إيطاليا ماضيةً في مهمتها الاستعمارية بالحبشة. أمَّا الإنكليز فقد اعترضهم منذ عام ١٩٢٧ عامل دولي جديد، ذلك هو ظهور الولايات المتحدة الأمريكية إلى جانب الحبشة.

أمريكا بالحبشة وتسانا

ليس لحكومة الولايات المتحدة الأمريكية مستعمرات بالحبشة، ولكنَّها مع ذلك تتمتع بنفوذ كبير لدى حكومة النجاشي بفضل ما حبا الله الأمريكيين من حب حرية الغير، وتشبعهم بالعدالة في تبادل المنافع، وفضلًا عن هذا فإنَّ الأمريكيين يسيطرون على جانب عظيم جدًّا من تجارة الحبشة، وتكاد جلود الحيوان تستأثر أمريكا باستيرادها من الحبشة، وهي من أعظم ثروات الحبشة.

وقد عنَّ لبعض الأمريكانيين أن يقدموا للرأس طفرى في عام ١٩٢٧ مشروعًا جليل الشأن مؤداه اتخاذ بحيرة تسانا خزانًا للمياه لتنظيم الرَّي ببعض أقاليم الحبشة، ثمَّ توليد الكهرباء عند مخرج البحيرة لإنارة كثير من مدائن الحبشة وإقامة صناعات كبرى، هذا فضلًا عن إمكان بيع الماء من خزَّان تسانا إلى حكومة السُّودان لري الجزيرة الموعودة، وطربت حكومة الحبشة بهذه المقترحات الدَّسمة، وكان أمامهما عقبتان؛ الأولى سياسية لأنَّها تخشى معارضة إنكلترا لتدخل أمريكا، والثانية مالية.

وقد عقدت إنكلترا لحكومة السُّودان قرضًا مقداره خمسة عشر مليون جنيه بفائدة خمسة في المائة، ومن سنة ١٩٢٠ وحكومة السُّودان ماضية في استعمار أرض الجزيرة بإنشاء خزَّان سنار وترع ومصارف وآلات وحقول قطن من هذا القرض. وقد صرف القرض والشركات الإنكليزيَّة مع حكومة السُّودان يعولان في استثمار القرض وتغطيته على التَّوسع في زراعة القطن السكلاريدس بالجزيرة، وقد عجز خزَّان مكوار عن سد حاجات التَّوسع الزراعي بالجزيرة باعتراف جميع المهندسين في السُّودان، وأصبح مشروع الجزيرة متوقفًا نجاحه على إنشاء خزَّان بحيرة تسانا، فهو العلاج الأوحد.

لهذا أشفقت إنكلترا من استئثار أمريكا بإنشاء الخزَّان لمصلحة الحبشة، فأقامت الصحف البريطانية ضجة كبرى حول النفوذ الأمريكي في سنة ١٩٢٧، وردد البرلمان المصري صوته داعيًا إلى إيقافه على حقائق مجرى الأمور وعلى صون مصالح مصر.

ولا حاجة بنا إلى إعادة تفاصيل تلك الضجة، وإنَّما نذكر أنَّ سير أوستين شمبرلين — وزير الخارجية البريطانية يومئذ — لوَّح لحكومة الحبشة في خطاب بمجلس النواب البريطاني في ١٥ نوفمبر سنة ١٩٢٧ بتعهدات منليك بإعطاء حكومتي إنكلترا والسُّودان حق الأولوية في إنشاء خزَّان بحيرة تسانا، وذلك في سنة ١٩١٢، ثمَّ صرَّح بأنَّ الرأس تفري قد أنهى إليه الممثل البريطاني في أديس أبابا بوجوب احترام حقوق إنكلترا.

وبهذا أخذ المشروع يسير في اتجاه جديد يُرضي الأسد البريطاني. وأذعنت حكومة الحبشة، وفي مقابل ذلك كفلت لها الحكومة الإنكليزيَّة بأنَّه عندما يحين الوقت لإنشاء خزَّان تسانا توفق إنكلترا بين مصالح الحبشة وأمريكا وإنكلترا والسُّودان. فأصبحت المشروعات كما يلي:

المشروع:

  • (١)

    القناطر تقام على مدخل البحيرة لتدبير مياه للرَّي الصَّيفي لأراضي الجزيرة بالسودان، وطبعًا ما دام السُّودان في حاجة إلى هذه المياه فيستأثر بها. (وحسب مصر تعلية خزَّان أسوان لكفاية جميع حاجاتها المائية عشرات السنين. بل إلى نهاية القرن العشرين).

    فخزان تسانا إذن للسُّودان وحده ولا شريك له في الغنيمة.

  • (٢)

    الطريق من السُّودان إلى البحيرة هو جزء من المشروعات الإنكليزيَّة المرخَّص بها من إيطاليا وفرنسا، وبالمثل الطريق إلى العاصمة أديس أبابا، فهو طريق تجاري وسياسي وحربي.

  • (٣)

    الحبشة تستفيد من الطريقين، وتستفيد من استخدام العمال الحبشان، وتستفيد أدبيًّا وماديًّا من وجود الخزَّان في بلادها، فذلك من عوامل الرخاء.

  • (٤)

    أمريكا: يُعهد أولًا إلى شركة هويت الأمريكية بالأعمال التمهيدية والمساحات للمشروع كله، وبعد ذلك تعهد إليها بالاتِّفاق مع بعض الشركات الإنكليزيَّة على تنفيذ المشروع.

(٤) مؤتمر أديس أبابا

ليس مشروع خزَّان بحيرة تانا الذي نحن بصدد القيام بالأبحاث الخاصَّة به إلَّا حلقة في سلسلة أعمال مصر المائية على النيل، وليست دراسته بواسطة وزارة الأشغال العمومية حديثة العهد كما يصورها بعضهم، بل إنَّها ترجع إلى سنة ١٩٠٤، حيث ذهبت أول بعثة هندسية برياسة السير ويليام جارستون — وكيل وزارة الأشغال العمومية في ذلك العهد — إلى مناطق البحيرات الاستوائية لدراسة منابع النِّيل الأبيض وروافده. كما ذهبت في الوقت نفسه بعثة المستر ديبوي إلى أعالي النِّيل الأزرق وبحيرة تانا وما حولهما.

كذلك أوفدت في سنة ١٩١٥–١٩١٦ بعثة برياسة المستر بكلي ومعه بعض موظفي حكومة السُّودان، للقيام بأبحاث استكشافية أخرى لطبيعة البحيرة «تانا» وجمع بعض الأرصاد الهيدروليكية، وقد كلفت هذه البعثة الخزانة المصريَّة نحو ٦٠٠٠ج.م.

وفي المدة من سنة ١٩٢٠ إلى سنة ١٩٢٤ ذهبت بعثة أخرى مؤلَّفة من بعض موظفي الحكومتين المصريَّة والسُّودانية، وعُرفت ببعثة «جرابهام» لقياس تصرفات البحيرة وعمل مساحة لمخارجها، وكلفت هذه البعثة خزانة مصر حوالي ٣٥٠٠٠ج.م.

إلى جانب هذه البعثات الخاصة، فإنَّ تفتيش ريِّ السُّودان الذي أُنشئ سنة ١٩٠٥ ثابر على دراسة أرصاد لنهر النِّيل وتصرفاته وواصل أبحاثه الفنية طوال هذه السنين، كما أنَّ وزارة الأشغال العمومية قامت أيضًا بإيفاد الاختصاصيين في مختلف السنين لإتمام هذه المباحث، فمن ذلك إيفاد الدكتور هرست مدير مصلحة الطبيعيات إلى السُّودان في السنوات العشر الأخيرة ست مرات، ذهب أثناءها إلى أعالي النِّيل الأبيض ومسايله المتعددة، وكذلك النِّيل الأزرق ويوغندا وتانجانيقا وبحر الغزال وغيرها، وذلك للأغراض العملية الفنية التي تعتمد عليها في دراسة مشاريعها وتنفيذها.

تلك فذلكة تاريخية فنية، لم تر اللَّجنة بدًّا من سردها؛ ليعرف القاصي والداني أنَّ تخزين المياه حياة مصر في جميع أدوارها، وأنَّه كان جاريًا وفقًا لحاجاتها، وأنَّها لم تدخر سعيًا في هذا السبيل، حتَّى ترامت أبحاثها المائية إلى أقاصي النيلين الأبيض والأزرق، طمعًا في زيادة مواردها المالية، وتوصُّلًا إلى أقصى غايات الانتفاع بها، وهي لا تضنُّ في ذلك بجهد ولا مال.

(٤-١) خزَّان بحيرة تانا

بيَّنا فيما سلف أن الحكومة المصريَّة تابعت أبحاثها ودراساتها للنيل ومسايله العليا منذ استقرت الأحوال في السُّودان حوالي نهاية القرن الماضي، وأنها تكبدت من النفقات في هذا السبيل مبالغ باهظة — تقدرها وزارة الأشغال بنحو تسعة ملايين من الجنيهات — وهي تشمل نفقات البعثات المختلفة وميزانية تفتيش ريِّ السُّودان، وما ينفق على أسطولها المائي الكبير في تلك البقاع، وقياسًا على ذلك لا يعد مبلغ اﻟ ٥٠٠٠٠ج.م المقدرة للقيام بالأبحاث التي نحن بصددها شيئًا مذكورًا إذا ما قورن بهذه التكاليف التي صُرفت في المباحث المختلفة التي قامت بها مصر في سبيل تنمية مواردها المائية والاحتفاظ بجميع ما تجود به منابع النيل، كلما ساعدتها الهندسة المائية ومكَّنتها الأحوال المائية.

وقد تابعت اللَّجنة دراسة الموضوع للتحقق من وجهتين:
  • الأولى: هل الخزَّان المزمع إنشاؤه ببحيرة تانا يكون حلقة في سلسلة المشاريع المائية اللازمة لمصر؟
  • الثانية: هل كمية المياه المنتظر الحصول عليها تبرِّر فتح الاعتماد المطلوب للمباحث؟
أمَّا النقطة الأولى فقد تكفَّل بالرد عليها دولة صدقي باشا في المجلس بتاريخ ١٨ يناير سنة ١٩٣٣ حيث قال:

والذي لفت النَّظر إلى بحيرة تانا هو أن المشروع الذي يلي عمليات التَّخزين القائمة الآن هو مشروع منطقة السدود، وهذه المنطقة لم ينته بعد فحص طريقة استخدامها أو تنظيمها. والشواهد كلها تدل على أن مشروع هذه المنطقة سيكلف خزانة الدولة مقدارًا كبيرًا من المال، بينما دلَّت المباحث التي جرت بشأن خزَّان تانا على أنَّ هذه البحيرة هي من أليق المناطق لعملية التَّخزين ومن أكثرها استعدادًا لإمداد مصر بما تحتاجه من المياه في أقصر وقت وبأقل ما يمكن من المياه الفائدة والنفقات.

النقطة الثَّانية: علم من المباحث التي أجريت أن كمية المياه الممكن الحصول عليها بعد إنشاء خزَّان تانا تبلغ نحو ٢٨٠٠ مليون متر مكعب يصل منها إلى مصر حوالي ٢٢٠٠ مليون متر مكعب، كما عرف أن نسبة مياه بحيرة تانا إلى النيل الأزرق توازي ٨٪ من مجموع إيراده، وهو يقدر بنحو ٧٠٪ من مياه النِّيل جميعها.

وقد يعترض بعضٌ بأن هذا القدر من المياه لا يتَّفق مع ما قُدِّر له من النفقات، غير أنَّ هذا القول على وجاهته الظاهرية لا يتَّفق وحقيقة الواقع، إذ إنَّ حاجة مصر إلى مياه النِّيل الأزرق وبحيرة تانا تشتد في فصل التحاريق، وتكاد تلتمس مصر كلَّ قطرة من المياه تجود بها المنابع في ذلك الوقت. ومن هنا تتَّضح لنا أهمية هذه الكمية بالنسبة لمصر، وخاصة إذا لاحظنا أن تعلية خزَّان أسوان الأخيرة التي قدرت لها ملايين الجنيهات لا يُنتظر أن تزيد كمية المياه التي تأتي بها على ٢٥٠٠ مليون متر مكعب في أحسن سني الفيضان.

كذلك رأت اللَّجنة أن تقف على تاريخ فكرة إنشاء خزَّان على بحيرة تانا، والأدوار التي مرت به منذ أثير في سنة ١٩٢٦، وسنتناوله بالتفصيل فيما يلي:
  • (١)

    في صيف سنة ١٩٢٦ ذكرت التلغرافات أن هناك اتفاقًا أُبرم بين حكومات إنكلترا وإيطاليا والحبشة خاصًّا ببحيرة تانا، وقدِّم عن ذلك سؤال في البرلمان على أثر ما عمَّ الخواطر من القلق، وقد أجاب المرحوم ثروت باشا بأن الحكومة جادت في العمل على الوقوف على جلية الأمر، وأنها لا تني في المحافظة على حقوق البلاد.

    وفي سنة ١٩٢٩ عُقد في أديس أبابا مؤتمر من مندوبين ثلاثة، أحدهم إنكليزي يمثل السُّودان، والثاني يمثل شركة وايت التي وقع عليها اختيار جلالة إمبراطور الحبشة لدراسة المشروع، والثالث مندوب يمثل حكومة الحبشة.

    وفي نهاية تلك السنة، اكتفت الحكومة المصريَّة بطلب الوقوف على ما دار من المباحثات في هذا الشأن.

  • (٢)

    ظلت المسألة واقفة عند هذا الحد، حتَّى إذا ما أسندت الأمور إلى الحكومة الخالية وسارت في مشاريعها العامة، ومنها المشآت المائية على النِّيل لم تتوانَ في الاهتمام بالأمر وحسن التأهب له، وأخذت في مخابرة حكومة الحبشة حتَّى حملتها على دعوتها إلى الحضور في مؤتمر أديس أبابا الذي عقد في فبراير من السنة الحالية.

    تلقت الحكومة الدعوة فبادرت إلى وضع التَّعليمات اللازمة لمندوبها في المؤتمر المذكور، وهي تعليمات محددة واضحة وغاية في الحكمة السياسية وبُعد النظر، فوق ما بها من الاستمساك بحقوق مصر في النِّيل الأزرق وبحيرة تانا، مع المحافظة على رعاية الجوار وحسن العلائق، واتفق على أن يكون ممثلا مصر والسُّودان في صف واحد، وأهم هذه التَّعليمات ما يأتي:
    • (١)

      أن يوضح مندوبا مصر والسُّودان أن لا حاجة بهما الآن للمشروع، ولكنَّه مع ذلك يهمهما.

    • (٢)
      أن تعرض الحكومة المصريَّة رغبتها في إتمام المباحث الهندسية حتَّى يمكن الوقوف على تكاليف الأعمال الإجمالية، وخاصة النقط الآتية:
      • (أ)

        إمكان رفع منسوب المياه بالبحيرة بمقدار ١٫٥ متر بدون إلحاق أي ضرر.

      • (ب)

        التخطيط النهائي وتكاليف الطريق من البحيرة إلى أديس أبابا.

      • (جـ)

        التخطيط النهائي وتكاليف الطريق من البحيرة إلى حدود السُّودان.

    • (٣)

      أن يوضح مندوبا مصر والسُّودان بجلاء أن الحكومتين المصريَّة والسُّودانية لا توافقان على أي مشروع إلَّا إذا تضمَّن إنشاء طريق من السُّودان إلى البحيرة.

    • (٤)

      أن تعرب الحكومة المصريَّة عن استعدادها لدفع تكاليف هذه المباحث.

    • (٥)

      ألَّا يوجد مانع من الموافقة على أن تقوم شركة هوايت الهندسية بعمل هذه المباحث، وأن يكون للحكومتين المصريَّة والسُّودانية الحق في الاتِّصال المباشر مع الشركة لتقرير النقط الفنية متى رؤيت ضرورة لذلك.

    • (٦)

      أن يوافق المندوبان على أن تتحمل مصر التكاليف بما فيها الطريق من حدود السُّودان في حدود القيمة المقدرة، وهي ١٣٠٠٠٠ دولار تقريبًا.

صدرت هذه التَّعليمات لمندوبي مصر والسُّودان معًا، وبناءً على هذا التفاهم سافرا وكانا جبهة واحدة؛ لأنَّهما يمثلان وادي النِّيل والمنتفعين من النِّيل الأزرق ومنابعه.

وكان من الطَّبيعي في نظر حكومة الحبشة — ومشروع الخزَّان إنما هو لمنفعة مصر والسُّودان — أن تطلب إليهما القيام بدفع النفقات اللازمة للمباحث، ولهذا قبلت الحكومتان ذلك، وقامت حكومة السُّودان فعلًا في سنة ١٩٢٩ بدفع تكاليف المباحث التي قامت بها شركة هوايت في تلك السنة، وتبلغ حوالي ٨٠٠٠٠ درلار، وأظهرت مصر استعدادها لتحمل نفقات المباحث التي رأتها لازمة لاستكمال المعلومات الفنية، وتقدر بنحو ١٥٩٠٠٠ دولار أمريكي، واستجماع هذه البيانات لازم لمصر من وجهتين:
  • الأولى: أجمعت آراء البعثات العلمية والفنية التي زارت بحيرة تانا، على أنه من الضروري توسيع مجرى مخرج المياه للتمكُّن من تخفيض سطح المياه في البحيرة قبل هطول الأمطار، فإذا ما هطلت المطار، وهي بارتفاع نحو متر ونصف المتر، وكان مخرجها مقفلًا بالخزَّان المطلوب إنشاؤه، فإنَّ سطح المياه بالبحيرة لا يعلو على أعلى منسوب وصل إليه، وحينئذٍ ينتفي الضَّرر على الكنائس والمعابد، فإذا تبين أنه ممكن تعلية مياه البحيرة هذا المتر والنصف فوق أعلى منسوب تصل إليه الآن من غير إلحاق ضرر ما بالمباني المقدسة، فيكون من مصلحة مصر عدم تعميق مجرى المخرج، وبذلك يتوفر نحو نصف مليون جنيه.
  • الثانية: يجب لمعرفة قيمة تكاليف هذا الخزَّان أن يكون تحت يد الحكومة المصريَّة جميع البيانات والميزانيات والخرط، وكافة المباحث المتعلقة بالبحيرة والطريقين السَّابق ذكرهما.

(٤-٢) مؤتمر أديس أبابا

في أواخر يناير ١٩٣٣ سافر مندوبا مصر والسُّودان إلى بلاد الحبشة، ووصلا إلى أديس أبابا في أوائل فبراير، وفي نيتهما — كنص التَّعليمات — استجماع ما ترغب حكومة الحبشة في الإدلاء به من البيانات المتعلقة بالموضوع، غير أن مندوب الحكومة الحبشية لم يتقدم بشيء من ذلك، واقتصرت أعمال المؤتمر على أن تقدمت مصر والسُّودان معًا بمذكرة أهم ما احتوت عليه ما يأتي:
  • (أ)

    أن المندوبين يقران بأهمية المباحث التي سبق لشركة وايت القيام بها.

  • (ب)

    أن إنشاء الخزَّان في الوقت الحاضر لا يتيسر نظرًا لقلة حاجة العالم الآن إلى المحاصيل الزراعية كالقطن وغيره، فضلًا عن ارتفاع سعر الدولار الحالي.

  • (جـ)
    أن من المرغوب فيه أن تقوم الشركة بإعداد مشروع نهائي مستوفٍ يشمل جميع التكاليف والتقرير النهائي لها بعد عمل المباحث التكميلية التي تراها الحكومة المصريَّة ضرورية لإتمام المشروع، على أن يراعى تخفيضها بقدر الإمكان، وذلك بطريقتين:
    • الأولى: رفع منسوب المياه قليلًا في البحيرة بحيث لا تضر الأماكن المقدسة.
    • الثانية: يمكن جلب المواد اللازمة للعمل من السُّودان إذا ما أنشئ الطريق منه إلى البحيرة.

فأجاب سعادة وزير خارجية الحبشة عليها بمذكرة مؤرَّخة ٢٠ فبراير سنة ١٩٣٣ وافقت فيها حكومة الحبشة على مطالب مصر، بشرط أن تتولى «شركة وايت» القيام بهذه الأبحاث، وتتعهد الحكومة المصريَّة بدفع التكاليف اللازمة لذلك إلى شركة وايت بوساطة حكومة الحبشة، وأن الشركة ستعمد إلى إنجاز الأعمال المطلوبة على وجه السرعة وأن تتسلم مصر والسُّودان صورة من تقريرها النهائي، وصورة هذه المذكرة ملحقة بالأوراق.

ومن هذا يتبيَّن أن الحكومة المصريَّة لم ترتبط في المؤتمر المذكور بشيء مطلقًا لا عن الخزَّان ولا عن كيفية إنشائه، ولا عن مصاريف إنشائه، ولا عن موعد لذلك، وكل ما عرضته ينحصر في استكمال المباحث الجديدة التي ارتأتها على نفقتها كما تحملت حكومة السُّودان بالنفقات السابقة.

هذه هي الخطوات التي سارت عليها حكومة مصر في هذا الموضوع الذي بالغ بعضهم في تجسيمه والتهويل من شأنه، وهي لا تتعدى استكمال المباحث الفنية اللازمة لتقرير المشروع وتقدير النفقات، وستكون هذه المعلومات ثروة فنية لمصلحة الرَّي تُضاف إلى تراثها العلمي الذي حصلت عليه مصر في ربع القرن الأخير، والتي بلغت تكاليفها الملايين، فضلًا عمَّا ينتظر من تخفيض نفقات إنشاء هذا الخزَّان في المستقبل إذا أنشئ الطريق من السُّودان إلى البحيرة لنقل المواد اللازمة للعمل بواسطته والتمكن من إشرافها على الخزان.

وبعد ارفضاض المؤتمر حضر مندوب شركة وايت — التي تم اتِّفاق الحكومتين على تكليفها القيام بعمل المباحث اللازمة — إلى مصر، وبعد مفاوضات استمرت زمنًا بينه وبين معالي وزير الأشغال، قرَّ الرأي فيما بين الطرفين على إنجاز هذه المباحث وفقًا لرغبة الحكومة المصريَّة، واتفق الطرفان على قيمة المصاريف اللازمة لذلك.

وبناءً على هذا تقدمت شركة هوايت لوزارة الأشغال العمومية بتعهد كتابي مؤرخ ٢١ مارس سنة ١٩٣٣، وفيه قدرت النفقات بمبلغ ١٥٩٫٠٠٠ دولار أمريكي، وذكرت أن هذا المبلغ تقريبي قد ينقص أو يزيد بمقدار ١٠٪. وقد أوضحت بهذا الكتاب الشروط التي تقبل بمقتضاها إنجاز هذا العمل، وطلبت أن تدفع لها النفقات مقدمًا بواسطة حكومة الحبشة كما سبق بيانه.

ومن الاطلاع على هذه الشروط يتَّضح أن الشركة تعهدت بتحقيق جميع المطالب المصريَّة الخاصَّة بالأبحاث، وأهمها ما يأتي:
  • (١)

    مسح وتحديد الطريق المزمع إنشاؤه من أديس أبابا إلى بحيرة تانا.

  • (٢)

    مسح وتحديد الطريق المزمع إنشاؤه من حدود السُّودان إلى بحيرة تانا.

  • (٣)

    إتمام المباحث التي تحصلت عليها للآن، خاصة ببحيرة تانا، والقيام بعمل دراسة أخرى للمناسيب حول البحيرة وعلى الجزائر وفي الوديان والسهول المجاورة، وكذا دراسة حالة المعابد والقرى الواقعة على شواطئ البحيرة والجزر، حيث تبين أنها ستتأثر بمناسيب المياه التي وقع الاختيار عليها لأعمال الضبط.

    كما اشترط أن تكون أعمال المساحة والتقرير وافية البيانات بدرجة تسمح بتجهيز المقايسات الخاصَّة بتكاليف إنشاء الطرق والكباري والمنشآت الأخرى اللازمة لتقدير هذه التكاليف، وكذلك التصميمات اللازمة لتقدير نفقات السد والانتفاع بمياه البحيرة.

  • (٤)

    تعهدت الشركة بأن تجري أعمالها وفقًا لرغبة وزارة الأشغال، وستكون الخطط التي سيسير عليها العمل بموافقة مندوب الحكومة المصريَّة ليتسنَّى لها الوقوف أولًا بأول على جميع الأعمال ومناقشتها ومرافقتها أثناء السير فيها جملة وتفصيلًا.

ومرافق للتقرير صورة من هذا الكتاب والشروط التي تعهدت الشركة أن يتمَّ العمل على مقتضاها. وهي غاية في الدِّقة وفي الاحتفاظ للحكومة المصريَّة بالرأي الأعلى في هذه المباحث أولًا وآخرًا.

وقد أثار بعض حضرات أعضاء اللَّجنة موضوع عدم حاجة مصر لهذا الخزَّان الآن فأجابت وزارة الأشغال بأن ذلك صحيح في الوقت الحاضر، وأنَّ مصر لن تحتاج لهذا الخزَّان قبل ١٥ سنة، غير أنَّه يجب ألَّا يغيب عنها أي عمل أو تدبير يتعلَّق بالنيل — وهو حياتها — ولذلك فهي من الآن تشترك في المؤتمرات وتقوم بالإنفاق على دراسة إقليم البحيرة وما جاورها حتَّى تكون واقفة على جميع الأعمال والإجراءات الخاصَّة بالنيل ومنابعه، ومحيطة بكل ما يتصل بكيانها حتَّى إذا ما جاء الوقت المناسب قامت بإنشاء الخزَّانات التي تلزم لرخائها ورفاهية أهلها.

وقد احتفظت مصر في اتِّفاقيَّة النِّيل سنة ١٩٢٩ بحقها المطلق في السيطرة على مياه النِّيل الأزرق، وأن يترك إيراد النَّهر جميعه في مدة معلومة من السنة لمصر وحدها، كما اعترفت حكومة السُّودان بحقوق مصر في المياه التي تخزن في خزَّان جبل الأولياء، وألا تعمل حكومة السُّودان في حوض النِّيل شيئا إلَّا إذا وافقت عليه الحكومة المصرية. وفي هذا من الحيطة واتقاء الطوارئ ما يجعل البلاد مطمئنة على حقوقها المائية في المستقبل.

وقد بدا للجنة أثناء دراستها للمشروع أن تحوطه برغبات تدور كلها حول تحقيق أقصى ما يمكن من الصالح لمصر، وهي أن اشتراك مصر في عمل هذه المباحث وقيامها بمصاريفها لا يترتب عليه — بحال من الأحوال — تعهد من قبلها للشروع في العمل إلَّا في الوقت الذي تراه ملائمًا لمصلحتها، وأنَّه عندما تشرع الحكومة بصفة نهائية في هذه الأعمال يجب أن يتوافر لديها من الضمانات ما يحفظ حقوق مصر في السيطرة والرقابة الفعلية على الأعمال التي تقوم بها، وأن جميع الأعمال الإنشائية من أولها إلى آخرها يجب أن تكون خاضعة لعلم رجالها الفنيين، واطلاعهم ومصادقتهم عليها، مهما كانت جنسية المقاول الذي يعهد إليه العمل، كما يكون للحكومة المصريَّة حق الاشتراك في وضع التصميمات والموافقة عليها قبل تنفيذها. كما أنَّ السُّودان في مقابل انتفاعه بجزء من المياه المخزونة يجب عليه أن يتحمل نصيبه النسبي في النفقات، سواء ما تعلق منها بالمباحث والإنشاء أو ما يستتبع ذلك من الترميم والصيانة.

وقد وافقت اللَّجنة على الاعتماد في حدود الرغبات السالفة. أما الأقلية فلم توافق على فتح الاعتماد بدعوى عدم الحاجة إليه في الوقت الحاضر، وإن اقتنعت بالمبدأ والفكرة السائدة فيه. ا.ﻫ.

هذا ما ورد في تقرير اللَّجنة المالية لمجلس النواب سنة ١٩٣٣.

وثائق ملحقة بالتقرير

وقد رأت لجنة المالية — إتمامًا للبحث واستقصاءً للدراسة — أن تثبت بعض الوثائق الهامة المتصلة بهذا الموضوع وهي:

تعليمات للمندوبين

  • (١)

    على المندوبين أن يوضحوا أن لا حاجة لمصر ولا السُّودان للمياه في الوقت الحاضر، ولكنَّه مع ذلك فإنَّ المشروع يهمهما.

  • (٢)
    ترغب الحكومة المصريَّة أن تتم أعمال المباحث الهندسية حتَّى يمكن أن تعرف تكاليف الأعمال الإجمالية، ويهمها بنوع خاص الوصول إلى دراسة النقط الآتية:
    • (أ)

      إمكان رفع منسوب المياه بالبحيرة بمقدار ١٫٥ متر بدون إلحاق أي ضرر.

    • (ب)

      التخطيط النهائي وتكاليف الطريق من أديس أبابا إلى البحيرة.

    • (جـ)

      التخطيط وتكاليف طريق يوصل البحيرة بحدود السُّودان بالقرب من الروصيرص.

  • (٣)

    يجب على المندوبين أن يوضحوا جليًّا أن حكومتيهما لا توافقان على أي مشروع إلَّا إذا تضمَّن عمل طريق من السُّودان، وليس من المهم أن يكون هذا الطريق صالحًا طول السنة.

  • (٤)

    الحكومة المصريَّة مستعدة لدفع تكاليف هذه المباحث.

  • (٥)

    لا مانع أن يوافق المندوبان على أن تقوم شركة وايت الهندسية بعمل المباحث، ولهما أن يطلبا أن تكون حكومتاهما على اتصال مباشر مع الشركة لتقرير النقط الفنية في المباحث إذا تراءى لهما ضرورة ذلك.

  • (٦)

    تكاليف المباحث المطلوبة تقدر بنحو ١٢٦٠٠٠ دولار، ولا يدخل ضمن هذا المبلغ تكاليف مباحث الطريق للسُّودان، وتكاليف هذا الطريق لن تكون جسيمة؛ حيث إنَّ المصاعب الهندسية محصورة في جزء من الطريق.

  • (٧)

    يجوز أن تبلغ تكاليف المباحث بما فيها الطريق للسُّودان ١٢٠٠٠٠ دولار، وللمندوبين أن يوافقوا على أن تتحمل مصر قيمة هذه التكاليف في حدود هذه القيمة.

  • (٨)

    تكاليف المباحث التي تمت وقيمتها ٨٠٠٠٠ دولار سبق أن دفعت مقدمًا إلى جلالة الإمبراطور بناءً على طلب جلالته الخاص، ودفعت من جلالته إلى شركة وايت الهندسية. وإذا رغب جلالته في اتباع هذه الإجراءات فليس للمندوبين أن يعارضوا في ذلك. وقد طبع نموذج خاص لهذه العملية في بنك إنكلترا.

وهذا نص المذكرة من المندوبين المصري والسُّوداني:
  • (١)

    قام مهندسو شركة وايت بأعمال جمة قيِّمة، سواء من حيث الأعمال المساحية في أثيوبيا أو الدراسات في نيويورك، وتقريرهم في ذلك عظيم القيمة.

  • (٢)

    ومن سوء الحظ أن قلَّت حاجة العالم إلى المحاصيل كالقطن وغيره في ثلاث السنوات الأخيرة، وندر وجود المال، وزادت أيضًا قيمة الدولار الأمريكي زيادة عظيمة، ولذلك ليس من المتيسر إنشاء سد على بحيرة تانا فورًا.

  • (٣)

    ولكن من المرغوب فيه أن تقوم شركة وايت بإعداد مشروع نهائي وتقدير التكاليف بعد عمل أبحاث أخرى في بحيرة تانا وفي مسألة الطريق إذ لم يكن لدى المهندسين — عندما كانوا في إثيوبيا منذ عامين — الوقت الكافي لدراسة هذا المشروع دراسة وافية.

  • (٤)
    ومن المرغوب فيه على وجه خاص معرفة ما إذا أمكن تخفيض تكاليف الأعمال، ويمكن الوصول إلى ذلك بالطريقتين الآتيتين:
    • أولًا: يمكن رفع منسوب الماء في البحيرة ارتفاعًا قليلًا إذا ما وجد المهندسون أنَّه ليس ثمَّت ضرر من ذلك.
    • ثانيًا: يمكن جلب المواد اللازمة للعمل إلى البحيرة من السُّودان إذا ما وصل الطريق من أديس أبابا إلى الروصيرص الواقعة بالسودان.
  • (٥)

    لذلك يراد أن يفحص المهندسون ثانيًا الطريق من أديس أبابا ومناسيب البحيرة، ويبحثوا أيضًا عن طريق إلى الروصيرص.

عبد المجيد عمر
ر. م. ماكريجور
وهذا نص رد حكومة الحبشة على مذكرة المندوبين:

إيماءً إلى اقتراح القيام بدراسة أخرى لمنسوب المياه في بحيرة تانا والطريق من أديس أبابا إلى بحيرة تانا، ومدِّ هذا الطريق من بحيرة تانا إلى الحدود تميل حكومة إثيوبيا الإمبراطُوريَّة — بدون تحديد أيًّا كان لحقها في تقرير ما تبدو لها مناسبته في المستقبل — إلى الموافقة على هذا الطلب بشرط أن يقوم مهندسو شركة هوايت بالدراسة الأخرى المقترحة على حساب المقترح كما هو الحال حتَّى الآن، ويدفع إلى شركة هوايت بواسطة حكومة إثيوبيا الإمبراطُوريَّة. وإنه يجب على شركة هوايت أن تسرع في بدء الدراسة الأخرى المقترحة، وتعد مشروعًا نهائيًّا وتفاصيلَ للأعمال وتقديرًا للنفقات. وبعد إتمام الدراسة تستلم الحكومة الإمبراطُوريَّة التَّقرير وتبعث بصورة منه.

ختم وزارة الخارجية الإثيوبية
(هروي)

ترجمة كتاب شركة وايت الهندسية بنيويورك

القاهرة في ٢١ مارس سنة ١٩٣٣

حضرة صاحب المعالي وزير الأشغال العمومية

بعد المباحثة بين معاليكم وحضرة صاحب العزة حسين سري بك — وكيل الوزارة — وبيننا، أتشرَّف بأن أتقدم بالاقتراح الآتي للعمل بصفة مهندسين استشاريين لمعاليكم، والقيام بأعمال المساحة الخاصَّة ببحيرة تانا في سنة ١٩٣٣ كمندوبين عنكم.

والغرض من المساحة المذكورة وتقديم تقرير عنها هو كما يلي:

مسح وتحديد الطريق المزمع إنشاؤه بين أديس أبابا وبحيرة تانا بالحبشة.

مسح وتحديد الطريق المزمع إنشاؤه بين بحيرة تانا وحدود السُّودان.

إتمام المباحث التي تحصَّلنا عليها للآن الخاصَّة ببحيرة تانا، وعمل دراسة أخرى للمناسيب حول البحيرة وعلى الجزائر وفي السهول المجاورة ودراسة حالة المعابد والقرى الواقعة على الشواطئ والجزر، حيث تبين أنها ستتأثر بمناسيب المياه التي وقع الاختيار عليها لأعمال الضبط.

وستكون أعمال المساحة والتقرير وافية البيانات بدرجة تسمح بتجهيز المقايسات الخاصَّة بتكاليف إنشاء الطرق، كما أنها ستشمل على تصميمات الكباري والإنشاءات الأخرى اللازمة لتقدير قيمة تكاليف السد والإنشاءات اللازمة للانتفاع بمياه بحيرة تانا، ويتضمن التَّقرير المقايسات الخاصَّة بالطرق والسد والإنشاءات الأخرى على بحيرة تانا.

وسنقوم بانتخاب المستخدمين اللازمين لهذا العمل، وإعداد المعدات اللازمة لفرق المساحة، وإرشادهم إلى خطط العمل. كما أننا سنتفق مع معاليكم أو مع مندوبكم الذي ترخصون له بذلك على خطط العمل أثناء سيره حتَّى يتسنى لنا تحقيق رغباتكم فيما يختص بالطرق المراد فحصها، وبمدى أعمال المساحة الواجب عملها حتَّى من وقت لآخر، ويمكنكم الإلمام بما يقوم به هؤلاء المستخدمون مدى تفاصيل الأعمال أثناء سيرها.

وسندمج نتائج بحثنا في تقرير مطبوع يحتوي على خرط ورسومات، وسترسل صور منه لحكومة الحبشة لتوزيعها.

وجميع ما تبرمه من العقود وتصدره من الأوامر، وكذلك جميع الالتزامات ستكون باسم شركة وايت الهندسية بالنيابة عن معاليكم.

وستقوم مصلحة المحاسبة والمكاتبة في مكتبنا بنيويورك بتجهيز البيانات الخاصَّة بسير العمل، أما فيما يختص بسجلاتنا وحساباتنا والمستندات التي لها علاقة بهذا العمل والمبالغ التي ستصرف بموجب هذا الاتِّفاق فتكون تحت تصرُّف مندوبكم المرخص له لفحصها ومراجعتها.

وسندفع من الاعتمادات التي ستضعونها تحت تصرفنا مقدمًا دفعًا لنا وللآخرين نظير خدماتهم، وكذلك لمشتري الأدوات والجهازات والمصاريف العارضة.

وفيما يلي خلاصة المقايسة الخاصَّة بتكاليف العمل وأتعابنا كمهندسين استشاريين للحكومة المصريَّة. وهذا يتضمن الأتعاب الخاصَّة بقيامنا بالعمل المبيَّن في هذا الاتِّفاق.

خلاصة المقايسات:

دولار
١٥٩١٥٣٨٥
أعمال في بلاد الحبشة ٦٩٧٥١٠٠
نقل المستخدمين والتأمين عليهم من وإلى أمريكا (رئيس وأربعة مهندسين) ٦٤٠٠٠٠
مهندسو مكتب نيويورك القائمون بتجهيز الرسومات واللوحات والبيانات الهندسية ١٦٠٠٠٠٠
طبع وتجليد التَّقرير إلخ ٤٠٠٠٠٠
تلغرافات ومتنوعات ١٠٠٠٠٠
الجملة ٩٧١٥١٠٠
مصاريف إضافية لمكتب نيويورك بواقع ٣٥ في المائة ٣٤٠٠٢٨٥
١٣١١٥٣٨٥
أتعاب المهندسين الاستشاريين (بما فيها الخدمات ومصاريف نائب الرئيس في مؤتمر سنة ١٩٣٣) ٣٨٠٠٠٠٠

وقد قام جناب المستر نيوهاوس بفحص هذه البيانات وملحق مع هذا صورة المقايسة التفصيلية التي صار تحضيرها بالاشتراك مع المستر نيوهاوس، وبذلك انخفضت قيمتها عن المقايسات السَّابق تقديمها.

وعند قبول معاليكم لهذا الاتِّفاق تقومون بدفع مبلغ ١٥٩١٥٠٠٠ دولار لدفع قيمة المصاريف والخدمات التي ستقوم بها من حساب قيمة العمل على أن يُدفع لنا هذا المبلغ بوساطة حكومة الحبشة.

وسنضيف لحسابكم من وقت لآخر الفوائد على الرصيد الشهري للمبالغ التي تدفع مقدمًا حسب ما قد يضيفه مصرفنا بنيويورك على رصيد الودائع الشهرية.

وهذه التكاليف قابلة للزيادة والنقص بمعدل ١٠ في المائة متى استدعت ذلك ضرورة إتمام العمل على الوجه الأكمل. وتدفع لنا الزيادة حسب ما هو مدوَّن بعاليه عند إتمام التَّقرير، كما أن كلَّ وفر سيصير إعادته لكم كما هو مبين في هذا الكتاب.

وعند إتمام التَّقرير سندفع لمعاليكم الاعتمادات التي ستبقى من المبالغ التي دُفعت لنا مقدمًا بعد خصم المبالغ المرخص لنا بدفعها بموجب هذا الاتِّفاق.

ومن المفهوم أنه عندما توافق حكومتكم على هذا الاتِّفاق ستفيدوننا تلغرافيًّا حتَّى يتسنى لنا أن ننتهز أنسب الفصول للقيام بالعمل المطلوب في بلاد الحبشة.

وهذا الاقتراح يقوم مقام الاقتراح السَّابق تقديمه منا — ونرجو معاليكم إذا لم يكن ثمة حاجة لبيانات أخرى التكرم بإفادتنا حتَّى يتسنَّى لنا العودة إلى نيويورك وانتظار أوامركم. وتفضلوا معاليكم بقبول فائق الاحترام

٢٣ مارس سنة ١٩٣٣

رخصت لي حكومة السُّودان بالاتفاق.

ماكريجور ﻫ. لاردنر
نائب رئيس شركة وايت الهندسية الأمريكية
وهذه صورة رد الحكومة المصريَّة على شركة وايت الأمريكية:

جناب المستر ﻫ. لاردنر
نائب رئيس شركة وايت الهندسية بنيويورك بالقاهرة

أتشرَّف بأني أفيد جنابكم أنني تسلمت خطابكم المؤرخ ٢١ مارس سنة ١٩٣٣ وبه التفصيلات التي تقترحونها بخصوص الأعمال اللازمة لخزان بحيرة تانا، والشامل للمقايسة عن تكاليف الأعمال ومقدار أتعابكم.

ويظهر أن المعلومات التي يحتويها كافية لأن أتقدم لمجلس الوزراء والبرلمان للحصول على التصديق اللازم للاعتمادات للسير في العمل.

ويلوح لي أنَّه لا يوجد ما يدعو لإطالة إقامتكم بالقاهرة، حيث إنِّني لا أشك أنكم سترسلون تلغرافيًّا أية معلومات تُرى لازمة لزيادة الإيضاح.

وسنفيدكم تلغرافيًّا بما يستقر عليه رأي مجلس الوزراء والبرلمان، سواء أكان هذا الرأي بالموافقة أو عدمها.

وزير الأشغال العمومية

قرر مجلس الوزراء في ٢٩ مارس سنة ١٩٣٣ إنشاء خزَّان بحيرة تانا، وأرصد له في ميزانية السنوات الخمس المقبلة مبلغ ٣ ملايين و٥٠ ألف جنيه تنفق على إنشائه.

نشر كاتب في جريدة «البلاغ» المقالات الآتية في سبتمبر سنة ١٩٣٤:

(٤-٣) بحيرة تانا وجزرها المقدسة

أقام كاتب هذه المقالات عدة سنين في القنصلية البريطانية بدنجيلا — شمال غربي الحبشة، فأتيحت له فرص قلَّما تتاح لغيره لكي يرى بحيرة تانا الجميلة من وجهات مختلفة وعلى جميع اتجاهات البوصلة، وقد سافر الكاتب في رحلات رسمية فرأى هذه الأربعين ميلًا من الماء في مناسبات عديدة، كما أنه دار حولها تمامًا مرتين. وهناك سائحون أوروبيون آخرون رأوا هذه البحيرة من اليبس، فمن الطَّبيعي أن تكون الجزر المتعددة — التي تقع أحيانًا على ثلاثة أميال من الشاطئ — مُثيرة لطلعة السائح، ومن السائحين القليلين الذين زاروا الجزر فعلًا (سنكر) الذي صنع هذا سنة ١٨٨١، وخلَّف لنا أحسن وصف وإن كان يعوزه التَّمام؛ لأنه لم يستطع الحصول على إذن بالنزول إلى تلك الجزر التي تقوم عليها أهم الديور مثل داجا.

ويقول سنكر في تفسير هذا إنه لم يتمكن من زيارتها؛ لأنَّ أحدًا لا يسمح له بذلك إلَّا أن يكون راهبًا متنسِّكًا لكون هذه الجزر تعتبر أرضًا مقدسة.

كان مشروعي أن أدور حول البحيرة في الماء، وأزور كلّ جزيرة وكل كنيسة ودير فيها، وكذلك ما كان منها على الشاطئ. ومعنى ذلك كله أنني أقطع مائتين وعشرين ميلًا، والظاهر أن هذه كانت الطريقة الوحيدة التي يجب أن أتَّبعها حتَّى لا يغيب عني شيء له أهمية نظرًا لعدم وجود خرائط دقيقة أو أي شيء سوى كتابات ضئيلة في الموضوع.

وتاريخ الكنيسة الحبشية يحوي أشياء كثيرة ذات قيمة للباحث في تاريخ المسيحية الأولى التي دخلت البلاد في سنة ٣٧٠ أو حوالي تلك السنة على يد فرومنتيوس الذي أصبح أول رئيس لأساقفة إثيوبيا على نفس الصورة التي أدخل بها القديس أوغسطين المسيحية إلى إنكلترا السكسونية بعد هذا التَّاريخ بمائتين وستة وعشرين عامًا، وأصبح أول رئيس لأساقفة كنتربوري.

ولم يقترب الخطر قطُّ من إنكلترا، ولكن في حكم الإمبراطور الحبشي لبنادنجل (١٥٠٨–١٥٤٠م) فتحت البلاد، واستولى عليها تمامًا فاتح مسلم هو محمد جراف، جاء إليها من بلاد عدل الصحراء المنخفضة القريبة من البحر الأحمر، وهي الأرض التي تقيم فيها الآن قبائل الدناقلة.

ورغم أن ابن لبنادنجل وخليفته استطاع أن يجلي المسلمين عن البلاد، فإنَّ كلَّ الكنائس والديور في طول البلاد وعرضها نُهبت وأحرقت، فذهبت بذلك المكاتب التي حوت من المخطوطات والكتب ما لا يقوم بثمين مع نسخ يونانية وعبرية، بل وربما كانت أصولًا من الكتاب المقدس وسفر الرؤيا.

ومن ثمَّ يبدو أن المكاتب التي ربما تكون نجت لا بدَّ وأن تكون باقية في ديور الجزر في بحيرة تانا؛ لأنَّ موقع هذه الجزر بعيدة عن الشاطئ هو الذي حال بين الجيوش الإسلامية الظافرة وبين تناول هذه الآثار، وأحد أغراض رحلتي أن أرى المكاتب وإن لم يكن لدي وقت للخوض على محتوياتها. والأمر الثَّاني أنني أمَّلت في أن أحصل على بعض الروايات المتواترة التي تتصل بتابوت العهد في معبد سليمان بأورشليم الذي يتمثل كلَّ كنيسة بالحبشة.

وعلاوة على هذا؛ فإنني أنظر إلى زيادة المعلومات العامَّة في الجغرافيا وعلم الحيوان والطيور والأسماك والحيوانات الثديية التي تسكن الجزر وما يحتمل من معرفة شيء عن قبيلة الوايتو، ومنها الرجال الذين يصنعون زوارق الغاب التي يسيرونها في البحيرة، وكذلك أمَّلت في أن أعلم شيئًا عن عمق البحيرة.

وبعد أن تمَّت كلُّ الاستعدادات للرحلة، وحصلت على إذن الإمبراطور هيلي سيلاسي اصطحبت ترجماني، وسرت في قافلة من البغال في يوم ١٦ نوفمبر سنة ١٩٣٢ متجهًا نحو شواطئ البحيرة، مسافرًا بطريق ضفتي نهر أباي الصغير، وهو أكبر مصدر يمد البحيرة بالماء، ولا تزال ثلاثون ميلًا منه غير مرسومة.

وأهم ما كشفته هنا بحيرة مستديرة أصلها بركاني، وربما كانت قائمة على فوهة بركان يبلغ قطرها نصف ميل، وتُسمَّى تنجيتي بركان، وقد استطعت الآن أن أرسمها على الخريطة هي وتفصيل سير النهر. وفي ٢٩ نوفمبر وصلنا إلى ليجومي على الشاطئ الجنوبي لبحيرة تانا، وهناك قابلنا على موعد بعض رجال الوايتو مع ثلاثة من زوارقهم المصنوعة من الغاب. وأول ما سافرنا في الماء اتجهنا نحو الغرب؛ لنشاهد تكوُّن مصب نهر أياي الصغير. ذلك النَّهر بفعل الرواسب كوَّن رأسين عاليين من الطَّمي كلٌّ منهما على ضفة، وقد أصبح طول كل منهما يمتد ميلين في البحيرة. والواقف في البر لا يمكنه أن يرى نهايتهما لأنهما محجوبتان بأعشاب البردي الطويلة. وكذلك رغبت في أن أصل إلى مكان مغطى بالغابات يقال له موكال لزيارة زعيم. واقتضاني هذا سفر يوم طويل على خلاف ما أفهمني رفاقي من الوايتو. وقد عُدنا من هذه الرحلة والظلام مخيِّمٌ في بحر هائج، ووصلنا إلى خيامنا منتصف الليل مقرورين جائعين، وبعضٌ منَّا به وعكة خفيفة من سفر البحر.

عندما كانت المباحثات دائرة منذ ثلاث سنوات في مسألة خزَّان بحيرة تانا حرصت حكومة الحبشة على أن لا يمس تصميم الخزَّان بالديورة والكنائس الموجودة في تلك البحيرة أو حولها. فلا نعلم هل يُغرق الخزَّان عند إنشائه بعضًا منها؟ لأنَّ تفاصيل تصميمه لم تنشر بعد. وقد اطلعنا الآن على مقال في جريدة التيمس الميجر شيسمان عن تلك الديورة والجزر التي زارها أخيرًا. وهذا بعض ما جاء فيه:

رأيت مياه بحيرة تانا التي تبلغ مساحتها ٤٠ ميلًا مرارًا متعددة في أثناء رحلاتي للقيام ببعض المهام الرَّسمية، وطفت البحيرة كلها مرتين، ورآها كثيرون من السياح الأوربيين من الشاطئ، فلا شكَّ أن جزائرها العديدة التي يقع بعضها على بُعد ثلاثة أميال من الشاطئ تستلفت أنظار السياح. وفي طليعة السياح الذين كتبوا رسائل شائقة عن البحيرة «ستيكر»، فقد زارها سنة ١٨٨١، ولكن رسالته ناقصة؛ لأنه لم يستطع أن يزور الجزر التي بُنيت فيها الديورة المهمة كجزيرة داجا، وقد قال إنَّه لم يزرها؛ لأنَّه لا يجوز لأحد أن يطأها سوى النُّسَّاك إذ هي جزيرة تُعتبر مقدسة.

وقد وضعت نصب عيني أن أطوف البحيرة كلها وأن أزور كلَّ جزيرة وكل كنيسة وكل دير فيها. وكذلك الكنائس والديورة الموجودة على الشواطئ، وهذا الطواف يستغرق ٢٢٠ ميلًا. ولم يكن لي بدٌّ من ذلك لكي أقف على كلّ شيء؛ لأنَّ البحيرة ليس لها خرائط دقيقة ولم يُكتب عنها إلَّا القليل.

ويحتوي تاريخ الكنيسة الحبشية على أمور كثيرة تهم الذين يدرسون تاريخ المسيحية في عهودها الأولى. وقد أسسها فرومنتيوس نحو سنة ٣٧٠، وكان أول رئيس أساقفة للحبشة كسان أوغسطين الذي جاء بعده بنحو ٢٢٦ ونقل المسيحية إلى إنكلترا السكسونية، وأصبح أول رئيس أساقفة لكنتربوري.

ولكن محمد جران، وهو قائد مسلم عظيم، خرج من الأراضي التي تحتلها الآن قبائل الدناقل، وفتح الحبشة وأخضعها لسلطانه في عهد الإمبراطور لبناديجل (سنة ١٥٠٨–١٥٤٠)، ولكن ابن ذلك الإمبراطور أخرج المسلمين من بلاده، وكانت الحروب المتوالية سببًا للإحراق والتخريب الذي أصاب جميع الكنائس وذهب طعم النار كثير من الكتب والمخطوطات. ونسخ أول أصول من الكتب المقدسة بالعبرية واليونانية. فإن كان قد نجا شيء من المكاتب فهي المكاتب الموجودة في الديورة؛ إذ كان من الصعب على الفاتحين أن يبلغوها وهم لم يكونوا مجهزين بالزوارق ولا يجيدون استخدامها، فكان من جملة أغراضي من رحلتي أن أبحث عن تلك المكاتب وأن أدون تقاليد الناس وعاداتهم وما يرونه من تابوت العهد الذي أخذ من هيكل سليمان في القدس، وهو التابوت الذي تمثله في كلِّ كنيسة من كنائس الحبشة اليوم نسخة مقلدة من الصندوق الذي يحتوي على الألواح الحجرية التي نزل بها موسى من جبل سيناء. ويروي الأهالي أن منليك الأول جاء بالتابوت الأصلي من القدس إلى الحبشة، ويقال إنَّها الآن موجودة في كاتدرائية أقسوم، ولكنني سمعت أنه نُقل عندما وصل إلى جزيرة في بحيرة تانا، على أننا ليس لدينا دليل مادي أو مستند يدلُّ على أن تابوت العهد نقل إلى الحبشة، ولكن لا بدَّ من أن يكون لدعوى كنيسة الحبشة الخاصَّة بالتابوت شيء من الصحة، ويظهر أنَّ اليهود لم يعودوا يعرفون شيئًا عنه بعد انقضاء مدة على اختفائه، وآخر ما ذكر عنه هو الفصل الثالث من سفر أرميا في التوراة في العدد السادس عشر.

ثم إنَّ في تلك الجزائر أشياء كثيرة تدعو إلى الاهتمام، وتتعلق بالجغرافيا والحيوان والطيور والسماك وذوات الثدي. وقد يمكن أن يعرف المرء شيئًا عن قبيلة وايتو التي تصنع الرمث من القصب لاستخدامه كالزورق في البحيرة. وخطر لي أن أعرف شيئًا عن أعماق البحيرة.

وقد أكملت عدتي للقيام بهذه الرحلة، وحصلت على إذن من الإمبراطور هيلاسلاسي، وسافرت في ١٩ نوفمبر سنة ١٩٣٢ إلى البحيرة يصحبني ترجماني وقافلة من البغال، وتتبعت في طريقي ضفاف نهر أباي الصغير الذي يصب في البحيرة، ولم يُرسم نحو ثلاثين ميلًا من قسمه الأسفل على الخريطة بعد. وأهم ما اكتشفته في طريقي بحيرة مستديرة ذات أصل بركاني، وهي تُسمى «بركة تنجيتي»، ويبلغ قطرها نحو كيلومتر واحد، فرسمتها على الخريطة هي والقسم الذي لم يرسم من النهر.

وفي ٢٩ نوفمبر وصلنا إلى ليجومي على شاطئ بحيرة تانا الجنوبي، والتقينا هناك ببعض رجال قبيلة وايتو الذين جاءوا إلينا بثلاثة أرماث، فاتجهنا أولًا إلى الغرب لنرى مصب نهر أباي الصغير.

وفي اليوم التَّالي ذهبنا شرقًا بالأرماث، وبلغنا جزيرة باك التي هي أكبر الجزر في البحيرة، وتكاد تكون مستديرة، وقطرها ثلاثة أميال، وهي مسطحة ولا تزيد أعلى نقطة فيها على ثلاثين قدمًا فوق سطح الماء، والبعوض كثير فيها، وتبدو من البرِّ كأنَّها أرض مكسوة بالغابات، ولكنَّها ليست كذلك لأنَّ ثلاثة أرباعها ستستخدم للزراعة، وفيها كثير من الأشجار الكبيرة، ومعظمها من أشجار التين المسمَّاة «ورقة».

وقيل لنا: إنَّ في الجزيرة خمس كنائس فزرنا اثنتين منها، وعند ذلك مرض الترجمان، فلم يكن لي بدٌّ من التوقف عن الرحلة والعودة به مسافة خمسة أيام إلى منزله، ثمَّ سافرت نحو أسبوعين إلى جلايات على حدود السُّودان للبحث عن ترجمان جديد، فجئت به وعدت لإكمال رحلتي مخترقًا في طريقي أقاليم لم ترسم على الخريطة، واجتزت أعالي أنهر رهاد ودندر وبالاس، وهي من روافد النِّيل، وتحققت أنَّ المراكز التي أُعطيت لها على الخريطة مملوءة بالخطأ، وقد رُسم نهر بالاس في موضع يبعد ثلاثين ميلًا عن موضعه الحقيقي.

وعدنا إلى جزيرة داك في ٩ مارس لنكمل رحلتنا في البحيرة، فزرنا الكنائس الثلاث الباقية. ولكل كنيسة قرية تحيط بها، ويُسمح للنساء بالإقامة في الجزيرة. والعمل الوحيد الذي يعمله الأهالي هو الزراعة. وتكثر في الجزيرة الأشجار التي من نوع التين، وفيها زهور ونباتات مختلفة، ورأينا فيها جرذان الحقول، وأمسكنا اثنين من نوعين مختلفين لكي يساعدانا على درس عمر الجزيرة. وتحيط بالجزيرة نباتات من القصب، وقد وجد الأهالي فيها أفاعي عظيمة وقتلوا سبعًا منها.

•••

زرنا جزيرة جبران الواقعة في الزاوية الجنوبية الشرقية من البحيرة، وفيها كنيسة باسم الملاك جبريل، وقبر للإمبراطور تكلا جيمنوت (سنة ١٧٠٦–١٧٠٨): والكنيسة قائمة على بعد ١٢ عمودًا من الحجر في شكل مستدير، ولها جرسان أحدهما من الحجر الأصم والآخر من الخشب، وهناك أيضًا جرس من النحاس عليه كتابة باللغة الجعزية. ويتولى رياسة الدير راهب شيخ يشغل منصبه منذ ٤٥ سنة، وقد أرانا من الكتب بقدر ما سمح لنا الوقت، ولا شكَّ أن في مكتبة دير أكريت كثيرًا من الكتب التي تستحق البحث، وقد نقلت كتب عديدة من الكنائس المجاورة في البر إلى هذه الجزيرة في أزمنة الاضطرابات لجعلنا في مأمن.

وبعد ذلك عبرنا المنطقة التي يمر بها النِّيل الأزرق خارجًا من البحيرة، وفيها أغوار يحجبها البردي. وقد تساقطت عليها حمم بركانية تألف منها سد طبيعي غيَّر مجرى النِّيل الأزرق القديم، فتألفت من هذا السد بحيرة تانا، ورأينا الماء يجري من شلال شارا — شارا فوق ذلك السد الذي يضبط مستوى مياه البحيرة.

وعلى الشاطئ الشَّرقي صف طويل من الجزائر التي لم يكن لنا بدٌّ من زيارتها، وأولاها وأهمها جزيرة ريمة التي فيها كنيسة مضحاني عالم. ومن الكتب التي وجدناها فيها كتاب يحتوي على أسماء الملوك من آدم إلى منليك الأول فملوك زغوه، ولعل القائمة تتصل بالملك الحالي. فلم يسمح لنا الوقت إلَّا بنقل جزء منها، فنقلت الجزء الذي يبدأ من منليك وينتهي بملوك زغوه. ووجدت كتابًا آخر اسمه تاريخ مريم، ولكن لم أجد فيه تاريخًا، ووجدت صورًا مثلثة الأضلاع كان التكوين والفن في بعضها حسنًا، وهي رسوم العذراء مريم وطفلها يوسف.

ونصبنا خيمة على فم نهر غمارة؛ لكي نستطيع أن نخصص يومًا كاملًا لزيارة جزيرة تانا قرقوس، وكنت قد سمعت من الناس حكايات عن تلك الجزيرة جعلتني أتوقع اكتشافات جديدة فلم يخب أملي. وقد اصطدنا هناك أضخم سمكة، وقد بلغ وزنها ٢٨ رطلًا، ويروي الناس حكايات عن وجود حيوان بحري عظيم في البحيرة، فأعلنت أني أدفع جائزة عظيمة لمن يصطاد حيوانًا كهذا ويأتي به إليَّ؛ فبادر الأهالي إلى الاصطياد. ولكن لم يستطع أحد أن يحصل على الجائزة.

وتتصل جزيرة تانا قرقوس بالبر بطريق صخرية في زمن هبوط البحيرة فتصبح كأنها شبه جزيرة. ويقال: إن تابوت العهد بقي فيها مدة طويلة عندما جيء به من القدس قبل نقله إلى أقسوم. ولكن لم أجد في المخطوطات ولا في المراجع الموثوق بها ما يؤيد هذه الرواية. ويقال أيضًا: إنَّ أول كاهن لهيكل الكنيسة هو عزرا بن صدوق — رئيس كهنة أورشليم في عهد سليمان — وإنَّه رافق منليك الأول عندما جاء بتابوت العهد. ورأيت وعاءً من المعدن كتبت عليه كتابة سيئة يبلغ طول الحرف فيها قيراطًا. وعلى مقربة من الكنيسة ثلاثة أعمدة من الحجر في حجم مستدير على شكل المذابح اليهودية، وعليها عصا الكهنوت التي جاء بها فرومنتيوس، وفي رأسها صليب، وقد أسس الكنيسة (أبراها) و(أسبيها) الملكان اللذان حكما معًا، ولكن السر واليس بدج يظن أن المقصود هو عزانا ملك أقسوم الذي اكتشفت كتاباته باليونانية والإثيوبية والسبئية وترجمت. وروى فيها أخبار انتصاراته وشكر آلهته عليها، ولكنَّه سلم في حكاية حملته الآخيرة بأنَّ رب السماء الموجود في السماء وعلى الأرض، والذي هو أقوى من أي شيء موجود قد ساعده. ولم يذكر عزانا أسماء آلهة أخرى. فكانت هذه الرواية سببًا للحكم بأن عهد ملكه كان في أول عهد دخول المسيحية إلى الحبشة.

على أن اكتشاف كنيسة أسسها أبراها وأسبيها في جزيرة تانا قرقوس وثلاثة مذابح يهودية يعلوها صليب ووعاء عليه كتابة سبئية لا يمكن أن يكون مصادفة واتفاقًا. وفي هذه الجزيرة كتبٌ يجب أن يفحصها رجل اختصاصي. وأحدها نسخة من «كتاب الأسرار»، وقال ناقلها عن نفسه إن اسمه جبريل ولد بطريق، وإنه كتب هذه النسخة في دبرة قدوس حيث يوجد دير عربي يدعى دير أنطونيوس سنة ٩٨٣ بعد الشهداء. وقد ترجمت من اليونانية إلى العربية، وبقيت باللغة العربية ٣١٥ سنة، ثمَّ ترجمها سليق إلى اللغة الجعزية. ويقول الرهبان: إنَّ جزيرة تانا قرقوس كانت تسمى دبرة ساحل يوم كان اليهود هناك. وبما أن ليس لدينا دليل على أصل اسم ذلك الدير كان من المحتمل أن هيكل بحيرة تانا سمي باسم النجم كانوبوس الذي يسمى بالعربية سهيل.

ورأينا في الجزيرة التَّالية التي زرناها — وهي شقلا منزو — خرائب لقصر الإمبراطور أياسوس الذي قتل هناك سنة ١٧٠٦.

ثم إننا زرنا جزيرة مطرحة التي تبعد نصف ميل عن البر، وأقدم كنيسة فيها أسسها الإمبراطور داود الأول، ولكن أحمد جران أحرقها، وهناك كنيسة أخرى بناها يوحنا الأول، ونهبها الدراويش في أيام الخليفة، وهي الآن خراب، ولم نجد أي تاريخ على الكتب التي رأيناها.

وسرنا عدة أيام حول الجانب الشَّمالي الشَّرقي من البحيرة، وعلى طول الساحل الشَّمالي، وبلغنا شبه جزيرة جرجرة، وهي أرض جبلية يلوح أن يدي الغزاة لم تصل إلى الديورة التي فيها وعلى مقربة منها. ووجدنا كنيسة في دير اسمه دير سيناء على طرف الجانب الشَّرقي، وفيها بعض الكتب. ويقع دير مندية جنوبي جرجرة، وهو مبنيٌّ على صخر مشرف على الماء، ولعله أكبر دير في البحيرة لأنَّ فيه ١٥٠ راهبًا وتحيط المنازل والغرف بالكنيسة التي تسمى كنيسة مضجاني عالم. وقد سمح لي بزيارة الرهبان فوجدتهم يعيشون في صوامع حقيقية ويطالعون الكتب المقدسة، فلم أشأ أن أتعرض لكنيستهم وتأملاتهم.

وفي جزيرة جليلة التي تبعد ميلين في البحر دير من النوع ذاته، واستقبلني الرهبان في الديرين بكل لُطفٍ وبشاشة.

وزرت في البر قصر الإمبراطور سوسينيوس الصَّيفي (١٦٠٧–١٦٣٢)، وقد بناه الراهب البرتغالي بيدرو بايز، وهو من رهبان الجزويت الذين أرسلوا إلى الحبشة في القرن السادس عشر. ولا شكَّ أن حكاية تيههم ومتاعبهم وآلامهم وتمسكهم بعقائدهم تحمل كلَّ من يقرأها على الإعجاب بهم والعطف عليهم. أما قصر جرجرة فهو الآن خَرِبٌ ومهجور، ولكنَّ ما بقي منه يكفي للحكم بأنه كان رائعًا، ويبلغ علو جداره الرئيسي ٧٠ قدمًا، وهو ما زال قائمًا. وعلى الجدار الداخلي أنواع من النقوش.

وبعد تجول في البحيرة دام ١٥ يومًا تَلِفَتْ أرماثُنا فلم يكن لنا بدٌّ من إصلاحها، فانتهزت هذه الفرصة وذهبت شمالًا للتثبت من أخبار وصلت إليَّ عن وجود بركان ثائر في شلجة، ولكنني لم أجد سوى نبع معدني منبثق من صخر يسيل منه ماء كبريتي تملأ رائحته الجو.

وبعدما أصلحت أرماثنا توجهنا إلى الناحية الشمالية الغربية من البحيرة، ثمَّ إلى الساحل الغربي الذي هو أقرب نقطة إلى السُّودان، وكان الدراويش قد سحقوا تلك الأقطار سحقًا، فلم يتركوا فيها حجرًا على حجر لكي يعرف المرء أين كانت الكنائس القديمة قائمة، ولكنَّ أسماءها باقية.

ثم إنَّنا ذهبنا إلى الساحل الجنوبي، وبلغنا المكان الذي بدأنا رحلتنا منه، فتركت الأرماث الثلاثة لرجال القبائل الذين استأجرتهم ونقدتهم أجورهم وعدت بقافلتي إلى دنجيلة.

وفي اليوم التَّالي عدنا إلى البر بالطريق التي قدمنا منها، ثمَّ سرنا في الماء حول الشاطئ، وكنا رتبنا أن نلتقي بقافلتنا في نقطة معينة، وهو ترتيب نجح تمامًا على طول الطريق حول البحيرة.

وكانت ثاني جزيرة زرناها جزيرة كبران في الزاوية الجنوبية الشرقية لبحيرة تانا، وفيها دير كنيسة بنيت تذكارًا للملاك جبريل، وفيها قبر للإمبراطور تقلا هيمانوت سنة (١٧٠٥–١٧٠٨م). وهذه الكنيسة محمولة على دائرة مؤلَّفة من اثني عشر من الأعمدة الحجرية الضخمة، وفيها ناقوسان، وهناك كذلك ناقوس من النحاس الأصفر منقوش عليه كتابة باللغة اللإثيوبية القديمة. ورئيس هذا الدير راهب هرم مضى عليه خمسة وأربعون عامًا. وقد أرانا من الكتب ما لو صرف وقت كبير في استيعابه لعرض على الباحث جهده ودقته، وكثير من هذه الكتب جاءت من الكنائس القريبة لتُودَع في كنائس الجزيرة حتَّى تكون بمنجاة في زمن الاضطراب.

ثم اجتزنا المنطقة التي يقع فيها مخرج بحيرة تانا محجوبًا عن البرك في مكان مغطى بنبات كثيف من نبات البردي المرتفع. وقد كونت المواد البركانية خزانًا طبيعيًّا يعترض المجرى القديم للنيل الأزرق مكونًا بحيرة تانا، وعند شلال شاراشارا ينساب الماء فوق الحاجز بما يحفظ مستوى الماء في البحيرة.

وكان علينا أن نزور شيئًا طويلًا من الجزر على الساحل الشرقي، وأول ما يستحق الالتفات الخاص هي جزيرة ريمة التي بها كنيسة مدهاني علام، وبين الكتب وجدنا سجلًّا مدونًا به أسماء الملوك من آدم إلى منليك الأول حتَّى ملوك زاجوي، وفي الغالب إلى الزمن الحاضر، ولم يكن الوقت متسعًا لاستقصائهم جميعًا، ولكنني نقلت أسماء الملوك من منليك الأول إلى ملوك الزاجوي، وعثرنا بين الكتب على كتاب في (تاريخ مريم)، ولكننا أخفقنا مرة أخرى في العثور على تاريخ.

وقد رتبت أن أقضي يومًا كاملًا في جزيرة تانا كركوس؛ إذ جعلتني رؤيات الأهالي أتوقع اكتشافات، ولم يخب أملي؛ فقد أمسكنا هناك سمكة كانت أكبر ما صدناه في البحيرة؛ إذ كانت سمكة من نوع الهر زنتها ٢٨ رطلًا. وبحيرة تانا — كغيرها من البحيرات — لها حكاية تتعلق بوحش يسكنها، وقد ترامت إليَّ قصص عنه من كثيرين من شهود العيان، حتَّى إنني عرضت جائزة كبيرة لأي من رجالي أو من الناس الذين يعيشون حول البحيرة إذا أمسك بواحد منه وأحضره لي. وكان الاتِّفاق العام على أنه سمكة في مثل حجم الرجل يقال لها سورز. واستمر الصيد عدة أيام فتوقعت أن أكون أول من يسجل أن سمك «لاتس نيلوتيوس» يسكن بحيرة تانا. فهذا النوع من السمك يوجد في النِّيل الأزرق عند سفارو الخرطوم، حيث ينمو إلى أن تبلغ زنة الواحدة أكثر من مائة رطل. ولقد ظللت أنتظر طويلًا، ولكن الجائزة بقيت ولم يطلبها أحد.

وجزيرة تانا كركوس جزيرة صغيرة صغيرة تتصل الآن بالبر بمجاز من الصخر بحيث يمكن للإنسان في شهور التحاريق أن يصل إلى الجزيرة بغير أن تبتل قدماه. ولعل أدق وصف لها أنها شبه جزيرة. والحقيقة التي يسلم بها الجميع أنها كانت في زمن غير بعيد (بل وعلى أي حال في زمن أحمد جران) محاطة بالماء من جميع الجهات، ولم يكن يمكن العبور إليها إلَّا في الزوارق، وهذا ما حماها من تخريب الغزاة والفاتحين.

وأول رئيس لكنيسة تاناكركوس — أو على الأصح كاهن المعبد في تلك الجهة — يقال إنه أزارياس بن زادوك — رئيس كهنة أورشليم أيام سليمان — ويقال: إنه قدم إلى البلاد صحبة منليك الأول. وبقرب الكنيسة ثلاثة أعمدة حجرية في قمتها هبوط مستدير على هيئة أكواب هي بلا شك المذابح القديمة للقرابين العبرية.

ومؤسسا هذه الكنيسة أبرهة وأسبيها، وهما ملكان حكما معًا، ولو أن هذا لا يمكن التحقق منه. واكتشاف كنيسة في تانا كركوس أسسها أبرهة وأسبيها، وثلاثة مذابح عبرية يعلوها صليب، وأخيرًا طاس عليه نقوش بلغة سبأ، كلُّ ذلك لا يمكن أن يكون تطابقًا. وفي هذه الجزيرة كذلك توجد كتب لابد وأن يستوعبها رجل متوفر على البحث منقطع له. ويقال: إنَّ واحدًا من هذه الكتب نسخة من كتاب الأسرار، ويقول الكاتب: إنه جبريل والد أباتريك، وإنه كتبه في دير أقادوس، وهو دير عبري يقال له أنطونيوس في سنة ٩٨٢ من تاريخ الشهداء، وقد ترجم من اللغة اليونانية إلى العربية، وبقي باللغة العربية ٣١٥ سنة، وبعد ذلك ترجمه سليك إلى اللغة الإثيوبية. وقال الرهبان: إن جزيرة تانا كركوس كانت في أيام وجود الإسرائيليين هناك تدعى دبراساهل. ومن الممكن (مع عدم وجود أي دليل على أصل الاسم) أن المعبد الذي ببحيرة تانا يمكن أن يسمى باسم النجم كانوباس الذي يسمى في بلاد العرب باسم سهيل.

والجزيرة التَّالية — شكلامانزو — تحوي خرائب قصر الإمبراطور أياسوس الذي قتل طبقًا للسجلات في سنة ١٧٠٦م.

(٤-٤) بحيرة تانا من الوجهة الاقتصادية

تقع بحيرة تانا في غرب الحبشة، ومساحتها ٣٥٠٠٠٠ هكتار، وترتفع ١٨٠٠ متر عن سطح البحر، وهي مستودع كبير للماء، الذي يخرج منها إلى السهول التي حواليها، من روافد ومجارٍ صغيرة، وممكن أن تروي مليون هكتار، ومناخها معتدل، ومنطقتها أغنى مناطق الحبشة خصوبة: وعقد منليك ملك الحبشة سنة ١٩٠٢ مع إنكلترا اتِّفاقًا بأن لا يبني بالنيل الأزرق سدودًا بغير اتِّفاق مع إنكلترا.

وعقد بين إيطاليا وفرنسا وإنكلترا سنة ١٩٠٦ على توزيع المنافع الاقتصادية بينهن، فتقيم إنكلترا سدًّا بالبحيرة، وتقيم إيطاليا سكة حديدية من الحبشة إلى أرتيريا والسومال غرب أديس أبابا، وفي سنة ١٩٢٥ عُقد بين إنكلترا وإيطاليا اتِّفاق جديد تأييدًا لاتِّفاق سنة ١٩٠٦. والنزاع الحبشي الإيطالي يدور في الواقع حول هذه البحيرة والانتفاع بها.

وقرر مجلس الوزراء بجلسته في ٢٢ مايو سنة ١٩٣٥ الموافقة على برنامج الأعمال الجديدة في الوزارات المختلفة لمدة خمس سنوات.

ومن ذلك الذي أقره مجلس الوزراء مشروع بإنشاء خزَّان على بحيرة تانا والأعمال المرتبطة به. وقدر لمشروع تانا مبلغ ثلاثة ملايين وخمسون ألف جنيه موزعة على خمسة أعوام تبتدئ من العام الحالي بمبلغ مئة ألف جنيه، وفي العام الثَّاني بمبلغ خمسين ألفًا ومئتي ألف جنيه، وفي الأعوام الثلاثة الباقية بمعدل تسع مئة ألف جنيه في السنة.

وعرضت إيطاليا أن تتفاهم مع إنكلترا على مسألة الخزان. ولا تزال المباحثات بين مصر وإنكلترا مستمرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤