الفصل الرابع والعشرون

الزراعة في السُّودان

كان سُكَّان السُّودان يعتمدون على محاصيل الصمغ والسمسم وريش النعام والماشية والذرة، وكانت الزراعة متقطعة، وتعتمد على هطول الأمطار، ولكن دراسة منابع النِّيل ومجاريه وأراضي السُّودان دراسة علمية أدى إلى الاتجاه في الاعتماد على تخزين الماء في خزانات وتوزيعه في ترع للتوسع الزراعي، وكان للآمال الكبيرة التي عقدت على إمكان هذا التَّوسع ما ترتب على ذلك من اهتمام الإنكليز بالسُّودان واتجاههم إلى استعماره واستثماره وتقوية نفوذهم فيه وإضعاف نفوذ مصر شيئًا فشيئًا.

(١) أنواع الأراضي الزراعية

الأرض المطرية: التي ترويها الأمطار، كسنار والقضارف وكردفان ودارفور والبحرية — التي يرويها النيل.

فصول الزراعة

  • (١)
    الدميرة: فصل الفيضان من ١٥ بؤونة، ويدوم ٣ شهور.
  • (٢)
    الشتوي: من ١٥ توت، ويدوم ٦ أشهر.
  • (٣)
    الصيفي: فصل التحاريق، مدته ٣ شهور.

ويستعملون وابورات الرَّي الكبيرة في الزراعات الكبيرة كمزارع المهدي وكونتوميخلوس وإبراهيم عامر وكفوري.

والساقية والشادوف والطبوزية والنورج — كما في مصر، ولهم آلات خاصة بهم مثل السلوكة — وهي عصًا طويلة كالصولجان ذات رأس عريض به وتد طوله شبر تغرز في الأرض، ويضغط الوتد عليها.

والواسوق: عصًا طويلة في رأسها لوح عريض مثقوب من طرفيه.

والملودة: عصا معقوفة في رأسها حديدة.

والمنجل: مسنن كالمنشار.

والمنتاب: كالفأس.

والحشاش: كالفأس.

(٢) المزروعات

الذرة وهي أنواع: الفتريتة والكرفي في السُّودان الشَّرقي، وأم قرظ والصفرا والمقد وعيش الريف، وهو الذرة الشامية.

والدخن: ومن الذرة والدخن يصنع شراب الماريسة أو البوزة.

والقمح والشعير والسمسم والقطن، وكان ممتاز باشا أول من أدخله، وأصبح أكثر القطن المزروع في السُّودان من السكلاريدس. وتزرع الخضر — كالباميا وتُسمَّى الويكة — والشطة والباذنجان واللوبيا والقرع والطماطم والملوخية والبصل والثوم والكرنب واللفت والبقدونس والفجل والكوسا والبطاطة والفلفل. وتزرع الفواكه المعروفة في مصر إلَّا أنها قليلة، ولذلك يعتمدون على برتقال يافا.

(٣) المساحات المزروعة والبور

بلغت هذه المساحات في سنة ١٩٣٣ و١٩٣٤: ٧١٤٧٣٢ فدانًا، من ذلك ١٧٥٧٣٤ زرعت قطنًا، و٢٠٥٤٥ فدانًا لوبيا، ٨٧٧٤٥ فدانًا ذرة، و٤٣٠٦٠٨ فدادين تركت «بورًا».

(٤) مشروع الجزيرة

جاء في تقرير اللُّورد كتشنر عن الحالة في السُّودان سنة ١٩١٣:١

جاء (حقل التَّجارب الزراعية) في الجزيرة بنقطة الطيبة فجنى محصولًا جيدًا جدًّا من القطن ومحصولًا جيدًا من القمح والذرة. وهو يعلِّم الأهالي الطرق الزراعية الحديثة وهم شديدو الرغبة في تعلمها.

جاء وفد من قبل جمعية زراعة القطن البريطانية، وكان تقريرهم عن القطن السُّوداني، وخصوصًا قطن الطيبة حسنًا جدًّا، وسيكون لنصائحهم واقتراحاتهم قيمة عظيمة، وقد نشر المستر شمدت والمستر شتز من أعضاء جمعية الغزالين الدولية تقارير أخرى حسنة بهذا الشأن.

وكان محصول القطن الذي جُني من الأطيان التي أرويت أحسن بكثير من محصول السنة الماضية، وتحسن نوع القطن تحسنًا بيِّنًا وخصوصًا في طوكر. وزيدت وسائط الحلج بإنشاء معملين جديدين له.

ولعله يفيد أن أذكر هنا خلاصة تاريخ مسألة زرع القطن في السُّودان فأقول: إنه منذ سنوات رأى موظفو الحكومة وغيرهم من ذوي الاطلاع على أحوال هذه البلاد أن فيها أراضي واسعة الأطراف تصلح لزرع القطن المصري إذا استوفت حقَّها من الإرواء والاعتناء.

فاستمالت هذه المسألة التفات غزالي لانكشير، وهؤلاء وجهوا نظر الحكومة البريطانية لتحقيق المساعدة المالية المطلوبة لوضع هذا المشروع موضع التنفيذ والإجراء.

والفضل الأكبر في إدراك هذه الغاية للسير وليم ماذر وهو — كما لا يخفى — ممن زار السُّودان غير مرة، وأحد أعضاء لجنة كلية غوردون، وقد طالما أبدى أشد الارتياح إلى تقدم الأقطار السُّودانية وتوفير أسباب عمرانها وارتقائها. وفي أثناء إقامته في الخرطوم تحقق بالاختبار شدة صلاحية السُّودان لإنتاج القطن، وفي شهر أكتوبر سنة ١٩١٠ ألقى خطبة في منشستر كان لها أكبر تأثير في توجيه التفات الجمهور إلى هذا الأمر المهم.

ومن ذلك الحين اتجهت أفكار تجار القطن في لانكشير إلى السُّودان، وأصبحت هذه المسألة موضوع اهتمام جمعية زراعة القطن البريطانية، فعقدت النية على إرسال وفد إلى السُّودان؛ لإيفاء هذه المسألة حقها من البحث والتمحيص، ولشدة أهميتها عرض المستر ج. آرثر هتن — رئيس الجمعية — أن يرأس الوفد، فجاء ووضع تقريرًا مطولًا عن زيارته أيَّد فيه كلَّ ما ذاع عن هذه المسألة. وبعد رجوعه إلى إنكلترا قابل وفد كبير حكومة جلالة الملك، وطلبوا إليها بإلحاح أن تضمن قرضًا ينفق على إعداد السُّودان لزرع القطن.

وجاء في خطاب السر إدوارد كوك — محافظ البنك الأهلي المصري بالقاهرة — في اجتماع الجمعية العمومية السنوية للبنك سنة ١٩٣٥ تحت عنوان «مستقبل الجزيرة»:

أمَّا فيما يختص بالمستقبل القريب لمنطقة الجزيرة الهامة التي تستنفد معظم رؤوس أموال السُّودان المقترضة، فإنَّ محصول القطن الحالي جيد، وهناك دلائل قاطعة على أن أبحاث الخبراء المضيئة قد نجحت أخيرًا في تخفيف أضرار الحشرات والأمراض التي كانت في السُّودان، أكثر من أي إقليم آخر مبعث متاعب لا تحصى، كما أن التَّوسع المشاهد في السنين الحالية في زراعة القطن على ماء الأمطار في جبال النوبة وكردفان بناءً على تشجيع الحكومة تحت إشرافها ومراقبتها، هو تطور اقتصادي يبشر بمستقبل ذي بال. ا.ﻫ.

(٥) زراعة القطن

أصدر أخيرًا مجلس إدارة جمعية زراعة القطن البريطانية تقريره، وقد استعرض فيه زراعة القطن في جميع أنحاء الإمبراطُوريَّة البريطانية في أثناء السنة الماضية ١٩٣٤، وسجل زيادة جديدة في محصول البُلدان التي تنتج القطن عدا الهند.
figure
حقول القطن في السُّودان — حركة الجني.

ويقول التَّقرير: إنَّ الكميات التي استهلكها العالم من القطن المزروع في البُلدان التي ليست ضمن الإمبراطُوريَّة البريطانية تزيد على ما استهلك من القطن الأمريكي في المدة نفسها بدليل انقاص المساحات المزروعة قطنًا في الولايات المتحدة الأمريكية وتقييد المحصول الذي تم حلجه.

وعلى ذلك ينبغي ألَّا تكون هناك مشقة في إيجاد سوق للأقطان التي أنتجتها الإمبراطُوريَّة بالنسبة إلى ما يجده القطن الأمريكي، على شرط أن تبذل البُلدان التي تنتج الأقطان أقصى جهدها لتكفل وحدة النوع والشحن.

وتحسنت واردات القطن الخام من الهند كثيرًا نظرًا لزيادة العراقيل التي قامت في سبيل التجارة الدولية والجهود التي تبذلها لجنة لانكشير لترويج القطن الهندي، والتي من شأنها أن تثبِّت مركز الهند في أسواق العالم.

وتقدر المساحة المزروعة قطنًا في الهند في موسم ١٩٣٣ ﺑ ٣٣ مليونًا و٤٠٨ آلاف فدان والمحصول ﺑ ٤ ملايين و٣١٨ ألف بالة في الموسم السابق.

وانتعش محصول السُّودان في سنة ٩٣٣–٩٣٤ بعض انتعاش بالنسبة إلى ما كان عليه في الموسم الأسبق، ولكن محصول أوغندا هبط عن أقصى حد بلغه في سنة ٩٣٢–٩٣٣.

وتبذل الحكومات ذات الشأن في أجزاء أخرى من أفريقية جهودها لتنمية الإنتاج بقصد التخفيض من تأثير الأسعار المنخفضة الذي أدى إلى زيادة المحصول، والمحصول الناتج من زراعة القطن في السُّودان وأوغندا معًا يزيد دائمًا على المحصول الناتج من جميع الخمسة عشر بلدًا من بلدان الإمبراطُوريَّة مجتمعة، ولذلك يكون لمحصول هاتين المنطقتين الأثر الكبير في تقدير المحصول العام للإمبراطورية.

وأشار التَّقرير إلى محصول القطن في هذا الموسم فقال: إن محصول السُّودان وأوغندا سيزداد زيادة هامة؛ لأنَّ الحالة تحسنت في كلا البلدين فأنتجا محصولًا جيدًا من حيث الغلة والنوع.

وستتحسن الحالة أيضًا في تنجانيقا ونيسالاند وبعض المستعمرات والبلدان الأخرى المشمولة بالحماية، وسوف لا يكون محصول أوغندا كبيرًا كما يُرجى، ولكن ممَّا لاريب فيه أن مجموع محصول الإمبراطُوريَّة وقد زرع بالجزيرة ١٧٤٠٠٠ فدان يقدر محصولها بمقدار ٧٠٠٠٠٠ قنطار سكلاريدس.

تأخذ الشركة الزراعية بالجزيرة القطن وتبيعه وتحلجه في محالجها، وتعطي من الربح ٤٠ في المائة للمزارع، وتتناول الشركة ٣٥ في المائة والحكومة ٢٥ في المائة، وتترك الشركة المزروعات الأخرى للأهالي.

وجاءني تقرير مصلحة الزراعة السُّودانية بالخرطوم عن سير موسم القطن في شهر فبراير سنة ١٩٣٥ ما يلي:

السكلاريدس:

  • الشركة الزراعية بالجزيرة: المساحة المزروعة ١٥٦٠٤٠ فدان جني منها لغاية تاريخه ٤٥٢٨١٢ قنطارًا (وزن ٢١٥ رطلًا)، والمقدر لها ٧٠٠٠٠٠ قنطار.
  • شركة قطن كسلا: المساحة المزروعة ١٩١٤٣ فدان جني منها لغاية تاريخه ٧٣٢٠٧ قناطير
  • توكر: المساحة المزروعة ٣١٦٨١ فدانًا جني منها لغاية تاريخه ٨٥٥٢ قنطارًا، ومقدر لها ٤٨٠٠٠ قنطار.
  • كسلا: المساحة المزروعة ٢٨٢١٠ فدادين جني منها لغاية تاريخه ١٧٠٠٠ قنطار، ومقدر لها ٤٨٠٠٠ قنطار.
  • الدويم: المساحة المزروعة ٥٠٠ فدان، جني منها لغاية تاريخه ١٨٥٠ قنطارًا، ومقدر لها ٢٥٠٠ قنطار.
  • مزارع خصوصية: المساحة المزروعة ٦٣٥٣ فدانًا، جني منها لغاية تاريخه ١٣٧٤٣ قنطارًا، والمقدر لها ٢٢٧٠٠ قنطار.

فيكون مجموع مساحات السكلاريدس: ٢٤١٩١٧ فدانًا، والمجني منها لغاية تاريخه ٨٥٧١٦٣ قنطارًا، والمقدر لها ٧٢٣٢٠٠ قنطار.

الأمريكاني:

  • المزروع بالرَّي: المساحة المزروعة ١٢٤٢١ فدانًا المجنيُّ منها لغاية تاريخه ٣٠٩٦٧ قنطارًا، والمقدر لها ٣٣٢٦٦ قنطارًا.
  • المزروع بالمطر: المساحة المزروعة ٩٦٩١٦ فدانًا المجني منها لغاية تاريخه ١٣٨٥٧١ قنطارًا، والمقدر لها ١٣٨٥٧٠ قنطارًا.

فيكون مجموع مساحات الأمريكاني المزروعة: ١٠٩٣٧٧ فدانًا، المجني منها لغاية تاريخه ١٦٩٥٣٨ قنطارًا، والمقدر لها ٨٧١٨٣٦ قنطارًا.

وجملة مساحات السكلاريدس والأمريكاني معًا ٣٥١٢٥٤ فدانًا، والمجني منها لغاية تاريخه ٧٣٦٧٠١ قنطار، والمحصول المقدر لها ٩٩٥٠٣٦.

(٦) تقرير مندوبي النقابة الزراعية

ننشر فيما يلي التَّقرير الذي وضعه حضرات مندوبي النقابة الزراعية العامَّة في البعثة، وهم حضرات الدكتور يوسف نحاس بك، والمهندس مصطفى نصرت، والسيد أحمد أبو الفضل الجيزاوي:

تلقت النقابة الزراعية المصريَّة العامَّة في ٩ يناير سنة ١٩٣٥ كتابًا من حضرة صاحب العزة مدير الجمعية الزراعية الملكية يبلغها به أن الجمعية قد عنيت بإعداد رحلة إلى السُّودان تبدأ من ٢٦ يناير الحالي، وتكون مدتها ٢٢ يومًا ونفقتها بجملتها خمسين جنيهًا مصريًّا لكل فرد، ويقوم بها نخبة من رجالات الزراعة والصناعة والتجارة المصريين لتمكين الصلات الاقتصادية مع تلك البلاد الشقيقة، ويسأل عمَّا إذا كان للنقابة أو لأحد من حضرات أعضاء مجلس إدارتها رغبة في الاشتراك في هذه الرحلة.

فكانت هذه الدعوة ممَّا بحث فيه مجلس إدارة النقابة بجلسته يوم السبت ١٦ يناير سنة ١٩٣٥، وبعد التداول في أمر تلك الرحلة، وتبين وجوه الفائدة العامَّة للقطرين المصري والسُّوداني، منها قرر أن يندب اثنين من قِبل النقابة وعلى نفقتها؛ ليمثِّلاها في تلك الرحلة، وانتخب لهذه المهمة حضرتي صاحب العزة أحمد حمدي سيف النصر بك نائب رئيس النقابة، والدكتور يوسف نحاس بك سكرتيرها العام، ثمَّ سئل حضرات الأعضاء عمَّا إذا كان أحد منهم يرغب على نفقته الخاصَّة في الانضمام إلى القائمين بتلك الرحلة فأجاب بالاستعداد لهذه المشاركة كلٌّ من حضرات أصحاب العزة عبد العزيز رضوان بك، وأحمد أبو الفضل الجيزاوي، ومصطفى نصرت، وإسماعيل عبد الرازق بك.

ثم اعتذر حضرتا عبد العزيز رضوان بك، وإسماعيل عبد الرازق بك، فأسف زملاؤهما للضرورة التي قضت بتخلفهما، وقبيل موعد القيام من مصر فوجئ حضرة أحمد حمدي سيف النصر بك بوعكة شديدة حالت دون سفره أيضًا، فكانت لها رنة ألم لم تقتصر على زملائه المسافرين، بل اشترك فيها السُّودان وأهلوه لما له عندهم من مكانة رفيعة ومودة خالصة شائعة.٢

غير أن البعثة لم تصل إلى بورسودان حتَّى وردتها برقية من سكرتيرية النقابة تطمئنها بأن الخطر قد زال، وأن حمدي بك يتماثل للشفاء، على أن غيابه القهري قد أحدث فراغًا كبيرًا، ولو كان معنا لكانت الفائدة أعمَّ وأتمَّ.

هذا وقبل أن نبدأ الكلام على ما شاهدناه في رحلتنا يقتضينا الواجب أن نقول: إنَّ النجاح العظيم الذي أُتيح لها يرجع الفضل فيه إلى الجمعية الزراعية الملكية التي أخذت على نفسها مهمة التمهيد لتجدد الصلات بين القطرين الشقيقين بعد أن زار حضرة صاحب العزة فؤاد أباظة بك مديرها العام السُّودان عام أول، ودرس الممكنات وقدرها، وأدرك أن من المصلحة الوطنية الكبرى توثيق الأواصر بين الجارين، فوجد من حضرة صاحب السمو الأمير الجليل عمر طوسون أقوى عضد لإخراج هذه الفكرة إلى حيز التنفيذ بإيفاد هذه البعثة، ولذلك وجب لسموه ولحضرات مدير الجمعية العام وأعضاء مجلس إدارتها الكرام أجزل الشكر وأطيب الثناء.

(٧) الحالة الاقتصادية في السُّودان

معلومٌ أنَّ الأمرين اللذين لأجلهما سافرت البعثة هما: غرض تجاري وغرض زراعي، والمقصود منهما جميعًا توثيق الصلات الاقتصادية بين مصر والسُّودان، غير أنَّنا نرى بمقتضى طبيعة مهمتنا الخاصَّة أن نقصر تقريرنا فيما يتعلَّق بالبحث الاقتصادي على كلمة عامة، ثمَّ نتَّجه بتفصيل أوفى إلى البحث الزراعي، وهو أدخل في نطاق أعمال النقابة.

فأمَّا الحالة الاقتصادية، فإنَّ ما سمحت لنا إقامتنا القصيرة في ذلك القطر بالوقوف عليها من نواحيها دلَّتنا على أن مجهودًا كبيرًا قد بُذل لرفع المستوى الاقتصادي فيه؛ فشهدنا من المعدات التي هُيئت له ما يشهد بأنَّ العمل قد جرى على طريقة مُحكمة جديدة النَّمط في نواحي العمران. مثال ذلك: أنَّ بورسودان على صغر حجمه قد جُعل من أصلح المواني وأحدثها نظمًا، وأنَّ السكك الحديدية متوافرة فيها أسباب الراحة لا تُستثنَى منها درجة رابعة خصِّصت لنقل الطبقة الفقيرة من السُّودانيين فقط، وأنَّ تخطيط القرى فضلًا عن المدن قد رُوعِيَ فيه أن تكون الطرق متَّسعة والمباني مشيَّدة على ما يلائم الجو السُّوداني من ارتفاع الأسقف وتصميم المساكن ممَّا لوحظ به خاصة أن تكون لكل منزل واجهة بحرية وأخرى قبلية، وذلك لأنَّ الهواء في الشتاء يأتي من الشمال، أمَّا الهواء الرطب فيأتي في الصيف من الجنوب؛ نظرًا لتكاثر الأمطار في الجهة الجنوبية، وجميع مباني العمال وكثير من المباني الأخرى كالاستراحات جُعلت جملونية مستديرة لغزارة المياه التي تجود بها السماء.

على أن الذي يسترعي الباحث الاقتصادي هو ما يقوم في وجه التعمير من عقبات أخصُّها قلة اليد العاملة وضعف الإنتاج المادي والفكري في ستة أشهر من السنة يشلُّ فيها القيظ المحرق والهبوب والسموم والتقلبات الجوية العنيفة كلَّ حركة، ومن تلك العقبات الحاجة إلى المال، فهي بادية بشكل واضح، وقد كان للأزمة العالمية تأثير كبير في مرافق البلاد الاقتصادية، وبالتَّالي في موارد الحكومة التي لم تستطع موازنة دخلها مع خرجها إلَّا في عام ١٩٣٣ وفي عام ١٩٣٤، وقد اضطرت إلى تقليل عدد الموظفين الإنكليز وغيرهم، وتخفيض مرتبات الآخرين تخفيضًا ذا بال، وكان من جرَّاء ذلك طبعًا ومن جرَّاء إمحال الحاصلات الزراعية وأخصها القطن في معظم أعوام الأزمة أن ثُبِّطت العزائم إلى حدٍّ ما وتعطل المضي في تنفيذ ما كان مرسومًا من البرامج لإنهاض البلاد اقتصاديًّا وزراعيًّا، ولا بدع فيما نذكره؛ فإنَّ الزارع الذي كدَّ طول عامه في تلك السنين العِجاف لم يكد يحصل على نتيجة يسد بها رمقه عند بيع حاصلاته، فممَّا نجم عن هذه الحالة أنَّها منعت كثيرين من زرع أراضيهم، وخصوصًا من زرع القطن في جهات متعددة.

فإذا أضفنا إلى ما تقدَّم ما مُنيت به الحاصلات عامَّة في أرجاء المعمورة من انخفاض أسعارها، ولمحنا جسامة مصاريف النَّقل في السُّودان، خصوصًا بين الخرطوم وحلفا، وجسامة تكاليف حلج القطن التي تبلغ أربعة أمثالها في مصر؛ عذرنا أولئك الذين فضلوا ترك معظم أراضيهم بائرة.

ولقد صارحنا بعض المسئولين بأنَّ خطة الحذر هي التي يجب اتِّباعها، لا سيَّما وأنَّ الطبيعة نفسها تُفاجئ البلاد بين وقت وآخر بنكبات زراعية متأتِّية من احتباس الأمطار أو فرط تدفقها، ومن اشتداد الرياح ودرجة حرارتها، وما ينتاب الحاصلات من الآفات الزراعية التي يشتد فتكها حين تكون الأحوال الجوية ملائمة لها، وهم يرون من ثمَّ ضرورة الاعتصام بتكوين احتياطي مالي لتلك الطوارئ المتكررة، ويؤثرون عدم التَّوسع في المشروعات إلَّا بمقدار.

فيُستخلص ممَّا بُيِّن آنفًا أن ظروف السُّودان الاقتصادية المالية لا إغراء فيها ولا مطمع لرأس مال الماليين؛ إذ إنهم يجدون من المخاطر ما لا يشجعهم على توظيف أموالهم في السُّودان إلَّا إذا توقعوا ربحًا يزيد على ما يكتفون به في بلاد أخرى ذات استقرار اقتصادي يطمئنهم على غَدِهم. وعلة أخرى يجب الإيماء إليها هي مسألة الضرائب وأنها غير ثابتة، بل تفرض السنة بعد السنة حسب حالة المحصول. والجاري الآن أن ما يؤخذ من الفدان المزروع هو عشرة قروش.

أمَّا الأمن فمستتبٌّ في البلاد وإن كانت الوحوش الضواري لا تحترمه في أحوال جمَّة. ثمَّ إنَّ السُّودانيين محبون للنظام، فإذا كان في ذلك شيء من الفضل لأساليب الحكومة فلا جرم أنَّ جُلَّ الفضل فيه لأخلاق السُّودانيين الأصليين الذين يميلون إلى احترام القوانين ورعاية الحدود، وهذا إلى ما توسمنا فيهم من صفات الشمم والإباء وما أعجبنا به من معاملة الموظفين منهم للجمهور. ولا نغالي إذا قلنا إنَّها معاملة يُضرب بها المثل. وربما كان لجري الموظفين الإنكليز على نفس هذه الخطَّة من المحاسنة سبب يستفاد من هذه القدوة بجانب السبب الآخر الذي يخامر الظن، وهو تحببهم إلى الشعب.

وما ينبغي لنا أن ننتهي من هذه النظرة العامَّة في الحالة الاقتصادية بالسُّودان من غير أن نذكر ما تأثرت به تلك الحالة على أثر خروج الجيش المصري من تلك البلاد، فإنَّ الأهلين أنفسهم يُبدون أسفهم لذلك الجلاء الذي حرم ديارهم المنافع التي كانت تصيبها من نفقات ذلك الجيش، وكانت لا تقل عن مليون جنيه سنويًّا في بلد ميزانيته أربعة ملايين جنيه.

فإذا تبيَّن المصري كلَّ ما أوردناه من الاعتبارات بقي عليه قبل أن يقصد إلى السُّودان للتملك أو للاشتراك في عمل اقتصادي آخر أن يحصل على اطمئنان في ذهابه وإيابه وفي إقامته وممارسته لأعماله هناك.

ولا يتحقق ذلك إلَّا بأن ترفع جميع العراقيل الموضوعة الآن دون دخوله السُّودان ومكوثه فيه، وبعبارة أصرح يجب إذا أريد ارتباط البلدين بربط وثيقة من الوجهة الاقتصادية أن يُعامل المصري في ذلك القطر من جميع الوجوه كما يعامل السُّوداني إذا حلَّ في مصر.

أمَّا إذا تفاوتت هذه المعاملة أو وقع أي شرط وقيد دونها فذلك في رأينا يكون هادمًا من الأساس للدعائم التي يقوم عليها استئناف الصلات الاقتصادية، ومفسدًا لنموها وازدهارها؛ إذ ليس لناصح أن ينصح بتجديد تلك الصلات إلَّا إذا استوثق من زوال هذه العقبة.

(٨) الحالة الزراعية في السُّودان

بعد هذه النظرة العامَّة يتعيَّن علينا تفهم حالة السُّودان من الناحية الزراعية بتفصيل أوفى كما أشرنا. وهذه الناحية ستتناول تعرف طبيعة التُّربة ووسائل الرَّي ومسألة اليد العاملة ومسألة النَّقل، وكل أولئك في المناطق التي زرناها وسنذكرها واحدة واحدة.
  • (١)
    منطقة طوكر: مساحتها القابلة للزراعة نحو ٣٥٠ ألف فدان تستمد ريَّها من نهر بركة الذي يفيض في شهر يولية أو أغسطس من كلِّ عام فيغمر من تلك الأراضي نحو ٦٠ ألف فدان. وفي العام التَّالي ينتقل فيضانه تدريجيًّا إلى شقة أخرى منها، تاركًا جانبًا ممَّا غمره في العام الماضي، وآخذًا بجانب مقابل من هذه الشقة، وهكذا دواليك عامًا بعد عام إلى أن ينتهي بإرواء الجزء الأخير من المنطقة المذكورة بعد مضي خمسين عامًا في قولهم، ثمَّ يعود سيرته الأولى. فجملة ما يزرع في كلِّ عام من منطقة طوكر لا يعدو ما يقرب من ستين ألف فدان. والأهلون يتبعون فيضان النَّهر ويزرعون القطن المغمور على الطريقة البعلية؛ لأنَّ مياه النَّهر لم تضبط في أقنية تسمح بالتَّصرف فيها كما هو الشأن في نهر القاش الذي سيأتي الكلام عليه.
    ومعدن هذه الأرض رملي خفيف جملة ورملي صرف في بعض النقط وخصبه متوسط، ومحصوله من القطن السكلاريدس — وهو الوحيد الذي يزرع فيه — تقل كميته، ولكن تجود تيلته في الأغلب. وقلة إنتاج الفدان متأتية من وجود كمية من الرمل وفيرة تمتص رطوبة الأرض بسرعة، وليس هناك وسيلة لسقي الزرع وهو قائم إلَّا ما تدره السحب. ويلاحظ أنَّه لا يمكن زرع كلِّ المساحة المروية في كلِّ عام قطنًا؛ لأنَّه يتخلَّل تلك المساحة بقاع رملية صرفة لا تصلح لإنباته، ففي هذا العام مثلًا لم يزرع من الستين ألف فدان التي غمرت سوى ٤٢ ألف فدان قطنًا و٧٥٠٠ فدان ذرة، وقد أتلف الهبوب والهيباي عشرة آلاف فدان من جملة هذه المساحة، فبقي ٣٢ ألف فدان يقدرون محصولها في هذا العام بنحو خمسين ألف قنطار، وهو محصول يعد قليلًا. أمَّا محصول الفدان في الموسم الماضي فلم يزد على القنطار. والزرع هناك على امتداد متر بين الشجيرة والأخرى ليستبقى ماء كاف تستطيع الشجيرة أن تمتص منه ما يكفيها، ولذلك يكون ارتفاعها من ٩٠ سنتيمترًا إلى مترين ونصف متر. والجمع يبتدئ من نوفمبر لغاية يونيه؛ لأنَّ التلقيح يستمر طوال هذه المدة. والزرَّاع هم قبيلة «الهدندوة» التي يسميها الإنكليز «فازي وازي»، أي أصحاب الشعور المنقوشة، وهم شجعان لهم مواقع مشهورة، غير أنَّهم لا يحسنون خدمة الزراعة.

    وطريقة الاستغلال هي أنَّ الحكومة تقسم الأرض على الأهلين لزراعتها كلَّ سنة، وتُعطيهم البذرة، وعند حلول المحصول تأخذ هي الربع والأهالي الثلاثة الأرباع بعد خصم ثمن البذرة، وفيما يتعلَّق بهذه البذرة يلاحظ أنهم يعطون أردبًا واحدًا لزرع ٢٠ فدانًا، فإذا أتلفت العوامل الجوية بعضها فهذا البعض لا يدفع المزارع ما يخصه من ثمن البذرة. ومحصول طوكر يحلج في محلج دباس بسواكن، وينقل إلى ذلك المحلج من سوق طوكر التي تتوارد إليها المحصولات بديكوفيل ممتد منها إلى ميناء سنكات ثمَّ بحرًا إلى سواكن.

  • (٢)
    منطقة نهر القاش: هذه المنطقة شهيرة أيضًا بدلتا القاش ومحطتها أورما.

    ينبع نهر القاش في بلاد الحبشة، ثمَّ يمر ببلاد الأرترية من جهة تيسيناي، حيث عمل الإيطاليون خزانًا لزرع بعض الأراضي سيأتي الكلام عنها، ثمَّ يهبط في دلتا القاش بالسُّودان، وفيها أقيمت جسور وحفرت ترع للتحكم في مياهه وقت الفيضان وتوجيهها إلى أي جزء من الأراضي الصالحة للزراعة بهذه الدلتا. وعادة تبتدئ مياه هذا النَّهر بالفيضان في شهر أغسطس، ويبقى جاريًا حوالي شهرين بعدهما يجف تمامًا. ونظام الرَّي هو أنهم حفروا المياه في ترعة رئيسية تتفرع منها ترعة فرعية في كلِّ سنة يستخدم منها ما تحتاج إليه الأفدنة المخصصة للزرع في تلك السنة. وطريقة الزراعة هي البعلية، ومساحة هذه الدلتا حوالي ٢٦٠ ألف فدان يزرع كلَّ سنة منها حوالي ٥٠ ألفًا بالتَّناوب. وفي هذه السنة بلغ ما زُرع ٤١ ألف فدان منها ٧٥٠٠ للذرة والدخن والفاصوليا والباقي للقطن، وقد تلف من هذا الباقي حوالي ٥٠٠٠ فدان بالعوامل الجوية، فيبقى ٢٨ ألفًا وخمسمائة فدان زُرع في أغلبها السكلاريدس، وفي سائرها صنف أمريكاني مؤقلم في السُّودان اسمه ويبر.

    هذه الأراضي تعدُّ من أخصب أراضي الطَّمية لا أملاح بها إلى عمق مترين، ومحصول الفدان منها بين قنطارين وأربعة قناطير تبعًا للسنوات، وهو محصول يقل كثيرًا عمَّا كان يجب أن تجود به أرض بذلك الخصب، ولكن زرعه على الطريقة البعلية وعدم إمكان مده بالمياه في أوقات افتقاره إليها، وطروء العوامل الجوية المعاكسة، وقلة الأيدي العاملة والفلاحين الممرَّنين، كلُّ تلك من علل هذا النقص في المحصول.

    ويلاحظ أنَّه من غير المستطاع عمل آبار ارتوازية لتساعد على الرَّي؛ لأنَّ طبقات الأرض في هذه المنطقة ليس بها عرق مائي يكفي لإرواء مساحة كهذه مزروعة قطنًا، حتَّى إن المقيمين في أورما يجلبون مياه الشرب من مسافة ١٩ كيلومترًا باستخدام طلمبة ارتوازية صغيرة، وهذه المياه تخزن في فناطيس، ويوزع منها على كلِّ مزارع.

    وقد لاحظنا أيضًا أن شجيرات القطن على مسافات أضيق من المسافات بين شجيراته في طوكر. والسبب في ذلك هو أن هذه المنطقة تستطيع أن تحفظ الرطوبة أكثر من تلك فتغذي عددًا أوفر من النباتات.

    كانت دلتا القاش في الماضي في حيازة شركة كسلا الزراعية البريطانية. فلمَّا أُنشئ مشروع الجزيرة على النِّيل الأزرق استبدلت الشركة بأرضها هذه أرضًا في منطقة الجزيرة، وأصبحت الآن دلتا القاش ملكًا للحكومة تعطيها للأهالي بحصة قدرها ٤٠ في المائة لها و٦٠ في المائة للأهالي، وعليهم في مقابل هذه الحصة مصاريف الزرع والجني وثمن التقاوي. أمَّا الذرة والحبوب الأخرى التي يزرعونها فكلها تترك لهم.

    وممَّا يجدر بنا ذكره أنَّ القطن الويبر الأمريكي يغل في السنوات المقبلة وفي بعض النقط الجيدة ٩ قناطير من الفدان.

    وقبل الانتقال إلى الكلام على منطقة الجزيرة استصوبنا أن نتكلم على جزيرة أبا المملوكة ملكًا حرًّا للسيد عبد الرحمن المهدي، ومساحتها حوالي ٤٠٠٠٠ فدان لسيادته، منها ٣٠ ألفًا، والباقي لأفراد أسرته.

    هذه الجزيرة واقعة في وسط النِّيل الأبيض، وتربتها ذات طمية خفيفة يتخللها الرمل، ويزكو فيها الزرع، وهي تُروى من مياه النِّيل الأبيض قبلي خزَّان جبل الأولياء بواسطة أربع مضخات منها اثنتان احتياطيتان قطر كلٍّ منهما ١٦ بوصة، واثنتان جديدتان قطر كلٍّ منهما ٢٢ بوصة، تديرهما آلتان قوة كلٍّ منهما ٢١٠ أحصنة «ماركة بترس»، وتدوران بالغاز الوسخ، وهاتان المضختان ومحركاهما حديثة. رخص لها بالتركيب والإدارة في سبتمبر سنة ١٩٣٣، أي بعد اتِّفاقيَّة المياه، وكُلفة الإرواء للفدان الواحد تبلغ ٨٠ قرشًا طول السنة.

    يزرع في هذه الجزيرة القطن السكلاريدس، وقد وجدنا منه عند زيارتنا ٣٥٠٠ فدان ستزاد في العام القابل إلى ٥٠٠٠٠، ثمَّ تتوالى زيادتها عامًا بعد عام، ويتوقَّعون أن يكون محصول الفدان من القطن ٥ قناطير في هذه السنة، ويزرع في الجزيرة أيضًا من الحبوب ما مساحته ٣٥٠٠ في هذا العام.

    والزراع هناك نوعان: المقيمون والمستقدمون، فالمقيمون وهم من أتباع المَهديَّة يعملون بلا أجر معيَّن مقابل أن يتكلف السيد بنفقاتهم ويربي أولادهم في مدرسة أنشأها في الجزيرة لهم، وهو يعاملهم معاملة الأب لأبنائه، وأما المستقدمون فلهم ٤٠ في المائة من محصول القطن تخصم منها تكاليف الزراعة كافة.

    أمَّا الطريقة الزراعية في جزيرة آبا فمماثلة للتي تتَّبع في الجزيرة مع فروق بسيطة والري كلَّ ١٢ يومًا مرة.

  • (٣)
    منطقة الجزيرة: وتسيطر عليها النقابة الإنكليزيَّة المعروفة بنقابة زراعة القطن في السُّودان Sudan Cotton Plantaion مساحتها أربعة ملايين فدان تقريبًا، منها مليون غير صالح للزراعة، وقد باشرت النقابة المذكورة زرع القطن منذ ١٧ سنة، فزرعت حتَّى الآن ٧٠٤ آلاف فدان، منها في هذه السنة ١٦٦ ألف فدان كلها سكلاريدس و١٠٠٠٠ فدان زُرع فيها قطن جديد اسمه X ١٥٣٠ — وهو نوع استنبت في السُّودان وسط في الجودة بين السكلاريدس والجيزة «٧»، ولكنَّه ذو غلة وفيرة وأكثر مقاومة لفتك الآفات.
    والذي أمكننا معرفته من طبيعة أرض الجزيرة أنَّها طمي إلى عمق يتراوح بين ٦٠ و٨٠ سنتيمترًا، وبعد ذلك طبقة مشبَّعة بأملاح الجبس Gypson وسلفات الصوديوم وقليل من البيكربونات؛ ممَّا جعلها صلدة لا تستطيع المياه ولا جذور النبات اختراقها. وممَّا لوحظ عند أناس اتصلنا بهم ممن خبروا عناصر تلك الأرض أن هذه الأملاح تصعد ببطء تدريجي كلَّ سنة إلى سطح التُّربة، وإذا لم تعمل لها مصارف فسيأتي يوم — على قولهم — تكون فيه الجزيرة غير صالحة للزراعة، ونذكر هنا أن الدكتور بولز نفسه يتَّفق مع هؤلاء رأيًا فيما يتعلَّق بضرورة إنشاء المصارف بالجزيرة إذا ما أريد الاحتفاظ بخصبها. على أن هناك رأيًا فنيًّا لخبراء من المشتغلين في تلك الجهات مفاده أن عمل المصارف إذا استُطِيع فعلًا لا يكون ذا جدوى؛ نظرًا لكثرة الأملاح التي تمنع المياه من اختراق الطبقة السُّفلى. وهناك رأي مخالف لهذا يجهر به بعض الخبراء الإنكليز المشتغلين بالجزيرة، ويدافعون عنه بقولهم: إنَّه لا حاجة إلى المصارف في الجزيرة، وإنَّهم للتثبت منها زرعوا في حقل تجارب بركات قطعة مساحتها نحو فدان مدة ١٧ عامًا متوالية، وقد عاينَّا فيها محصولًا يقدر بما يناهز قنطارًا أو نصف قنطار في هذا العام، ويفسرون انحطاط محصول الجزيرة في الأعوام الماضية بقولهم: إنَّه ناشئ من إصابته بالآفات، ومن عوامل جوية أخرى، مثل تساقط الأمطار الغزيرة بعد الزراعة مباشرة، وعلل أخرى.
    على أن زرع الجزيرة في هذه السنة مقبل إقبالًا ارتاح له أصحابه، وقد يخرج الفدان في المتوسط ثلاثة قناطير أو تنيف قليلًا. وكان في العامين الماضيين ممحلًا، وفيما قبلهما كان تارة يمحل وتارة يقبل. ولعل سبب ذلك نوع التُّربة التي يكون قائمًا عليها الزرع في مداولة السنين، وليس لنا أن نجزم بصحة هذا الرأي، ولكن من المحقق أنَّ هناك عوامل عدة معاكسة: منها التقلبات الجوية، ومنها الآفات التي تنتاب الزرع وتفتك به فتكًا يشتد أو يضعف تبعًا لدرجة الجو لها، ونذكر من تلك الآفات:
    • (١)
      مرض الذراع الأسود (black arm): الذي يكون فتكه ذريعًا من كثرة الرطوبة التي تحدثها الأمطار الغزيرة في أشهر أغسطس وسبتمبر وأكتوبر. ويقول بعضهم في السُّودان — ولم يقم دليل على صحة قولهم — إن هذا المرض نقل إلى السُّودان من مصر، وكان موجودًا في بذرة الدومين الذي أخذت منها التقاوي في أحد الأعوام السَّابقة، وهذا المرض لا يفتك بالزراعة في مصر لجفاف الجو في يونية ويولية وقلة مياه الري. ودواؤه عندهم إحراق الحطب أو إتلاف البذرة.
    • (٢)
      تجدُّع الورق Curly leaf: وهو مرض يسبِّب التواء الورق وعجز الشجرة عن النمو. وللتفادي من عوده يحرق الحطب والورق المتساقط.
    • (٣)

      دود اللوز: ولم يستطيعوا مقاومته إلى الآن كما هي الحال في مصر. أمَّا ريُّ الجزيرة فمن الترعة الرئيسية المأخوذة من خزَّان سنار، وهي لسقي ٢٠٠٠٠٠ فدان فقط، ولا ينتفع بها إلَّا من الكيلو ٥٧، حيث تتشعَّب منها فروع لسد حاجة منطقة الجزيرة وجميع الرَّي بالراحة، وبين كلِّ دور وآخر اثنا عشر يومًا. ويجري البحث الآن في إرواء الأراضي العالية الواقعة قبل الكيلو ٥٧ إما بآلات رافعة أو بعمل حجز على الترعة الرئيسية لتعلية منسوب المياه إن تيسَّر.

      وبمقتضى اتِّفاقيَّة المياه بين مصر والسُّودان غير مصرح للجزيرة أن تأخذ مياهًا مطلقًا من خزَّان سنار من إبريل لغاية يولية ما لم تستوفِ مصر حاجتها من المياه، وفي الغالب فإنَّ الجزيرة لا تحتاج إلى المياه في هذا الوقت، والأمطار تنهمر بكثرة في المنطقة الشمالية. يسقط منها ما يناهز ٣٥ سنتيمترًا في السنة، وفي الجنوب حوالي ٥٠ سنتيمترًا.

      ويزرعون في الجزيرة من الحبوب الذرة. أما البرسيم فلا يجود فيها البتة بسبب الأملاح الآنف ذكرها.

      وعدد الزراع قليل، وهم سودانيون لا يكفون لفلاحة الجزيرة بأكملها، بل يتحتَّم جلب اليد العاملة له من الخارج.

      والأرض توزَّع على الأهالي كالمتَّبَع في مصر، وعند نضج المحصول تأخذ الحكومة أولًا ٤٠٪ منه لتسديد قسط قرض مشروعات الجزيرة، ثمَّ يأخذ الزارع ٣٨٪ يخصم منها مصاريف الزرع وحلج القطن وتصديره لإنكلترا، والباقي وهو ٢٢٪ تأخذه النقابة.

      وفي الجزيرة بجوار واد مدني حقل تجارب يدعى حقل بركات أجريت فيه منذ سبعة عشر عامًا اختبارات متعددة نتيجتها أنَّه بعد أن كانت الدورة الزراعية كلَّ ثلاث سنوات مرة أصبحت كلَّ أربع سنوات مرة ابتداءً من هذا العام.

      والأرض التي يزرع بها القطن في عام تزرع بعده إمَّا فاصوليا أو ذرة وتترك بورًا سنتين، ثمَّ تزرع قطنًا مرة ثانية. وقد لوحظ أنَّ الأرض التي تزرع فيها الفاصوليا تنتج عند زراعتها قطنًا في الدورة التَّالية أكثر غلة من التي تزرع ذرة.

      وجميع الحرث بالآلات تقوم به النقابة على أن تخصم تكاليفه بالضبط وبلا زيادة من حصة الزارع. وبذرة القطن جميعًا يستخرج منها زيتها، ثمَّ تجعل كُسبًا، وذلك لتقليل الآفات. ولهذا فبذرة الجزيرة للتقاوي تجلب دوامًا إمَّا من مصر أو من منطقتي طوكر والقاش. وجميع قطن الجزيرة يباع في ليفربول بمعرفة النقابة. وتزرع في الجزيرة سنويًّا مساحة موازية لمساحة القطن من الحبوب، مثل الذرة والفاصوليا، والمحصول بأكمله يترك للزارع. ويلاحظ أن هذه الحبوب تزرع على مياه الأمطار ويلاحظ كذلك أنَّ القمح لا يجود في هذه المنطقة.

  • (٤)
    منطقة الخرطوم وما حواليها: يوجد بحري الخرطوم حقل تجارب حكومي يسمَّي شمباط فيه إخصائيون بعلمي النباتات والكيمياء يبحثون في كلِّ ما هو متعلق بالزراعة من مثل تحسين طرقها، واستنبات الأنواع الجيدة منها، ومقاومة آفاتها. وقد وجدنا ذلك المكتب منظمًا تنظيمًا يستوقف النَّظر، وألقى فيه علينا المستر ماسي العالم الكيمائي محاضرة تناول بها علل القطن واحدة واحدة شارحًا تطوراتها ووسائل علاجها، ففهمنا من بيانه أنَّهم استطاعوا أن يتغلَّبوا على مرض الذراع الأسود وتجدُّع الأوراق: الأول بتحويل البذرة إلى كسب بعد استخراج زيتها، والثاني بإحراق الحطب كما ذكرنا آنفًا. وقد ظهر لهم أن القطن المسمى X ١٥٣٠ ذو مناعة طبيعية ضد التواء الورق. والمنتظر أن هذا الصنف من القطن سيكون له المستقبل في الجزيرة.
    وشاهدنا هناك بعض الأصناف المصريَّة الجديدة التي ما زالت وزارة زراعتنا تختبرها بعد أن استنبتتها. ومن الأسف أن اﻟ X ١٥٣٠ لا وجود له في حقل تجارب وزارتنا، وكان يجب أن نجرب أصنافهم كما يجربون أصنافنا. ووجدنا في الحقل قطعًا شطرنجية زرعت فيها أصناف جديدة يختبرونها ويحافظون على شجيراتها بتغطيتها بملاءات الشاش على الطريقة المعروفة.

    ووجدنا أيضًا قطعة أرض زرعها نامٍ نموًّا عظيمًا بحيث لا يقدر محصول الفدان بأقل من ٧ قناطير، ويا حبذا لو جرَّبت وزارة الزراعة والجمعية الزراعية الملكية هذا النوع في نطاق واسع وعلى توالي السنين لمعرفة ما تنتهي به التجربة بعد تأقلم هذا الصنف مدة طويلة.

    وممَّا لمحناه أن حقل التجربة هذا متسع بما يزيد كثيرًا على مساحة حقل التَّجارب بالجيزة. وهو يروى بطلمبات تديرها ماكينات ديزل مركبة على صنادل من حديد لسهولة نقلها من محطة إلى أخرى، وهذه الصنادل تعلو وتنخفض مع ارتفاع مياه النَّهر وانخفاضها. وبهذه الطريقة يقتصد من نفقاتها ما يستطاع لو ثبِّتت على بناء.

    أمَّا الأراضي الأخرى الواقعة بحري الخرطوم مباشرة، والتي يملكها الأهالي، فقد زرنا منها مزارع حضرات عزيز كفوري أفندي، ومستر كونتوميخالوس، والدكتور معلوف، وإبراهيم بك عامر. فوجدنا التُّربة من الطَّمي الخفيف ذات خصب فوق المتوسط، ووجدنا في المزرعة الأولى قمحًا يبشر بمحصول جيد جدًّا، ولكنهم لا يزرعون فيها القطن بالنظر لفداحة تكاليف حلجه ونقله وما تتقاضاه الحكومة من إتاوة عليه؛ ممَّا يجعله غير مربح بأسعاره الحالية.

    وفي الحقول الأخرى قد اقتصروا أيضًا على الأصناف الشتوية، وتركوا القطن في هذا العام عدا مستر كونتوميخالوس فقد زَرَعَه. وزرعه دون المتوسط.

    وهناك حدائق فاكهة شجرها نامٍ أحسن نموٍّ، ولكن قيل لنا: إنَّ ثمار البرتقال واليوسفي بالرَّغم من كبر حجمها ليس لها طيب المذاق الذي للثمار المصريَّة، وذلك أنَّها تنضج عاجلًا بتأثير الحرارة الزائدة.

    أمَّا عامة الأصناف الأخرى كالليمون المالح والتين والجوافة والمنجة وخصوصًا الموز فجيدة، غير أنَّنا علمنا أن بعض هذه الحدائق تُصاب بذبابة الفاكهة، ولا يستعملون فيها طريقة العلاج المستعملة في مصر، وهي الرش بالفلوسليكات الصوديوم، حتَّى إن بعضهم طلب منَّا إرسال التَّعليمات الخاصَّة باستعمالها، وقد أجبناه إلى هذا الطلب.

  • (٥)
    العطبرة وبربر: هذه الأراضي من معدن أراضي بحري الخرطوم تقريبًا مع تفاوت قليل، وتصلح مثلها لزراعة الحبوب والقطن على ما ظهر لنا، وهي ملك لأهالي السُّودان ولفريق قليل من المصريين.

    وتروى هذه المنطقة بالآلات الرافعة، وجوها أكثر ملاءمة للزرع؛ نظرًا لموقعها الجغرافي.

    ففي زيداب مثلًا مساحة قدرها ٥٠٠٠ فدان يفضل قطنها قطن الجزيرة غلة وتيلة، وتجود فيها الحبوب وخصوصًا القمح، فقد يبلغ محصول الفدان منه ٨ أرادب.

    وعلمنا أن ثمن الفدان الجيد فيها ممَّا يروى من الساقية ١٠ جنيهات. وكثير من أهالي هذه المنطقة يؤثرون أن يُستخدموا سُفرجيَّة في مصر والسُّودان فيَحرمون الزراعة من يد عاملة تساعد على إبقائها.

    وفي مجموع هذه المنطقة، المسمَّاة بمديرية الشمال، يتمتع الأهالي بسعة من العيش بسبب انصرافهم إلى الخدم المذكورة، وهم يفحشون في تعاطي الشاى بحيث إنَّه أحصى ما يستنفده كلُّ واحد من السكر، فوجد أنه (٤٢) رطلًا في العام مع غلاء السكر لاحتكار الحكومة إياه، في حين أن البريطاني لا يستهلك من السكر أكثر من (٢٠٠) رطل في السنة. ويحسن أن نذكر هنا أنَّ في العطبرة عددًا كبيرًا من المصريين تستخدمهم مصلحة السكة الحديدية التي جعلت تلك العاصمة مركزها العمومي، وفيها ناد كبير للمصريين أكبر من النادي المصري بالخرطوم.

    نضيف إلى ما تقدم أن الدُّوم مزروع بكثرة في هذه المنطقة، كما أنه يوجد أيضًا في جهات أخرى من السُّودان، ومحصوله يُعدُّ من موارد ذلك القطر؛ فإنَّ الدُّوم يستعمل لصنع الأزرار في أوربا، وقد أُنشئ مصنعان لعمل تلك الأزرار في العطبرة أحدهما لمصري استوطن السُّودان والآخر لإيطالي. وهذه الأزرار تصدَّر إلى إنكلترا وإيطاليا بنوع خاص، حيث تُصبغ وتُعرض للبيع. ولمَّا كان في أسوان أشجار من الدُّوم كثيرة العدد فيحسن أن تتَّجه الأنظار إلى استغلال ثمارها صناعيًّا كما هو جارٍ في السُّودان.

  • (٦)
    تيسينايا في الأريترية: أما وقد انتهينا من وصف مناطق الزراعة بالسُّودان فلا يخلو من الفائدة أن نقول كلمة عن منطقة تيسينايا الإيطالية في الأريترية.

    ذهبنا إليها من كسلا، وهي تبعد عنها نحو ٦٢ كيلومترًا: يقوم بزراعة تلك المستعمرة شركة إيطالية يديرها السنيور جاسباريني الحاكم العام للأريترية سابقًا، وهي تُروى من نهر القاش، حيث أقيم خزَّان يقال إنه أنفق عليه نصف مليون جنيه، وبوساطة هذا الخزَّان تأخذ تيسينايا المياه بالقدر المتفق عليه بين حكومة السُّودان والحكومة الإيطالية؛ أي إن منسوب المياه إلى حد معين للأرترية، وما زاد على ذلك فهو للسُّودان.

    والمساحة التي تسنَّى لهم زرعها قطنًا إلى الآن ٢٥٠٠ فدان يعطي الفدان منها في هذه السنة ( ) قنطارين ونصف قنطار من السكلاريدس.

    والأشموني لا يصلح في هذه المنطقة كما لا يصلح الأمريكي لشدة إصابته بدودة اللوز، وقد جُرِّب زرع الأمريكي والسكلاريدي في قطعة واحدة من الأرض فأصيب الأول بالدودة دون الثَّاني. ومحصول العام الماضي كان رديئًا، ومعدن الأرض متوسط الجودة، غير أن طريقة الزرع هي البعلية، والفرق في أسلوب الزراعة هو أن المسافة بين الشجيرة والأخرى ١٣٠ سنتيمترًا تبعًا لتجاربهم، والذي تبينَّاه أنَّه أُنفق على إعداد هذه المنطقة للزراعة ما لا يؤمل أن تعطيه من الربح ما يتناسب معه مهما جادت.

    أمَّا طريقة الزراعة، فإنَّهم يوزعون الأرض على الأهالي، ويقرضونهم مبالغ على كلِّ عمل من أعمال الزرع، حتَّى إذا ما حلَّ حين المحصول يكون مجموع ما اقترضه كلُّ شخص ٤٠ ليرا عدا ثمن التقاوي، وكل ذلك يُخصم من حصته التي توازي ٥٠ في المائة. وهناك محلج للقطن فيه معصرة لزيت البذرة يصنع منه صابون لتوزيعه بالثمن على الأهالي.

    أمَّا الكُسب فيُستعمل غذاءً للمواشي أو سمادًا للزراعة. والذرة جميعها للفلاح.

    ومياه القاش تحصر في ترع على مثال ما يجري في دلتا القاش. ولما كانت المساحة القابلة للزراعة في هذه المنطقة ٢٦ ألف فدان. فهم يرجون أن يعدوا ٢٥٠٠ فدان أخرى للقطن في العام القادم.

    على أن زيادة الأراضي التي تزرع قطنًا متوقفة على كمية ما يفيض من نهر القاش سنويًّا.

•••

إلى هنا انتهى بنا وصف ما وقفنا عليه من الحالة الزراعية في المناطق التي زرناها. ونودُّ قبل ختم هذا التَّقرير لو يسمح لنا بكلمة نزيدها، هي، من جهة، معوان على التَّقدُّم الزراعي السريع في السُّودان. ومن جهة أخرى قد تكون مرشدًا للمصري الذي يريد أن يمد يده إلى يد السُّودان لتحقيق هذا التقدم.

من القواعد المأثورة التي جرت عليها جميع الأمم حين تعتمد إلى تأسيس اقتصادي في بلد بِكْر كالسودان أن تُمنح كلَّ وسائل المؤازرة والترغيب، وفي مقدمتها بالطبع تسهيل طرق الزراعة نفسها، ثمَّ توفير وسائل نقل الإنتاج بكُلفة قليلة، وتشجيع تصديرها إلى الخارج ولو بمنح جوائز للتصدير ما زالت تُمنح في كثير من البُلدان. وقد قلنا: إنَّ تكاليف النَّقل باهظة إلى حد أنها تُثني الأهلين عن بعض مزروعات تجود في أرضهم؛ لأنَّ تلك التكاليف تحمِّلها ما لا تطيق، فترخيص النوالين أمر ضروري، وكذلك ترخيص أجرة البريد والتلغراف، وتعبيد الطرق لسيارات النَّقل، ومن أكبر المغريات للمصريين على استيطان السُّودان لغرض زراعي أن تُوصلَ البُلدان من الشلال إلى حلفا بخط حديدي علمنا أن إنشاءه لا يصادف عقبات طبيعية كبيرة.

ولا ننسى بجانب ذلك ما يكون من شأن لمد الأسلاك التليفونية بين القطرين.

ويسرُّنا أن نرحب كلَّ التَّرحيب باللجنة الاقتصادية المشتركة التي شُرع في تشكيلها، وستجمع من رجالات مصر ومن رجالات السُّودان خيرة من تُناط بهم الشؤون التي ستهتم بها تلك اللجنة، فإنها تستطيع أن تذلل أولًا فأولًا كلَّ صعوبة تحول دون تنمية صلات البلدين وتقويتها.

أمَّا مسألة تملُّك المصريين بعد أن تكون قد أزيلت جميع العوائق التي أشرنا إليها في أثناء هذا التَّقرير، فهي مسألة نسبية وتقديرية يرجع فيها إلى رأي كلّ راغب في التملك: فقد يكون اقتناء أرض متوسطة الجودة أمرًا مربحًا إذا أمكن الحصول عليها بثمن ملائم، وأمكن استغلالها باطمئنان، واستطاع صاحبها أن يستكثر لها اليد العاملة، وهي من كبريات المصاعب في السُّودان كما أشرنا آنفًا.

وجملة القول: إنَّنا ننصح للذين يخطر لهم هذا التملك — خصوصًا إذا أخرجت إلى حيز الوجود فكرة إنشاء شركة مصرية سودانية لهذا الغرض — أن يكون ما تبدأ به دراسة جميع العوامل الاقتصادية والزراعية في المنطقة المراد شراؤها، فتُناط تلك الدراسة بإخصائيين يباشرونها محليًّا. فإذا تملكت تلك الشركة بعد المباحث الوافية، فهي ستفيد المصريين أفرادًا بخبرتها المكتسبة من ممارسة العمل، وسيتسنَّى لها أن ترشدهم إرشادًا محكمًا مأمون العاقبة بالقدر الميسور.

وإذا تكلمنا عن التملك فلا يفهم ممَّا نرمي إليه أنَّنا نقصد استنبات صنف معين كالقطن، بل الذي نراه وننصح به أن يتخير المصريون المناطق الشمالية التي يجود فيها القمح وتعود زراعته فيها على أصحابه بكسب وافر، لا سيما وهو لا يحتاج إلى كثرة من الأيدي العاملة، فإنَّ هذا الاختيار يفيد مصر كما يفيد السُّودان؛ إذ يغني الأول عن استيراد القمحات الأجنبية يوم نجدها في متناول اليد بالسُّودان واستيرادها منه يوسع نطاق الصادرات المصريَّة إليه. وفي ما ذكرناه عن نجاح مزارع القمح التي شاهدناها ما يشجع على درس هذه الفكرة بعناية خاصة.

هذا وإنا لنتمنى من صميم الفؤاد لذلك القطر الذي أكرم وفادتنا إكرامًا شرح صدورنا، وحرك فينا أواصر الود والإخاء القديم، ثمَّ زادنا سرورًا بما تبيَّناه فيه من طيب عنصر الأهلين وتعطشهم للتقدم والرقي أن يخطو خطوات واسعة في سبيل الرفاهية والعمران، وأن يشترك معه المصريون في هذا العمل الجليل اشتراكًا يعود عليهم وعلى جيرانهم الكرام بالخير الوفير العميم.

القاهرة في ١٠ مارس سنة ١٩٣٥
يوسف نحاس، مصطفى نصرت، أحمد أبو الفضل الجيزاوي

(٨-١) مشاهدات عن زراعة القطن في وادي النِّيل

تقرير قدمه فؤاد أباظة بك إلى لجنة القطن الدولية المشتركة المنعقدة بالقاهرة في ١٧ و١٨، و١٩ فبراير سنة ١٩٣٤
ننشر التَّقرير المذكور المؤرخ في ١٧ فبراير سنة ١٩٣٤ فيما يلي:

يزرع القطن في جميع البلاد التي يمر النِّيل بها، ويقدر ما تنتجه تلك البلاد، وهي مصر والسُّودان وأوغندا والحبشة، بنحو أحد عشر مليونًا من القناطير، وإذا أضفنا نحو نصف مليون قنطار مقدار ما تنتجه البلاد المتاخمة مثل الكنغو البلجيكي وكينيا والصومال الطلياني والأرترية، وهي البلاد المكونة لأفريقيا الشرقية والشمال الشرقي، لكان الناتج العام نحو ١١٥٠٠٠٠٠ — حصة مصر فيها نحو تسعة ملايين قنطار هذا العام، والباقي وقدره مليونان ونصف تخرجه البلاد الأخرى: تنتج الأوغندا منها (٢٦٠٠٠٠) بالة، أي ١٣٠٠٠٠٠ قنطار باعتبار وزن البالة في هذه الأصقاع ٥٠٠ رطل، وكلها من النوع الأمريكاني.

أما السُّودان فمحصوله ٧٠٠٠٠٠ قنطار، منها ٦٥٠٠٠٠ من القطن السكلاريدس المصري.

وفي الأوغندا يزرع القطن في مساحات صغيرة مبعثرة على التلال والأحراش إلخ، ومن الغريب أن مجموعها ينتج هذا المقدار الكبير. ولقد قمت بسياحة في المنطقة القطنية الأكثر أهمية وزرت غيط التَّجارب في بوكالاسا الذي لا يبعد كثيرًا عن بحيرة كيوجا، وهناك يشتغل الإخصائيون في تحسين صفات القطن. أما مستعمرة كينيا فيظهر أنها تجد من زراعة البن والشاي والحاصلات الزراعية الأخرى أحسن موردًا من القطن، وكذلك الحبشة؛ فإنَّ إنتاجها قليل. ولا تزال زراعة القطن عند بدئها في الصومال الطلياني عند جنالي وأفجوي على نهر الوبي شبالي، وكذلك في الإرترية عند تسينايا على نهر الجاش.

أما السُّودان المصري الإنكليزي ففيه حركة كبيرة في أرض الجزيرة على النِّيل الأزرق وفي كسلا على دلتل نهر الجاش، وفي طوكر على حوض نهر بركة، وكل هذه المناطق الثلاثة تزرع القطن السكلاريدس، وما بقي من السُّودان فيزرع القطن الأمريكي.

ويزرع قطن طوكر وكسلا على طريقة ريِّ الحياض بعد فيضان بركة والجاش اللذين لا يتصلان بالبحر، بل تفيض مياهها الغزيرة في الفلاة، وتعقبهما زراعة القطن.

وينبع نهر الجاش في الحبشة مارًّا بالأرترية، وقد أقامت عليه الحكومة الإيطالية قناطر عند مزرعة تسينايا، ثمَّ يمر بكسلا، وهناك حُفرت ترع رئيسية لتأخذ ماء الفيضان منه ويتفرع منها مساقٍ كثيرة.

وفي سنة ١٩١١ شرَّفني جلالة مليكنا المحبوب بالاتِّفاق مع عظمة المرحوم السُّلطان حسين كامل أبي الفلاح، مؤسِّس الجمعية الزراعية ورئيسها الأول، لزيارة الصومال الطلياني لبحث إمكان زراعة القطن هناك عل جوانب مجرى نهر الوبي شبالي — وعند عودتي من هذه الرحلة زرت الإرترية والسُّودان، وكانت إقامة سدود على نهر الوبي شبالي ونهر الجاش والنيل الأزرق مشروعات وأفكارًا وأمانيَّ.

أما في رحلتي الأخيرة في يناير وفبراير سنة ١٩٣٤، فقد رأيت أن تلك المشاريع قد حققت بالفعل، وزاد عليها جبل الأولياء الذي رأيت العمل فيه قائمًا علي قدم وساق، كما رأيت تعلية أصوان قد تمت.

ليس من شأن هذه المذكرة بحث المشروعات الكبرى على النِّيل من إقامة قناطر وسدود وخزانات. ولكن لا مناص من الإشارة إليها لما لها من العلاقة المباشرة للتصرف في مياه النِّيل لإنتاج مقادير جديدة من القطن للعالم.

فبإقامة خزَّان سنار على النِّيل الأزرق (وكان مسمى خزَّان مكوار) خلقت مساحة جديدة في الجزيرة مقدارها ٣٠٠٠٠٠ فدان، زرع منها ٨٠٠٠٠ قطنًا في سنة ٢٥–٢٦ بعد افتتاح الخزان و١٠٠٠٠٠ فدان في موسم ٢٦–٢٧، وقد زيدت هذه المساحات من وقت لآخر حتَّى بلغت الآن ٧٥٠٠٠٠ فدان، منها ١٨٠٠٠٠ فدان تزرع قطنًا هذا العام، أي نحو ربع المساحة الجاري ريها، والتي ينتظر أن تنتج نصف مليون قنطار. أما مساحة الجزيرة نفسها فتبلغ أربعة ملايين من الفدادين أو أكثر، وتتعشم حكومة السُّودان أن تزرع منها ثلاثة ملايين في النهاية وفي المساحة التي يمكن وصول المياه إليها من الترعة التي حفرت بموازاة النِّيل الأزرق، والتي تأخذ المياه مباشرة من خزَّان سنار، ولكن زيادة الأراضي التي تزرع وزيادة مناسيب المياه التي تؤخذ خاضعة لاتفاقات ومراقبة من الحكومة المصريَّة ولها علاقة مباشرة بكميات المياه التي تخزن من تعلية خزَّان أسوان، وإقامة خزَّان جبل الأولياء وما يتلوهما من مشاريع الرَّي الكبرى في بحيرة ألبرت نيانزا، وشق مجرى النِّيل في منطقة السدود، ومشروع إقامة سد في بحيرة تسانا في الحبشة، وربما على فيكتوريا نيانزا نفسها في أوغندا.

لم يمكِّني ضيق الوقت من زيارة بحيرة تسانا مع أن الحكومة الحبشية تفضلت بالموافقة على وضع إحدى طياراتها تحت تصرفي لتنقلاتي في الحبشة، ولم أتمكن من الانتفاع بهذا العرض الثمين؛ لأني كنت مرتبطًا بمقابلة لجنة القطن الدولية يوم ٤ فبراير ببورسودان لأقوم بزيارتي للسُّودان مع حضرات أعضاء اللَّجنة، ولمَّا لم تحضر اللَّجنة وعدلت عن المجيء، قمت بالرحلة وحدي مع أسفي وأسف الجهات المختصة بالسُّودان التي رحبت كثيرًا بتلك الزيارة — ومن واجبي أن أقرر مع السرور أن جميع التسهيلات لقيامي بهذه الزيارة ووقوفي على دخائل ما يجري هناك من التَّصرف في المياه إلخ وزراعة القطن، قد قدمت إليَّ على أحسن وجه مُرْضٍ. وأضيف على ذلك أن الرجال الإداريين والفنيين في منطقة الجزيرة والجاش كشفوا لي عن مصاعبهم عن طيب خاطر، وكما أن في زراعة القطن عندنا مصاعب وآفات وأمراضًا فعندهم قسطهم منها.

ويظهر أن أحسن قطن السُّودان هذا العام هو ما تخرجه دلتا نهر الجاش، ويأتي بعده قطن الجزيرة، أما قطن طوكر فقد علمت أنَّه مصاب إصابة كبيرة بمرض التواء الورق، وكلها منزرعة سكلاريدس.

أما الأشموني والأقطان المصريَّة الأخرى فلم تفلح زراعتها في السُّودان. ودل القطن الأمريكي على صلاحية زراعته في باقي أقطار السُّودان، سواء على المطر أو بالري، ولكنَّه في الوقت نفسه يصاب بالآفات إصابة خطيرة عند زراعته في الجزيرة.

وينتظر أن ينتج الفدان من السكلاريدس في أرض الجزيرة ٢٫٧٥ قنطارًا في المتوسط في مساحة قدرها ١٨٠٠٠٠ فدانًا كما أسلفنا أو نحو نصف مليون قنطار بالتقريب، وكذلك مائة ألف قنطار أو تزيد في منطقة الجاش ومائة ألف قنطار أخرى من طوكر وباقي السُّودان.

وهناك آراء متضاربة عن مستقبل أرض الجزيرة، ومن المصاعب التي تعترض زراعة القطن فيها مرض البلاك آرم ومرض التواء الأوراق، وهما أشدهما خطورة، ويلي ذلك دودة اللوز المصريَّة والسُّودانية ودودة اللوز الحمراء، ثمَّ الشلل والسوس والحشرة المسماة تربس.

وقد عثر الفنيون على نبات من السكلاريدس فيه مناعة ضد مرض التواء الأوراق أسموه إكس ١٥٣٠، وسيزرع منه ١٠٠٠٠ فدان في الموسم القادم، وينتظر أن تزرع الجزيرة كلها منه في عام سنة ١٩٣٥–١٩٣٦.

وقد يتوقف على نجاح هذا القطن الجديد انتعاش الآمال بزيادة متوسط محصول الفدان في الجزيرة كلها من نصف قنطار إلى قنطار.

ويلاحظ أن مرض البلاك أرم موجود في ترجمته الحرفية الذراع الأسود؛ إذ إن الفروع واللوزات المصابة في أنسجتها تسود ثمَّ تنشف ويتعطل نبات القطن عن النمو والإنتاج.

ولحسن الحظ ليس في مصر أمطار كثيرة كأمطار السُّودان تساعد على انتشاره، ولكن ذلك لا يمنع أن يراقب سير هذا المرض بكل انتباه خشية ما لا تُحمد عقباه، والأمطار في السُّودان تنزل بكثرة وغزارة عادة في يولية وأغسطس، وهو وقت زراعة القطن في السُّودان، فتنتشر الأمراض بمساعدة المطر والرطوبة، ويقال إن تفريق الأرض بعد تقليع القطن بآلة خاصة في شهر مايو تفيد في قتل المرض وجارٍ عمل تجارب على ذلك.

ويزرع القطن بالجزيرة الآن في ربع الأرض المنزرعة بدلًا من الدورة الثلاثية لتفادي أضرار الحشرات والأمراض الفطرية إلخ.

وتظهر الأملاح في بعض البقاع وعلى جوانب الترع فتشق مصارف سطحية لتصريفها.

أما شق المصارف — كما نعرفه بمصر — فلا ينفع في الجزيرة ذلك؛ لأن أرضها طينية ثقيلة لا تتشرب مياهها بسهولة؛ ولذلك لا تنفذ منها المياه للمصارف.

على أن جميع هذه المصاعب يشتغل في مقاومتها رجال قديرون من مصلحة الزراعة ونقابة زراعة القطن بالسُّودان من فنيين وإداريين، وقد أعجبت بالمباحث القيمة المنتجة في غيط تجارب الجزيرة في واد مدني وغيط شمباط في الخرطوم بحري، وهناك نقط تجارب ومشاهدات أخرى في أنحاء الجزيرة.

وفي دلتا الجاش غيط تجارب قريب من بلدة أروما، ورأيت فيه مساحة صغيرة منزرعة من القطن الجديد إكس ١٥٣٠، وإنه ليلذ للناظر أن يرى مساحة شاسعة من القطن في دلتا الجاش تبلغ آلافًا من الفدادين عليها ثوب الصحة والنضارة خالية من الآفات والأمراض. لُوَيْزاتها ما بين مفتحة وخضراء سليمة حتَّى القمة من أعلى النبات

ويلاحظ أن زرع القطن في السُّودان وأوغندا والصومال والأريترية يبدأ في شهر يوليو، ويبدأ الجمع في شهر ديسمبر رويدًا رويدًا حتى شهر مايو، وفي بعض الجهات يمر الجمَّاعون كلَّ أسبوع لالتقاط كلِّ ما يفتح، وهذه الطريقة تعطي قطنًا نظيفًا متجانس الدرجة، كما أنَّه لا يزرع في كسلا وطوكر والجزيرة إلَّا صنف واحد هو السكلاريدس، وليس هناك ما نعهده في مصر من خلط رتب القطن بعضها ببعض لتوليف ما نسميه TYPE تيب. وإني أهنئ مصلحة الزراعة بالسُّودان لما أصدرته من القوانين واللوائح لنقاوة بذور التقاوي، ومنع خلط أنواع الأقطان ببعضها في المحالج والمكابس كما قد يحصل أحيانًا عندنا في مصر، كخلط السكلاريدس بالبليون والفؤادي أو الجيزة ٧ أو غيرها في غرفة الفرفرة بالمكابس.
وقد يتساءل إخواننا الغزَّالون في لجنة القطن الدولية الممثِّلة لإنكلترا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا وسويسرا وتشيكوسلوفاكيا إلخ: ماذا عملت الحكومة المصريَّة في القرار الإجماعي الذي أصدره مؤتمر القطن الدولي في مصر سنة ١٩٢٧ لمنع خلط أنواع القطن بعضها ببعض في مكابس ميناء التصدير وجوابنا — هو بعينه ما أعلنَّاه في مؤتمر بارشلونة في سنة ١٩٢٩ ومؤتمر باريس سنة ١٩٣١ ومؤتمر براج سنة ١٩٣٣ — أنَّنا غير قادرين على إصداره بسبب هذا النِّظام الممقوت المسمَّى امتيازات الذي لا تزال مصر مثقلة بحديده وأغلاله، ولعلنا نتمكن قبل مؤتمر نابلي أو روما سنة ١٩٣٥ من فكها وإصدار هذا القانون الذي طلب تشريعه ممثلو الدول الأجنبية في مؤتمرات القطن الدولية بإجماعهم وإجماع الممثلين المصريين من الزراع.٣

ولقد وصلتُ صباح اليوم من رحلتي لإدراك أول انعقاد للجنة القطن الدولية في القاهرة، وتمكنت من تجهيز هذه المذكرة المختصرة على وجه السرعة، وإني آمل أن أكون قد نجحت في وصف زراعة القطن في وادي النِّيل، وإني مستعد للإجابة على كلِّ ما يُقدم لي من الأسئلة والاستعلامات.

وإني مدين لأصحاب السعادة حاكم السُّودان وأوغندا وكينيا والصومال الطلياني والأرترية، والذين كان لي السرور بمقابلتهم جميعًا (عدا سعادة حاكم كينيا)، وحضرات رجالهم الزراعيين والفنيين والإداريين الذين تفضلوا بتسهيل مأموريتي على وجه مُرضٍ.

وقبل أن أختتم كلمتي أبادر بالقول بأنَّ العناية تامَّة بإعطاء مصر ما يلزمها من مياه الرَّي، واستعمال ما يزيد عن احتياجاتها في ريِّ وزراعة أراضي إخواننا السُّودانيين، ولكن الأحوال في الوقت الحاضر من الوجهة الاقتصادية والتِّجاريَّة البحتة ليست على ما يرام، بل يلزم زيادة التعاون والتآزر الزراعي والتجاري. أما كيف يكون ذلك فمن الوجهة الاقتصادية البحتة فإنَّ ذلك على حسب تخيلي الضعيف فليس من الصعوبة بمكان. أما من الوجهة السياسية فليس من شأن هذه المذكرة. ا.ﻫ

فؤاد أباظة

(٨-٢) رأي عبد الحميد بك فتحي

تحدث حضرة صاحب العزة عبد الحميد فتحي بك — ناظر مدرسة الزراعة العليا بالجيزة سابقًا وعضو مجلس إدارة الجمعية الزراعية وأحد أعضاء البعثة الاقتصادية — عن رأيه فقال:

سأتحدث كرجل زراعي مصري، وأول ما أسجله لإخواننا السُّودانيين بالفخر هو شدة تعلقهم بمصر وأحوالها وأبنائها، ولا يمكنني أن أوفيهم حقهم من الشكر والتقدير على ما أحاطوا به بعثتنا من الحفاوة والترحيب، ولا أبالغ إذا قلت: إنَّه كان لقاء أخوين طال عليهما البعد، ولا أخص بهذا فردًا أو هيئة، فالكل كان سواءً في الغبطة والبشر شعبًا وحكومة، زرَّاعًا وتجارًا وصنَّاعًا. حتى إنَّنا شعرنا بلذعة التقصير في القيام بهذا الواجب من زمن بعيد.

ولم تكن هذه الرحلة فكرة طارئة أو بنت اليوم، بل كانت أمنية تجيش في نفس المصري والسُّوداني على السواء، فالنيل قد جمع بينهما من قرون وآماد، فلم نشعر عند حلولنا في ربوع السُّودان إلَّا أننا في جانب من جوانب وادي النِّيل، فاللغة والدين والعادات كلها واحدة. وأين سرت لا ترى إلَّا أنهارًا وعيونًا ووديانًا كما ترى في مصر، وحتى النباتات والمزارع والطرق متشابهة تشابهًا كليًّا، فهناك القطن والقمح والفول وغيرها.

يزرع القطن في أنحاء كثيرة في السُّودان، منها ما يزرع بنظام الرَّي، وأكبر ميادينه الجزيرة، ومنها ما يزرع القطن السكلاريدي، ومنها ما يزرع «بعليا»، وهو ما يزرع بعد غمر الأرض بالمياه ولا يروى بعد ذلك، وهذا النوع يزرع في كسلا وتوكر. ففي كسلا أعدت طرق هندسية لغمر الأرض بالمياه. أما أرض توكر فتغمرها مياه نهر بركة وروافده، وتصادف أثناء وجودنا هناك أنهم كانوا يجنون القطن؛ لأنَّه يزرع عندهم في شهر يوليو وأغسطس.

والقطن البعلي المذكور نامٍ لدرجة كبيرة، وقد بلغ ارتفاع شجيرات القطن نحو ١٧٠ سنتيمترًا، ويغل الفدان منه نحو ثلاثة قناطير، وهو من النوع الأمريكي، وهو يزرع عادة على مسافات كبيرة، سواء بين الخطوط وبعضها أو بين الشطرات.

ويجرب هناك الآن نوع جديد من القطن يسمى «X ١٥٣٠»، وهو مستنبت من السكلاريدي المصري، وميزته أنه يقاوم مرضي «الذراعة الأسود» و«تجعد الأوراق»، وهاتان الآفتان هما أظهر أمراض القطن في السُّودان.

أما قطن الجزيرة فتقل غلة الفدان منه عنها في توكر وكسلا ومديرية بربر، ويرجع ذلك لكثرة الرَّي وللآفات الزراعية السالفة الذكر.

(٨-٣) زراعات الحبوب

شاهدنا مساحة واسعة لا تقل عن ثلاثة آلاف فدان في بلدة «البوقة» بعد مدينة «بربر»، مزروعة قمحًا وفولًا وقطنًا، ولم نتمكن من تقدير درجة نمو القطن؛ لأنَّه كان قد نزعت شجيراته في الوقت الذي وصلنا فيه. أمَّا القمح والفول فمن أحسن الأنواع، ولا يقل نموها عمَّا عندنا، والسبب الأكبر في نجاح الزراعة بتلك الجهة راجع إلى الرَّي؛ فإنَّ للحكومة طلمبات للرَّي بها.

(٨-٤) المحاصيل الأخرى

أمَّا المحاصيل الأخرى فكثيرة ويطول الكلام عنها، وأهمها السمسم والأذرة بأنواعها والصمغ والدوم. وتقام للدوم سوق كبيرة يباع فيها ويصدَّر إلى الخارج، ولعل أطرف ما أحدثك به عن الدوم الذي لا تعتد به في مصر أنَّه من أمتن العناصر لعمل الأزرار، ومنه تعمل أفخر أنواع الأزرار في العالم.

ولما عُرفت فائدته هذه؛ أنشأ أحد التُّجار معملًا للأزرار في العطبرة، ومنه تخرج أنواع الأزرار المختلفة، وليس ينقصها في الوقت الحاضر إلَّا عمليتا (التخريم) والصبغ، وهي تصدر إلى إنكلترا لهاتين العمليتين فقط، وسمعنا من المشرفين على هذا المعمل أنهم سيتمكَّنون قريبًا من إعداده بآلات التخريم وألوان الصباغة.

لا يخفى عليك أن السُّودان واسع جدًّا، وأن التُّربة لا تختلف كثيرًا عن أرض مصر، فهناك أراضٍ سوداء وصفراوية ورملية وحجرية كما هو الحال في مصر وإن اختلفت في النوع من جهة وفي عناصر تركيبها من جهة أخرى، غير أنني أستطيع أن أؤكد لك من الآن أنه يمكن زراعة مساحات لا تقل عن مساحة المنزرع في مصر إن لم تزد، ولا ينقصها إلَّا المال والأيدي العاملة.

وقد تألَّف لاتصال القطرين لجنتان واحدة في مصر من أعضاء البعثة وأخرى من إخواننا السُّودانيين، وسيكون الاتِّصال بينهما مستمرًّا لبحث المواضيع الاقتصادية التي تهم البلدين وتنمية العلائق، وتسهيل سُبل المواصلات والنقل وغيرها، وقد رأينا بادئ الأمر أن يكون اجتماعنا سنويًّا ودوريًّا، بمعنى أننا نجتمع سنة في القاهرة وسنة في الخرطوم لتوثيق العلائق وتنمية موارد القطرين الزراعية والاقتصادية والعمرانية.

وممَّا يُؤسف له أن الاتِّصال التليفوني بين مصر والسُّودان لا وجود له في حين تتصل مصر بجميع بقاع الأرض تليفونيًّا. وقد كان هذا من أهم المطالب التي عنيت بها البعثة، كما أن البعثة رأت أنه لإحكام الروابط بين البلدين، وخاصة من الوجهة الاقتصادية، أن تخفض أجور التلغراف ورسم الطرود ونولون البضائع إلى مثلها في مصر، وعلى ما أظن ستكون هذه المطالب محل عطف السلطات هنا وفي السُّودان.

وقد خطرت لأعضاء البعثة فكرة إنشاء شركة مصرية سودانية يكون غرضها الرئيسي مشترى أراضٍ بالسُّودان وزرعها، وهي فكرة جديرة بالتقدير إلَّا أنها تحتاج لبحث طويل. وتسود الجميع هنا وهناك روح الموافقة على تأليف هذه الجمعية. واعتقادي أن القانون المعمول به في السُّودان بخصوص عدم تمليك الأرض لغير السُّودانيين لا يحول دون ذلك؛ لأنَّ هذا القانون صدر من زمن طويل، وكان المقصود منه وقت سنه عدم تمكين بعض الجاليات الأوربيَّة من شراء أراضٍ واسعة كان غرضهم الرئيسي منها المضاربة والكسب. ا.ﻫ

(٨-٥) أراضي دنقلا

الأراضي في دنقلا مساحات صغيرة، وتزرع نخيلًا في الغالب.

(٨-٦) أراضي حلفا والخرطوم

والأراضي بين حلفا والخرطوم عالية.

وكبار الزراع: كفوري، ويملك حوالي ٤٠٠٠ فدان، ومسيو كونتو ميخلوس ٤٠٠٠ فدان، ثمَّ إبراهيم عامر بك وغيره.

وكان في بربر شركة الزيداب، وكانت تزرع عشرين ألف فدان.

أسهم شركة السُّودان الزراعية تباع في بورصة لندن لأي إنسان، وكانت قيمة السهم جنيهًا، ثمَّ صعد إلى أربعة جنيهات، ثمَّ إلى ٢٢ شلنًا، وسعره بين الصعود والهبوط.

ولا يجوز للسُّوداني أن يبيع أرضه إلَّا بإذن من مدير المديرية، إذ يفضل السُّودانيُّ المشتري على المشترين غير السُّودانيين، وأراضي الجزيرة مسجلة باسم الأهالي.

وقد قسمت الشركة الزراعية أرض الجزيرة إلى أقسام صغيرة كلُّ قسم يسمى «حواشة». والأرض ملك للأهالي، تولت الحكومة عنهم تأجيرها للشركة. والشركة تصلح الأرض وتسلمها إلى الذين يقبلون زراعتها، وتعطيهم التقاوي وسلفية.

تأخذ الشركة القطن وتحلجه في محالجها، ويرسل القطن إلى إنكلترا.

(٨-٧) زراعة الدخان

زراعة الدخان مباحة في المديريات التي كانت تزرعه قبل الثَّورة المهدية، مثل جبال النوبة ودارفور، وهو على العموم دخان غير جيد، وقد حرم السيد أحمد محمد المهدي — زعيم الحركة المَهديَّة — زراعته، ولما عاد الحكم الحالي في السُّودان اقتصرت الإباحة في المديريات التي كانت تزرعه قبل الثورة.

(٨-٨) جمعية زراعة القطن البريطانية٤

وقد نشرت في ٧ إبريل ١٩٣٥ جريدة «مانشستر جارديان» حديثًا للسر وليام همبوري — رئيس جمعية زراعة القطن البريطانية — وقد عاد أخيرًا من مصر والسُّودان. ومما قاله: «إن زارعي القطن في السُّودان يتوقَّعون الحصول في هذا الموسم على محصول أحسن بكثير ممَّا حصلوا عليه في بضع السنوات الأخيرة. وقد حصل الزارع منذ عامين على بذرة جديدة تقاوم دودة القطن، ولكنَّها لا تقاوم الآفة المعروفة باسم «بلاك آرم» مقاومة تامة، وهذا النوع من البذرة تنتشر زراعته في السُّودان.

وجاء السكلاريدي الجديد والقديم بغلة جيدة، وينتظر أن يزيد المحصول على ضعفه في العام الماضي، وأن يكون من نوع جيد، وعلى ذلك فإنَّ الآمال بتحسن الحالة الاقتصادية في البلاد أقوى منها منذ بضعة أعوام، كما أن هناك تفاؤلًا عامًّا يشمل البلاد.

وأعرب السر وليام عن ارتياحه إلى زيادة القطن الذي يزرع من بذرة القطن الأمريكي على مياه الأمطار بواسطة أناس لم يشتغلوا من قبل بزراعة شيء للتصدير، وقد كان لهذا تأثير كبير من حيث المدنية، وتقدمت الزراعة تقدمًا عظيمًا في المناطق الواقعة في جبال النوبة. والسُّكان هناك من الإفريقيين المعروفين بالخشونة من طراز رجال العصابات، وهم يعيشون على الفطرة، فلم يتعودوا ارتداء الملابس. وكانوا فيما مضى يُظهرون نفورًا كبيرًا من الاحتكاك بالمدنية، فأخذوا الآن يهبطون من منازلهم الجبلية، ويزرعون كميَّات معينة من القطن في أراضيهم في السهول. وهم يدفعون ضرائبهم من النقود التي يحصلون عليها من بيع القطن، ويشترون القلائد والعقود والملح والسكر.

ويقدر محصولهم من نوع القطن الأمريكي الذي زرعوه بمياه الأمطار في هذا الموسم بنحو ٣٠٠ ألف جنيه. ويجد ولاة الأمور أنفسهم الآن أمام مشكلة تحمل بعض الذين يشتغلون بالمشروعات التِّجاريَّة على الذهاب إلى هذه المناطق لإغراء هؤلاء الجماعة بالبضائع القطنية وغيرها. ومن الصعب تقدير عدد السُّكان، ولكن لا بد أن يكون كبيرًا.

وحكومة السُّودان مغتبطة بما لزراعة القطن من الأثر في نشر الحضارة بين السُّكان، ولك أن تقدر معنى هذا القول متى علمت أن الأمر لا يتطلب وضع جنود للحراسة.

ومن المناطق الأخرى التي يزرع فيها القطن بمياه الأمطار، المنطقة الجنوبية القريبة من حدود أوغندا، وبين الملاكال ومنجلا، حيث تقطن في الغالب قبائل الشلوك والنوير التي لم يسبق لها الاشتغال أيضًا بزراعة شيء من المحصولات التي تُباع. وقد أقلعت هذه القبائل الآن على أن يشن الغارة بعضها على بعض وعن نهب المواشي وسبي النساء، وشرعت تعيش هذه العيشة النافعة.

والتقدم في هذه المناطق ليس سريعًا كما هو الحال في منطقة النوبة، ولكن الصناعة في تقدم.

وتحتضن الحكومة الآن جميع الأعمال الخاصَّة بزراعة القطن وتتولى أمرها. وقد بذلت كلَّ ما في وسعها في أثناء الضيق الاقتصادي لترويج الصناعة التي لو تركت للمصالح التِّجاريَّة لأصيبت على الأرجح بصدمة قوية.

أما سياسة الرئيس روزفلت الخاصَّة بحفظ أسعار القطن، فقد نفعت السُّودان نفعًا كبيرًا. ا.ﻫ.

تقرير السر وليم همبوري رئيس جمعية زراعة القطن

أصدرت جمعية زراعة القطن البريطانية التَّقرير الذي وضعه السر وليم همبوري عن زيارته الأخيرة لمناطق القطن في مصر والسُّودان في مايو سنة ١٩٣٥. وقد كان من أغراض زيارته درس التسهيلات اللازمة لخزن القطن في بورسودان، والسعي لمعرفة التأثيرات الضارة — إذا كانت هناك تأثيرات — في بالات القطن التي تخزن لمدة طويلة.

ويقول السر وليم همبوري: إنَّه «لم يجد عيوبًا تذكر، سواء في طرق تخزين القطن أو شحنه من ميناء بورسودان، حيث توجد تسهيلات للتخزين يمكن مقارنتها مقارنة حسنة بالتسهيلات الموجودة في موانئ إنكلترا.

ومعامل الحليج التي تملكها الحكومة السُّودانية في بورسودان حسنة، ومن المحتمل أنَّها لا تقل من حيث معداتها الحديثة وإتقان العمل فيها.

وينتظر الحصول على محصول جيد من نوع القطن الأمريكي من المناطق التي تُروى بمياه الأمطار في جبل النوبة والشقة الواقعة في جنوبها بين الملاكال ومنجلة. وقد تقدمت زراعة القطن تقدمًا عظيمًا في جبال النوبة، بحيث يقدر مجموع المحصول في هذا الموسم بنحو ٣٤ ألف بالة من القطن الذي يتراوح طول تيلته بين و قيراط، وهو يساوي ٨٠ إلى ١٠٠ بنط من كنتراتات القطن الأمريكي، وتوجد في هذه المنطقة بضعة معامل للحليج سيزاد عددها قريبًا».

ويقول السر وليم: «إن صناعة القطن هذه كلها أنشأتها مصلحة الزراعة بمساعدة الموظفين الإداريين، وهم لا يزالون يرعونها بعناية، وإذا ذكر المرء بين هؤلاء السُّكان الذين كانوا منذ أعوام قليلة لا يعرفون شيئًا عن المدنية ولا ينتجون إلَّا غذاءهم وحده، وكانوا مصدر قلق للسلطات المحلية، فإنَّه لا يسعه إلَّا الثناء على الذين أقنعوا هؤلاء القوم الذين كانوا يعيشون عيشة العُزلة والبداوة بأن يهبطوا من المرتفعات ويصغوا إلى نصيحة الرجل الأبيض ثمَّ ينتجوا محصولًا يمكن عرضه في الأسواق تربو قيمته على ربع مليون جنيه يجدون فيها ما يساعدهم على تسديد الضرائب وشراء ما يحتاجون إليه من الطعام وحاجيات المعيشة الأخرى.

وهذه المنطقة لم تستغلَّ تمامًا، ومن المحتمل جدًّا الحصول منها على مائة ألف بالة أو أكثر في المستقبل القريب.

وليس هناك شك في أن أرض الجزيرة — بل جميع مناطق القطن في السُّودان — ستعطي في هذا الموسم محصولًا طيبًا، سواء من حيث الكمية أو النوع، والواقع أنه ينتظر أن تعطي أرض الجزيرة غلة تزيد على أربعة قناطير للفدان، وقد تصل إلى الرقم الذي بلغته في سنة ١٩٣٢ وهو ٤٫٠٣ قناطير.

وبلغت غلة الفدان في كسلا قنطار مقابل ٥٫١٧ في سنة ١٩٣٢، وهو محصول حسن جدًّا.

وكل هذا القطن من نوع جيد يمكن استعماله، ولكنَّه يختلف قليلًا من حيث النوع؛ نظرًا للأنواع المختلفة التي تزرع من بذرة السكلاريدي التي لا يستهدف بعضها للأمراض والآفات. ا.ﻫ.

(٨-٩) الزراعة في منطقة سنكات

وصف الأديب صالح عبود بالخرطوم بحري «سنكات» فقال:

سنكات إحدى مراكز مديرية (كسلا) محاطة بالجبال، هواؤها جاف ومعتدل طول أيام السنة، وهي من أكبر مصايف السُّودان، يقصد إليها المصيفون بكثرة من مختلف الجهات المجاورة وغيرها. حتَّى إن المساكن قد تضيق بهم في بعض الأحايين فيضطرون إلى السُّكْنى في جيبت التي تبعد عنها بنحو ٨ كيلو تقريبًا، وهي نقطة بسيطة الآن، وجميع أشغالها مرتبطة بسنكات. أما سوق سنكات فلا بأس به، غير أنَّ حركته التِّجاريَّة تنشط في أيام المصيف التي تبتدئ غالبًا من شهر مايو وتنتهي في أواخر أغسطس من كلِّ سنة، وأحيانًا تمتد لغاية أكتوبر، وذلك يتوقف على الرَّي في إقليم طوكر، وبعد انتهائه يغلق أغلب أصحاب الحوانيت محلاتهم ويقصدون إلى بورت سودان وسواكن وطوكر؛ لأنَّ المصيِّفين معظمهم من مزارعي طوكر.

شجرة الجوافة تؤتي أكلها في سنتين إلى ثلاث من تاريخ غرسها، بينما في الخرطوم لا تثمر في أقل من خمس سنوات، وهذا ممَّا يدلُّ دلالة أكيدة على أن أرض الأولى أخصب وأنتج للفاكهة لأنَّ طينتها مخلوطة بالرمل، وأرض الثَّانية طينية لا تصلح كثيرًا للفاكهة إلَّا بعد مزج تربتها بالرمل والسباخ.

وفي سنكات بعض بساتين، ولكن ماذا يوجد في هذه البساتين يا هل ترى؟ الجواب لا شيء، إلَّا القليل من البقول الصيفية التي تكثر زراعتها في الصيف، كالملوخية والباذنجان والفجل والجرجير والبطيخ الذي ينتج بكثرة في بعض السنين ويكون موردًا لربح عظيم، وليت أصحاب هذه الجناين فكروا في زراعة ما هو أدر للربح وأنفع كأشجار الفاكهة والبطيخ، ولا شك في نجاحها لو عرفوا كيفية توليدها بطريقة التجنيس واستجلاب البذور من مصر والخرطوم، على أني لا أقول لهم أن يتركوا زراعة الخضروات التي تعوضهم أتعابهم، وقد يلاحظ بالسوق كثير من أنواع الفاكهة والخضروات المستجلبة من داخلية البلاد والخارج في أيام المصيف التي يمكن الاستغناء عن استجلابها فيما لو خُصَّت هذه الأرض بعناية من الحكومة بتشجيع أهالي سنكات ماديًّا لزراعة أنواع الفاكهة هناك، كان يمكن تصدير الفاكهة من سنكات للخارج، وقبل أن أختم هذه العجالة أريد أن أنوِّه عن الرمان الذي ينتج بكثرة في أركويت، ولكن مع الأسف الشديد لا يوجد من يهتم باستثماره، وأركويت لا تبعد عن سنكات بأكثر من عشرين كيلو، وهي العاصمة الصيفية لصاحب المعالي حاكم السُّودان العام، وفيها فندق كبير تحت إشراف مصلحة السكة الحديد يؤمه المصيفون الأورباويون برحلات منظمة تديرها المصلحة المذكورة في أوقات مخصوصة من السنة، ولا يوجد فيها فندق للوطنيين.

وفي سنكات توجد جنينة للحكومة منتظمة بالنسبة لبقية الجنائن الأخرى يحتكرها نادي توفيق بك في المصيف، ولا يوجد بها من الأشجار الصالحة إلَّا بعض من شجيرات النخيل والرمان، ومن هنا يظهر لي أن أصحاب الجنائن لم يفكروا، ولولا ذلك لما أهملوا هذه الأرض التي تدرُّ عليهم أضعاف ما ينفقون. ولو شمَّروا عن ساعد الجد وابتدأوا من الآن باستحضار الأشتال، والشتلة الواحدة من الفاكهة لا تكلفهم أكثر من مائة مليم بما في ذلك نولون السكة الحديد؛ لجنوا ربحًا طائلًا في أقرب ما يتصوره العقل من الزمن، وأسباب المياه متوفرة لديهم، وفيها بعض الخواص المعدنية المفيدة لنمو النباتات.

ولا أكون مبالغًا إذا قلت إن بعض المساكن في سنكات توجد بها حدائق صغيرة غناء تثمر طيبًا كحديقة حضرات الشيخ عبد المجيد فضل المولى من كبار مزارعي طوكر والشيخ محمد عبد الرحمن من كبار مزارعي طوكر أيضًا وآل عبود، فليتخذوها أنموذجًا لهم، وفيها من البرتقال واليوسفي والنارنج والليمون والجوافة والعنب والياسمين ما يشرح الصدور فهنيئًا لهم بما غرست أيديهم. ا.ﻫ.

هوامش

(١) راجع الفصل السادس من الجزء الثالث من هذا الكتاب.
(٢) انظر نبذة بترجمة حياة حمدي سيف النصر بك بالجزء الثالث.
(٣) صدر قانون منع خلط القطن سنة ١٩٣٤، ونفذ وأنشئ له مكتب بالإسكندرية تابع لوزارة الزراعة رئيسه مسيو فيليبو.
(٤) تألفت هذه الجمعية سنة ١٩٠٣، وغرضها توسيع زراعة القطن في الإمبراطورية البريطانية، وفي سنة ١٩١٦ تألفت جمعية زراعة القطن الإمبراطورية، واعترف بها في سنة ١٩٢١ بأمر ملكي، ومنحت مليون جنيه لمساعدتها على البحث الفني ومكافحة آفات القطن والاستغناء بمحصوله في بلاد الإمبراطورية عن محصول أمريكا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤