الفصل الثامن

حوادث السُّودان بعد استعادته

بعد إتمام إعادة السُّودان، ظهرت في بعض جهاته فتنٌ محلية، قُمِعت وترتَّب على قمعها توطيد الحكم الحاضر في السُّودان. ونذكر من ذلك الحوادث التَّالية، مع العلم بأنَّ الحوادث على الحدود الحبشية تكاد لا تنقطع بسبب غارة بعض العصابات الحبشية على الحدود وخطف الأطفال والنساء وغيرهن والاتجار بهن كرقيق ولسلب الماشية:
  • في سنة ١٩٠٠: نُفي علي عبد الكريم من أقارب المهدي مع أتباعه لادعائه انتهاء أعمال التَّكليف منذ واقعة أم درمان فلا صلاة ولا صوم … إلخ.
  • في سنة ١٩٠٣: ظهر في برنو محمد الأمين، وادَّعى أنَّه المهدي، وظهر بالعصيان في مركز الجمع في شرقي الكردفان، وقد قبض عليه الكولونيل ماهول وقتله شنقًا بالأبيض.
  • في سنة ١٩٠٤: ظهر شخص يُدعَى محمد ود آدم، وادَّعى في «سنجه» عاصمة مديرية الفونج أنَّه النبي عيسى، وقتل ضابط البوليس، ولكنَّه قتل في إبريل سنة ١٩٠٨.

    ظهر عسر مالي ووقع حادث خطير — ذلك أنَّ عبد القادر محمد إمام ود حبوبة من قبيلة الحلويين ومن رجال المهدي السابقين قتل مستر إسكوت مونجريف المفتش الإنكليزي، وقتل أيضًا المأمور المصري في طوكر، وحرَّض الأهالي على الثورة. وقد أُرسلت إليه قوة فرَّقت رجاله وشُنِق في مايو سنة ١٩٠٨.

    وقامت قبيلة من قبائل الدنكا «فرع جور في بلدة رومبيك» بمديرية بحر الغزال فقتل أفرادها مفتش المنطقة وبعص الجنود، فأرسلت إليهم الحكومة حملة بقيادة سير لي ستاك باشا فهزمتهم.

  • سنة ١٩٠٥ — نوبة جبل الداير: هو تل جنوبي الأبيض، وقد انضمَّ سكانه إلى الدراويش، وقاوموا الحكومة المصريَّة القديمة. وبعد إعادة السُّودان رفضوا دفع الضرائب وأطلقوا النار على الجنود التي أرسلت إليهم لتحملهم على الدفع. وقد جرت سنة ١٩٠٥ معارك صغيرة بين العرب والنوبة.
  • سنة ١٩٠٦: حدثت ثورة في تالودي، وقتل المأمور وضابط و٣٨ جنديًّا من الأورطة الثَّانية عشرة.

    وكثُر غزو القرى السُّودانية على الحدود الحبشية، وقد دخلها الهليو مريام سنة ١٩٠٦ وقتل ١١٣ من الأهالي وخطف النساء والأطفال عند غزوته، وقُتل هيلو وأعيد الأسرى.

  • سنة ١٩٠٧ على حدود الكونجو البلجيكية: انسحب حراس الكونجو البلجيكية من مواقعها في الجنوب الغربي لبحر الغزال.
  • سنة ١٩٠٨: لم تكن نياما في غربي دلنج قد خضعت للحكومة؛ بل أبت أن تعترف بها وأن تسلِّم الأسرى. فأُرسلت إليها كتيبة في أكتوبر سنة ١٩٠٨، وأخضعت جبل نياما.

    قام «عبد القادر ود حبوبة» من قبيلة الحلويين ومن أتباع المهدي — في مركز المسلمية على النِّيل الأزرق — وقتل مستر «سكوت مونجريف» المفتش الإنكليزي والمأمور محمد شريف أفندي، فأرسلت الحكومة قوة إلى الثوار، وعند وصولها هجموا على معسكرها، وحدثت موقعة قتل فيها ضابطان إنكليزيان وثلاثة ضباط مصريين و٣٥ جنديًّا مصريًّا، وقتل من الثوار ١٢٠، وفر قائدهم وأسر بعد أيام. وكان الفضل في كسب هذه الموقعة إلى المرحوم اللواء حسن توفيق بدر باشا كبير الياوران وإلى ضابط مصري اسمه زادة أفندي، انتحر بعد سنوات.

  • في سنة ١٩٠٩ احتلال واداي: احتلَّ الفرنسيون مملكة وطنية كانت تحكم «واداي»، وتقع في غرب دارفور. وقد صححت الحدود بين «دارفور» و«واداي» بعد خلاف طويل، ولكنهم اعترفوا بأن دارفور جزء من السُّودان الإنكليزي المصري.
  • في سنة ١٩١٠: استولت الحكومة السُّودانية بمقتضى اتِّفاقيَّة سنة ١٩٠٦ مع بلجيكا على ١٧ ألف ميل مربع من «اللادو».

    وظهر في السنة نفسها النَّجم المذنَّب المسمَّى «هالي» في السماء. فأثار ظهوره الخرافات في جوارسنار. وأراد بعض التعايشة ونفر من القبائل الغربية الذين كانوا مقيمين حول رمش وفلاتة الشيخ طلحة، إثارة القلاقل. ولكن حركتهم قمعت في مهدها.

    احتلَّ الفرنسيون دارسولا. وأما دار مساليت فقد احتفظت باستقلالها وهاجمت الفرنسيين سنة ١٩١٠، كما احتلَّ علي بن دينار دارتامه.

  • سنة ١٩١١: قبض على الملك جديل الذي هرب إلى الداير.

    احتلت الجنود كربحوبحيت وحيبان.

  • سنة ١٩١٢: ظهر في مركز تقلى من شرقي كردفان أحد دعاة المَهديَّة السابقين ومن أنصار ود حبوبة في فتنة سنة ١٩٠٨، وادعى أنه النبي عيسى. فأرسلت إليه قوة هزمته وقتلته.
  • النوير والدنكا والأنواك: أرسلت في سني ١٩٠٢ و١٩٠٧و ١٩١١ و١٩١٢ و١٩١٣ كتائب لاحتلال بعض البلاد التي تسكنها قبائل الزنوج من النوير والدنكا والأنواك. وقد أخضعت البلاد وطرد المشاغبون، ومنهم السُّلطان يانبيو في أزند جنوبي بحر الغزال.
  • تجريدة البير: جاء في تقرير اللُّورد كتشنر سنة ١٩١٢، أنه كان الغرض من هذه التجريدة تأديب قبيلة البير؛ لأنَّها أغارت على قبائل الدنكة، وتمكين الحكومة من إنشاء إدارة مدنيَّة فعَّالة في بلاد البير. فقاست التجريدة مشاق شديدة من قلَّة الماء والحبوب ومحاربتها للأعداء في بلاد مجهولة عندها. ولكنَّها فازت في قتالهم بقيادة الماجور دريك من الطوبجية الملكية، واضطرتهم إلى فتح باب المفاوضة في الصلح.
  • تجريدة الأنواك: أرسلت هذه التجريدة للغرضين التَّاليين:
    • (١)

      توقيف تجارة السلاح والذخيرة، وتأديب الأنواك على غزوهم بلاد النوير أخيرًا.

    • (٢)

      الاستعلام عن أحوال تلك الجهات القبلية قصدَ تحديد حدودها في المستقبل، وكانت القوة التي اشتبكت بالقتال مؤلَّفة من ١١ ضابطًا إنكليزيًّا و٢١ ضابط مصريًّا و٤٠٧ من العساكر بقيادة الماجور لفيسون من أورطة الهوسار الثامنة عشرة.

    ففي ٤ مارس زحفت من أكويو قاصدة أودنجو، وفي ١٥ منه التقت بقوة عظيمة شاكية السلاح من العدو، وقاتلتها قتالًا شديدًا في أجمة كثيفة، فهجم الأنواك عليها بجرأة عظيمة، ولكنهم انكسروا وولُّوا الأدبار بعد قتال شديد، واستحوذت القوة على أدنجو والقرى المحيطة بها. ومن الأسف أنَّ هذا الانتصار اقترن بخسارة غير قليلة؛ فقد قتل في المعركة ضابطان بريطانيان و٣ ضباط مصريون و٤٣ من صف الضبَّاط والأنفار. وجرح ضابط مصري و١١ من صف الضبَّاط والأنفار. ولكن القوة كلها أبدت ما لا مزيد عليه من البسالة وحسن النِّظام مع كثرة ما قاست من العطش الأليم والمشقَّات العظيمة والقتال الشديد.

    هذا وإنه … إلخ.

الإمضاء: كتشنر

(١) احتلال دارفور

بعد واقعة أم درمان توجَّه علي دينار إلى الفاشر، وجلس على عرش أسلافه بصفته سلطانًا على دارفور، وكان يدفع جزية صغيرة، ويرسل هدايا مع بعثة خاصة يوفدها من قبله إلى الخرطوم سنويًّا، وكان يقبل هدايا من آلات الموسيقى والبنادق.

وفي السنين الخمس الأولى بعد إعادة السُّودان كان السُّلطان علي بن دينار يتبادل الكتب الودِّية مع سلاطين باشا المفتش العام للسُّودان يومئذ. على أنَّه لم يكن يُعير ملاحظات الحكومة التفاتًا. وقد تبيَّن أنَّه لا يسمح لأي موظف من قبل الحكومة بالدخول في بلاده، وأنَّ أي أوروبي يجرؤ على دخولها فإنَّ عودته لا تكون مؤكَّدة. وتبلغ مساحة دارفور ١٤٠ ألف ميل مربع، وقد دانت هذه المساحة لحكمه ما عدا البقارة في الجنوب الشرقي.

وقد أقام ابن دينار إدارة حكومية وفرض الضرائب، وكان له جيش من زنوج الفرتيت المنظمين والمسلمين، وكانت أكثر أسلحتهم فرنسية حصلوا عليها من طريق الصحراء الشمالية. وكل بندقية حفر عليها اسم السُّلطان ولقبه.

وكان يستخدم جواسيس كثيرين١ أكفاء، وكان لا يثق بأحد، وكان يقمع كلّ حركة يشتبه فيها في الحال وبقسوة. وكان كبار موظفي حكومته من المماليك أو من الفور أعضاء البيت الملكي، وكانوا مخلصين له وأكفاء وأمناء. ولم يكن السُّلطان متعصبًا دينيًّا، وهو مسلم طبعًا. ولم يقبل رغبة السنوسي في إنشاء زوايا في دارفور، وكانت سراريه كثيرات، وكانت إرادته كلّ شيء، وكان مهيبًا مطاعًا. وقد قتل في سنة ١٩١٦ الأمير عرابي دفع الله الذين سلم إليه وخضع له في سنة ١٩٠٢، وكان قتله بسبب الاشتباه في أنَّه حاول الاتِّصال بالحكومة السُّودانية. وكان حول دارفور في الحد الغربي دويلات المساليت وسولا وتامه يحكمها سلاطين، ولكنَّها كانت تخضع لدارفور وواداي إذا وجهت إليها قوات منهما.

في سنة ١٩٠٩ احتلَّ الفرنسيون واداي، ولكنهم اعترفوا بأن دارفور جزء من السُّودان الإنكليزي المصري. على أن الحدود كانت مبهمة بين واداي ودارفور.

احتلَّ الفرنسيون دارسولا. وأما دار مساليت فقد احتفظت باستقلالها، وهاجمت الفرنسيين سنة ١٩١٠.

كان علي بن دينار يحقد على الفرنسيين الذين أصبحوا مجاورين له في واداي.

ولما أُعلنت الحرب الكبرى وانضمَّ الإنكليز إلى الفرنسيين كحلفاء، أصبح الإنكليز في نظره خصومًا أكبر.

وقد اتَّصل كلٌّ من أنور باشا وأخيه نوري باشا في سنة ١٩١٥ بالسلطان علي بن دينار، وحرَّضه نوري باشا الذي كان يقود جيش السُّنوسي على الثَّورة على الإنكليز والحلفاء والانضمام إلى الخليفة في إستانبول. وطمع ابن دينار في أن يكون ملكًا على السُّودان، وأن يبدأ باحتلال كردفان.

وقد شعرت الحكومة السُّودانية باستعداد ابن دينار. ووجَّهت إليه حملة بقيادة الليفتنانت كولونيل كيلي، وعددها يتراوح بين ألفين وثلاثة آلاف مقاتل من الجنود السُّودانية المشاة والهجَّانة والعرب والسُّود والطوبجية المصريَّة وبعض رجال المدفعية الإنكليز ومعهم أربعة مدافع مكسيم. وسارت الحملة إلى الفاشر التي تبعد عن الأبيض بمقدار ٤٠٠ ميل. وقد ترك السُّلطان الحملة حتَّى دخلت حدود دارفور، وتمادت حتَّى بلغت حدود الفاشر. وقد تبيَّن أنَّ السُّلطان ومعه ألوف من المقاتلين فكروا في السير إلى جبل مرة. وفي ٦ نوفمبر سنة ١٩١٦ التقى الميجر هاردستون ببعض رجال علي بن دينار: وقد تبيَّن أنَّ أكثر رجاله قد هجروه فانضمَّ بعضهم إلى الحكومة السُّودانية والبعض الآخر دخل الكونجو الفرنسية. أمَّا فلول جيشه فقد هجمت عليهم كتيبة من الحملة بغتةً ليلًا، وأصابت علي بن دينار برصاصة قتلته في الجنوب الغربي لجبل مرة.

واستولت الحكومة على دارفور وأنشأت بها إدارة وبوليس.

وكانت الحدود بين دارفور وواداي محل مفاوضات في باريس. وعقد اتِّفاق في ٨ سبتمبر سنة ١٩١٩ بمقتضاه تُركت دار تامه ودارسولا للفرنسيين، ودار مساليت ودار قمر للإنكليز.

•••

وفي سبتمبر سنة ١٩٢١: قامت ثورة في مركز نيالا جنوبي دارفور، حيث قام فقيه يدعى عبد الله السحيني ادعى أنَّه النبي عيسى، وأثار حربًا دينية، وكان معه الألوف المسلحة. وأرسلت إليه حملة من الفاشر، ومات المفتش ماك نيل وشاون ومعهما أربعة كتبة.
figure
أسر الأمير محمود بن أحمد وهو بلباس المَهديَّة.

وقد تمكَّن الضابط السُّوداني بلال رزق ومن بقي معه من الجنود الخمسين من إعادة احتلال مكاتب الحكومة. وقد شُنق الفقيه الدَّعي في ٣ أكتوبر سنة ١٩٢١.

(٢) أعمال البناء

بُني كوبري على الأتبرة وفتح في ٢٦ أغسطس سنة ١٨٩٩، ومدَّت السكة الحديدية إلى الخرطوم، وتمَّت في ٣١ ديسمبر سنة ١٨٩٩. وكانت الفكرة يومئذ مدَّ السكة الحديدية بين حلفا وأصوان.

(٣) الرتب والنياشين

منحت الحكومة الإنكليزيَّة كتشنر باشا لقب لورد، ويُسمى اللُّورد كتشنر أوف خرطوم، ومنحت الكولونيل ونجت مدير المخابرات العام نيشان القديسين ميخائيل وجورج مع لقب سير. ومنحه الخديوي رتبة اللواء، وعين آدجو تانت جنرالًا في الجيش المصري في ١٨ ديسمبر سنة ١٨٩٨.

هوامش

(١) راجع «السودان الإنكليزي المصري» (ماكميكل.)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤