الفصل التاسع

نظام الحكم في السُّودان والإدارة الوطنية

نظام الحكم في السُّودان يقوم على أساس اتِّفاق ١٨٩٩، وقد تطور بالحوادث التَّالية له، واطِّراد تفوق النفوذ الإنكليزي، وبإنشاء مجلس الحاكم العام سنة ١٩١٠ والقوانين والمنشورات الكثيرة التي صدرت منظمة لقضائه وماليته وإدارته وتعليمه وحفظ الأمن فيه، والحكم في السُّودان هو نوع من الحكم المطلق؛ لأنَّه لا يوجد برلمان أو مجالس شورية.

وقد قلنا إنَّ سياسة الإنكليز في حكم البلاد الخاضعة لهم ترمي إلى إقامة حكومات وطنية في صورة من الصور، على أن تكون خاضعة لهم. وقد رأينا أنَّ أهم ما يتَّجه إليه ولاة الأمور الإنكليز في السُّودان تحقيق فكرة الإدارة الوطنية، وهي تجربة حكم بعض بلاد السُّودان بنظَّار القبائل والأعيان، بأن يعطوا سلطة قضائية، وبذلك تقل نفقات الحكم ويخفُّ العبء عن الحكومة المركزية في الخرطوم.

وقد أسهب السير هارولد ماكمايكل السكرتير الإداري السَّابق لحكومة السُّودان في شرح «هذه الإدارة الوطنية» في كتابه «السودان الإنكليزي المصري».

ومجلس الحاكم العام يُشبه على نوع ما مجلس الوزراء، والحاكم العام مرءوس للمندوب السَّامي البريطاني في القاهرة، الذي يحمل لقب «المندوب السَّامي في مصر والسُّودان». وفي السُّودان محاكم مدنيَّة وجنائية وشرعية وأهلية.

(١) القضاء في السُّودان في الفتح المصري الأول

كان اختصاص القاضي الشرعي عند الفتح الأول للحكومة المصريَّة للسُّودان يشمل جميع القضايا من المعاملات وأحكام الدماء والدِّيات والأحوال الشَّخصيَّة، وكانت هذه الأحكام تستأنف إلى مجلس يسمَّى مجلس الأحكام بمصر ثمَّ قصر اختصاص القاضي الشرعي على النَّظر في الأحوال الشَّخصيَّة في مذهب الإمام أبي حنيفة، وأنشئ مجلس يسمَّى المجلس المحلي للنظر في الخصومات المتعلقة بالمعاملات، وكانت أحكام هذا المجلس تُستأنف لدى مجلس يسمَّى مجلس استئناف السُّودان، ويتألف من رئيس وأعضاء هم قاضي عموم السُّودان ومفتيان أحدهما مالكي والثاني حنفي، وأعضاء من الأعيان. وقد كان من أعضائه في عهد غوردون باشا أبو بكر الجركوك وإدريس بيك النور.

وقرارات هذا المجلس غالبًا تنتهي بها الخصومات غير أنه إذا لم يقبل أحد الخصمين حكمه فله أن يرفع تظلمه إلى مجلس الأحكام بمصر وحكمه أو قراره نهائي. وكانت أحكام الدماء لا تُقرَّر إلَّا بعد تصديق من سعادة حكمدار عموم السُّودان، ومثلها قضايا المنازعات التي يخشى أن تؤدي إلى فتنة تخلُّ بالأمن العام. وأنشئت محاكم شرعية عديدة في المراكز ومقار المديريات: في كلّ محكمة قاضٍ. وأكثر هؤلاء القضاة من أهالي السُّودان، وبعضهم كان يختار من مصر، وسواء أكان القاضي مصريًّا أم سودانيًّا، فقد كان يختاره قاضي عموم السُّودان ويعيِّنه سعادة حكمدار عموم السُّودان. كما كان لكل مديرية مُفتٍ. أمّا قاضي عموم السُّودان ومفتي مجلس استئناف السُّودان وشيخ العلماء فكانوا يعينون بأمر خديوي مصر.

وعند سقوط الخرطوم في قبضة محمد أحمد المهدي في ٩ ربيع الثَّاني سنة ١٣٠٢ و٢٦ يناير سنة ١٨٨٥ كان قاضي عموم السُّودان هو الشيخ محمد خوجلي حتيك من أهالي بري ضاحية من ضواحي الخرطوم، تلقى علومه في الأزهر الشريف، وقتله الدراويش في واقعة فتح الخرطوم. وكان مفتي مجلس استئناف السُّودان الشيخ شاكر الغزي، وقد قتله الدراويش أيضًا في واقعة فتح الخرطوم. أما شيخ العلماء وقتئذ فكان الفكي الأمين الضرير من أهالي جزيرة توتي، وهي جزيرة مقابلة لمدينة الخرطوم، وقد مات في أوائل حكومة المَهديَّة، ولقِّب بالضرير لأنَّه ولد أكمه.

(٢) القضاء في حكومة المهدي أو الدراويش

كان القضاء في هذه الدولة لبداوتها بعيدًا عن النِّظام والضبط. فالدفتر الذي كانت تُسجَّل فيه القرارات والأحكام في حكم المصريين للسُّودان أصبح لا يوجد إلَّا في بعض المحاكم، وأصبح القضاة في خارج أم درمان ينظرون القضايا بغير ضبط لأقوال الخصوم ولا دفاتر تسجل فيها الأحكام، بل يفصلون فيها شفويًّا وأحيانًا يعطون للمحكوم لهم كتابًا يدوَّن به الحكم ليكون مستنده في الحق الذي حكم به، وكانت الأحكام تنفَّذ فور صدورها شفويًّا.

وقد اتسعت سلطة القاضي في هذه الدولة فأصبح يفصل في القضايا التي تعرض عليه أيًّا كان موضوعها، إلَّا أنَّ القضاء نفسه قد انحطَّ بعد وفاة المهدي ولم يراعَ في الأحكام الحق والعدل والمطابقة للحكم الشرعي بل أصبحت إشارة أو كلمة تصدر من خليفة المهدي في أم درمان أو من الأمراء المرافقين للقضاة في خارجها واجبة الاتِّباع لا يصدر الحكم على خلافها، وإلَّا فإنَّ القاضي لا يأمن على نفسه فضلًا عن البقاء في منصبه. وفيما عدا ذلك كانت الأحكام يُراعى فيها مذهب الإمام مالك أو ما نُصَّ عليه في منشور من منشورات المهدي.

ولقد غيَّر المهدي لقب أكبر قاضٍ في الدولة. فبعد أن كان يُسمَّى بقاضي عموم السُّودان لقَّبه بقاضي الإسلام، وأسند هذا المنصب إلى الشيخ أحمد ولد جبارة من علماء الأزهر، وكان قد صحبه من جزيرة أبا إلى قدير، وجعل المهدي دونه قضاةً ونوابًا كثيرين، وهو أول من سُمِّي بقاضي الإسلام. ولما قُتل في واقعة الأبيض تولَّى القضاء بعده ولد حلاب أحد فقهاء النِّيل الأبيض ومات في حصار الأبيض فخلفه القاضي أحمد علي من فقهاء بني هلبه، فلم يكن شأنه في زمن المهدي كبيرًا؛ لأنَّ المهدي أقام النواب للفصل في القضايا الشرعية والأمناء للفصل في القضايا السياسية. فلمَّا مات المهدي وخلفه في الحكم عبد الله التَّعايشي عزل الأمناء ثمَّ النواب وجعل المحكمة واحدة برئاسة القاضي أحمد، وكان من أعظم المقربين عنده لاتباعه هواه ثمَّ نكَّبه في آخر الأمر فجرَّده من جميع أمواله وزجَّه في السجن حتَّى مات جوعًا سنة ١٨٩٤، وبعده تولى قضاء الإسلام سليمان الحجاز من تجار بربر المتفقهين، فلم يمكث فيه إلَّا مدة قصيرة ثمَّ خلفه الشيخ الحسين ولد الزهراء، وهو من قرية تدعى أم عظام في ضواحي المسلمية ومن متخرجي الأزهر المتفوقين ومن الشعراء النابغين، وكان قبل أن يتولى القضاء من عداد العلماء الذين عهد إليهم الخليفة بتدريس علم الميراث في مسجد أم درمان، ولمَّا تولى القضاء وقف عند حدِّ الشرع وقضى بعدة مسائل على خلاف ما أراد التَّعايشي فاغتاظ منه وحبسه وكبَّله بالحديد، ومنع عنه الطعام والماء إلى أن مات صبرًا سنة ١٨٩٥، وخلفه في منصب قاضي الإسلام أم بدى البقاري ثمَّ الشيخ النذير خالد، فبقي إلى فتح أم درمان سنة ١٨٩٨، وكان مدرسًا في المعهد العلمي، وتوفي سنة ١٩٣٠. وكانت دار المحكمة الشرعية في أم درمان في هذه الدولة قريبًا من منزل الخليفة المجاور للمسجد الجامع في مكان يسمَّى الككر تجتمع فيها القضاة ورئيسهم قاضي الإسلام، وكل منهم ينظر فيما يقدم إليه من القضايا، ويستشير أصحابه فيما يحكم به إذا خفي عليه وجه الحكم، وكان لا يصدر الحكم في القضايا الكبرى إلَّا بعد أن يعرض على قاضي الإسلام ثمَّ على الخليفة. وكان القضاء يتبع الإمارات، فكل أمير لناحية من النواحي البعيدة عن أم درمان كان يعين معه قاضٍ لهذه الناحية يعتمد على الأمير في أحكامه، ولقد كثرت الرشوة في قضاة هذه الدولة إلَّا من عصمه الله. وأعظم قضاة هذه الدولة هو الشيخ محمد البدوي قاضي إمارة الجعليين الذي لم يطق تدخل الأمير الزاكي أبو فرار في أحكامه فخاصمه إلى الخليفة، وكان ذلك سببًا في اعتزاله القضاء، وكان الشيخ محمد البدري المذكور من أكابر العلماء علمًا ودينًا وورعًا، تلقى علومه في الأزهر الشريف، وهو أول من تولى مشيخة العلماء في الدولة الحالية إلى أن توفي سنة ١٩١١. ولنختم هذا الكلام بصورة حكم من أحكام ذلك العهد، وسببه أنَّ الخليفة محمد شريف حامد خليفة الكرار، أي الخليفة الرابع، غضب من الخليفة التَّعايشي، وامتنع عن صلاة الجمعة معه لقتله بعض أقاربه. فأمر الخليفة القضاة أن يقضوا فيه بما يكون زاجرًا له وعبرة لغيره، وقد وقع على هذا الحكم ستة وأربعون رجلًا من أكابر دولة التَّعايشي وأهل شوراه، منهم قاضي الإسلام أحمد علي، وهذا نص الحكم:

بسم الله الرحمن الرحيم

حمدًا لمن جعل الاستقامة طريقًا للسلامة، وشكرًا لمن وفَّق ذوي البصائر إلى الوقوف على قدم الصدق فصاروا من أهل الكرامة، وخص أهل عنايته بأنوار هدايته فاستسلموا لقضائه، واستراحوا من الوقوع في هاوية النَّدامة، وحضَّ على طاعة أولي الأمر بقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ لانتظام الحال والسلامة في يوم القيامة، وصلاةً وسلامًا على قطب دائرة الأصل النوراني ومنبع النَّبض الرَّحماني وأشرف النّوع الإنساني ومعدن السرِّ الرباني؛ سيدنا محمد الذي قصم بسيف الحق ظهر الخلاف، ومكَّن حسام الشرع من رقاب أهل الانحراف، وعلى آله وأصحابه الذين قوي في الله يقينهم فآمنوا بالغيب فانكشفت غياهب الشك عن بصائرهم فازدادوا إيمانًا وتمكَّن دينهم.

وبعد، فإنَّ الخليفة محمد شريف حامد قد بارز خليفة المهدي عليه السلام بالعداوة والعصيان والخلاف حتَّى تظاهر بالحرابة له، وشهر السلاح عليه، ولم يألُ بإدخال الخلل في الدين وشقِّ عصا المسلمين. فبعد هذا كله اجتمع جماعة المسلمين، وأحضروه بين أيديهم، وحلَّفوه على كتاب الله تعالى فحلَف وعاهد على ألَّا يعود إلى مثل ما صدر منه، ثمَّ جاء خليفة المهدي عليه السلام نادمًا على شنيع فعله فقبله مع ما ارتكبه من عظيم الذنب والخطيئة… وعفا عنه وقابله بالصَّفح والإكرام. ثمَّ نقض العهد وعاد إلى الخلاف وإضمار السوء والإصرار على عدم الامتثال، فضلًا عن كونه تاركًا الجمعة والجماعة. فعند ذلك اجتمع أصحاب المهدي عليه السلام من قضاة الشرع الشريف وأمراء وعُمد وأعيان وسألوه عن ذلك، فقابلهم بأقبح المقال، وتفوَّه بما يؤدي إلى سوء الحال، حتَّى قال: إنَّ الغوث معه وفي حزبه وإنّ نصرة المَهديَّة تحت قدمه، وإنَّ الصحابة اعترضوا على النبي ، وغير ذلك من سوء المقال. وما زالوا يراجعونه بالقول اللَّين الحسن، وتلوا عليه منشور المهدي عليه السلام في خليفته والمنشور الذي وجَّهه إليه خاصة أوامره فيه باتباع خليفته وعدم خروجه عن أوامره فعند ذلك أظهر التوبة والندم؛ فنظرًا لما حصل منه من نقض العهد وعدم استمراره على التوبة السَّابقة اقتضى نظر أصحاب المهدي عليه السلام طبق الوجه الشرعي وضعه بالسجن تأديبًا له، ولولا إظهاره التوبة عمَّا حصل منه لكان جزاؤه أعظم من السجن، وقد ثبت جميع ذلك لدى أصحاب المهدي عليه السلام الآتي ذكر أسمائهم وأختامهم فيه أدناه، وجميعهم شهدوا عليه شهادة حق يؤدونها بين يدي أحكم الحاكمين والسلام.

سنة ١٣٠٩ﻫ

(٣) القضاء الشرعي في الحكومة الحاضرة

يختلف القضاء في هذا العهد عن سابقيه بالنظام التَّام وبالدِّقة في تحرِّي الصَّواب في الأحكام وإزالة الخطأ، متى عُلم سواء طعن في الحكم أم لم يطعن فإن طعن فيه من أحد الخصوم وظهر خطؤه ألغي وأعيدت القضية لمحكمتها للفصل فيها بالطريق الشرعي، وإن كانت القضية صالحة للحكم حكم فيها بما يقتضيه المنهج الشرعي، وإن لم يطعن أحد الخصوم وتبيَّن الخطأ أُلغي الحكم إداريًّا. كما يختلف العنوان الذي يسمَّى به أكبر قاضٍ في هذه الدولة عمَّا كان من قبل إذ عهدنا فيما سبق أنَّه كان يسمى في المَهديَّة بقاضي الإسلام وفي الحكومة السَّابقة عليها بقاضي العموم. أمَّا في هذه الحكومة فيُسمى بقاضي القضاة، وأول قاضٍ للقضاة هو صاحب الفضيلة الشيخ محمد شاكر، وقد عيِّن في ٢٨ مارس سنة ١٩٠٠ فعمل جهده في وضع أسس القضاء، واعتمد على اللوائح المعمول بها في مصر في ذلك العهد، فوضع في سنة ١٩٠٣ ثلاث لوائح.
figure
فضيلة الشيخ محمد شاكر أول قاض للقضاة في السُّودان بعد استعادته وكان آخر منصب تولَّاه وكيل مشيخة الأزهر.
  • الأولى: لائحة تضمُّ ترتيب المحاكم الشرعية مؤلَّفة من خمسين مادة بها، شروط انتخاب الموظفين لهذه المحاكم، واختصاص لكل من المحكمة العليا وسلطة المحاكم المركزية ومحاكم المديريات والمحافظات، كما تتناول منصب قاضي القضاة، والتنازع في الاختصاص بين محكمة شرعية وأخرى مدنية والمراقبة القضائية.
  • والثانية: اللائحة النظامية للمحاكم، وهي مؤلَّفة من «١٢٤» مادة بيَّن بها طريق رفع الدعوى ونظام الجلسات والأدلة الخطِّية ومحاضر الجلسات والمعارضة والاستئناف والتَّمييز والوراثات والمستندات الرَّسمية وغيرها. والدفاتر المستعملة في المحاكم دفترًا دفترًا والتنفيذ.
  • الثالثة: لائحة الرسوم، وهي مؤلَّفة من عشرين مادة ومن جدول يوضِّح رسوم ٤٩ إشهادًا؛ ذُكِرَ في كلّ إشهاد المبلغ الذي يُؤخذ عليه الرسم، ومقدار الرسم النِّسبي، وأقل رسم يؤخذ، والمطلوب منه دفع الرسم كما وضح به رسوم الصور وغيرها ورسوم القضايا.
figure
وقد أصدر كثيرًا من المنشورات والمذكرات القضائية لتوضيح سبل الحكم للقضاة. وعلى الجملة فقد حذا حذو القضاء المصري في ذلك العهد ولم يخالفه إلَّا في مسائل بسيطة قضت بها الحاجة أو الضرورة: منها أنَّ قاضي المديرية منفرد تستأنف لديه القضايا التي يفصل فيها قاضي المركز، والعمل في مصر في ذلك العهد على غير ذلك، فقد كانت أحكام قاضي المركز تستأنف لدى هيئة تتألَّف من قاضي المديرية والمفتي والنائب. والذي دعا لذلك — على ما أظن — الاقتصاد الذي قضى بعدم تعيين مفتٍ ونائبٍ في كلّ مديرية. ومنها جعل القضاء من ثلاث درجات: ابتدائي واستئنافي ودرجة تسمَّى التَّمييز. والقضاء في مصر من درجتين فقط. والسبب في ذلك على ما يظهر إشراف محكمة التمييز التي تتألَّف من قاضي القضاة ومفتي السُّودان وأحد المفتشين، حتَّى يمكنها وضع الحق في موضعه وتعليم القضاة فيما يخطئون فيه لقرب عهدهم بالقضاء، ولأنَّ الاستئناف ليس فيه الضمانات الكافية لِأَنْ ينظره قاضٍ واحدٍ كما قدَّمنا. ولمَّا نُقل الشيخ شاكر إلى مصر في ٢٦ إبريل سنة ١٩٠٤ خلفه في منصبه حضرة صاحب الفضيلة المرحوم الشيخ محمد هارون، وبنقله لمصر أيضًا سنة ١٩٠٨م تولى هذا المنصب صاحب الفضيلة الشيخ محمد مصطفى المراغي — وهو شيخ الجامع الأزهر حالًا — في أول أغسطس سنة ١٩٠٨م، وقد جاء في تقرير الفيكونت كتشنر عن السُّودان سنة ١٩١٢ تحت عنوان «المحاكم الشرعية» ما يلي:

لا يزال الشيخ مصطفى المراغي قاضي قضاة السُّودان يتولى رئاسة المحاكم الشرعية بكمال الأهليَّة والمقدرة، وقد وضع حسب عادته تقريرًا سنويًّا مفيدًا، فالمحاكم الشرعية الآن تنتظم من محكمة عالية ومحكمة العموم و١١ محكمة مديرية و٣٤ محكمة مركز فيها ٤٨ قاضيًا و٨٢ كاتبًا ونحوه. وأكثر الذين تمسّ الحاجة إلى استخدامهم يُؤتى بهم من مدرسة المعلِّمين في كلية غوردون، ويقول السكرتير القضائي في تقريره: إنَّ هؤلاء المستخدمين يبرهنون بسلوكهم وعملهم على أنَّ العناية التي بذلتها مصلحة المعارف في تعليمهم وتهذيبهم لم تذهب ضياعًا.

figure
حضرة صاحب الفضيلة الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الجامع الأزهر حاليًّا وثالث قاضٍ لقضاة السُّودان.

كان فضيلة الشيخ المراغي قاضيًا لمديرية دنقلا في سنة ١٩٠٤. ثمَّ نُقل إلى مديرية الخرطوم في ديسمبر سنة ١٩٠٦. وفي سبتمبر سنة ١٩٠٧ وقع الاختيار على فضيلته ليكون رئيسًا لمفتشي الدروس الدينية بوزارة الأوقاف، ثمَّ عُيِّن قاضيًا للقضاة سنة ١٩٠٨، وظل يشغل منصب قاضي القضاة إلى شهر يوليو سنة ١٩١٩، حيث نُقل رئيسًا للتفتيش القضائي الشرعي في وزارة الحقَّانية، ثمَّ عُيِّن رئيسًا لمحكمة مصر الابتدائية الشرعية، ثمَّ نائبًا في المحكمة العليا الشرعية، ثمَّ رئيسًا لهذه المحكمة، إلى أن ولي هذا المنصب الخطير مرتين.

وهو من عائلة عريقة في العلم والتقوى، وكان المرحوم والده من كبار علماء الصعيد.

وفي عهد فضيلة الشيخ المراغي أحدث كثيرًا من الإصلاح، فوضع في سنة ١٩١٢ لائحة جديدة للرسوم، ولائحة للمأذونين بيَّنت شروط تعيينهم وواجباتهم وتأديبهم على المخالفات التي تصدر منهم، كما استبدل في سنة ١٩١٥ لائحتي الترتيب والنظام السالف ذكرهما بلائحة واحدة أسماها لائحة ترتيب ونظام المحاكم أدخل فيها كثيرًا من الأنظمة، وما زال بها يصلح ما ظهر له وجه للإصلاح حتَّى نُقل لمصر في ٩ أكتوبر سنة ١٩١٩، فتولى بعده حضرة صاحب الفضيلة الشيخ محمد أمين قراعة، وقد كان مفتشًا في السُّودان من نوفمبر سنة ١٩١٤، وفي عهده صدرت إصلاحات مفيدة ومنشورات وتعليمات اقتضاها الحال. ولمَّا نُقل في ٦ مايو سنة ١٩٣٢ تعيَّن بعده في هذا المنصب حضرة صاحب الفضيلة الشيخ محمد نعمان الجارم، فأصدر كثيرًا من المنشورات القضائية والنظامية، وأدخل في عهده تعديلات على لائحة المأذونين ولائحة ترتيب ونظام المحاكم، واستبدلت لائحة الرسوم بلائحة أخرى وما زال به إلى الآن. على أنَّ الإصلاح في محاكم السُّودان من حيث اقتباس الأحكام المناسبة للعصر ممَّا لم يكن في مذهب أبي حنيفة سبقت فيه السُّودان مصر بزمن بعيد، إذ أساس القضاء فيه أن يكون الحكم بالأرجح من آراء فقهاء الحنفية، إلَّا في المسائل التي يصدر فيها قاضي القضاة منشورات أو مذكِّرات قضائية فإنَّه يعمل بما ينصُّ قاضي القضاة على العمل به من آراء فقهاء الحنفية أو غيرهم من أئمة المسلمين في التشريع. وعلى ذلك جرى العمل: فالطلاق لعسر النَّفقة أو للعيب، وطلاق زوجة المفقود إذا مضت مدة أربع سنين من حين رفع الأمر إلى القاضي ولم يعد الزوج ولم يظهر له خبر، والتفريق للشقاق والضرر بين الزوجين ممَّا لم يُؤخذ به في مصر إلَّا بالقانون نمرة ٢٥ سنة ١٩٢٠، والقانون ٢٥ سنة ١٩٢٩ قد شرع العمل بها والحكم على مقتضاها بمنشور أصدره قاضي القضاة سنة ١٩٠٢.
figure
صاحب الفضيلة الشيخ محمد أمين قراعة.
figure
فضيلة الشيخ محمد نعمان الجارم قاضي قضاة السُّودان حالًا.

نعم إنَّ محاكم السُّودان لم تجرِ على القول بعدم وقوع طلاق السكران والمُكره، وعدم وقوع الطلاق غير المنجز إذا قصد به الحمل على فعل شيء أو تركه لا غير، وعلى القول بأنَّ الطلاق المقترن بعدد لفظًا أو إشارة لا يقع إلَّا واحدة، وعلى القول بأن كنايات الطلاق لا يقع بها الطلاق إلا بالنية، وأن كلّ طلاق يقع رجعيًّا إلَّا المكمل للثلاث، والطلاق قبل الدخول والطلاق على مال وغيره ممَّا جرى عليه العمل في مصر سنة ١٩٢٩ إلَّا في مارس سنة ١٩٣٥. وسبب تأخير هذا التَّشريع إلى هذا العهد الظن بأن الأفكار في السُّودان لم تكن مستعدة لهذا التَّشريع قبل هذا التاريخ.

ويجمل بنا أن نقول: إنَّ المحاكم الشرعية السُّودانية تتغذى الآن من خريجي القضاء الشرعي، وهو قسم من كلية غوردون يتخصص في العلوم الشرعية مدة خمس سنوات، ولا يُقبل في هذه المدرسة إلَّا بقدر حاجة المحاكم، ويخضعون في امتحانهم في العلوم الشرعية للجنة يعيِّنها قاضي القضاة أو من ينوب منابه. وعند تخرجهم يعيَّنون «عمالًا قضائيين» في المحاكم يتمرَّنون على الأعمال القضائية مدة ثلاث سنوات، ومتى برهنوا في هذه المدة على كفاءة تامة أصدر قاضي القضاة أمرًا لقضاة المحاكم المعينين بها لندبهم للفصل في القضايا والوراثات التي هي من اختصاص قاضي المركز تمرينًا لهم على القضاء، حتَّى إذا ما أُسند إليهم القضاء في محكمة قاموا به على الوجه الأكمل، وأكبر رجال القضاء الشرعي الموجودين الآن ومن ثلاثة منهم تتكون المحكمة العليا الشرعية التي تستأنف لديها أحكام قضاة المديريات فيما هو من اختصاصهم، أو تتألَّف منهم محكمة التمييز التي تنظر في الأحكام التي تصدر من قضاة محاكم المديريات بعد مدة الاستئناف أو الأحكام التي تصدر منهم، وهي من اختصاص قضاة المراكز في مدة الاستئناف إذا رغبوا عن الاستئناف لدى قضاة محاكم المديريات أو بعد مضي مدة الاستئناف هم أصحاب الفضيلة:
الشيخ محمد نعمان الجارم قاضي قضاة السُّودان
الشيخ أحمد السيد الفيل مفتي السُّودان ونائب قاضي القضاة*
الشيخ أبو شامه عبد المحمود مفتش المحاكم الشرعية
الشيخ عمر عطية مفتش المحاكم الشرعية
كان مرشحا ليكون قاضي القضاة إذا وافقت الحكومة المصرية على عدم تعيين قاضٍ مصري فيها.
ونبيِّن فيما يلي صيغة المنشورات الشرعية:

منشور شرعي نمرة ٣٤

صادر في يوم الاثنين ١٤ شعبان سنة ١٣٥١ موافق ١٢ ديسمبر سنة ١٩٣٢

الحضانة

  • مادة ١: للقاضي أن يأذن بحضانة النساء للصغير بعد سبع سنين إلى البلوغ، وللصغيرة بعد تسع سنين إلى الدخول إذا تبيَّن أنَّ مصلحتها تقتضي ذلك. وللأب وسائر الأولياء تعهد المحضون عند الحاضنة وتأديبه وتعليمه.
  • مادة ٢: لا أجرة للحضانة بعد سبع سنين للصغير وبعد تسع للصغيرة.
  • مادة ٣: لو زوج الأب المحضونة قاصدًا بتزويجها إسقاط الحضانة فلا تسقط بالدخول حتَّى تطيق.
  • مادة ٤: على القضاة الحكم بما نص عليه في هذا المنشور من تاريخ صدوره.
قاضي قضاة السُّودان: محمد نعمان الجارم

حاشية

مذهب الإمام مالك في الحضانة أنَّ حضانة النساء للصغير تكون إلى البلوغ وللصغيرة تكون إلى الزفاف. وعادات السُّودان أنَّ البنت تكون مع أمها حتَّى إذا تزوجت يسكن الزوج معها في أول الزواج في بيتها ولا ينقلها منه. وقد روعي في المنشور مذهب الإمام مالك إذا كانت ثمَّت مصلحة للصغير في بقائه مع الحاضنة، كما رُوعي مذهب أبي حنيفة إذا كانت المصلحة في بقاء الصغير مع الأب أو غيره ممَّن لهم حق الحضانة.

منشور شرعي نمرة (٤١)

صدر من محكمة عموم السُّودان الشرعية في يوم الاثنين ٢٠ ذي الحجة سنة ١٣٥٣ الموافق ٢٥ مارس سنة ١٩٣٥م.

القواعد الآتية بعد موافقة جناب السكرتير القضائي لحكومة السُّودان للعمل بها في المحاكم الشرعية:

الطلاق

  • (١)

    لا يقع طلاق السَّكران والمُكره.

  • (٢)

    لا يقع الطلاق غير المنجز إذا قصد به العمل على فعل شيء أو تركه لا غير.

  • (٣)

    الطلاق المقترن بعدد لفظًا أو إشارةً لا يقع إلَّا واحدة رجعية.

  • (٤)

    كنايات الطلاق في مذهب الحنفية، وهي ما تحتمل الطلاق وغيره لا يقع بها الطلاق إلَّا بالنِّية.

  • (٥)

    كلّ طلاق يقع رجعيًّا إلَّا المكمِّل للثلاث، والطلاق قبل الدخول، والطلاق على مال، وما نصَّ على كونه بائنًا في منشور قبل ذلك. أمَّا التَّفريق بالطلاق بسبب اللعان أو العنة أو إباء الزوج عن الإسلام عند إسلام زوجته، فالحكم فيه على مذهب أبي حنيفة.

النَّفقة والعِدَّة

  • (٦)

    تُقدَّر نفقة الزوجة على زوجها بحسب حال الزوج يسرًا وعسرًا مهما كانت حالة الزوجة.

  • (٧)

    لا تُسمع عند الإنكار دعوى الإرث بسبب الزوجة المطلَّقة توفي زوجها بعد سنة من تاريخ الطلاق.

دعوى النسب

  • (٨)

    لا تُسمع عند الإنكار دعوى النَّسب لولد زوجة ثبت عدم التَّلاقي بينها وبين زوجها من حين العقد. ولا لولد زوجة أتت بعد سنة من غيبة الزوج عنها ولا لولد المطلقة والمتوفى عنها زوجها إذا أتت به لأكثر من سنة من وقت الطلاق والوفاة.

  • (٩)

    المراد بالسنة في المادتين ٧ و٨ هي السنة التي عدد أيامها «٣٦٥» يومًا.

المهر

  • (١٠)

    إذا اختلف الزوجان في مقدار المهر فالبيِّنة على الزوجة. فإن عجزت كان القول للزوج بيمينه إلَّا إذا ادَّعى ما لا يصحُّ أن يكون مهرًا لمثلها عُرفًا، فيحكم بمهر المثل، وكذلك الحكم عند الاختلاف بين أحد الزوجين وورثة الآخر أو بين ورثتيهما.

الهبة

  • (١١)

    لا يشترط أن يكون قبض الهبة بإذن الواهب فللموهوب له أن يحوز الموهوب من واهبه بإذنه أو بغير إذنه.

  • (١٢)

    تبطل الهبة إذا تأخَّر حوزها حتَّى أحاط الدَّين بمال الواهب، ولو كان الدَّين حادثًا بعد الهِبة.

  • (١٣)

    إذا جنَّ الواهب أو مرض قبل الحوز، فالهبة موقوفة؛ فإنَّ صحَّ من مرضه أو أفاق من جنونه إفاقةً بيِّنةً فلا تبطل الهبة وله للموهوب الحوز حال الصحة والإفاقة. أمَّا إذا اتَّصل المرض والجنون بالموت بطلت الهبة.

  • (١٤)

    هبة أحد الزوجين للآخر وهبة الأم لابنها الصغير متاعًا من متاع البيت أو الحيوان تصحُّ، إذا أشهد الواهب على الهبة ولو لم يرفع يده عن الموهوب لأنَّ هذه الهبة لا تحتاج لحيازة. فمتى أشهد الواهب على الهبة وحصل المانع وهي في حوزه فلا يضر.

  • (١٥)

    تزيين الأب أو الأم ولده ذكرًا أو أنثى صغيرًا أو كبيرًا بتعلية أو إلباس ثياب فاخرة أو باشتراء دابة له يركبها أو اشتراء كتب يحضر فيها أو سلاح يحترس أو يتزين به يكون هبة يختص بها دون الورثة إلَّا إذا أشهد أنَّه على وجه الإمتاع؛ لأنَّ التَّحلية قرينة على التَّمليك.

  • (١٦)

    يستعمل بهذه الأحكام من تاريخ صدورها وفي الحوادث السَّابقة عليه إلَّا إذا اتَّصل بها القضاء.

قاضي قضاة السُّودان: محمد نعمان الجارم

(٤) أوامر عالية ومراسيم بتعيين الحاكم العام

أمر عالي خديوي — نحن خديوي مصر:

بناءً على البند الثالث من الوفاق المعقود بين حكومة جلالة ملكة الإنكليز وحكومتنا.

أمرنا بما هو آتٍ

عيَّن الفريق لورد كتشنر أوف خرطوم وأسبال باشا سردار الجيش المصري حاكمًا عامًّا للسُّودان.

صدر بسراي القبة في ٧ رمضان سنة ١٣١٦ / ١٩ يناير ١٨٩٩.

نشر بالغازيتة السُّودانية الصادرة في ٧ مارس سنة ١٨٩٩.

عباس حلمي

أمر عالٍ خديوي

نحن خديوي مصر

بناءً على البند الثالث من الاتِّفاق الذي عقد بين حكومة جلالة ملكة بريطانية العُظمى وحكومتنا في تاريخه ١٩ يناير سنة ١٨٩٩ بالقاهرة.

أمرنا بما هو آتٍ

قد تعين سعادتلو أفندم الفريق السير رجينلد ونجت باشا الحائز على نيشاني ميخائيل وجورج والحمام العلي الشأن ونيشان الامتياز وياور جلالة الملكة وسردار الجيش المصري حاكمًا عامًّا للسُّودان عوضًا عن سعادتلو أفندم الفريق اللُّورد كتشنر أوف خرطوم وأسبال باشا الحائز نيشاني الحمام وميخائيل وجورج العالي الشأن الذي استُعفي من هذه الوظيفة.

صدر في سراي عابدين العامرة بتاريخ ٢٠ شعبان سنة ١٣١٧ الموافق ٢٣ ديسمبر سنة ١٨٩٩.

«نشر بالغازيتة السُّودانية رقم ٨ في ٢ يناير سنة ١٩٠٠.»

الإمضاء: عباس حلمي

تعيين

بناءً على المادة الثالثة من الاتِّفاق المعمول به بين حكومة بريطانيا العُظمى والحكومة المصريَّة بتاريخ ١٩ يناير سنة ١٨٩٩ الخاص بإدارة السُّودان في المستقبل؛ قد تعيَّن بناءً على توصية حكومة صاحب الجلالة البريطانية السر جورج ستيوارت سايمز حاكمًا عامًّا للسُّودان خلفًا للسر جون لورد مفي، وذلك بمقتضى الدكريتو الصَّادر من جلالة الملك فؤاد الأول بتاريخ ٢٩ أكتوبر سنة ١٩٣٣.

«غازيتة الحكومة السُّودانية في ١٥ نوفمبر سنة ١٩٣٣»

تعيين شرعي١

تعطَّف صاحب المعالي الحاكم العام بتعيين صاحب الفضيلة الشيخ محمد نعمان الجارم قاضيًا لقضاة المحاكم الشرعية بالسودان.

الخرطوم في ٢١ إبريل سنة ١٩٣٢.

«غازيتة الحكومة السُّودانية عدد ٥٦١ في ١٥ مايو سنة ١٩٣٢».

(٥) الإدارة الأهليَّة

قال ألين إيرلندي في كتابه «مناطق الشَّرق الأقصى» طبعة ١٩٠٥ صفحة ٧١ بالإنكليزية:

ممَّا يخطئ فيه الأوربيون في الشَّرق أنَّهم يعملون على نشر المدنية الغربية وإزالة الأساليب الوطنية، بدلًا من استغلالها: يوجد طريقان تستطيع الحكومة أن تسلكهما — الأول هو أن تبدأ بالأشياء التي تجدها، نابذة ما هو خطر وظالم منها، مؤازرة ما هو صالح من عادات أهلها، تاركةً النِّظام والتشريع للمناسبات. فإذا بدت حاجات جديدة كان لزامًا على الحكومة أن تفحصها، وأن تهيِّئ لها من الإجراءات ما يتَّفق مع حالتها ومكانتها، بدلًا من استيرادها من الخارج. ومن أجل أن لا تكون هذه الإجراءات مضادة للعادات الوطنية، يجب العمل على الفوز برضاء الأهالي قبل تنفيذها. حقيقة إن التَّقدُّم بهذه الوسيلة يكون بطيئًا، وإنَّ النِّظام المنشود لا يُعدُّ مقبولًا من وجهة نظرنا. ولكنَّه يكون في الواقع هادئًا وثابتًا، وتكون الثقة في ازدياد، ولا يكون هناك شعور بنير أجنبي موضوع على أكتافهم. والطريقة الثَّانية هي اكتساح القديم وإدخال نظام يُؤثِرُه الأوربيون؛ كأن يوضع قانون للعقوبات على آخر طراز أو نظام للضرائب والبوليس مأخوذ عن الغرب بما فيه من مزايا ومبادئ. ومن غير التَّفكير في كيف ينطبق هذا على الظروف المحلية.

ويرى لورد لوجارد في كتابه «الانتداب» وآخرون من رجال الإدارة الأوربيين في أفريقيا الأخذ بالطريقة الأولى «على أنَّه إذا كان من الحكمة حكم الوطنيين على مقتضى أساليبهم مع تعديلها بحيث لا يطبَّق منها ما يعد مناقضًا للإنسانية — فإنَّ طبيعة النظم الوطنية تكون مثار البحث والتشاور — أليست هذه الأساليب مؤسَّسة على عناصر الوحشية والجهل، وإنَّه إذا أخرج منها العناصر المضادة للإنسانية فإنَّ الباقي منها لن تكون له قيمة ويفقد انسجامه، كما أنَّه يتسائل من ذا الذي يحكم بمقتضى هذه الأساليب الوطنية وما هي مؤهلاته؟»

•••

لقد نهجت الحكومة السُّودانية في العهد الأخير خاصَّة منهج الحكم بواسطة مشايخ القبائل٢ بإعطائهم سلطة قضائية وشيئًا من السلطة التنفيذية «البوليسية»، وتقوم هذه الفكرة على أساس تخفيض نفقات الإدارة، وتخفيف المسئولية عن الحكومة المركزية، وإنشاء وحدات من القبائل، وإبعاد الكراهة للحكام الإنكليز أو المباشرين. ويقول مستر هارولد ماكمايكل — السكرتير الإداري السَّابق للحكومة السُّودانية وحاكم تنجانيقا — في كتابه «السودان الإنكليزي المصري» ص٢٣٥: إنَّ السُّوداني — سواء أكان عربيًّا أم لا دينيًّا، فإنَّه يؤثر الإداري الذي يتولى حكمه. فهو يثق به أكثر من سواه. ولكنَّه لن يمنحه الاحترام والتبجيل الذي يبديه لشيخ قبيلته، فإنَّه بحسب عقيدته يمقت من كلِّ قلبه الأجنبي، ويعتقد فيه أنَّه لا يفهم دينه، وأنَّ عاداته لا يقبلها الذوق.»

ويقول بنتام: «إذا كنت تريد أن تكسب قومًا، فيجب عليك أن تجعلهم يعتقدون أنَّك تحبهم، وأنَّ الطريقة المثلى هي أن تحبهم حبًّا صادقًا.» ويقول ماكميكل: «إذا كان هذا القول حقًّا فإنَّه من جهة أخرى لا يمكن أن تؤسَّس المحبة على الجهل وسوء التَّفاهم. وعلى الإداري الذي يريد أن يكون ناجحًا في إدارته أن يتجمَّل بالصبر وسعة الحيلة، وأن يبحث عن العادات الحسنة التي تكون مختبئة في الأساليب الوطنية، وأن يحاول بصبر أن يفهم أماني الوطنيين وآمالهم، وأن يبحث عن حاجاتهم، وأن يعرف لماذا يشعرون بها ويريدونها، قبل أن يُشرِّع لهم. وقد وصل إلى هذا تمكّن الإداري من استغلال الأساليب المحلية والعادات لما هو مفيد وسامٍ.»

ويقول الأستاذ بولارد في الفصل السادس من الجزء الثَّاني من «تاريخ كامبردج الحديث»: «جميع الحكومات — سواء أكانت مدنيَّة أم دينية — تقوم على أساس واحد، فليست قوتها في أنَّها توافق العقل والصواب والقانون. ولكنَّها تستمد قوتها من العادة ولا يكون الحكم ممكنًا إذا أُغفلت العادات التي تسبق القانون، والتي عندما تثبت في النفوس تصاغ بصيغة القانون. والقتل والاعتداء وجرائم الخيانة والسرقة والغش جرائم محتقرة عند الأوربيين والسُّودانيين على السواء.»

كانت أساليب نظام القبائل هي المتَّبعة في السُّودان قبل فتح محمد علي ١٨٢١. ولم يشأ الحكم المصري في السُّودان أن يتدخل في نظام القبائل، وقد ترك لمشايخها أكثر ماكان لهم من السلطة على أن ينفذوا الأوامر التي تصدر إليهم، وأن يحصِّلوا الضرائب، وعلى أن لا يقوموا بأي عمل مضرٍّ بمصالح الحكومة.

عندما أعيد فتح السُّودان، كان إدارته وحفظ الأمن فيه عسكريًّا، وكان لا يزال ماثلًا لأذهان الحكام حوادث المهدية. وكان سلاطين باشا الذي عيِّن مفتشًا عامًّا للسُّودان محل ثقة الحاكم العام سير رجنالد ونجت باشا،٣ وكانت آراؤه محترمة ونافذة. ولكونه احتمل ضروبًا من الأذى وصنوفًا من الإرهاق والذل والهوان وهو في الأسر، ظل ذهنه مطبوعًا بآثار ما عانى واحتمل، وظل يذكر الحوادث السابقة، وكان قد انتهى إلى عقيدة لم يتحول عنها، وهي أنَّه يجب أن لا يسمح لأحد من السُّودانيين أن يكون زعيمًا دينيًّا أو قبليًّا، وأن لا يسمح لأية شخصية في السُّودان أن تظهر وأن تنمو. وقد ظلت هذه الفكرة في أثناء وجود سلاطين باشا من سنة ١٨٩٩ إلى ١٩١٤، حيث عاد إلى بلاده النمسا وقامت الحرب وترك منصبه.

ويقول مستر ماكميكل: «إنَّه وإن كانت هذه الفكرة صحيحة إلَّا أنَّه يجب الاعتراف بأنَّ هناك حقيقة، وهي أنَّه ما دام للإنسان وجود على الأرض فسيوجد دائمًا رجال يبرزون، وإنَّ بروزهم لا يكون غير معقول أو شيئًا في غير محلِّه. وفضلًا عن ذلك فإنَّ الناس يفضلون أن يكون لهم زعماء ولا ينتظر منهم أن يقنعوا بغير ذلك.»

وقد أحدثت الحرب ونتائجها تغييرًا في الحكومات. وقد وجدت حكومة السُّودان أنَّ من الضروري إحداث تغيير في طريقة حكمه. وقد جاء في تقرير سير لي ستاك — الحاكم العام للسُّودان — عن ١٩٢١: «لقد اتخذت خطوات كثيرة منذ ابتداء سنة ١٩٢١ لانتهاج سياسة مقتضاها السماح للوطنيين «أهالي السُّودان» بنصيب في إدارة شؤونهم ومساعدتهم على احتمال المسئوليات. وقد نفذت هذه السِّياسة بوسائل مختلفة لتحقيق هذا الغرض: فقد انتُخب أهالي السُّودان وعُينوا في بعض وظائف معينة ونيطت بهم أعمال إدارية مباشرة. ومن جهة أخرى وضع تشريع خوَّل للمشايخ الوطنيين بعض السلطات على أفراد قبائلهم.» والتشريع المشار إليه قد وضع سنة ١٩٢١ ووُوفق عليه سنة ١٩٢٩، ورئي أن تكون سلطة المشايخ بارزة في الميدان القضائي أكثر من السلطة التنفيذية، وثانيًا أنَّ الأمر الصَّادر بهذا وُصف بأنَّه تنظيم لسلطة المشايخ، وذكر فيه أنه منذ زمن بعيد كان لمشايخ القبائل البجوية سلطة معاقبة رجال قبائلهم والفصل في المنازعات التي تقوم بينهم، وأنه قد رئي تنظيم استعمال هذه السلطات. وجعل أقصى ما يمكن الحكم به من الغرامة في الجرائم الكبيرة التي يفصل فيها الشيخ مع أعضاء محكمته غرامة أقصاها ٢٥ جنيهًا إنكليزيًّا، والجرائم الصغرى رخص للشيخ أن يحكم فيها وحده بإذن من المدير، وأن يكون أقصى الغرامة عشرة جنيهات، ولم يرخص لهم بإصدار أحكام بالحبس، وقد نيط تنفيذ حكم الشيخ بواسطة الحكومة كما لو كان الحكم صادرًا من محكمة قضائية عادية.

وفي سنة ١٩٢٢ رُئي القيام بتجربة في دار مساليت التي كان يحكمها سلطان من أهلها، والتي ضُمَّت إلى السُّودان بمقتضى الاتِّفاق الإنكليزي الفرنساوي سنة ١٩١٩. ذلك بأن ترك لهذا السُّلطان أن يدير الشئون الداخلية لمملكته الصغيرة تحت إشراف «مقيم بريطاني» ومن جهة أخرى خول رئيس الشلك «ريت» في النِّيل الأعلى شيء من السلطة. وأنشئت محاكم من المشايخ في المديريات الجنوبية للفصل في القضايا المحلية القليلة الأهمية.

وقد واصلت الحكومة السُّودانية هذه التَّجارب وقال الحاكم العام في تقريره: إنَّه قد أصبح لثلثمائة شيخ للقبائل البدوية وشبه البدوية سلطات تؤيدها سلطة الحكومة. وفي سنة ١٩٢٥ وضعت ميزانية خاصة للإدارة الأهليَّة بدار مساليت ومنح لريق الدنكة في بحر الغزال محكمة مشايخ. وصدر قانون المحاكم القروية عندما عين سير جوفري آرشر خلفًا للسير لي استاك في يناير سنة ١٩٢٥، وواصل تحقيق هذه السِّياسة، ولكنَّه استقال بسبب صحته، وعين في ١٨ أكتوبر ١٩٢٦ سير جون مافي حاكمًا عامًّا للسُّودان، وقد كان قبلًا حاكمًا للإقليم الشَّمالي الغربي بالهند. وقد قال سير جون في تقريره عن سنة ١٩٢٧ إنَّه مقتنع بتوسيع الإدارة الأهليَّة وبتطبيق توصيات لجنة ملنر ١٩١٩ و١٩٢١ قد خوَّل الأمر الصَّادر من مجلس الحاكم العام في سنة ١٩٢١ بأن يكون له تأليف «محاكم أهلية»، أي تؤلَّف من الأهالي في أي جهة، وأن يكون هناك نوعان من المحاكم: المحاكم العليا والمحاكم الصغرى، فالمحاكم العليا يعين رئيسها ونائب رئيسها وأعضاؤها التي تؤلف منها ويحدُّ اختصاصها في العقاب وتختلف هذه السلطة، فهي أحيانًا الحكم بالحبس لمدة سنتين والغرامة إلى مائة جنيه، وأحيانًا بالحكم بالحبس لمدة شهر وغرامة خمسة جنيهات. أمَّا في المحاكم الصغرى فتتراوح السلطة بالحكم بغرامة مبلغها جنيهان وعشرون جنيهًا مصريًّا. ولهذين النوعين من المحاكم اختصاص مدني واختصاص جنائي. وخول لمديري المديريات، بشرط موافقة الحكومة المركزية بأن يضعوا قواعد لسير هذه المحاكم وبأن يكون للمديرين والمفتشين حق مراجعة أي حكم تصدره محكمة أهليَّة، أو أن ينقلوا أية قضية إلى المحاكم العادية إذا رأوا ضرورةً لذلك.

وفي سنة ١٩٢٨ تقرَّر فتح اعتماد بإعطاء مكافآت أو مرتبات لرؤساء المحاكم ومشايخ القبائل مقابل الأعمال المنوطة بهم والنفقات التي عليهم آداؤها، مثل مرتبات السُّعاة والخدم ونفقات بناء دور لهذه المحاكم. وقد عُدِّل قانون الإجراءات الجنائية؛ فقد أنشئت في المدن محاكم مثل هذه للفصل في الجرائم الصغيرة بمقتضى هذه العقوبات، وأعطي للمجالس الحكم بالحبس لمدة شهر والغرامة إلى خمسة جنيهات.

كذلك وسِّعت الإدارة الأهليَّة عن طريق السماح للمشايخ الأكفاء الموثوق بهم الرقابة على ميزانيات القبائل، وألفت جمعية تعاونية مَدَّتها الحكومة بالمال تحت إشراف محكمة أهليَّة في طوكر بإدارة المال المخصص للسُّلف الزراعية للزرَّاع في دلتا البركة، وقد جعلت قبائل البجة مع الهدندوة تحت مديرية كسلا بدلًا من محافظة بور سودان.

وفي نهاية ١٩٢٩ كان هناك ٧٢ محكمة أهليَّة في شمال السُّودان سمعت أكثر من عشرة آلاف قضية.

وفي سنة ١٩٣١ صدر قرار بشأن القبائل اللادينية في الجنوب. كما صدر قرار آخر في صدد المحاكم الأهليَّة في الشَّمال حلَّ محل التَّشريع السابق.

(٦) النظام القضائي في السُّودان

(٦-١) المحاكم الأهليَّة

أنشئت في السُّودان محاكم تُشبه «محاكم الأخطاط» في مصر، وأسميت المحاكم الأهليَّة، وصدر بشأنها القانون نمرة ٣ سنة ١٩٣٢.

قانون المحاكم الأهليَّة سنة ١٩٣٢ — نشر في غازيتة الحكومة السُّودانية عدد ٥٥٨ في ١٥ فبرير سنة ١٩٣٣.

وهو قانون لإلغاء سلطات المشايخ سنة ١٩١٨، وقانون المحاكم القروية سنة ١٩٢٥، وقانون «تعديل» المحاكم القروية سنة ١٩٣٠، وإعادة سنِّها معدَّلة.

قد سنَّ حاكم السُّودان العام في مجلسه ما يأتي:

اسم القانون وبدء نفاذه

(١) يسمى هذا القانون قانون المحاكم الأهليَّة سنة ١٩٣٢، ويُعمل به عند نشره في غازية حكومة السُّودان.

إلغاء

(٢-١) يلغي هذا القانون سلطات المشايخ سنة ١٩٢٨، وقانون المحاكم القروية سنة ١٩٢٥، وقانون «تعديل» المحاكم القروية سنة ١٩٣٠.

(٢-٢) جميع السلطات التي مُنحت، والأعمال التي عملت، والأحكام التي أصدرت، والأوامر أو التعيينات التي حصلت، واللوائح التي قرِّرت بمقتضى أي القوانين التي قرّر إلغاؤها بهذا القانون، والتي تكون نافذة المفعول مباشرة قبل اليوم الذي يعمل فيه بمقتضى هذا القانون تُعتبر كأنَّها مُنحت وعُملت وأُصدرت وحصلت وقرِّرت بمقتضى هذا القانون.

(٢-٣) عندما ينفَّذ هذا القانون تعتبر جميع القضايا المعلَّقة في أي محكمة مؤسسة بمقتضى أي القوانين التي ألغيت بهذا كأنَّها شُرع فيها بمقتضى هذا القانون، ويواصل السير فيها بمقتضاه.

(٢-٤) في كلّ تشريع صادر قبل نفاذ هذا القانون أشير فيه إلى أي قانون ملغى بهذا تعتبر تلك الإشارة بالقدر الممكن موجهة إلى هذا القانون.

سريان القانون

(٣) يسري هذا القانون على كلّ السُّودان ما عدا مديريات أعالي النِّيل وبحر الغزال ومنجلا.

تعريف الألفاظ

(٤) تدل الألفاظ والعبارات الآتية في هذا القانون على ما يلي من المعاني ما لم يُظهر لها الموضوع أو سياق الكلام معنى آخر.

يشتمل لفظ المفتش «مساعد المفتش». عبارة «موظف حكومة» تشتمل أي شخص مستخدم في الحكومة ما عدا:
  • (أ)

    صف ضباط وأنفار قوة دفاع السُّودان.

  • (ب)

    رجال البوليس من رتبة بتجاويش وأدنى.

  • (جـ)

    الفَعَلة والمراسلات والحمَّالين وأية طوائف من الخدَّامين في أية مديرية أو مركز أو منطقة يقرِّرها الحاكم العام بأمر ينشر في غازيتة حكومة السُّودان، ولكن تلك العبارة لا تشمل أي شخص في خدمة شيخ.

    يشمل لفظ «شيخ» كلّ زعيم قبيلة أو إقليم منح سلطة على قبيلته أو جزء من مركز أو على قرية.

    ويراد بلفظ «رئيس» كلّ شخص يرأس أية محكمة من المحاكم المؤسسة بمقتضى هذا القانون.

    ويراد بعبارة «محكمة قانونية اعتيادية» أية محكمة مؤسسة بمقتضى قانون تحقيق الجنايات أو قانون القضاء المدني أو قانون محاكم السُّودان الشرعية سنة ١٩٠٢.

أنواع المحاكم الأهليَّة

(٥) تكون في السُّودان أنواع المحاكم الأهليَّة الآتية:
  • (أ)

    «محكمة شيخ» ويقصد بها محكمة يرأسها شيخ جالس مع أعضاء.

  • (ب)

    «محكمة شيخ جالس في مجلس» ويقصد بها محكمة الشيخ الجالس مع الكبار.

  • (جـ)

    محكمة قروية.

  • (د)

    محكمة شيخ جالس منفردًا.

  • (هـ)

    محكمة مخصوصة كالمنصوص في المادة ١٣.

إنشاء المحاكم الأهليَّة

(٦-١) يجوز للحاكم العام أن ينشئ محاكم أهليَّة في الأماكن التي يستنسبها.

(٦-٢) تنشأ محكمة مخصوصة بالطريقة المبيَّنة في المادة ١٣.

(٦-٣) تنشأ محكمة قروية بأمر كتابي موقَّع عليه من المدير بموافقة الحاكم العام.

(٦-٤) كلّ نوع آخر من المحاكم الأهليَّة ينشأ بأمر موقَّع عليه من الحاكم العام.

الأوامر القضائية بإنشاء المحاكم الأهليَّة

(٧-١) يعين في الأمر القاضي بإنشاء المحكمة الأهليَّة سلطاتها وحدود اختصاصها.

(٧-٢) يجب أن يبيِّن في الأمر اسم الرئيس، وإذا كانت محكمة شيخ فيبيِّن أسماء الأشخاص المؤهَّلين للجلوس كأعضاء، ويجوز أن يبيَّن بالنسبة إلى محكمة الشيخ الجالس في مجلس الكبار المؤهلون للجلوس مع الشيخ.

(٧-٣) في محكمة الشيخ يجب أن يبيَّن في الأمر الطريقة التي ينتخب بها الأعضاء المستعاضون والإضافيون وعدد الأعضاء الكافي لانعقاد المحكمة.

(٧-٤) يجوز أن ينص في الأمر أن الرئيس مأذون له أن يحوِّل سلطاته إلى الأشخاص المذكورين في الأمر، وما لم ينص على ذلك صراحةً فلا يجوز للرئيس أن يحوِّل سلطاته إلَّا بإذن كتابي من المدير، ولا يعطى ذلك الإذن إلَّا في ظروف استثنائية فقط.

(٧-٥) يجب أن يُصحب الأمر باللوائح الصادرة بمقتضى المادة ١٧. وإذا كانت محكمة قروية يجب أن يبيِّن بتلك اللَّوائح تشكيل المحكمة وتعيين الرئيس.

(٧-٦) يجوز أن يُلغى الأمر بواسطة الحاكم العام، وتُسحب السلطات الممنوحة بمقتضاه، إذا اقتنع أنَّ تلك السلطات قد أسيء استعمالها.

اختصاص المحاكم

(٨-١) لكلِّ محكمة أهليَّة الاختصاص الكامل والسُّلطة بالقدر المبيَّن في هذا القانون أو في الأمر القاضي بإنشاء المحكمة أو في اللوائح المصحوب بها ذلك الأمر، ويشترط أن لا تكون لمحكمة أهليَّة سلطة:
  • (أ)

    أن تُسمع أية دعوى مدنيَّة طرفاها غير داخلين تحت اختصاص المحكمة إلَّا برضاء الطرفين أو.

  • (ب)

    أن تسمع أية دعوى مدنيَّة يكون أحد طرفيها داخلًا تحت الاختصاص والطرف الآخر غير داخل إلَّا برضاء الطرف غير الداخل تحت الاختصاص أو.

  • (جـ)

    أن تسمع أية دعوى مختصَّة بملكية أرض ما عدا دعوى قسمة أرض مسجلة بمقتضى قانون تسوية وتسجيل الأراضي سنة ١٩٢٥ ومملوكة لشركاء إرث بحصص شائعة أو.

  • (د)

    أن تحكم في أية قضية جنائية يكون المتَّهم فيها موظفًا في الحكومة أو.

  • (هـ)

    أن تحكم في أية قضية جنائية يكون المتَّهم فيها رجل بوليس إلَّا برضاء المدير وإن كان المتَّهم صف ضابط أو عسكريًّا في قوة دفاع السُّودان فلا تحكم إلَّا برضاء قومندان القسم والمدير أو.

  • (و)

    أن تحكم في أية جريمة من الجرائم المبيَّنة في الجدول الأول الملحق بهذا القانون.

    ويشترط أيضًا ألَّا تكون للمحكمة القروية سلطة:

  • (ز)

    أن تحكم في أية جريمة من الجرائم المبيَّنة في الجدول الثَّاني الملحق بهذا القانون أو.

  • (ح)

    أن تسمع أي دعوى مدنيَّة تزيد قيمة الشيء المتنازع فيه عن خمسة جنيهات مصرية ما عدا أمثال القضايا المذكورة في البند الشرطي (ج).

(٨-٢) لا يُؤَوَّل البند الشَّرطي (ج) من الفقرة (أ) بحيث يحرم المحكمة الأهليَّة من سماع قضية تتعلَّق بملكية النَّخيل.

(٨-٣) في دعوى قسمة عقار مسجَّل تحت قانون تسوية وتسجيل الأراضي سنة ١٩٢٥ ومملوك لشركاء في إرث بحصص شائعة للمحكمة الأهليَّة ذات الاختصاص على المنطقة التي يقع فيها العقار الحق أن تسمع وتفصل في تلك القضية بصرف النَّظر عن أن واحدًا أو أكثر من الشركاء في الملك لا يقيم أو لا يقيمون ضمن دائرة اختصاص المحكمة أو غير داخل أو غير داخلين تحت اختصاصها.

القانون الذي يُطبَّق

(٩-١) تطبق المحكمة الأهليَّة ما يأتي:
  • (أ)

    القانون الأهلي والعُرف السَّاري في المنطقة أو في القبيلة التي تباشر المحكمة اختصاصها عليها، بشرط أن لا يخالف ذلك القانون الأهلي والعُرف العدالة أو الفضيلة أو النِّظام.

  • (ب)

    نصوص أي قانون لا تكون جزءًا من القانون الأهلي والعرف إذا أذن صراحة للمحكمة بمقتضى أمرها أو لوائحها أن تطبق النصوص.

(٩-٢) يجوز للمحكمة الأهليَّة مع مراعاة الشروط المدوَّنة في أمرها ولوائحها أن تحكم في الجرائم بالحبس أو الغرامة أو بهما معًا. أو بالنسبة إلى الذكور فلها أن تحكم بما لا يزيد عن ٢٥ جلدة بالسوط أو المقرعة. على أنَّه يشترط ما يأتي:
  • (أ)

    أن لا تحكم محكمة الشيخ الجالس في مجلس بالحبس.

  • (ب)

    أن تحكم المحكمة القروية بالغرامة فقط، وأن لا تتجاوز مقدار تلك الغرامة العشرة جنيهات مصرية.

وجوب حفظ محضر

(١٠) يجب أن يحفظ محضر بالكتابة عن كلّ القضايا التي يحكم فيها بموجب هذا القانون.

ويجب أن يشتمل المحضر على ما يأتي:
  • (أ)

    اسم الرئيس. وإذا كانت محكمة شيخ أو محكمة قروية فيجب تدوين أسماء الأعضاء.

  • (ب)

    تاريخ ومكان سماع القضية.

  • (جـ)

    أسماء طرفي القضية.

  • (د)

    أسماء الشهود الذين استُجْوِبوا.

  • (هـ)

    بيان موجز عن الوقائع.

  • (و)

    حكم المحكمة الذي يجب أن يوقع عليه الرئيس، وإذا كانت محكمة شيخ أو محكمة قروية فيجب أن يوقع عليه الأعضاء.

وجوب صدور الأحكام بالإجماع أو وجوب الموافقة عليها

(١١) لا يعد صحيحًا حكم محكمة الشيخ أو حكم محكمة قروية لم يوافق عليه الأعضاء بالإجماع ما لم يصدق عليه المفتش، ولا يحصل هذا التصديق على حكم ما لم يكن أُصدر بأغلبية أصوات المحكمة.

الاستئناف

(١٢-١) يجوز أن تُعطَى المحكمة الأهليَّة — بموجب الأمر القاضي بإنشائها — سلطات استئنافية، وفي هذه الحالة يجب أن يبيَّن في الأمر المحاكم الأهليَّة التي يجوز استئناف أحكامها إلى تلك المحكمة.

(١٢-٢) إذا نصَّ على ذلك صراحة في اللوائح المرافقة للأمر القاضي بإنشاء المحكمة الأهليَّة فيكون هناك حق في استئناف قرار تلك المحكمة إلى المحكمة الأهليَّة الأخرى المبيَّنة في لوائح المحكمة الأولى المذكورة.

(١٢-٣) إذا لم تشتمل اللوائح المرافقة للأمر القاضي بإنشاء المحكمة الأهليَّة على نصٍّ صريح بخصوص حقِّ الاستئناف إلى محكمة أهليَّة أخرى، فلا يصح الاستئناف إلَّا برضاء المدير أو المفتش.

المحاكم المخصوصة

(١٣-١) في أيِّ الأحوال الآتية يجوز للمدير بموافقة الحاكم العام أن يعقد محكمة إذا رأى ذلك من صالح العدالة:
  • (أ)

    إذا كان المتَّهم أو المدَّعى عليه تابعًا لاختصاص محكمة أهليَّة والمشتكي أو المدعي تابعًا لاختصاص محكمة أخرى.

  • (ب)

    إذا كان المتَّهم نفسه شيخًا.

  • (جـ)

    إذا كانت الجريمة المزعومة ذات جسامة بحيث يظهر أنَّ سلطات أية محكمة أهليَّة ذات اختصاص غير كافية للنظر والحكم فيها.

(١٣-٢) يسمي المدير الرئيس والأعضاء للمحكمة المخصوصة من الأشخاص المعينين بمقتضى البند ٧ للجلوس في محكمة شيخ.

(١٣-٣) في الأحوال المبيَّنة بالبندين (أ) و(ب) من الفقرة (١) يجوز أن تكون موافقة الحاكم العام المطلوبة بالفقرة «١» موافقة عمومية قابلة للإلغاء من قبله في أي وقت، ولكن في الحالة المبيَّنة بالبند (ج) من الفقرة «١» يجب أن تكون هناك موافقة مخصوصة تتعلق بكل حالة.

(١٣-٤) سلطات المحكمة المخصوصة بالحبس لا يجوز أن تزيد:
  • (١)

    في الحالة المبيَّنة بالبند (أ) من الفقرة (١) عن أقصى السلطات المقرَّرة في الأمر لأي عضو من أعضاء المحكمة المخصوصة بصفته رئيسًا لمحكمة أهلية.

  • (٢)

    في الحالة المبيَّنة بالبند (ب) من الفقرة (١) عن سبع سنوات.

  • (٣)

    في الحالة المبيَّنة في البند (ج) من الفقرة (١) عن عشر سنوات.

  • (٤)

    لا يعتبر القرار ولا الحكم نهائيًّا في أية قضية جنائية حكمت فيها محكمة مخصوصة إلَّا بعد أن يؤيده المدير.

سلطة إعادة النظر

(١٤-١) في أية قضية حكمت فيها محكمة أهليَّة غير المحكمة المخصوصة يجوز للمدير أو للمفتش بناءً على طلب أي شخص له علاقة بالقضية أو من تلقاء نفسه أن يفعل ما يأتي:
  • (أ)

    أن يوقف أو يخفض أو يعدِّل بغير ذلك أي حكم أو قرار أو.

  • (ب)

    أن يأمر بإعادة سماع القضية أمام نفس المحكمة أو أمام أية محكمة أهليَّة أخرى مختصة بالنظر فيها أو.

  • (جـ)

    أن ينقل إلى محكمته أية قضية إمَّا قبل المحاكمة أو في أية درجة من درجات الإجراءات، سواء كان قبل أو بعد إصدار الحكم أو إعطاء القرار.

(١٤-٢) للمدير مثل هذه السلطات في أية قضية حكمت فيها محكمة مخصوصة.

القضايا المعلقة أو التي حكم فيها أمام محاكم أخرى

(١٥) لا حق للمحاكم القانونية الاعتيادية بالنظر في أية مسألة — جنائية كانت أو مدنيَّة — سبق الحكم فيها بموجب نصوص هذا القانون ما دام ذلك الحكم قائمًا، ولا يجوز لأية محكمة منشأة بمقتضى هذا القانون أن تحكم في أية قضية تنظر فيها أو قد نظرتها أية محكمة قانونية اعتيادية إلَّا برضاء تلك المحكمة.

التنفيذ

(١٦-١) الحكم بالغرامة إذا أصدرته محكمة لها سلطة الحكم بالحبس يجوز تنفيذه بمقتضى حكم الحبس في حالة عدم دفع الغرامة بشرط أن لا يزيد مجموع مدة الحكم بالحبس في حالة عدم دفع الغرامة والحكم الأساسي بالحبس «إن وجد» كلاهما عن أقصى المدة التي للمحكمة الحكم بها.

(١٦-٢) تنفذ أحكام وقرارات المحاكم الأهليَّة بالطريقة المنصوص عليها في اللوائح المرفقة بالأمر القاضي بإنشاء المحكمة.

(١٦-٣) يجوز للمفتش أن يجري تنفيذ حكم أية محكمة أهليَّة بناءً على طلب تلك المحكمة أو طلب الطرف المتظلِّم بنفس الطريقة التي ينفذ بها لو كان حكم أو قرار محكمة قانونية اعتيادية.

اللوائح

(١٧-١) يصدر المدير لوائح ترافق الأمر القاضي بإنشاء المحكمة الأهليَّة لإرشاد المحكمة وتنفيذ نصوص هذا القانون.

لا يجوز أن تكون تلك اللوائح مخالفة لنصوص هذا القانون، ويجوز أن تنص على ما يأتي:
  • (أ)

    تحديد سلطات المحاكم الأهليَّة من حيث اختصاصها على الأشخاص والجرائم التي يجوز أن تحاكم فيها والعقوبات وأنواع أو قيمة القضايا التي يجوز أن تسمع وأية قيود أخرى يستنسبها المدير.

  • (ب)

    الإجراء بخصوص الاستئنافات.

  • (جـ)

    الرسوم التي تدفع في المحاكم الأهليَّة.

  • (د)

    التَّصرف بالغرامات والرسوم التي تحصلها المحاكم الأهليَّة واستعمال تلك الغرامات والرسوم.

  • (هـ)

    طرق السير في المحاكم الأهليَّة والإجراءات المتَّبعة فيها.

  • (و)

    تشكيل المحاكم القروية وتعيين أشخاص للرئاسة.

  • (ز)

    تعيين الكبار للجلوس مع الشيخ في المجلس.

  • (ح)

    الطريقة التي تنفذ بها قرارات المحاكم.

  • (ط)

    تنفيذ نصوص هذا القانون على العموم.

(١٧-٢) هذه اللوائح تكون خاضعة لموافقة السكرتير الإداري والسكرتير القضائي وبقدر ما لها من العلاقة بالتَّصرف بالرسوم أو إيراد آخر أو صرف أي مصاريف لم تقرَّر في الميزانية تكون خاضعة لموافقة السكرتير المالي.

الجدول الأول:

القتل، الجرائم ضد الحكومة أو التي تتعلق بالقوات العسكرية، الجرائم التي تتعلق بالاسترقاق، أي أنواع أخرى من الجرائم يجوز أن تستثنى على الخصوص في الأمر القاضي بإنشاء المحكمة.

الجدول الثَّاني:

التَّهجم. الأذى. الإساءة الناشئ منها خسارة أو تلف بمقدار لا يزيد عن خمسة جنيهات مصرية. التعدي الجنائي. السب. المشاجرة. تلويث ماء مورد عام أو صهريج عمدًا. السرقة أو الامتلاك الجنائي أو خيانة الأمانة لمال لا تزيد قيمته عن خمسة جنيهات مصرية.

الجرائم ضد أي قانون داخل صراحة في الأمر القاضي بإنشاء المحكمة بأنه قانون تدخل مخالفته ضمن اختصاص المحكمة.

أصدره حاكم السُّودان العام في مجلسه في اليوم الثَّاني والعشرين من شهر يناير سنة ١٩٣٢.

«الإمضاء» ر. ح هلارد سكرتير المجلس
«الإمضاء» ج. ل. مفي الحاكم العام

تنفيذ الأحكام بين مصر والسُّودان

بمقتضى قانون تنفيذ الأحكام المصريَّة الصَّادر في ٢٣ مايو سنة ١٩٠١، يجب على صاحب أي حكم مصري مدني أن يتوجَّه إلى السُّودان أو أن يعيِّن وكيلًا له فيه لدى المحكمة المدنية للحصول على حكم سوداني استنادًا إلى الحكم المصري.

أمَّا الأحكام الشرعية المصريَّة فإنها تنفَّذ في السُّودان مباشرة بغير حاجة إلى استصدار حكم في السُّودان؛ ذلك لأنَّ القضاء الشرعي في السُّودان يسير طبقًا للقضاء الشرعي في مصر، ولأنَّ قاضي قضاة السُّودان هو قاضٍ شرعي مصري كما هو معروف، وتسلم حكومة السُّودان إلى الحكومة المصريَّة كلّ متهم أو محكوم عليه من المصريين بمجرد طلب وزارة الحقَّانية المصرية.

وتنفذ الأحكام السُّودانية الشرعية بطريق إرسالها إلى وزارة الحقانية المصريَّة لتتولَّى التنفيذ.

والحكومة المصريَّة تعد كلّ سوداني فيها كالرعايا المصريين من وجهة التقاضي والمحاكمات الجنائية.

(٧) المحاكم المدنية والجنائية

قبل المَهديَّة كان الحكم مباشرًا؛ أي أنَّ الذي يتولاه هم المأمورون والمديرون ورؤساء الأخطاط بغير تعيين أشخاص معينين إخصائيين يتولون القضاء.

في عهد المَهديَّة: كان يتولى القضاء قضاة شرعيون وموظفون يشبهون المديرين سلطة، قابلون للنقل والعزل. وكانت أحكامهم تستأنف أمام مجلس القضاة في أم درمان، ويؤلف من عشرة قضاة يرأسهم قاضي القضاة. على أن المرجع الأخير كان للمهدي ثمَّ لخليفته عبد الله التعايشي.

وكان هؤلاء القضاة يفصلون في جميع المنازعات ما عدا المسائل التِّجاريَّة فهي من اختصاص المجلس التِّجاري المؤلف من عشرة تجار. وكان «وهبي» وهو مصري، كان مأمورًا في بربر قبل الثَّورة المَهديَّة يفصل في الجرائم الصغيرة.

بعد استعادة السُّودان: كان الحكم مباشرًا، أي يتولى القضاء المديرون والمأمورون في المسائل المدنية والتجارية. والقضاة الشرعيون في مسائل الأحوال الشخصية.

وفي سنة ١٩١٩ أنشئت سلطة المشايخ «العمد»، فأصبحوا يحكمون في بعض القضايا، وتطور هذا النِّظام فأنشئت «محاكم أهلية»، ويرأس المحكمة الأهليَّة ناظر القبيلة أو الخطّ أو من يعينه الحاكم العام، ويكون معه أعضاء يختلف عددهم بحسب البلاد. كما هو مبين في القوانين السَّابقة في هذا الفصل.

المحاكم المدنية: توجد محاكم نظامية مدنيَّة كالمحاكم الأهليَّة بمصر. وترفع إليها الدعوى بعريضة تلصق بها ورقة تمغة قيمتها ثلاثة قروش. ويذكر بها ملخص الدعوى والطلبات، وتقدم العريضة في اليوم التَّالي بالجلسة الساعة التاسعة صباحًا. وفي هذه الجلسة يصرِّح القاضي للمدعي بالسير في الدعوى، فيحصل رسم عليها بنسبة ٥٪ من قيمتها ابتدائيًّا واسمها «رسوم شكوى»، و٥٪ أخرى واسمها «رسوم سماع»، وتحدد جلسة لسماع الدعوى، ويكون تحديدها بعد أسبوع على الأقل من تاريخ دفع الرسوم.

وهناك محكمة جنائية تسمى «محكمة بوليس».

ولغة المحاكم النظامية هي: الإنكليزيَّة والعربية، غير أنَّ الغالب أن تكون الأحكام وإعداد المحاضر بالإنكليزية.

تنفيذ الأحكام النظامية والشرعية: يكون تنفيذها بطريق عريضة من جديد، ويؤخذ عليها رسم ٥٪ فيصدر القاضي أمره بالحجز. وينفذ الأوامر «المحضر»، وبعد ذلك ينفذ الحجز في سبعة أيام. والبيع يكون بناءً على طلب الدائن، وبعد إعلان تاريخ البيع في موعد ١٤ يومًا في حالة بيع منقولات وشهر في حالة العقارات. ولا يجوز بيع العقارات إلَّا بأمر من المدير.

وتنفذ المحاكم المدنية النظامية الأحكام الشرعية بالنفقات وتسليم الأولاد.

وتؤلف محكمة الاستئناف من ثلاثة قضاة. وأكثر القضايا الجنائية يفصل فيها رجال الإدارة ويقدم الاستئناف فيها للحاكم العام. وفي الجنايات في المحاكم الكبرى تستأنف الأحكام أمام المدير بواسطة السكرتير القضائي، الذي سلطته تماثل سلطة وزير الحقانية في مصر.

وتتألف محكمة عليا من جميع القضاة المدنيين الحاليين، ومحكمة الاستئناف من ثلاثة من أعضاء المحكمة العليا. أما في القضايا الصغرى فمحكمة الاستئناف تؤلف على الأرجح من قاضيين فقط.

وقد تمَّت مباني المحاكم في الخرطوم، وفتحها صاحب السمو الملكي دوق كبنوت في فبراير سنة ١٩٠٨.

وأعدت الحكومة منازل للقضاة والموظفين في البلاد البعيدة كالرصيرص.

ومن محاكم السُّودان:

محكمة النائب القضائي. والمحامي العام. ومحكمة الخرطوم المدنية، ومحكمة الإفلاس بالخرطوم، ومحكمة الأراضي والتسجيل بالخرطوم، ومحكمة مركز الخرطوم. ومحكمة مركز أم درمان والتسجيل، ومحكمة الخرطوم التَّالية، ومحكمة ضابط بوليس الخرطوم، ومحكمة مديرية البحر الأحمر ومفتشون قضائيون، ومكاتب لتسوية الأراضي، ومحكمة واد مدني.

وقد زاول مصريون مهنة القضاء المدني في السُّودان، نذكر منهم حضرات صدقي خليل أفندي «بك»، والسيد العشري بك، والسبع بك، ومحمد حسن العشماوي بك «وكيل المعارف الآن»، وأحمد فؤاد بك.

ومن القوانين: العقوبات تحقيق الجنايات، قانون القضاء المدني، قانون محاكم السُّودان الشرعية، وتأديب الوطنيين، والعوائد الجليلة، والضرائب وأراضي الحكومة والبوليس، والقطن والبوليس والصحة.

وجاء في تقرير كرومر عن سنة ١٩٠٦ ما يلي:

عين منذ زمن ليس ببعيد صدقي أفندي خليل «بك» أحد متخرجي مدرسة الحقوق مع قاضٍ مصري آخر للفصل في القضايا الصغيرة في الخرطوم. وقال مستر بونهام كارتر: «قدَّم إليَّ صدقي أفندي خليل تقريرًا يذكر فيه قصر المدة التي تفصل فيها القضايا الصغيرة في السُّودان والتأخير العظيم في القضايا في القطر المصري، ففي سماع هذه القضايا لا يبالغ بالاهتمام بالإجراءات الاصطلاحية. وأؤمِّل أن يكون مثل ذلك جاريًا في قضايا السُّودان عمومًا. فإنَّنا قد وضعنا قول السر جورج جل نصب عيوننا «وهو أنَّ فائدة هذه الأمور الاصطلاحية التخلص من قبضة القضاة». وإنما أقول هذا القول لاعتقادي أنَّ إجراءات المحاكم المصريَّة بطيئة جدًّا على غير جدوى. وأصرح باعتقادي أنه لا بدَّ من مجيء يوم يظهر فيه للجمهور فضل النِّظام القضائي السُّوداني على المصري.

وكان القضاة المصريون يحملون شهادة مدرسة الحقوق الخديوية. ولا يوجد منهم أحد اليوم فقد نقلوا شيئًا فشيئًا في العهد الأخير إلى القضاء الأهلي.

على أنَّ شهادة الدراسة الحقوقية ليست شرطًا في التَّعيين في وظائف القضاة، فهناك مترجمون بالمحاكم أو موظفون عينوا قضاة مدنيين. وأكثر القضاة من الإنكليز، ويوجد نسيب البستاني أفندي قاضيًا مدنيًّا لمحكمة واد مدني، وهو لبناني الأصل.

المحاماة:

عدد المحامين في الخرطوم خمسة: أحدهم إنكليزي، واثنان يونانيان واثنان أحدهما مصري والثاني متمصِّر. ولا يجوز للمحامي الغريب أن يترافع في السُّودان إلَّا بعد تصديق من الحاكم العام، وتصدر المحاكم النظامية أحكامها بسرعة والإجراءات سهلة. والعدالة فيها مكفولة أكثر من المحاكم الأهليَّة والقروية السُّودانية.

وقد أصدرت الحكومة في هذا العام تشريعًا خاصًّا بمزاولة مهنة المحاماة بين خريجي الحقوق السُّودانيين. وأنشأت مدرسة حقوق الخرطوم لتخريج القضاة والمحامين. وقد نشر التَّشريع الخاص بها في الفصل الخاص بالتعليم في السُّودان.

(٨) مسألة قاضي قضاة السُّودان٤

منصب قاضي قضاة السُّودان هو أكبر منصب شغله ويشغله مصري في الحكومة السُّودانية. وقد عرضنا لرغبة الحكومة السُّودانية في الاحتفاظ به إلى أحد رجال القضاء الشرعي السُّودانيين «راجع الصفحات السابقة من هذا الجزء»، وذلك لمناسبة نقل فضيلة الشيخ محمد أمين قراعة من السُّودان إلى مصر.

وقد رأينا أن ننقل هنا ما جاء في «الوقائع المصرية» في عددها الصَّادر بتاريخ ٢١ إبريل سنة ١٩٣٢ المرسوم التَّالي بعنوان مرسوم بشأن قاضي قضاة السُّودان، وهذا نصه:

نحن فؤاد الأول ملك مصر

بناءً على طلب الحاكم العام للسُّودان، وبعد الاطلاع على قرار مجلس الوزراء في ٣٠ مارس سنة ١٩٣٢ وموافقة رأي ذلك المجلس، رسمنا بما هو آت:
  • المادة الأولى: يُخلَى الشيخ محمد نعمان الجارم نائب محكمة طنطا الابتدائية الشرعية من وظيفته ليتولَّى منصب قاضي قضاة السُّودان.
  • المادة الثانية: على رئيس مجلس الوزراء تنفيذ مرسومنا هذا.

بأمر حضرة صاحب الجلالة الملك: رئيس مجلس الوزراء إسماعيل صدقي.

فؤاد

صدر بسراي عابدين في ٩ ذي الحجة سنة ١٣٥٠ الموافق ١٥ إبريل سنة ١٩٣٢.

•••

وقد وافق مجلس الوزراء في جلسة ٣٠ مارس سنة ١٩٣٥ على تعيين فضيلة الشيخ محمد نعمان الجارم نائب محكمة طنطا الشرعية قاضيًا لقضاة السُّودان على أن يعطى مرتبًا سنويًّا مقداره ٩٠٠ جنيه في السنة، ويزاوله في كلّ سنة مائة جنيه بحسبان خدمة السنة الواحدة في السُّودان مقابل سنة ونصف في مصر، وأن تكون إحالته على المعاش على قاعدة ١٢٠٠ جنيه مصري.

وقد درست وزارة المالية طلبات فضيلة الشيخ الجارم لمعرفة الفرق بين راتبه في الخرطوم وراتبه في مصر لو بقي في المحاكم الشرعية وبين معاشه الذي يتناوله هنا بعد انتهاء مدة خدمته ومعاشه الذي يتناوله بعد انتهاء مدة الخدمة في السُّودان، وستحمل الحكومة المصريَّة الراتب مدة الخدمة والمعاش بعد الإحالة على المعاش.

هوامش

(١) كانت الحكومة السُّودانية عند رغبة فضيلة الشيخ قراعة في النقل إلى مصر، تريد انتهاز الفرصة لتعيين قاضٍ سوداني كبير قاضيًا للقضاة، وأن يمتنع تعيين قاضٍ مصري قاضيًا لقضاة السُّودان، فتنقطع آخر صلة للقضاة المصريين بالسودان. وقد أوشك تمسك الحكومة السُّودانية أن يؤدي إلى أزمة في عهد الوزارة الصدقية سنة ١٩٣٢. فحل الإشكال بأن تولت الحكومة السُّودانية نفسها تعيين فضيلة الشيخ الجارم؛ إذ كان نائبًا لمحكمة طنطا الكلية الشرعية، وأخلت الحكومة المصرية طرفه، فصار خلفًا للشيخ قراعة. وقيل: إنَّ معالي علي ماهر باشا — وزير الحقانية — هدد بالاستقالة إذا نُفذِّت رغبة الحكومة السُّودانية بحذافيرها.
(٢) هذا ما يسمى عند الإنجليز بالإدارة الأهلية Native Administration وهو تطبيق لما جاء في تقرير ملنر في سنة ١٩٢١. وكلما نجحت في جهة ألغي مركزها وبوليسها.
(٣) لم يكن الإنجليز الآخرون مرتاحين لهذه الثقة.
(٤) انظر جريدة الأهرام العدد الصادر بتاريخ ٣١ مارس سنة ١٩٣٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤