كلمة في نشر هذا الكتاب

يموت العلماء في هذه البلاد موتًا بطيئًا، يقتلهم الجهد: جهد العيش، وجهد الفكر، وجهد الشعور بأنهم في بيئة أصبحوا فيها غُرَباء، مُقصيًا بهم عن تلك التشاريف التي تُضفى على غيرهم من الأقدام الذين لم تهبهم الطبيعة غير القدرة على إدراك المغانم من كل طريق، وبأية وسيلة.

يموت علماء هذه البلاد منتحرين حُزْنًا، لأن عينًا واحدة من الأعين التي تتفَتَّح على الأدنياء والأراذل، لم تُلْهَم يومًا أن تنظر، ولو نظرة ساهمة جامدة، إلى عَالِم منهم، فتعترف له بفضل أو تُعبِّر له عن شكران.

مات من علماء هذه البلاد من خلَّف وراءه مؤلفات تفخر بها مصر وتفخر بها العربية. مات وخلَّفها أوراقًا كان نصيبها أن يأكلها العثُّ، أو تباع مع تركته بالرطل والأُقَّة كأنها من سَقَط المتاع، وفيها أُرهقت الأعصاب وحُرق الدم وعُصر الفكر وانتقص العمر وضاق الرزق، ومضوا ومضت آثارهم غير مذكورة ولا معروفة، كأن شمس هذه البلاد لم تشرق يومًا على واحد منهم، وكأن ثراها لم يشرف بأن تطأه أقدامهم، وما كان لي أن أذكر منهم واحدًا باسمه، حتى لا يظن أحد — كبر أو صغر — أني أستجدي عطف الناس على رجال عاشوا للعلم وماتوا ولم تتدنس لهم يد، ولا جُرِّح لهم عرض، ولا لانت لهم قناة على قسوة الدهر، ولا نُكِّسَ لهم رأس تحت ثقل الأرزاء.

أضف إلى أولئك الذين عملوا واندثرت أعمالهم بعد موتٍ لم تسبقه غير حياة العرق والدمع والدموع، فئة اتَّعَظت بهؤلاء، فَقَعَد بها اليأس أن تعمل لتدفن آثارهم مع عظامهم، فاختزنوا العلم ووفروا الجهد، مؤتَمِّين بحكمة الثعلب التي استخلصها من رأس الذئب الطائر عن جثته.

فإذا أقدم ناشرو هذا الكتاب على نشره وهو في العلم الصِّرف، وفي موضوع له عند العلماء شرف المكانة وعلو المنزلة، فإن ذلك إنما يكون مقياسًا لما يؤدون من خدمات لأهل هذا البلد علماء ومتعلمين، ويتعين علينا أن ننوه بما لهم من فضل وسبق في نصرة العلم والعلماء؛ لأنهم بذلك أصبحوا مثلًا يُضْرَب لغيرهم ممن يستكثرون من الدنيويات فوق ما أضفت عليهم الدنيا من مال ومن جاه، لم يرصد منه على خدمة العلم أو الأدب دانق أو سحتوت.

•••

وبعد، فإن هذا الكتاب لم يخلص من الهنات والسقطات كما أعتقد، فإن الكمال غير مُيَسَّر لبشر فانٍ في هذه الحياة. وما كان جهدنا ولا كانت متاعبنا إلا ابتغاء الكمال.

تعالى الله، لقد جعل النقص في هذه الدنيا حافزًا ومثيرًا.

وإني إذ أستودع هذا العمل ذمة الأجيال المقبلة، آمل أن يعقب عليَّ فيه من يخطو به خطوة أخرى نحو الكمال.

القاهرة في ٢٢ من مايو سنة ١٩٤٩

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤