مقدمة

الحياة والعقل

يقول آرثر جيمس إرل أوف بلفور في كتابه الألوهية والفكر:١

في فترة مجهولة لدينا، وبالحري في فترة غير معروفة، وفي مدى ذلك التطور النشوئي، بَرز سيَّار هُيِّئَ بمجموعة الخصائص والحالات التي يعرفها العلم في حالته الحاضرة، وكان من طبيعتها أن تنطوي على الحاجات الضرورية اللازمة لتنشئة صورة ما من صور الحياة العضوية …

إن المدرج النشوئي الذي شهد بدء الحياة، هو أعظم المدارج الانقلابية جميعًا. قبل وقوع ذلك الحادث الانقلابي، لم يكن لنا من معرفة بما يضاف إلى جملة الأشياء أو يستخلص منها. إن عوالم لا عداد لها وُلِدت ثم بادت. ولكن أعظم ما وقع من نكبات وأحداث في عالم الأجرام لم يتجاوز حدَّ أنه توليف مُعاد لما كان موجودًا بالفعل. تتالت التغيرات واحدة إثر أخرى، على مقياس من العظمة والفخامة قلَّما يُتصوَّر. غير أن عامة هذه التغيرات الفوزيقية، لم تأتِ بجديد فيه صفة الأصالة والجوهرية. لم يكن في النتيجة من شيء تشكَّل بصورة أو بأخرى، لم يسبق له وجود في العلَّة. والكون لم يأتِ بشيء جديد اللهم إلا إعادة تنسيق نفسه، ولكن ببزوغ الحياة، بدأت دورة جديدة. ومهما يكن من أمر ما أعتنق من فكرة، فلست أدَّعي هنا أن الحياة، حتى في أدنى مدارجها، أكثر من توزع ضروب خاصة من المادة صُبَّت في قوالب معينة، وإن أفعالها وأركاسها٢ جميعًا، قد تفسر بمقتضى علمَي: الكيمياء والفوزيقا تفسيرًا كاملًا. فعلى أيِّ وجه نقلِّب هذا الرأي، فلا شكٌّ يساورنا مطلقًا في حقيقة الشعور والفكر والإرادة. فإن هذه الأشياء كانت دائمًا زوائد على مجرَّد إعادة توليف المادة في صور ما. وهي فوق ذلك أشياء، بقدر ما لأرضنا هذه من صفة الحدوث الزماني، جديدة.٣ نعم جديدة. وحقًّا إنها لباعثة على أشد العجب.

هذه الظاهرة الجديدة، ظاهرة الحياة، هي موضوع علم الأحياء بجوانبه الشتيتة، ومجاليه الجمَّة، وأسراره العميقة، ومعالمه الظاهرة والخفية، وفلسفته التي تتناول أشد الظواهر بدائية، إلى فكرة الألوهية نفسها. وتاريخ الأحياء الطبيعي، ناحية من نواحي ذلك العلم الذي يكاد يأخذ بخناق الفكر كلِّه، ولعلَّها أكثر النواحي استجابة لرضا أولئك الذين رفهت أحلامهم، فرأوا في كتاب الطبيعة شيئًا يُقرأ.

•••

الحياة ظاهرة شغلت الناس منذ أقدم عصور التاريخ. والتاريخ المكتوب فترة قصيرة من الزمن بالقياس على التاريخ الذي نَكْتَنهه من طريق الآثار غير المكتوبة. وذلك كله لحظة من لحظات الزمان بالقياس على أبدية الوجود في مظاهره الأولى.

يقول بلفور:٤
لما نمت المعرفة في العصر الحديث، تزوَّدنا منها بفكرة أوليَّة عن ميزان الأشياء، بحيث استطعنا أن نحدس بعضًا من تلك العلاقات الزمانية التي تتصل من طريقها تلك الوَمَضات الضئيلة من التاريخ المدوَّن، بظلمات الماضي الطويل الذي يتضمَّن تاريخ الإنسان غير المدون، والذي يصل إلى تلك الأبدية المجهولة التي داعبها بعض المداعبة علماء الأرض٥ والهيئة.٦

لما أخذ العقل الإنساني ينظر في حقائق هذا الوجود، وبدأت نظرته في الحياة تتجه اتجاهًا نظريًّا، إما إلى التجريد وإما إلى الحسِّ، وبدأت مذاهب الفلسفة في النُّشوء منذ بداءة عصر الحضارات الأولى، لم يخفَ على الناظرين في حقائق الموجودات أن للحياة سرًّا، أقل ما فيه من خصِّيَّات أنه سرُّ تركيبيٌّ. ونقصد بالتركيب هنا إضافة شيء جديد إلى شيء قديم، أكسبه ظواهر لم تكن من خصياته قبلًا.

تطور عالم المادة من السديم إلى الأجرام، وتطورت الأجرام من كتل مصهورة من المادة، أو من كتل سديمية لطيفة القوام. إلى مواد مختلفة المظاهر متباينة الخصيَّات. وفي عصر غير معروف، وفي ظل حالات لا يمكن أن يتصورها العقل أو الوهم، نشأت بزرة الحياة الأولى في صورة خليَّة بسيطة مركبة من مواد كيميائية معروفة، هي مادة على كل حال، ولكنها مادة حية فيها شيء زائد على ماهية المادة كما عُرفت في العالم السديم أو في عالم الأجرام، وإن شئت فقل في عالم الكيمياء. هذه الحالة المزيدة على المادة الجامدة تنم عن سر تركيبي معقد غاية التعقيد، خفي كل الخفاء، غامض كل الغموض.

غير أن هذا السر له تاريخ طويل جدًّا، شأنه من حيث استشفاف العقل الإنساني لشيء إلى مفصلاته، شأن ذلك السر نفسه، فهو معقد خفي غامضٌ. وأحسن ما يقال عما عرفنا منه إن كل معرفتنا به لم تتعدَّ أنها مداعبة، كان أبطالها المقدمون علماء الأرض والهيئة، كما يقول بلفور.

سار التطور في ثنيات المادة الأولى متخذًا سبيلًا أجمله الفيلسوف هربرت سبنسر في كلمتين هما: «التجانس والتنافر». فالسديم الأول كان كتلة من المادة متجانسة الصورة والشكل والتركيب. هي شيء أشبه بالغيوم أو الدخان لا تستبين فيه شيئًا من شيء، فكله شيء واحد. وهنالك عوالم سديمية تكشف عنها المقربات وتجلوها للنظر. عوالم لا أول لها يُعرف، ولا آخر لها يُوصف، وتشغل من رحاب الفضاء ما تشغل. ولكنها سديم متجانس الأطراف. من ثمت مضى التطور يُخَلِّق من هذا السَّديم عناصر منها تتركب كل الظواهر المادية المختلفة، فتنافرت أجزاء السديم المتجانس. وفي ذلك كل معنى التطور، إن في عالم الجماد أو في عالم الحياة من نبات وحيوان.

الحياة في أول أمرها خليَّة، كانت على ما وصفنا من الغرارة وبساطة التركيب. تلك هي الكائنات التي نسميها الآن «ذوات الخلية»،٧ ثم تركبت صور أخرى من أكثر من خلية، وتلك هي التي نسميها «ذوات الخلايا».٨ وإلى تينك الصورتين ينقسم عالم الأحياء: ذوات الخلية، وذوات الخلايا. والإنسان بعقله ونفسه ومشاعره وعواطفه وإرادته وحسِّه وتجريداته جميعًا، هو عند علماء الحيوان من «ذوات الخلايا»، ولكنه أشرفها جميعًا.

فالإنسان إذن هو آخر مظهر من مظاهر التطور الذي مضى بالبزرة الحية الأولى من حالة التجانس الأولى إلى حالة التنافر العضوي، تلك التي أبرزت أعلى ذوات الخلايا وأسمى ذوات الفقار، وأرفع ذوات الثدي. أبرزت الإنسان ليقول للطبيعة: من أنت أيها الآلة الصماء؟ إنما أنا الذي أرى وأنا الذي أحس. أما أنت فلست أكثر من قوى عمياء. ثم يسائل الأقدار، يقول: أيتها الأقدار، أنت من صنع اللَّاعقل. إنما أنا العقل، أنا الواحد العظيم المنفرد بذاتي. تَنَحَّي قليلًا، فإني أريد أن أجلو بعقلي سر الوجود وسر الألوهية.

هذا الإنسان أصله خلية واحدة، تنقسم ثم تتكاثر ثم تتنَشَّأ ثم تتخلَّق. ففي دورة مداها تسعة أشهر، تعيد هذه الخلية الواحدة في مَفرَخ أعدته لها الطبيعة العمياء، ولكن في صورة مختزلة، تاريخ تطور البزرة الحية الأولى، وهو تاريخ يرجع مداه إلى الملايين ثم الملايين من السنين. ولكن الإنسان يقول: إن الطبيعة عمياء، وهو وحده السميع البصير.

هذه الصورة على بساطتها، فيها من العظمة والجلال ما يفوق كل أمجاد الحضارات التي بذل فيها الإنسان من روحه ما بذل، وأنفق فيها من جهده ما أنفق. فيها من القوة ما يفوق القوة الكامنة في ألف قنبلة ذرية، مما يتيه به ذوو القوة في هذا العصر. بل إن فيها من البأس ما تعجز أمامه جميع ذرات المادة، إذا انفجرت في ساعة واحدة. ذلك بأن فيها شيئًا من مرائي العقل، وجلت قدرة الله، أن يلم بالعقل شيء غير قدرته.

فإذا كنت ممن يؤمنون بأن في كتاب الطبيعة شيئًا يُقرأ، فإنك مؤمن معي بأن تاريخ الحياة الطبيعية، أو بالحري تاريخ الأحياء، واصلك حتمًا، عقلًا وقلبًا، بتاريخ الأبدية الطويل، ورادُّك إلى الطبيعة أمك الأولى، وخالق في تصورك شاعرية تبدع لك من العدم دنيا جديدة، فيها من الصدق والعلم والجمال، ما يفي بأن يمد آفاقك من حيث أنت إلى عالم السديم.

هوامش

(١) انظر ص٢٥ Theism and Thought من ترجمتي العربية.
(٢) Actions and Reactions.
(٣) يقصد أنها جديدة بالقياس على الأبد الطويل الذي تقدمها.
(٤) الألوهية والفكر، ص١٠.
(٥) Geologists.
(٦) Astronomers.
(٧) Unicellular.
(٨) Multicellular.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤