فلما كانت الليلة ٨٨٤

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الشيخ الريس لما رفع شراع المركب توجَّهَ بالمركب هو ونور الدين في البحر العجاج، وقد طاب لهما الريح، كل ذلك ونور الدين ماسك بيده الراجع وهو غريق في بحر الأفكار، ولم يَزَلْ مستغرقًا في الفكر ولم يعلم بما هو مخبوء له في الغيب، وكلما نظر إلى الريس ارتعب قلبه ولم يعلم بالجهة التي يتوجَّه إليها الريس، بل صار مشغولًا في فكرٍ ووسواسٍ إلى أن تَضحَّى النهار، فعند ذلك نظر نور الدين إلى الريس، فرآه قد أخذ لحيته الطويلة بيده وجذبها، فطلعت من موضعها في يده، وتأمَّلَها نور الدين فوجدها لحية كانت مُلصَقة زورًا، ثم تأمَّلَ نور الدين في ذات الريس ودقَّقَ نظره فيها، فرآه السيدة مريم معشوقته ومحبوبة قلبه، وكانت قد تحيَّلَتْ بتلك الحيلة حتى قتلت الريس، وسلخَتْ وجهه بلحيته وأخذت جلده وركَّبَتْه على وجهها؛ فتعجَّبَ نور الدين من فعلها وشجاعتها، ومن قوة قلبها، وقد طار عقله من الفرح، واتسع صدره وانشرح وقال لها: مرحبًا يا مُنْيَتي وسُؤْلي وغاية مطلبي. ثم إن نور الدين هزَّه الشوق والطرب، وأيقن ببلوغ الأمل والأرب، فردَّدَ صوته بأطيب النغمات، وأنشد هذه الأبيات:

قُلْ لِقَوْمٍ هُمْ لِعِشْقِي جَهِلُوا
فِي حَبِيبٍ مَا إِلَيْهِ وَصَلُوا
عَنْ غَرَامِي بَيْنَ قَوْمِي فَاسْأَلُوا
قَدْ حَلَا نَظْمِي وَرَقَّ الْغَزَلُ
فِي هَوَى قَوْمٍ بِقَلْبِي نَزَلُوا
ذِكْرُهُمْ عِنْدِي يُزِيلُ السَّقَمَا
عَنْ فُؤَادِي وَيُزِيحُ الْأَلَمَا
زَادَ شَوْقِي وَهُيَامِي عِنْدَمَا
أَصْبَحَ الْقَلْبُ كَئِيبًا مُغْرَمًا
وَبِهِ فِي النَّاسِ سَارَ الْمَثَلُ
أَنَا لَا أَقْبَلُ فِيهِمْ لَوْمَهْ
لَا وَلَا أَقْصُدُ عَنْهُمْ سَلْوَهْ
لَكِنِ الْحُبُّ رَمَانِي حَسْرَهْ
أَشْعَلَتْ مِنْهُ بِقَلْبِي جَمْرَهْ
حَرُّهَا فِي كَبِدِي يَشْتَعِلُ
مِنْ عَجِيبٍ قَدْ أَبَاحُوا سَقَمِي
مَعْ سُهَادِي طُولَ لَيْلٍ مُظْلِمِ
كَيْفَ رَامُوا بِالتَّجَافِي عَدَمِي
وَاسْتَحْلَوْا فِي الْهَوَى سَفْكَ دَمِي
إِنَّهُمْ فِي جَوْرِهِمْ مَا عَدَلُوا
يَا تُرَى مَنْ ذَا الَّذِي أَوْصَاكُمُ
بِالتَّجَافِي عَنْ فَتًى يَهْوَاكُمُ
وَلَعَمْرِي وَالَّذِي أَنْشَاكُمُ
إِنْ يَقُلْ عُذَّلُ قَوْلًا عَنْكُمُ
كَذَبُوا وَاللهِ فِيمَا نَقَلُوا
لَا أَزَاحَ اللهُ عَنِّي عِلَلَا
لَا وَلَا شَافٍ لِقَلْبِي غَلَلَا
يَوْمَ أَشْكُو مِنْ هَوَاكُمْ مَلَلَا
أَنَا لَا أَرْضَى سِوَاكُمْ بَدَلَا
عَذِّبُوا قَلْبِي وَإِنْ شِئْتُمْ صِلُوا
لِي فُؤَادٌ لَمْ يَحُلْ عَنْ حُبِّكُمْ
لَوْ يُعَانِي حَسْرَةً مِنْ صَدِّكُمْ
سُخْطُ هَذَا وَالرِّضَا مِنْ عِنْدِكُمْ
مَا تَشَاءُوا فَافْعَلُوا فِي عَبْدِكُمْ
هُوَ بِالرُّوحِ لَكُمْ لَا يَبْخَلُ
figure
الريحُ معتدل والمركب سائرةٌ بنور الدين والسيدة مريم إلى مدينة إسكندرية.

فلما فرغ نور الدين من شِعْره تعجَّبَتْ منه السيدة مريم غايةَ العجب، وشكرته على قوله، وقالت له: مَن هذه حالته ينبغي أن يسلك مَسالِكَ الرجال، ولا يفعل فعل الأندال والأرذال، وقد كانت السيدة مريم قويةَ القلب، تعرف بأحوال سير المراكب في البحر المالح، وتعرف الأهواء واختلافها، وتعرف جميع طرق البحر، فقال لها نور الدين: والله يا سيدتي، لو أطلتِ عليَّ هذا الأمر لمتُّ من شدة الخوف والفزع، خصوصًا مع نار الوَجْد والاشتياق وأليم عذاب الفراق. فضحكَتْ من كلامه وقامت من وقتها وساعتها وأخرجت شيئًا من المأكول والمشروب، فأكلوا وشربوا وتلذَّذوا وطربوا، بعد ذلك أخرجَتْ من اليواقيت والجواهر وأصناف المعادن والذخائر الغالية وأنواع الذهب والفضة ما خفَّ حمله وغلا ثمنه، من الذي جاءت به وأخرجته من قصر أبيها وخزائنه، وعرضت ذلك على نور الدين، ففرح به غاية الفرح، كل ذلك والريح معتدل والمركب سائرة، ولم يزالوا سائرين حتى أشرفوا على مدينة إسكندرية وشاهدوا أعلامها القديمة والجديدة، وشاهدوا عمود السواري. فلما وصلوا إلى المينا، طلع نور الدين من وقته وساعته على تلك السفينة وربطها في حجر من أحجار القصارين، وأخذ معه شيئًا من الذخائر التي جاءت بها الجارية معها، وقال للسيدة مريم: اقعدي يا سيدتي في السفينة حتى أطلع بك إلى إسكندرية مثل ما أحب وأشتهي. فقالت له: ولكن ينبغي أن يكون ذلك بسرعة؛ لأن التراخي في الأمور يورث الندامة. فقال لها: ما عندي تراخٍ. فقعدت مريم في السفينة وتوجَّهَ نور الدين إلى بيت العطار صاحب أبيه ليستعير لها من زوجته نقابًا وحبرة وخفًّا وإزارًا كعادة نساء إسكندرية، ولم يعلم بما لم يكن له في حساب من تصرُّفات الدهر أبي العجب العجاب.

هذا ما كان من أمر نور الدين ومريم الزنارية، وأما ما كان من أمر أبيها ملك إفرنجة، فإنه لما أصبح الصباح تفقَّدَ ابنته مريم فلم يجدها، فسأل عنها من جواريها وخَدَمِها فقالوا له: يا مولانا، إنها خرجت بالليل وراحت إلى الكنيسة، وبعد ذلك لم نعرف لها خبرًا. فبينما الملك يتحدَّثُ مع الجواري والخَدَم في تلك الساعة، وإذا بصرختين عظيمتين تحت القصر دوَّى لهما المكان؛ فقال الملك: ما الخبر؟ فقالوا له: أيها الملك، إنه وُجِد عشرة رجال مقتولون على ساحل البحر، وسفينة الملك قد فُقِدت، ورأينا باب الخوخة الذي في الكنيسة من جهة البحر مفتوحًا، والأسير الذي كان في الكنيسة يخدمها قد فُقِد. فقال الملك: إن كانت سفينتي التي في البحر فُقِدت فبنتي مريم فيها بلا شك ولا ريب. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤