فلما كانت الليلة ٨٨٦

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن نور الدين لمَّا وجد الجوَّ قَفْرًا والمزار بعيدًا، صار قبله حزينًا، فبكى بدمع متواتر، وأنشد قول الشاعر:

سَرَى طَيْفُ سَعْدَى طَارِقًا فَاسْتَفَزَّنِي
سُحِيرًا وَصَحْبِي فِي الفَلَاةِ رُقُودُ
فَلَمَّا انْتَبَهْنَا لِلْخَيَالِ الَّذِي سَرَى
أَرَى الْجَوَّ قَفْرًا وَالْمَزَارُ بَعِيدُ

فمشى نور الدين على شاطئ البحر يتلفَّتْ يمينًا وشمالًا، فرأى ناسًا مجتمعين على الشاطئ وهم يقولون: يا مسلمين، ما بقي لمدينة إسكندرية حرمةٌ حتى صار الإفرنج يدخلونها ويخطفون مَن فيها ويعودون إلى بلادهم على هِينَة، ولا يخرج وراءهم أحدٌ من المسلمين ولا من العساكر المغازين؟! فقال لهم نور الدين: ما الخبر؟ فقالوا له: يا ولدي، إن مركبًا من مراكب الإفرنج فيه عساكر هجموا في تلك الساعة على تلك المينا، وأخذوا سفينةً كانت راسيةً هنا بمَن فيها، وراحوا على حمايةٍ إلى بلادهم. فلما سمع نور الدين كلامهم وقع مغشيًّا عليه، فلما أفاقَ سألوه عن قضيته، فأخبرهم بخبره من الأول إلى الآخِر، فلما فهموا خبره صار كلٌّ منهم يشتمه ويسبُّه ويقول له: لأيِّ شيء ما تخرجها إلا بإزار ونقاب؟ وسارَ كلُّ واحدٍ من الناس يقول له كلامًا مُؤلِمًا، ومنهم مَن يقول: خلُّوه في حاله يكفيه ما جرى له. وصار كل واحد يُوجِعه بالكلام ويرميه بسهام المَلَام حتى وقع مغشيًّا عليه، فبينما الناس مع نور الدين على تلك الحالة، وإذا بالشيخ العطار مُقبِلًا فرأى الناس مجتمعين، فتوجَّهَ إليهم ليعرف الخبرَ، فرأى نور الدين راقدًا بينهم وهو مغشي عليه، فقعد عند رأسه ونبَّهَه، فلما أفاق قال له: يا ولدي، ما هذا الحال الذي أنت فيه؟ فقال له: يا عم، إن الجارية التي كانت راحَتْ مني قد جئْتُ بها من مدينة أبيها في مركب، وقاسيت ما قاسيت في المجيء بها، فلما وصلتُ بها إلى هذه المدينة ربطتُ السفينة في البر وتركتُ الجاريةَ فيها، وذهبت إلى منزلك وأخذت من زوجتك مصالحَ للجارية لأطلعها بها إلى المدينة، فجاء الإفرنج وأخذوا السفينة والجارية فيها، وراحوا على حماية حتى وصلوا إلى مراكبهم.

فلما سمع الشيخ العطار من نور الدين هذا الكلامَ، صار الضياءُ في وجهه ظلامًا، وتأسَّفَ على نور الدين تأسُّفًا عظيمًا، وقال له: يا ولدي، لأيِّ شيء ما أخرجتها من السفينة إلى المدينة من غير إزار؟ ولكن في هذا الوقت ما ينفع الكلام، قُمْ يا ولدي واطلع معي إلى المدينة، لعل الله يرزقك بجارية أحسن منها، فتتسلَّى بها عنها، والحمد لله الذي ما خسَّرك فيها شيئًا، بل حصل لك الربح فيها، واعلم يا ولدي أن الاتصال والانفصال بيد الملك المتعال. فقال له نور الدين: والله يا عم إني ما أقدر أن أسلاها أبدًا، ولا أترك طلبها ولو سُقِيتُ من أجلها كأسَ الردى. فقال له العطار: يا ولدي، وأي شيء في ضميرك تريد أن تفعله؟ فقال له: نويتُ أن أرجع إلى بلاد الروم، وأدخل إلى مدينة إفرنجة، وأخاطر بنفسي، فإما عليها وإما لها. فقال له: يا ولدي، إنَّ في الأمثال السائرة: «ما كل مرة تسلم الجرة.» وإنْ كانوا ما فعلوا بك في المرة الأولى شيئًا، ربما يقتلونك في هذه المرة، لا سيما وقد عرفوك حق المعرفة. فقال نور الدين: يا عم، دَعْني أسافر وأُقتَل في هواها سريعًا ولا أُقتَل بتركها صبرًا وتحسُّرًا.

وكان بمصادَفة القدر مركب راسٍ في المينا مجهَّز للسفر وركَّابه، قد قضى جميعَ أشغاله، وفي تلك الساعة قلعوا أوتاده، فنزل فيه نور الدين وسافر ذلك المركب مدة أيام، وقد طاب لركَّابه الوقت والريح، فبينما هم سائرون وإذا بمركب من مراكب الإفرنج دائر في البحر العجاج، لا يرون مركَبًا إلا يأسرونه خوفًا على بنت الملك من سرَّاق المسلمين، وإذا أخذوا مركبًا يوصلون جميع مَن فيه إلى ملك إفرنجة، فيذبحهم ويوفي بهم نَذْره الذي كان نذَرَه من أجل ابنته مريم، فرأوا المركب الذي فيه نور الدين فأسروه وأخذوا كلَّ مَن كان فيها وأتوا بهم إلى الملك أبي مريم، فلما أوقفوهم بين يدَيْه وجدهم مائة رجل من المسلمين، فأمر بذبحهم في الوقت والساعة، ومن جملتهم نور الدين، فذبحوهم كلهم ولم يَبْقَ منهم غير نور الدين، وكأنَّ الجلَّاد قد أخَّره شفقةً عليه لصِغَر سنه ورشاقة قدِّه، فلما رآه الملك عرفه حق المعرفة، فقال: أَمَا أنت نور الدين الذي كنتَ عندنا في المرة الأولى قبل هذه المرة؟ فقال له: ما كنتُ عندكم، وليس اسمي نور الدين، وإنما اسمي إبراهيم. فقال له الملك: تكذب، بل أنت نور الدين الذي وهبتُكَ للعجوز القيِّمة على الكنيسة لتساعِدَها في خدمة الكنيسة. فقال نور الدين: يا مولاي، أنا اسمي إبراهيم. فقال له الملك: إن العجوز قيِّمة الكنيسة إذا حضرَتْ ونظرَتْكَ تعرف هل أنت نور الدين أم غيره. فبينما هم في الكلام وإذا بالوزير الأعور الذي تزوَّجَ بنت الملك قد دخل في تلك الساعة وقبَّلَ الأرض بين أيادي الملك، وقال له: أيها الملك، اعلم أن القصر قد فرغ بنيانه، وأنت تعرف أني نذرتُ للمسيح إذا فرغتُ من بنائه أن أذبح على بابه ثلاثين من المسلمين، وقد أتيتُكَ لآخذ من عندك ثلاثين مسلمًا فأذبحهم وأوفي بهم نَذْر المسيح، ويكونوا في ذمتي على سبيل القرض، ومتى جاءني أسارى أعطيتُكَ بدلهم. فقال الملك: وحقِّ المسيح والدين الصحيح، ما بقي عندي غير هذا الأسير. وأشار إلى نور الدين، وقال له: خذه واذبحه في هذه الساعة حتى أُرسِلَ إليك البقيةَ إذا جاءني أسارى من المسلمين. فعند ذلك قام الوزير الأعور وأخذ نور الدين ومضى به إلى القصر ليذبحه على عتبة بابه، فقال له الدهَّانون: يا مولانا، بقي علينا من الدهان شغل يومين، فاصبر علينا وأخِّرْ ذَبْحَ هذا الأسير حتى نفرغ من الدهان، عسى أن يأتي إليك بقية الثلاثين فتذبح الجميع دفعةً واحدةً، وتوفي بنَذْرك في يوم واحد. فعند ذلك أمر الوزير بحبس نور الدين. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤