فلما كانت الليلة ٨٧٨

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن مريم الزنارية قالت لزوجة العطار: أنا خائفة أن يكون أحدٌ عملَ على سيدي حيلةً من شأني لأجل أن يبيعني، فدخلت عليه الحيلة وباعني. فقالت لها زوجة العطار: يا سيدتي مريم، لو أعطَوْا سيدك فيك ملْءَ هذه القاعة ذهبًا لم يبعك لما أعرفه من محبَّتِه لك، ولكن يا سيدتي مريم ربما يكون جماعة أتَوْا من مدينة مصر من عند والدته، فعمل لهم عزومةً في المحل الذي هم نازلون فيه، واستحى أن يأتي بهم إلى هذا المحل لأنه لا يسعهم، أو لأن مَرْتبتَهم أقلُّ من أن يجيء بهم إلى البيت، أو أحَبَّ أن يخفي أمرك عنهم، فبات عندهم إلى الصباح ويأتي إن شاء الله تعالى إليك في غدٍ بخير، فلا تحمِّلي نفسك همًّا ولا غمًّا يا سيدتي، فهذا سبب غيابه عنكِ في هذه الليلة، وها أنا أبيت عندك في هذه الليلة وأسليك إلى أن يأتي إليك سيدك. ثم إن زوجة العطار صارت تلاهي مريم وتسلِّيها بالكلام إلى أن ذهب الليل كله، فلما أصبح الصباح نظرت مريم سيدها نور الدين وهو داخل من الزقاق، وذلك الإفرنجي وراءه وجماعة التجار حواليه، فلما رأتهم مريم ارتعدَتْ فرائصُها واصفرَّ لونها، وصارت ترتعد كأنها سفينة في وسط بحر مع شدة الريح، فلما رأتها امرأة العطار قالت لها: يا سيدتي مريم، ما لي أراكِ قد تغيَّرَ حالك، واصفرَّ وجهك، وزاد بك الذبول؟ فقالت لها الجارية: يا سيدتي، والله إن قلبي قد أحسَّ بالفراقِ وبُعْد التلاقي. ثم إن الجارية تأوَّهَتْ بتصاعد الزفرات، وأنشدت هذه الأبيات:

لَا تَرْكَنَنَّ إِلَى الْفِرَا
قِ فَإِنَّهُ مُرُّ الْمَذَاقِ
الشَّمْسُ عِنْدَ غُرُوبِهَا
تَصْفَرُّ مِنْ أَلَمِ الْفِرَاقِ
وَكَذَاكَ عِنْدَ شُرُوقِهَا
تَبْيَضُّ مِنْ فَرَحِ التَّلَاقِي

ثم إن مريم الزنارية بكَتْ بكاءً شديدًا ما عليه مزيد، وتيقَّنَتِ الفراقَ وقالت لزوجة العطار: يا سيدتي، أَمَا قلتُ لك إن سيدي نور الدين قد عُمِلت عليه حيلة من أجل بيعي؟ فما أشكُّ أنه باعني في هذه الليلة لهذا الإفرنجي، وقد كنتُ حذَّرْتُه منه، ولكن لا ينفع حذر من قدر؛ فقد بانَ لكِ صدْقُ قولي. فبينما هي وزوجة العطار في الكلام، وإذا بسيدها نور الدين قد دخل عليها في تلك الساعة، فنظرت إليه الجارية فرأَتْه قد تغيَّرَ لونه، وارتعدَتْ فرائصُه، ويَلُوح على وجهِهِ أثرُ الحزن والندامة، فقالت له: يا سيدي نور الدين، كأنك بعتَني؟ فبكى بكاءً شديدًا وتأوَّهَ وتنفَّسَ الصعداء، وأنشد هذه الأبيات:

هِيَ الْمَقَادِيرُ فَمَا يُغْنِي الْحَذَرْ
إنْ كُنْتَ أَخْطَأْتَ فَمَا أَخْطَا الْقَدَرْ
فَإِذَا أَرَادَ اللهُ أَمْرًا بِامْرِئٍ
وَكَانَ ذَا عَقْلٍ وَسَمْعٍ وَبَصَرْ
أَصَمَّ أُذْنَيْهِ وَأَعْمَى عَيْنَهُ
وَسَلَّ مِنْهُ عَقْلَهُ سَلَّ الشَّعَرْ
حَتَّى إِذَا أَنْفَذَ فِيهِ حُكْمَهُ
رَدَّ إِلَيْهِ عَقْلَهُ لِيَعْتَبِرْ
فَلَا تَقُلْ فِيمَا جَرَى كَيْفَ جَرَى
فَكُلُّ شَيْءٍ بِقَضَاءٍ وَقَدَرْ

ثم إن نور الدين اعتذر إلى الجارية وقال لها: والله يا سيدتي مريم، إنه قد جرى القلم بما الله حكم، والناس قد عملوا عليَّ حيلةً من أجل بيعك، فدخلَتْ عليَّ الحيلة فبِعْتُكِ وقد فرَّطتُ فيك أعظمَ تفريط، ولكنْ عسى مَن حكَمَ بالفراقِ أن يمنَّ بالتلاقي. فقالت له: قد حذَّرْتُكَ من هذا وكان في وهمي. ثم ضمَّتْه إلى صدرها وقبَّلَتْه ما بين عينَيْه، وأنشدَتْ هذه الأبيات:

وَحَقِّ هَوَاكُمْ مَا سَلَوْتُ وِدَادَكُمْ
وَلَوْ تَلِفَتْ رُوحِي هَوًى وَتَشَوُّقَا
أَنُوحُ وَأَبْكِي كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ
كَمَا نَاحَ قُمْرِيٌّ عَلَى شَجَرِ النَّقَا
تَنَغَّصَ عَيْشِي بَعْدَكُمْ يَا أَحِبَّتِي
مَتَى غِبْتُمُ عَنِّي فَمَا لِيَ مُلْتَقَى

فبينما هما على هذه الحالة، وإذا بالإفرنجي قد طلع عليهما وتقدَّمَ ليقبِّل أيادي السيدة مريم، فلطمَتْه بكفِّها على خده وقالت له: ابعد يا ملعون، فما زلت ورائي حتى خدعْتَ سيدي، ولكن يا ملعون إن شاء الله تعالى لا يكون إلا خيرًا. فضحك الإفرنجي من قولها، وتعجَّبَ من فعلها، واعتذر إليها وقال لها: يا سيدتي مريم، أيُّ شيءٍ ذنبي أنا؟ وإنما سيدك نور الدين هذا هو الذي باعك برضا نفسه وطِيبِ خاطره، وإنه وحقِّ المسيح لو كان يحبك ما فرَّطَ فيك، ولولا أنه فرغ غرضه منك ما باعك، وقد قال بعض الشعراء:

مَنْ مَلَّنِي فَلْيَمْضِ عَنِّي عَامِدًا
إِنْ عُدْتُ أَذْكُرُهُ فَلَسْتُ بِرَاشِدِ
مَا ضَاقَتِ الدُّنْيَا عَلَيَّ بِأَسْرِهَا
حَتَّى تَرَانِي رَاغِبًا فِي زَاهِدِ

وقد كانت هذه الجارية بنت ملك إفرنجة، وهي مدينة واسعة الجهات كثيرة الصنائع والغرائب والبنات، تشبه مدينة القسطنطينية، وقد كان لخروج تلك الجارية من مدينة أبيها حديثٌ غريب وأمرٌ عجيب، نسوقه على الترتيب حتى يطرب السامع ويطيب. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤