فلما كانت الليلة ٩٢٥

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك لامَ نفسه وقال: أنا الذي أطعتكنَّ بجهلي، وقتلتُ وزرائي ولم أجد عوضًا عنهم يقوم مقامهم، وإنْ لم يفتح الله عليَّ بمَن له رأي سديد يرشدني إلى ما فيه خلاصي وقعتُ في الهَلَكة العظيمة. ثم إنه قام ودخل مرقده بعد أن نعى الوزراء والحكماء قائلًا: يا ليت هؤلاء الأُسُود عندي في هذا الوقت ولو ساعة واحدة، حتى أعتذر إليهم وأنظرهم وأشكو إليهم أمري وما حصل بي بعدهم. ولم يزل غريقًا في بحر الهمِّ طولَ نهاره ولا يأكل ولا يشرب، فلما جنَّ الليل قام وغيَّرَ لباسه ولبس ثيابًا رديئة، وتنكَّرَ وخرج يسوح في المدينة لعله يسمع من أحدٍ كلمةً يرتاح بها، فبينما هو يطوف في الشوارع، وإذا هو بغلامين مختليَيْن بأنفسهما، جالسين بجانب حائطٍ وهما مستويان في السن، عمر كل واحد منهما اثنتا عشرة سنة، فسمعهما يتحدثان مع بعضهما، فدنا منهما الملك بحيث يسمع كلامهما ويفهمه، فسمع واحد منهما يقول للآخَر: اسمع يا أخي ما حكاه لي والدي ليلةَ أمسِ من أجل ما وقع له في زرعه ويبسه قبل أوانه بسبب عدم المطر وكثرة البلاء الحاصل في هذه المدينة. فقال له الآخر: أتعرف ما سبب هذا البلاء؟ قال له: لا، فإن كنتَ تعرفه أنت فاذكره لي. فأجابه قائلًا: نعم، أعرفه وأخبرك به؛ اعلم أنَّ أحد أصحاب والدي قال لي: إن ملكنا قد قتَلَ وزراءه وعظماء دولته من غير ذنب جنَوْه، بل من أجل حبِّه للنساء وميله إليهن، وإن الوزراء نهَوْه عن ذلك فلم ينتهِ وأمر بقتلهم طاعةً لنسائه، حتى إنه قتل شماسًا والدي وزيره ووزير والده من قبله، وكان صاحب مشورته، ولكن سوف تنظر ما يفعل الله به بسبب ذنوبه فسينتقم لهم منه. فقال الغلام: وما عسى أن يفعل الله به بعد هلاكهم؟ قال له: اعلم أن ملك الهند الأقصى قد استخَفَّ بمَلِكنا وبعث إليه كتابًا يوبِّخه فيه ويقول له: ابنِ لي قصرًا في وسط البحر، وإن لم تفعل ذلك فأنا أُرسِلُ إليك اثني عشر كردوسًا، كل كردوس فيه مائة ألف مقاتل، وأجعل قائد هذه العساكر بديعًا وزيري فيأخذ مُلْكك ويقتل رجالك ويسبيك مع حريمك. فلما جاء رسول ملك الهند الأقصى بهذا الكتاب أمهَلَه ثلاثة أيام، واعلم يا أخي أن ذلك الملِك جبَّار عنيد ذو قوةٍ وبأسٍ شديد، وفي مملكته خلق كثير، وإن لم يحتَلْ ملِكُنا فيما يمنعه منه وقع في الهَلَكة، وبعد هلاك مَلِكنا يأخذ هذا المَلِك أرزاقنا ويقتل رجالنا ويسبي حريمنا.

فلما سمع الملك منهما هذا الكلام زاد اضطرابًا ومال إليهما وقال في نفسه: إن هذا الغلام لَحكيم لكونه أخبر عن شيء لم يبلغه مني، فإن الكتاب الذي جاء من ملك أقصى الهند عندي، والسر معي ولم يطَّلِع أحدٌ على هذا الخبر غيري، فكيف علِمَ هذا الغلام به؟ ولكن أنا ألتجئ إليه وأكلِّمه وأسأل الله أن يكون خلاصنا لديه. ثم إن الملك دَنَا من الغلام بلطفٍ وقال له: أيها الولد الحبيب، ما هذا الذي ذكرتَه من أجل مَلِكنا؟ فإنه قد أساء كلَّ الإساءة في قتل وزرائه وكبراء دولته، لكنه في الحقيقة قد أساء إلى نفسه ورعيته، وأنت صدقتَ فيما قلتَه، ولكن عرِّفني أيها الولد من أين عرفتَ أن ملك الهند الأقصى كتب إلى ملكنا كتابًا ووبَّخه فيه، وقال له هذا الكلام الصعب الذي قلتَه؟ قال له الغلام: قد علمت هذا من قول القدماء: إنه ليس يخفى على الله خافية، والخلق من بني آدم فيهم روحانية تُظهِر لهم الأسرارَ الخفية. فقال له: صدقتَ يا ولدي، لكن هل لمَلِكنا حيلةٌ أو تدبير يدفع به عن نفسه وعن مملكته هذا البلاء العظيم؟ فأجاب الغلام قائلًا: نعم، إذا أرسَلَ الملِك إليَّ وسألني ماذا يصنعه ليدفع به عدوَّه وينجو من كيده، أخبرته بما فيه نجاته بقوة الله تعالى. قال له الملِك: ومَن يُعلِم الملِكَ بذلك حتى يُرسِلَ إليك ويدعوك؟ فأجابه قائلًا: إني سمعتُ عنه أنه يفتِّش على أهل الخبرة والرأي الرشيد، وإذا أرسَلَ إليَّ سرتُ معهم إليه وعرَّفْتُه بما فيه صلاحه ودفع البلاء عنه، وإنْ أهمَلَ هذا الأمرَ العسيرَ واشتغل بلهوه مع نسائه، وأردتُ أني أُعلِمه بما فيه نجاته وتوجَّهت إليه من تلقاء نفسي، فإنه يأمر بقتلي مثل أولئك الوزراء، وتكون معرفتي به سببًا لهلاكي، وتستقل الناس بي ويستنقصون عقلي، وأكون من مضمون قول مَن قال: مَن كان علمه أكثر من عقله هلَكَ ذلك العالم بجهله.

فلما سمع الملك كلام الغلام تحقَّقَ حكمته وتبيَّن فضيلته وتيقَّنَ أن النجاة تحصل له ولرعيته على يدَيْه، فعند ذلك أعاد الملِك الكلام على الغلام وقال له: من أين أنت؟ وأين بيتك؟ فقال له الغلام: إن هذه الحائط توصل إلى بيتنا. فتعهَّدَ الملك ذلك المكان، ثم إنه ودَّعَ الغلام ورجع إلى مملكته مسرورًا، فلما استقَرَّ في بيته لبس ثيابه ودعا بالطعام والشراب، ومنع عنه النساء وأكل وشرب وشكر الله تعالى وطلب منه النجاة والمعونة والمغفرة والعفو عمَّا فعل بعلماء دولته ورؤسائهم، ثم تاب إلى الله توبةً خالصةً، وافترض على نفسه الصومَ والصلاةَ الكثيرة بالنذر، ودعا بأحد غلمانه الخواص ووصف له مكان الغلام، وأمره أن ينطلق إليه ويُحضِره بين يدَيْه برفقٍ، فمضى ذلك العبد إلى الغلام وقال له: الملِك يدعوك لخيرٍ يصل إليك من قِبَله، ويسألك سؤالًا ثم تعود في خيرٍ إلى منزلك. فأجاب الغلام قائلًا: وما حاجة الملك التي دعاني من أجلها؟ قال له الخادم: إن حاجة مولاي التي دعاك من أجلها هي سؤال وجواب. فقال له الغلام: ألف سمع وألف طاعة لأمر الملك. ثم سار معه حتى وصل إلى الملك، فلما صار بين يدَيْه سجد لله ودعا للملك بعد أن سلَّمَ عليه، فردَّ الملك عليه السلام وأمره بالجلوس فجلس. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤