فلما كانت الليلة ٩٣٢

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن أبا قير ما زال يحسِّن السفرَ لأبي صير حتى رغب في الارتحال، ثم إنهما اتفقا على السفر، وفرح أبو قير بأن أبا صير رغب في أن يسافر، وأنشد قول الشاعر:

تَغَرَّبْ عَنِ الْأَوْطَانِ فِي طَلَبِ الْعُلَا
وَسَافِرْ فَفِي الْأَسْفَارِ خَمْسُ فَوَائِدِ
تَفَرُّجُ هَمٍّ وَاكْتِسَابُ مَعِيشَةٍ
وَعِلْمٌ وَآدَابٌ وَصُحْبَةُ مَاجِدِ
وَإِنْ قِيلَ فِي الْأَسْفَارِ غَمٌّ وَكُرْبَةٌ
وَتَشْتِيتُ شَمْلٍ وَارْتِكَابُ شَدَائِدِ
فَمَوْتُ الْفَتَى خَيْرٌ لَهُ مِنْ حَيَاتِهِ
بِدَارِ هَوَانٍ بَيْنَ وَاشٍ وَحَاسِدِ
figure
فنزل «أبو قير» و«أبو صير» في غليون في البحر، وسافرا في ذلك النهار.

وحين عزمَا على السفر قال أبو قير لأبي صير: يا جاري نحن صرنا أخوين، ولا فرق بيننا، فينبغي أن نقرأ الفاتحة على أن عاملَنا يكتسب ويُطعِم بطَّالنا، ومهما فضل نضعه في صندوق، فإذا رجعنا إلى الإسكندرية نقسمه بيننا بالحقِّ والإنصاف. قال أبو صير: وهو كذلك. وقرأ الفاتحة على أن العامل يكتسب ويُطعِم البطَّال، ثم إن أبا صير قفل الدكان وأعطى المفاتيح لصاحبها، وأبو قير ترك المفتاح عند رسول القاضي وترك الدكان مقفولةً مختومةً، وأخَذَا مصالِحَها وأصبحَا مسافرين، ونزلَا في غليون في البحر المالح وسافَرَا في ذلك النهار، وحصل لهما إسعاف، ومن تمام سعدِ المزيِّن أن جميع مَن كان في الغليون لم يكن معهم أحدٌ من المزيِّنين، وكان فيه مائة وعشرون رجلًا غير الريس والبحرية، ولما حَلُّوا قلوعَ الغليون قام المزيِّن وقال للصباغ: يا أخي، هذا بحر نحتاج فيه إلى الأكل والشرب، وليس معنا إلا قليل من الزاد، وربما يقول لي أحدٌ: تعال يا مزيِّن احلق لي. فأحلق له برغيفٍ وبنصف فضة أو بشربة ماء، فأنتفع بذلك أنا وأنت. فقال له الصباغ: لا بأس. ثم حطَّ رأسه ونام، وقام المزيِّن وأخذ عدَّتَه والطاسةَ ووضع على كتفه خرقةً تغني عن الفوطة؛ لأنه فقير وشقَّ بين الركاب، فقال له واحد: تعالَ يا أسطى احلق لي. فحلق له، فلما حلق لذلك الرجل أعطاه نصف فضة، فقال له المزيِّن: يا أخي، ليس لي حاجة بهذا النصف الفضة، ولو كنتَ أعطيتني رغيفًا كان أبرك في هذا البحر؛ لأن لي رفيقًا وزادنا شيء قليل. فأعطاه رغيفًا وقطعةَ جبن، وملأ له الطاسة ماءً حلوًا، فأخذ ذلك وأتى إلى أبي قير وقال له: خذ هذا الرغيف وكله بالجبن، واشرب ما في الطاسة. فأخذ ذلك منه وأكل وشرب.

ثم إن أبا صير المزيِّن بعد ذلك حمل عدَّتَه وأخذ الخرقة على كتفه والطاسة في يده، وشقَّ في الغليون بين الركاب، فحلق لإنسانٍ برغيفين، ولآخَر بقطعة جبن، ووقع عليه الطلب، وصار كلُّ مَن يقول له: احلق لي يا أسطى. يشرط عليه رغيفين ونصف فضة، وليس في الغليون مزيِّن غيره، فما جاء المغرب حتى جمع ثلاثين رغيفًا وثلاثين نصف فضة، وصار عنده جبن وزيتون وبطارخ، وصار كلما يطلب حاجة يعطونه إياها، حتى صار عنده شيء كثير، وحلق للقبطان وشكَا له قلةَ الزاد في السفر، فقال له القبطان: مرحبًا بك، هات رفيقك في كلِّ ليلة وتعشَّيَا عندي، ولا تحملَا همًّا ما دمتما مسافرين معنا. ثم رجع إلى الصبَّاغ فرآه لم يزل نائمًا فأيقظه، فلما أفاق أبو قير رأى عند رأسه شيئًا كثيرًا من عيش وجبن وزيتون وبطارخ، فقال له: من أين لك ذلك؟ فقال: من فيض الله تعالى. فأراد أن يأكل، فقال له أبو صير: لا تأكل يا أخي من هذا واتركه ينفعنا في وقتٍ آخَر، واعلم أني حلقتُ للقبطان وشكوتُ إليه قلةَ الزوادة، فقال لي: مرحبًا بك، هات رفيقك كلَّ ليلة وتعشَّيَا عندي. فأول عشائنا عند القبطان في هذه الليلة. فقال له أبو قير: أنا دائخ من البحر ولا أقدر أن أقوم من مكاني، فدَعْني أتعشَّى من هذا الشيء، ورُحْ أنت وحدك عند القبطان. فقال له: لا بأس بذلك. ثم جلس يتفرَّج عليه وهو يأكل، فرآه يقطع اللقمة كما يقطع الحجار من الجبل، ويبتلعها ابتلاعَ الفيل الذي له أيام ما أكل، ويلتهم اللقمةَ قبل ازدراد التي قبلها، ويحملق عينَيْه فيما بين يدَيْه حملقةَ الغول، وينفخ نفخ الثور الجائع على التبن والفول، وإذا بنوتي جاء وقال: يا أسطى، يقول لك القبطان: هاتِ رفيقك وتعالَ للعشاء. فقال أبو صير لأبي قير: أتقوم بنا؟ فقال له: أنا لا أقدر على المشي. فراح المزيِّن وحده، فرأى القبطان جالسًا وقدامه سفرة فيها عشرون لونًا أو أكثر، وهو وجماعته ينتظرون المزيِّن ورفيقه، فلما رآه القبطان قال له: أين رفيقك؟ فقال له: يا سيدي، إنه دائخ من البحر. فقال له القبطان: لا بأس عليه، ستزول عنه الدوخة، تعالَ أنت تعشَّ معنا، فإني كنتُ في انتظارك. ثم إن القبطان عزل صحن كباب وحطَّ فيه من كل لونٍ، فصار يكفي عشرة، وبعد أن تعشَّى المزيِّن قال له القبطان: خُذْ هذا الصحن معك إلى رفيقك. فأخذه أبو صير وأتى إلى أبي قير، فرآه يطحن بأنيابه فيما عنده من الأكل مثل الجمل، ويلحق اللقمة باللقمة على عجلٍ، فقال له أبو صير: أَمَا قلتُ لك لا تأكل، فإن القبطان خيره كثير؟ فانظر أي شيء بعث إليك لمَّا أخبرته بأنك دائخ. فقال له: هات. فناوَلَه الصحنَ فأخذه منه وهو ملهوف عليه وعلى غيره من الأكل مثل الكلب الكاشر أو السبع الكاسر، أو الرخِّ إذا انقَضَّ على الحمام، أو الذي كاد أن يموت من الجوع ورأى شيئًا من الطعام، وصار يأكل، فتركه أبو صير وراح إلى القبطان وشرب القهوة هناك، ثم رجع إلى أبي قير، فرآه قد أكل جميعَ ما في الصحن ورماه فارغًا. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤