فلما كانت الليلة ٩٤٧

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الخليفة لما قام من موضعه وصُحبته جعفر وباقي جماعته، دخلوا حجرة الثياب ولبسوا كلهم ملابس التجار، وتوجَّهوا إلى الدجلة ونزلوا في زورق مزركش بالذهب، وانحدروا مع الماء حتى وصلوا إلى الموضع الذي يريدونه، فسمعوا صوت جارية تغني على العود وتنشد هذه الأبيات:

أَقُولُ لَهُ وَقَدْ حَضَرَ العُقَارُ
وَقَدْ غَنَّى عَلَى الْأَيْكِ الهَزَارُ
إِلَى كَمْ ذَا التَّأَنِّي عَنْ سُرُورٍ
أَفِقْ مَا الْعُمْرُ إِلَّا مُسْتَعَارُ
فَخُذْهَا مِنْ يَدَيْ خِلٍّ عَزِيزٍ
بِجَفْنَيْهِ فُتُورٌ وَانْكِسَارُ
زَرَعْتُ بِخَدِّهِ وَرْدًا طَرِّيًّا
فَأَثْمَرَ فِي السَّوَالِفِ جُلَّنَارُ
وَتَحْسَبُ مَوْضِعَ التَّخْمِيشِ فِيهِ
رَمَادًا خَامِدًا وَالْخَدُّ نَارُ
يَقُولُ لِي الْعَذُولُ تَسَلَّ عَنْهُ
فَمَا عُذْرِي وَقَدْ نَمَّ الْعِذَارُ
figure
ونزلوا في الزَّوْرق حتى وصلوا إلى الموضع، فسمعوا صوتَ جاريةٍ تُغنِّي.

فلما سمع الخليفة هذا الصوت قال: يا جعفر، ما أحسنَ هذا الصوت! قال جعفر: يا مولانا، ما طرق سمعي أطيب ولا أحسن من هذا الغناء، ولكن يا سيدي إن السماع من وراء جدارٍ نصفُ سماع، فكيف بالسماع من خلفِ سِتْر؟ فقال: انهضْ بنا يا جعفر حتى نتطفَّل على صاحب هذه الدار؛ لعلنا نرى المغنية عِيانًا. قال جعفر: سمعًا وطاعة. فصعدوا من المركب واستأذنوا في الدخول، وإذا بشابٍّ مليحِ المنظر عذْبِ الكلام فصيحِ اللسان قد خرج إليهم وقال: أهلًا وسهلًا يا سادةَ المُنعِمين عليَّ، ادخلوا بالرَّحْب والسعة. فدخلوا وهو بين أيديهم، فرأَوا الدار بأربعة أوجه، وسقفها بالذهب، وحيطانها منقوشة باللازورد، وفيها إيوان به سدلة جميلة وعليها مائة جارية كأنهنَّ أقمار، فصاح عليهن فنزلْنَ عن أَسِرَّتهن، ثم الْتفَتَ ربُّ المنزل إلى جعفر وقال: يا سيدي، أنا ما أعرف منكم الجليلَ من الأجلِّ، باسم الله ليتفضَّل منكم مَن هو أعلى في الصدر، ويجلس إخوانه كلُّ واحد في مرتبته. فجلس كل واحد في منزلته، وقام مسرور في الخدمة بين أيديهم، ثم قال لهم صاحب المنزل: يا أضيافي، عن إذنكم، هل أحضر لكم شيئًا من المأكول؟ قالوا له: نعم. فأمر الجواري بإحضار الطعام، فأقبَلَ أربعُ جوارٍ مشدودات الأوساط بين أيديهن مائدة وعليها من غرائب الألوان، مما درَجَ وطار وسبح في البحار، من قطًا وسمَّان وأفراخ وحمام، ومكتوب على حواشي السفرة من الأشعار ما يناسب المجلس، فأكلوا على قدر كفايتهم، ثم غسلوا أيديهم، فقال الشاب: يا سادتي، إن كان لكم حاجة فأخبرونا بها حتى نتشرَّف بقضائها. قالوا: نعم، فإننا ما جئنا منزلك إلا لأجلِ صوتٍ سمعناه من وراء حائط دارك، فاشتهينا أن نسمعه ونعرف صاحبته، فإن رأيتَ أن تُنعِم علينا بذلك كانَ من مكارم أخلاقك، ثم نعود من حيث جئنا. فقال: مرحبًا بكم. ثم التفت إلى جارية سوداء وقال: أحضِري سيدتك فلانة. فذهبت الجارية ثم جاءت ومعها كرسي فوضعَتْه، ثم ذهبت ثانيًا وأتَتْ ومعها جارية كأنها البدر في تمامه، فجلست على الكرسي. ثم إن الجارية السوداء ناولتها خرقةً من أطلس، فأخرجت منها عودًا مرصَّعًا بالجواهر واليواقيت وملاويه من الذهب. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤