فلما كانت الليلة ٩٥٤

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الغلام لما رأى الجراب مفقودًا حصل له غمٌّ كبير، فسكت ولم يقدر أن يتكلم، فقدَّم الشيخ الشطرنج وقال للغلام: هل تلعب معي؟ قال: نعم. فلعب فغلبه الشيخ، فقال الغلام: أحسنتَ. ثم ترك اللعب وقام، فقال له: ما لكَ يا غلام؟ فقال: أريد الجراب. فقام وأخرجه له وقال: ها هو يا سيدي، هل ترجع إلى اللعب معي؟ قال: نعم. فلعب معه فغلبه الغلام، فقال الرجل: لمَّا اشتغل فكرك بالجراب غلبتُك، فلما جئت به إليك غلبتَني. ثم قال له: يا ولدي، أخبِرني من أي البلاد أنت؟ فقال: من مصر. فقال له: وما سبب مجيئك إلى بغداد؟ فأخرج له الصورة وقال: اعلم يا عمِّ أني ولد الخصيب صاحب مصر، وقد رأيت هذه الصورة عند رجل كُتبي فسلبَتْ عقلي، فسألتُ عن صانعها فقيل لي: إن صانعها رجل من بغداد بِحارة الكرخ يُقال له أبو القاسم الصندلاني، بدربٍ يُعرَف بدرب الزعفران، فأخذت معي شيئًا من المال وجئت وحدي ولم يعلم بحالي أحد، وأريد من تمام إحسانك أن تدلَّني عليه حتى أسأله عن سبب تصويره لهذه الصورة، وصورة مَن هي، ومهما أراده مني فإني أعطيه إياه. فقال: والله يا ابني إني أنا أبو القاسم الصندلاني، وهذا أمر عجيب! كيف ساقتك المقادير إليَّ؟ فلما سمع الغلام كلامه قام إليه وعانَقَه وقبَّلَ رأسه ويديه، وقال له: بالله عليك أن تخبرني بصورة مَن هي؟ فقال: سمعًا وطاعةً. ثم قام وفتح خزانة وأخرج منها عدة كتب كان صوَّر فيها هذه الصورة، وقال: اعلم يا ولدي أن صاحبةَ هذه الصورة ابنةُ عمي، وهي في البصرة، وأبوها حاكم البصرة يُقال له أبو الليث، وهي يُقال لها جميلة، وما على وجه الأرض أجمل منها، ولكنها زاهدة في الرجال، ولم تقدر أن تسمع ذِكْرَ رجلٍ في مجلسها، وقد ذهبتُ إلى عمي بقصد أنه يزوِّجني بها، وبذلتُ له الأموال فلم يُجِبني إلى ذلك، فلما علمَتِ ابنتُه بذلك اغتاظتْ وأرسلت إليَّ كلامًا من جملته أنها قالت: إن كان لك عقل فلا تُقِم بهذه البلدة وإلا تهلك ويكون ذنبك في عنقك. وهي جبَّارة من الجبابرة، فخرجت من البصرة وأنا منكسر الخاطر، وعملت هذه الصورة في الكُتب وفرَّقتها في البلاد؛ لعلها تقع في يد غلامٍ حَسَن الصورة مثلك فيتحيَّل في الوصول إليها؛ لعلها تعشقه، وأكون قد أخذت عليه العهد أنه إذا تمكَّنَ منها يُريني إياها ولو نظرة من بعيد. فلما سمع إبراهيم بن الخصيب كلامه أطرق رأسه ساعةً وهو يتفكَّر، فقال له الصندلاني: يا ولدي، إني ما رأيت ببغداد أحسن منك، وأظن أنها إذا نظرَتْك تحبك، فهل يمكنك إذا اجتمعتَ بها وظفرتَ بها أن تريني إياها ولو نظرةً من بعيد؟ فقال: نعم. فقال: إذا كان الأمر كذلك فأقِمْ عندي إلى أن تسافر. فقال: لا أقدر على المقام؛ فإنَّ في قلبي من عِشْقها نارًا زائدة. فقال له: اصبر حتى أجهِّز لك مركبًا في ثلاثة أيام لتذهب فيه إلى البصرة. فصبر حتى جهَّز له مركبًا ووضع فيه كلَّ ما يحتاج إليه من مأكول ومشروب وغير ذلك. وبعد الثلاثة أيام قال للغلام: تجهَّزْ للسفر؛ فقد جهَّزتُ لك مركبًا فيه سائر ما تحتاج إليه، والمركب ملكي، والملَّاحون من أتباعي، وفي المركب ما يكفيك إلى أن تعود، وقد وصَّيتُ الملَّاحين أن يخدموك إلى أن ترجع بالسلامة. فنهض الغلام ونزل في المركب، وودَّعه وسار حتى وصل إلى البصرة، فأخرج الغلام مائة دينار للملَّاحين، فقالوا له: نحن أخذنا الأُجرة من سيدنا. فقال لهم: خذوها إنعامًا وأنا لا أخبره بذلك. فأخذوها منه ودعوا له.

ثم دخل الغلام البصرة وسأل: أين مسكن التجار؟ فقالوا له: في خان يُسمَّى خان حمدان. فمشى حتى وصل إلى السوق الذي فيه الخان، فامتدت إليه الأعين بالنظر من فرط حُسْنه وجماله. ثم دخل الخان مع رجل ملَّاح وسأل عن البواب، فدلُّوه عليه، فرآه شيخًا كبيرًا مُهابًا، فسلَّم عليه، فردَّ عليه السلام، فقال: يا عمِّ، هل عندك حجرة ظريفة؟ قال: نعم. ثم أخذه هو والملَّاح وفتح لهما حجرةً ظريفة مزركشة بالذهب، وقال: يا غلام، إن هذه الحجرة تصلُح لك. فأخرج الغلام دينارين وقال له: خُذْ هذين حلوان المفتاح. فأخذهما ودعا له وأمر الغلامُ الملَّاحَ بالذهاب إلى المركب، ثم دخل الحجرة، فاستمرَّ عنده بواب الخان وخدَمَه، وقال له: يا سيد، حصل لنا بك السرور. فأعطاه الغلام دينارًا وقال له: هاتِ لنا به خبزًا ولحمًا وحلوى وشرابًا. فأخذه وذهب إلى السوق ورجع إليه، وقد اشترى ذلك بعشرة دراهم وأعطاه الباقي، فقال له الغلام: اصرفه على نفسك. ففرح بوَّاب الخان بذلك فرحًا عظيمًا. ثم إن الغلام أكل مما طلبه قرصًا واحدًا بقليل من الأُدُم، وقال لبوَّاب الخان: خُذْ هذا إلى أهل منزلك. فأخذه وذهب به إلى أهل منزله، وقال لهم: ما أظن أن أحدًا على وجه الأرض أكرم من الغلام الذي سكن عندنا في هذا اليوم ولا أحلى منه، فإن دام عندنا حصل لنا الغنى. ثم إن بوَّاب الخان دخل على إبراهيم فرآه يبكي، فقعد وصار يكبِّس رجلَيْه، ثم قبَّلهما وقال: يا سيدي، لأي شيء تبكي، لا أبكاك الله؟ فقال: يا عمِّ، أريد أن أشرب أنا وأنت في هذه الليلة. فقال له: سمعًا وطاعة. فأخرج له خمسة دنانير وقال له: اشترِ لنا بها فاكهة وشرابًا. ثم دفع له خمسة دنانير أخرى وقال له: اشترِ لنا بهذه نقلًا ومشمومًا وخمس دجاجات سمان، وأحضر لي عودًا. فخرج واشترى له ما أمره به، وقال لزوجته: اصنَعي هذا الطعام، وصفِّي لنا هذا الشراب، وليكن ما تصنعينه جيدًا؛ فإن هذا الغلام قد عمَّنا بإحسانه. فصنعت زوجته ما أمرها به على غاية المراد، ثم أخذه ودخل به على إبراهيم ابن السلطان. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤