فلما كانت الليلة ٩٥٧

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الخولي لما دخل على إبراهيم بن الخصيب في البستان قال له: قُمْ يا ولدي اصعد إلى العريشة، فإن الجواري قد أتَيْن ليفرشن المكان، وهي تأتي بعدهن، واحذرْ من أن تبصق أو تمخط أو تعطس، فنهلك أنا وأنت. فقام الغلام وصعد إلى العريشة، وذهب الخولي وهو يقول: رزقكَ الله السلامة يا ولدي. فبينما الغلام قاعد، وإذا بخمسِ جوارٍ أقبلن لم يَرَ مثلهن أحد، فدخلن القبة وقلعن ثيابهن وغسلن القبة ورششنها بماء الورد، وأطلقْنَ العود والعنبر وفرشْنَ الديباج، وأقبل بعدهن خمسون جارية ومعهن آلات الطرب، وجميلة بينهن من داخل خيمة حمراء من الديباج، والجواري رافعات أذيال الخيمة بكلاليب من الذهب حتى دخلت القبة، فلم يَرَ الغلام منها ولا من أثوابها شيئًا، فقال في نفسه: والله إنه ضاع جميع تعبي، ولكنْ لا بد لي من أن أصبر حتى أنظر كيف يكون الأمر. فقدَّمت الجواري الأكل والشرب، ثم أكلن وغسلن أيديهن، ونصبن لها كرسيًّا فجلست عليه، ثم ضربن بآلات الملاهي جميعهن، وغنَّين بأصوات مطربة لا مثل لها، ثم خرجت عجوز قهرمانة فصفقت ورقصت، فجذبها الجواري، وإذا بالسِّتر قد رُفِع وخرجت جميلة وهي تضحك، فرآها إبراهيم وعليها الحلي والحلل، وعلى رأسها تاج مرصَّع بالدر والجوهر، وفي جِيدِها عِقدٌ من اللؤلؤ، وفي وسطها منطقة من قبضان الزبرجد وحبالها من الياقوت واللؤلؤ، فقام الجواري وقبَّلْنَ الأرض بين يديها وهي تضحك، قال إبراهيم بن الخصيب: فلما رأيتُها غِبت عن وجودي، واندهش عقلي وتحيَّر فكري بما بهرني من جمال لم يكن على وجه الأرض مثله، ووقعت مغشيًّا عليَّ، ثم أفقت باكي العينين وأنشدت هذين البيتين:

أَرَاكَ فَلَا أَرُدُّ الطَّرْفَ كَيْ لَا
تَكُونَ حِجَابَ رُؤْيَتِكِ الْجُفُونُ
وَلَوْ أَنِّي نَظَرْتُ بِكُلِّ لَحْظٍ
لَمَا اسْتَوْفَتْ مَحَاسِنَكَ الْعُيُونُ

فقالت العجوز للجواري: ليَقُم منكن عشرٌ يرقصْنَ ويغنِّين. فلما رآهن إبراهيم قال في نفسه: أشتهي أن ترقص السيدة جميلة. فلما انتهى رقص العشر جوارٍ أقبلن حولها وقلن: يا سيدتنا، نشتهي أن ترقصي في هذا المجلس ليتم سرورنا بذلك؛ لأننا ما رأينا أطيب من هذا اليوم. فقال إبراهيم بن الخصيب في نفسه: لا شك أن أبواب السماء قد فُتِحت واستجاب الله دعائي. ثم قبَّل الجواري أقدامها وقلن لها: والله ما رأينا صدرك مشروحًا مثل هذا اليوم. فما زلن يرغِّبنها حتى قلعت أثوابها وصارت بقميص من نسيج الذهب مطرَّز بأنواع الجواهر، وأبرزت نهودًا كأنهن الرمان، وأسفرت عن وجه كالبدر ليلة تمامه، فرأى إبراهيم من الحركات ما لم يَرَ في عمره مثلها، ولِمَا أتت في رقصها بأسلوب غريب وابتداع عجيب حتى أنستنا رقص الحبب في الكئوس، وأذكرتنا ميل العمائم عن الرءوس، وهي كما قال فيها الشاعر:

figure
فخرجت جميلة وعليها الحُلِي والحُلَل ومعها الجواري، فلما رآها إبراهيم اندهش عقله.
كَمَا اشْتَهَتْ خُلِقَتْ حَتَّى إِذَا اعْتَدَلَتْ
فِي قَالِبِ الْحُسْنِ لَا طُولٌ وَلَا قِصَرُ
كَأَنَّهَا خُلِقَتْ مِنْ مَاءِ لُؤْلُؤَةٍ
فِي كُلِّ جَارِحَةٍ مِنْ حُسْنِهَا قَمَرُ

وكما قال الآخر:

وَرَاقِصٍ مِثْلُ غُصْنِ الْبَانِ قَامَتُهُ
تَكَادُ تَذْهَبُ رُوحِي مِنْ تَنَقُّلِهِ
لَا يَسْتَقِرُّ لَهُ فِي رَقْصِهِ قَدَمٌ
كُأَنَّمَا نَارُ قَلْبِي تَحْتَ أَرْجُلِهِ

قال إبراهيم: فبينما أنا أنظر إليها؛ إذ لاحت منها التفاتة إليَّ فرأتني، فلما نظرتني تغيَّر وجهها، فقالت لجواريها: غنُّوا أنتم حتى أجيء إليكن. ثم عمدت إلى سكين قَدْر نصف ذراع، وأخذتها وأتت نحوي، ثم قالت: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. فلما قربتْ مني غِبتُ عن الوجود، فلمَّا رأتني ووقع وجهها في وجهي وقعت السكين من يدها وقالت: سبحان مقلِّب القلوب! ثم قالت لي: يا غلام، طِب نفسًا، ولك الأمان مما تخاف. فصرتُ أبكي وهي تمسح دموعي بيدها وقالت: يا غلام، أخبرني مَن أنت؟ وما جاء بك إلى هذا المكان؟ فقبَّلتُ الأرض بين يديها ولزمتُ ذيلها، فقالت: لا بأس عليك، فواللهِ ما ملأتُ عيني من ذَكَر غيرك، فقُلْ لي مَن أنت؟ قال إبراهيم: فحدَّثتها بحديثي من أوله إلى آخره، فتعجَّبَتْ من ذلك وقالت لي: يا سيدي، أناشدك الله، هل أنت إبراهيم بن الخصيب؟ قلت: نعم. فانكبَّت عليَّ وقالت: يا سيدي، أنت الذي زهَّدتني في الرجال؛ لأنني لمَّا سمعتُ أنه وُجِد في مصر صبي لم يكن على وجه الأرض أجمل منه، هويتُك بالوصف، وتعلَّقَ قلبي بحبك لِمَا بلغني عنك من الجمال الباهر، وصرتُ فيك كما قال الشاعر:

أُذْنِي لَقَدْ سَبَقَتْ فِي عِشْقِهِ بَصَرِي
وَالْأُذْنُ تَعْشَقُ قَبْلَ الْعَيْنِ أَحْيَانًا

فالحمد لله الذي أراني وجهك، والله لو كان أحد غيرك لكنتُ صلبتُ البستاني وبوَّاب الخان والخياط ومَن يلوذ بهم. ثم قالت لي: كيف أحتال على شيء تأكله من غير اطِّلاع جواريَّ؟ فقلت لها: إن معي ما نأكل وما نشرب. ثم حللت الكارة بين يديها، فأخذت دجاجة وصارت تلقِّمني وألقِّمها، فلما رأيتُ ذلك منها توهَّمت أنه منام، ثم قدَّمت الشراب فشربنا، كل ذلك وهي عندي والجواري تغني، وما زلنا كذلك من الصبح إلى الظهر، ثم قامت وقالت: قُمِ الآن هيِّئ لك مركبًا وانتظرني في المحل الفلاني حتى أجيء إليك، فما بقي لي صبر على فراقك. فقلت: يا سيدتي، إن معي مركبًا، وهي ملكي، والملَّاحون في إجارتي، وهم في انتظاري. فقالت: هذا هو المراد. ثم مضت إلى الجواري. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤