فلما كانت الليلة ٩٦٣

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الجارية قالت لأختها: إني قد عاهدتُه أني لا أجتمع معه في الحرام، ولكن كما خاطر بنفسه وارتكب هذه الأهوال لَأكونن أرضًا لوطء قدمَيْه وترابًا لنعلَيْه. فقالت لها أختها: بهذه النية نجَّاه الله تعالى. فقالت: سوف ترَيْن ما أصنع حتى أجتمع معه في الحلال، فلا بد أن أبذل مهجتي في التحيُّل على ذلك. فبينما نحن في الحديث، وإذا بضجة عظيمة، فالتفتنا فرأينا الخليفة قد جاء يريد حجرتها من كثرة ما هو كَلِف بها. فأخذتني يا أمير المؤمنين وحطَّتْني في سرداب وطبقَتْه عليَّ، وخرجت تقابل الخليفة فلاقته، ثم جلس، فوقفت بين يديه وخدمته، ثم أمرت بإحضار الشراب، وكان الخليفة يحب جاريةً اسمها البنجة، وهي أم المعتز بالله، وكانت تلك الجارية قد هجرَتْه وهجرها، فلِعزِّ الحُسْن والجمال لا تصالحه، والمتوكل لعزَّة الخلافة والمُلك لا يصالحها، ولا يكسر نفسه لها، مع أن في قلبه منها لهيب النار، ولكنه تشاغَلَ عنها بنظرائها من الجواري والدخول إليهن في حجراتهن. وكان يحب غناء شجرة الدر، فأمرها بالغناء، فأخذت العود وشدَّت الأوتار وغنَّت بهذه الأشعار:

عَجِبْتُ لِسَعْيِ الدَّهْرِ بَيْنِي وَبَيْنَهَا
فَلَمَّا انْقَضَى مَا بَيْنَنَا سَكَنَ الدَّهْرُ
هَجَرْتُكِ حَتَّى قِيلَ لَا يَعْرِفُ الْهَوَى
وَزُرْتُكِ حَتَّى قِيلَ لَيْسَ لَهُ صَبْرُ
فَيَا حُبَّهَا زِدْنِي جَوًى كُلَّ لَيْلَةٍ
وَيَا سَلْوَةَ الْأَيَّامِ مَوْعِدُكِ الْحَشْرُ
لَهَا بَشَرٌ مِثْلُ الْحَرِيرِ وَمَنْطِقٌ
رَخِيمُ الْحَوَاشِي لَا هُرَاءُ وَلَا نَذْرُ
وَعَيْنَانِ قَالَ اللهُ كُونَا فَكَانَتَا
فَعُولَانِ بِالْأَلْبَابِ مَا تَفْعَلُ الْخَمْرُ

فلما سمعها الخليفة طَرِب طربًا شديدًا، وطربتُ أنا يا أمير المؤمنين في السرداب، ولولا لطْفُ الله تعالى لَصِحتُ وافتضحنا، ثم أنشدتْ أيضًا هذه الأبيات:

أُعَانِقُهُ وَالنَّفْسُ بَعْدُ مَشُوقَةٌ
إِلَيْهِ وَهَلْ بَعْدَ الْعِنَاقِ تَدَانِ
وَأَلْثُمُ فَاهُ كَيْ تَزُولَ حَرَارَتِي
فَيَنْشُدُ مَا أَلْقَى مِنَ الْهَيَمَانِ
كَأَنَّ فُؤَادِي لَيْسَ يَشْفِي غَلِيلَهُ
سِوَى أَنْ يَرَى الرُّوحَيْنِ يَمْتَزِجَانِ

فطرب الخليفة وقال: تمنَّيْ عليَّ يا شجرة الدر. فقالت: أتمنى عليك عِتقي يا أمير المؤمنين لما فيه من الثواب. فقال: أنتِ حُرَّة لوجه الله تعالى. فقبَّلت الأرض بين يديه. فقال: خذي العود وقولي لنا شيئًا في شأن جاريتي التي أنا متعلِّق بهواها والناس تطلب رضاي وأنا أطلب رضاها. فأخذت العود وأنشدت هذين البيتين:

أَيَا رَبَّةَ الْحُسْنِ الَّتِي أَذْهَبَتْ نُسْكِي
عَلَى كُلِّ أَحْوَالِي فَلَا بُدَّ لِي مِنْكِ
فَإِمَّا بِذُلٍّ وَهْوَ أَلْيَقُ بِالْهَوَى
وَإِمَّا بِعِزٍّ وَهْوَ أَلْيَقُ بِالْمُلْكِ

فطرب الخليفة وقال: خدي العود وغنِّي شعرًا يتضمن شرحَ حالي مع ثلاث جوارٍ مَلَكْنَ قيادي ومنعن رقادي وهنَّ: أنتِ وتلك الجارية الهاجرة وأخرى لا أسمِّيها ليس لها مناظرة. فأخذت العود وأطربت بالنغمات وأنشدت هذه الأبيات:

مَلَكَ الثَّلَاثُ الْآنِسَاتُ عِنَانِي
وَحَلَلْنَ مِنْ قَلْبِي أَعَزَّ مَكَانِ
مَا لِي تُطَاوِعُنِي الْبَرِيَّةُ كُلُّهَا
وَأُطِيعُهُنَّ وَهُنَّ فِي عِصْيَانِي
مَا ذَاكَ إِلَّا أَنَّ سُلْطَانَ الْهَوَى
وَبِهِ غَلَبْنَ أَعَزُّ مِنْ سُلْطَانِي

فتعجَّبَ الخليفة من موافَقة هذا الشعر لحاله غاية العجب، ومالَ به إلى مصالحة الجارية الهاجرة الطربُ، ثم خرج وقصد حجرتها، فسبقت جارية وأخبرتها بقدوم الخليفة، فاستقبلته وقبَّلت الأرض بين يدَيْه، ثم قبَّلت قدمَيْه، فصالَحَها وصالحته.

هذا ما كان من أمره، وأما ما كان من أمر شجرة الدر، فإنها جاءت إليَّ وهي فرحانة وقالت: إني صرتُ حُرَّةً بقدومك المبارك، ولعل الله يُعِينني على ما أدبِّره حتى أجتمع بك في الحلال. فقلت: الحمد لله. فبينما نحن في الحديث، وإذا بخادمها قد دخل علينا، فحدَّثناه بما جرى لنا، فقال: الحمد لله الذي جعل آخِره خيرًا، ونسأل الله أن يتم ذلك بخروجك سالمًا. فبينما نحن في الحديث، وإذا بالجارية أختها قد جاءت، وكان اسمها فاتر، فقالت: يا أختي، كيف نعمل حتى نُخرِجه من القصر سالمًا؛ فإن الله تعالى مَنَّ عليَّ بالعتق وصرت حرَّةً ببركة قدومه. فقالت لها: ليس لي حيلة في خروجه إلا بأن أُلبِسَه ثياب النساء. ثم جاءت ببدلة من ثياب النساء فألبَسَتْنيها، ثم خرجتُ يا أمير المؤمنين في ذلك الوقت، فلما جئتُ إلى وسط القصر وإذا بأمير المؤمنين جالس والخدم بين يديه، فنظر إليَّ وأنكرني غاية الإنكار، وقال لحاشيته: أسرعوا وائتوني بهذه الجارية. فلما أتوا بي رفعوا نقابي، فلما رآني عرفني، وسألني، فأخبرته بالخبر ولم أُخْفِ عليه شيئًا، فلما سمع حديثي تفكَّر في أمري، ثم قام من وقته وساعته ودخل حجرة شجرة الدر، فقال: كيف تختارين عليَّ بعض أولاد التجار؟ فقبَّلت الأرض بين يديه وحدَّثته بحديثها من أوله إلى آخره على وجه الصدق، فلما سمع كلامها رحمها ورقَّ قلبه لها، وعذرها في العشق وأحواله، ثم انصرف، ودخل عليها خادمها وقال: طِيبي نفْسًا، إن صاحبك لما حضر بين يدي الخليفة سأله فأخبره كما أخبرتِه حرفًا بحرف. ثم رجع الخليفة وأحضرني بين يديه وقال لي: ما حملك على التجاري على دار الخلافة؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، حملني على ذلك جهلي والصبابة والإقبال على عفوك وكرمك. ثم بكيت وقبَّلت الأرض بين يديه. فقال: عفوت عنكما. ثم أمرني بالجلوس، فجلست، فدعا بالقاضي أحمد بن أبي دؤاد وزوَّجني بها، وأمر بحمل جميع ما عندها إليَّ، وزفُّوها في حجرتها، وبعد ثلاثة أيام خرجت ونقلت جميع ذلك إلى بيتي، فجميع ما تنظره يا أمير المؤمنين في بيتي وتنكره كله من جهازها.

ثم إنها قالت لي يومًا من الأيام: اعلم أن المتوكل رجل كريم، وأخاف أن يتذكَّرنا أو يذكرنا عنده أحدٌ من الحساد، فأريد أن أعمل شيئًا يكون فيه الخلاص من ذلك. قلت: وما هو؟ قالت: أريد أن أستأذنه في الحج والتوبة من الغناء. فقلت لها: نِعْم الرأي الذي أشرتِ إليه. فبينما نحن في الحديث، وإذا برسول الخليفة قد جاءني في طلبها؛ لأنه كان يحب غناءها، فمضت وخدمته. فقال لها: لا تنقطعي عنا. فقالت: سمعًا وطاعة. فاتفق أنها ذهبت إليه في بعض الأيام، وكان قد أرسل إليها على جري العادة، فلم أشعر إلا وقد جاءت من عنده ممزَّقةَ الثياب باكيةَ العين، ففزعتُ من ذلك وقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون! وتوهَّمتُ أنه أمر بالقبض علينا، فقلت لها: هل المتوكل غضب علينا؟ فقالت: وأين المتوكل؟ إن المتوكل قد انقضى حكمه وانمحى رسمه. فقلت: أخبريني بحقيقة الأمر. فقالت: إنه كان جالسًا وراء الستارة يشرب وعنده الفتح بن خاقان وصدقة بن صدقة، فهجم عليه المنتصر هو وجماعة من الأتراك فقتله، وانقلب السرور بالشرور، والحظُّ الجميل بالبكاء والعويل، فهربت أنا والجارية وسلَّمنا الله. ثم قمت في الحال يا أمير المؤمنين وانحدرت إلى البصرة، وجاءني الخبر بعد ذلك بوقوع الحرب بين المنتصر والمستعين، فخفت فنقلت زوجتي وجميع مالي إلى البصرة. وهذه حكايتي يا أمير المؤمنين لا زدتها حرفًا ولا نقصتها حرفًا. فجميع ما نظرتَهُ في بيتي يا أمير المؤمنين مما عليه اسم جَدِّك المتوكل هو من نعمته علينا؛ لأن أصل نعمتنا من أصولك الأكرمين، وأنتم أهل النِّعَم ومعدن الكرم. ففرح الخليفة بذلك فرحًا شديدًا، وتعجَّب من حديثه، ثم أخرجتُ للخليفة الجارية وأولادي منها فقبَّلوا الأرض بين يديه، فتعجَّبَ من جمالهم، واستدعى بدَوَاةٍ وكتب لنا برفع الخراج عن أملاكنا عشرين سنة. ففرح الخليفة واتخذه نديمًا إلى أن فرَّق الدهر بينهم وسكنوا القبور بعد القصور، فسبحان الملك الغفور!

حكاية قمر الزمان وزوجة الجوهري

ومما يُحكى أيضًا أيها الملك السعيد أنه كان في قديم الزمان رجلٌ تاجر اسمه عبد الرحمن، قد رزقه الله بنتًا وولدًا، فسمَّى البنتَ كوكب الصباح؛ لشدة حُسنها وجمالها، وسمَّى الولد قمر الزمان لشدة حُسنه، ولما نظر ما أعطاهما الله من الحُسْن والجمال والبهاء والاعتدال خاف عليهما من أعين الناظرين وألسنة الحاسدين ومكر الماكرين وتحيُّل الفاسقين، فحجبهما عن الناس في قصرٍ مدةَ أربعَ عشرةَ سنة، ولم يَرَهما أحدٌ غير والدَيْهما وجارية تتعاطى خدمتهما، وكان والدهما يقرأ القرآن كما أنزله الله، وكذلك أمهما تقرأ القرآن، فصارت الأم تُقرئ بنتها والرجل يُقرئ ولده حتى حفِظَا القرآن، وتعلَّما الخط والحساب والفنون والآداب من أبيهما وأمهما، ولم يحتاجا إلى معلم، فلما بلغ الولد مبلغ الرجال قالت للتاجر زوجتُه: إلى متى وأنت حاجبٌ ولدَك قمر الزمان عن أعين الناس؟ أهو بنت أو غلام؟ فقال لها: غلام. قالت: حيث كان غلامًا لِمَ لم تأخذه معك إلى السوق وتُقعِده في الدكان حتى يعرف الناس ويعرفوه لأجل أن يشتهر عندهم أنه ابنك، وتعلِّمه البيع والشراء؟ وربما يحصل لك أمر فيكون الناس قد عرفوا أنه ولدك، فيضع يده على مخلَّفاتك، وأما إذا متَّ على هذه الحالة وقال للناس: أنا ابن التاجر عبد الرحمن. فإنهم لا يصدِّقونه، بل يقولون له: ما رأيناك ولا نعرف أن له ولدًا. وتأخذ أموالَك الحكَّام ويصير ولدك محرومًا، وكذلك البنت، مرادي أن أُشهِرَها عند الناس؛ لعل أحدًا كفوًا لها يخطبها فنزوِّجها له ونفرح بها. فقال لها: مخافةً عليهما من أعين الناس. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤