فلما كانت الليلة ٩٦٧

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن قمر الزمان أخذ جميع ذلك وسافر إلى البصرة، وكان وضَعَ الجواهر في كمرٍ وشدَّه على وسطه، ولم يزل مسافرًا حتى لم يبْقَ بينه وبين البصرة إلا مرحلة واحدة، فخرج عليه العرب وعرَّوْه وقتلوا رجاله وخَدَمه، فرقد بين قتيلَيْن ولطَّخ روحه بالدم، فظنَّ العرب أنه مقتول، فتركوه ولم يتقرَّب منه أحد، ثم أخذوا أمواله وراحوا، فلما راح العرب إلى حال سبيلهم قام قمر الزمان من بين القتلى ومشى وهو لا يملك شيئًا غير الفصوص التي على حزامه، ولم يزل سائرًا حتى دخل البصرة، فاتفق أن دخوله كان في يوم جمعة، وكانت المدينة خالية من الناس كما أخبر الدرويش، فرأى الأسواق خالية والدكاكين مفتوحة وهي ممتلئة بالبضائع، فأكل وشرب وصار يتفرَّج. فبينما هو كذلك إذ سمع النوبة تدق، فاختفى في دكان إلى أن جاءت البنات، فتفرَّج عليهن، ولما رأى الصبيَّة راكبة أخذه العشق والغرام وملكه الوَجْد والهيام، حتى صار لا يستطيع القيام. وبعد حصة من الزمان ظهرت الناس وملأت الأسواق، فذهب إلى السوق وتوجَّه إلى رجل جوهري، وأخرج له حجرًا من الأربعين يساوي ألف دينار، فباعه له ورجع إلى محله، ثم بات تلك الليلة، فلما أصبح الصباح غيَّرَ حوائجه ودخل الحمام وطلع كأنه البدر التمام. ثم باع أربعة فصوص بأربعة آلاف دينار، وصار يتفرَّج في شوارع البصرة وهو لابس أفخر الملابس حتى وصل إلى سوق، فرأى فيه رجلًا مزينًا، فدخل عنده وحلق رأسه وعمل معه صحبة، ثم قال: يا والدي، أنا غريب البلاد، وبالأمس دخلت هذه المدينة فرأيتها خالية من السكان وما فيها أحد من إنس ولا جان، ثم إني رأيت بناتًا وبينهن صبيَّة راكبة في موكب … وأخبره بما رأى، فقال له: يا ولدي، هل أخبرتَ غيري بهذا الخبر؟ قال: لا. فقال له: يا ولدي، إياك أن تذكر هذا الكلام قدَّام أحد غيري، فإن كل الناس لا يكتمون الكلام والأسرار، وأنت ولد صغير فأخاف عليك أن ينتقل الكلام من ناسٍ إلى ناس حتى يصل إلى أصحابه فيقتلوك، واعلم يا ولدي أن هذا الذي رأيته ما أحد رآه ولا يعرفه في غير هذه المدينة، وأما أهل البصرة فإنهم يموتون بهذه الحسرة، وفي كل يوم جمعة عند ضحوة النهار يحبسون الكلاب والقطط ويمنعونها عن المشي في الأسواق، وجميع أهل المدينة يدخلون الجوامع ويغلقون عليهم الأبواب، ولا يقدر أحد منهم أن يمر في السوق، ولا أن يطل من طاقة، ولا يعرف أحدٌ ما سبب هذه البليَّة، ولكن يا ولدي في هذه الليلة أسأل زوجتي عن سببها؛ فإنها داية تدخل بيوت الأكابر وتعرف أخبار هذه المدينة، فإن شاء الله تعالى تأتي عندي في غدٍ وأنا أخبرك بما تخبرني به. فكبش كبشة من الذهب وقال: يا والدي، خذ هذا الذهب وأعطِهِ لزوجتك، فإنها صارت أمي. وكبش كبشة ثانية وقال: خذ هذا لك. فقال المزين: يا ولدي، اجلس مكانك حتى أروح إلى زوجتي وأسألها وأجيء إليك بالخبر الصحيح.

ثم تركه في الدكان وراح إلى زوجته وأخبرها بشأن الغلام، وقال لها: مرادي أن تخبريني بحقيقة أمر هذه المدينة حتى أخبر بها هذا الشاب التاجر؛ فإنه متولِّع بالاطِّلاع على حقيقة أمرها من امتناع الناس والحيوانات عن الأسواق في ضحوة يوم الجمعة، وأظن أنه عاشق وهو كريم سخي، فإذا أخبرناه يحصل لنا منه خير كثير. فقالت له: رُحْ هاتِه وقل له: تعالَ كلِّم أمك زوجتي، فإنها تُقرئك السلام وتقول لك: إن الحاجة مقضية. فذهب إلى الدكان فرأى قمر الزمان قاعدًا ينتظره، فأخبره بالخبر وقال له: يا ولدي، اذهب بنا إلى أمك زوجتي، فإنها تقول لك: إن الحاجة مقضية. ثم أخذه وسار به حتى دخل على زوجته، فرحَّبت به وأجلسته، ثم إنه أخرج مائة دينار وأعطاها لها وقال لها: يا أمي، أخبريني عن هذه الصبيَّة مَن تكون؟ فقالت: يا ولدي، اعلم أن سلطان البصرة قد جاءته جوهرة من عند ملك الهند، فأراد أن يثقبها، فأحضر جميع الجوهرجية وقال لهم: أريد منكم أن تثقبوا لي هذه الجوهرة، والذي يثقبها له عليَّ تَمْنية، فمهما تمنَّاه أعطيته له، وإنْ كسرها فإني أرمي رأسه. فخافوا وقالوا: يا ملك الزمان، إن الجوهر سريع العطب، وقلَّ أن يثقبه أحد ويسلم؛ لأن الغالب عليه الكسر، فلا تحمِّلنا ما لا نطيق، فنحن لا يخرج من أيدينا أن نثقب هذه الجوهرة، وإنما شيخنا أخبر منا. فقال الملك: ومَن شيخكم؟ قالوا له: المعلم عبيد، وهو أخبر منَّا بهذه الصناعة، وعنده أموال كثيرة، وله معرفة جيدة، فأرسِلْ إليه وأحضِرْه بين يديك، وأمره أن يثقب لك هذه الجوهرة. فأرسل إليه وأمره بثقبها، وشرط عليه الشرط المذكور، فأخذها وثقبها على مزاج الملك، فقال له: تمنَّ عليَّ يا معلم. فقال: يا ملك الزمان، أمهلني إلى غدٍ. والسبب في ذلك أنه أراد أن يشاور زوجته، وكانت زوجته تلك الصبية التي رأيتها في الموكب، وكان يحبها محبةً شديدة، ومِن عِظَمِ محبته لها أنه كان لا يفعل شيئًا إلا إذا شاوَرَها فيه، ولأجل ذلك أمهل التمنية حتى يشاورها. فلما أتى إليها قال لها: إني ثقبت للملك جوهرة وأعطاني تمنية، وقد أمهلتها حتى أشاورك، فأي شيء تريدين حتى أتمناه؟ قالت: نحن عندنا أموال لا تأكلها النيران، ولكن إن كنت تحبني فتمنَّ على الملك أنه ينادي في شوارع البصرة أن أهلها يدخلون الجوامع يوم الجمعة قبل الصلاة بساعتين، ولا يبقَ في البلد كبير ولا صغير حتى يكون في المسجد أو في البيت، وتُقفَل عليهم أبواب المساجد والبيوت ويَتركون دكاكين البلد مفتوحة، وأنا أركب بجواريَّ وأشق في المدينة ولا ينظرني أحد من طاقة ولا من شباك، وكل مَن عثرتُ به قتلته. فراح إلى الملك وتمنَّى عليه هذه الأمنية، فأعطاه ما تمنَّاه، ونادى بين أهل البصرة … وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤