كورو الرائع

في العشرين من مايو، من عام ١٨٨١ (والحديث على لسان جون نيكولاس، في غرفة التدخين على مَتن السفينة جاليا)، قضيتُ النهار وجزءًا من الليل في منزل صديقي العزيز سكوت جوردان، رئيس سكك حديد بلومزبرج ولايكامينج. يَمتلك جوردان منزلًا في أحد الأحياء الضاحوية الساحرة على بُعد بضعة أميال مِن فيلادلفيا، وهو رجل ذو شخصية تستحقُّ الإشادة.

إنه رجل شديد الإيمان بالخُرافات، وعمليٌّ لأقصى حدٍّ، صِنف من الرجال لا يَسَعُ الكثيرَ من الناس إلا أن يُصدقوه دون تردُّد. ويشهد على صدقه وحسِّه التجاري السليم نصفُ دَزِينَة من السكك الحديدية، مصمَّمَة ومبنية ومُجهزة، تعود أرباحها إلى أربابها الشرعيين، وإذا كان ثَمةَ حاجة إلى دليل آخر على خبرته بشئون الحياة والنَّاس، فقد يكون موجودًا في خزينته المليئة بالأوراق المالية القابلة للتداول. ويقترب سكوت جوردان في قدرته على إدارة الآخرين والتعامل مع المشروعات المعقدة، في تصوري، من توماس براسي أكثر من أي مُقاول رأسمالي آخر أعرفه. إن اسمه في أي مجلس إدارة هو ضمانة لإدارةٍ محافِظةٍ، حكيمةٍ، لكنها ليست أبدًا بالجَبَانة. أتمنَّى لو تولَّى الاعتناء بشئوني المالية المُتواضِعة، إلى آخر دولار أمتلِكُه. إنه رجل عجوز ودُود، ويحبُّ أن يكون في أعيُن الآخرين رجلًا ذا ذوقٍ رفيع. إنه بكل معنى الكلمة رجل واسع الخبرة بدروب الحياة، ورغم اهتمامه بشئون هذا العالم، فإنه يقضي نصف حياته تقريبًا في عالمٍ آخر؛ عالمٍ غريب حيث يُعزف على البانجو وتُدقُّ الأجراس بلا أيادٍ بشرية، وحيث تمتدُّ الأذرع الشَّبحيَّة من وراء ستائر المجهول، وتَلتقي فيه أشكال مُعتمة من كل عصر من عصور التاريخ وجهًا لوجه.

إن بيت جوردان ملاذٌ جاذب لجميع مُحترفي الشَّعوَذَة في مجال السموِّ الروحاني؛ فهم متعلِّقون به كالطُّفَيليَّات، ومنهم الوسطاء الرُّوحانيون، والمُنوِّمون المغناطيسيُّون، والمعالجون الروحانيون، والأشخاص ذَوو القدرة على تجسيد الأرواح، والمشعوذون، والعرافون، والمَجذوبون من كل نوع، ذكورًا وإناثًا، صغارًا وكبارًا، أثرياء ومُعدِمين.

أخبرني جوردان أن ضيافته لهذه الطبقة الراقية تُكلِّفُه اثنَي عشرَ أو خمسةَ عشر ألف دولار سنويًّا. ومع ذلك فهم يَلْقَون منه كل الترحاب باعتبارهم وسائل مساعدة في بحثه الدءوب عن الحقيقة. إنهم يعيشون مثل الأمراء في منزله؛ فيأتي كل صباح حاملًا معه مكافآتهم الشرفيَّة عن أداء الليلة السابقة. ويظل جوردان على ضيافته الملكية لضيوفه المصريين واليونانيين إلى أن يكتشف زيفهم في إحدى حِيَلهم الأضعف من المعتاد؛ فيُخاطبهم كالوالد المَفطور قلبه، ويُرسلهم مجانًا عبر أحد خطوط السكك الحديدية التابعة له، وهو على أتمِّ الاستعداد لخوض التجربة نفسها مرةً أخرى.

ستفهمون الآن، أيها السادة، أنَّني طالما تطلعتُ باهتمامٍ كبير لزيارتي إلى بيت جوردان.

على الرغم من أن العائلة كانت تَستضيف العديد من أرباب المِهَن، وجدت أنني كنت الضيف الاجتماعي الوحيد. كنت وحدي من يُدرك هذا الاختلاف، لكنَّ جوردان لم يكن يُدرك ذلك قط. لا يُمكنك إلا أن تزداد إعجابًا بالرجل العجوز، لكِياسته الرائعة ذات الطابع التقليدي القديم في التعامل مع الشِّرذِمة الرديئة السمعة من الدَّجَّالين.

كان دائمًا ما يقول بقدْرٍ من التباهي والفخر: «إنهم هم مَن يتعَطَّفون عليَّ عندما يُشرِّفونني بصحبتهم؛ ألا يَجلبون معهم الملوك والشعراء والفنانين العظماء والحكماء والصفوة من كل قرن؟»

ولو أن لشهادة جوردان في هذا الأمر نفسَ ما لها من ثِقَل في أي قضية من قضايا السكك الحديدية في أي محكمة في بنسلفانيا، فهذا يعني أن أحكم وأفضل الناس من كل قرن، من سُقراط وحتى جورج واشنطن، قد زاروا مجلسه الخاص بالفعل.

على مائدة العشاء كان مِن دواعي سروري أن أقابل السيد جون روبرتس وأخاه ويليام، الوسيطين الروحانيَّين المشهورَين؛ برغم ما بدا على وجهَيهما من وضاعة وخسة. قُدِّمتُ أيضًا حسب الأصول إلى السيد هيلدر، وهو سيد نبيل ذو مظهر تبدو عليه آثار السُّل، يُقال إنه يَمتلك قدرات متطوِّرة رائعة. كما التقيتُ بسيدة بدِينة نسيتُ اسمها، ولكنها تمارس الطب استلهامًا من الدكتور راش الشهير. وقابلت السيدة بلاكويل، الوسيطة الروحانية، وابنتَها، التي قُدِّمت إليَّ باسم السيدة وورك، وهي شابة ذات عينين سوداوين، قيل إنها جميلة كالزهرة ووسيطة واعدة ذات موهبة نادرة. ولكنني لم أرَ السيد وورك قط.

ظننتُ أن الفتاة الجميلة والوسيطة الواعدة نظرت إليَّ بعينَين ودُودتين أثناء العشاء. أما سلوك أصحاب المهنة الآخرين، فكان يحمل دلالة مُريبة على وجود تحفُّظ تجاهي؛ فقد كانوا يُراقبونني خُفْية، وكأنهم يحاولون تخمين مدى حدة ذكائي. فتعمدتُ إلقاء بعض التعليقات التي بدت أنها تطمئنهم. كان جوردان مرحًا، وغير مُدركٍ إطلاقًا لما يدور على هامش العشاء.

شهدَت مكتبة صديقي بعد العَشاء مُمارسات الشعوذة المعتادة؛ حيث خُفِّضت الإضاءة إلى النصف. وكان ثَمة غرفة مُلحقة صغيرة، مفصولة برواق عن المكتبة، بمنزلة حجرة خاصة. كَبَّدَني ويليام روبرتس عناء ربطه بحبل غسيل. وبعد أن استحضر بعضًا من الأرواح لشخصيات عادية تمامًا، أعلن أن الظروف غير مواتية. وبناءً على طلبٍ مُلِحٍّ من جوردان، دخلت السيدة بلاكويل إلى المقصورة، فعُرضت فقرة الأيدي والوجوه البيضاء الغامضة بين الستائر. كانت الأضواء لا تزال منخفضةً، وبدأت أصابع السيدة وورك تُلامس أصابع البيانو، لتَشْدو بصوتٍ موسيقيٍّ عذب أُغنِيَتَي «أيها الاسكتلندي» و«القادمة عبر حقول الشوفان»، وأدى التكرار المُستمر للنغمات في النهاية إلى استحضار شكلٍ بالحجم الطبيعي في سحابة من اللون الأبيض، تبيَّن أنه شبح ماري، ملكة اسكتلندا. اختفَت ماري وعاودت الظهور عدة مرات. في النهاية، وكما لو كانت تستجمع الشجاعة، غَامَرت بالخروج من المقصورة، وتقدَّمَت ياردة أو أكثر داخل الغرفة، وانحنَت احترامًا للحاضِرين. همس لي جوردان لافتًا انتباهي للجمال السَّماوِيِّ المُتجلِّي في وجهها وثيابها. وبنَبرة مُوقَّرة سألها عما إذا كانت ستَسمح لشخصٍ غريب بالاقتراب. وبانحناءةٍ خفيفة من رأسها منحتْني الموافَقة. وقفتُ أمام الملكة وجهًا لوجهٍ. وسمَحَت لي بوضع يدي بخِفَّة لثانية واحدة على إحدى ثنيات الثوب الذي يَلفُّها. كان وجهها قريبًا جدًّا من وجهي، حتى إنني في الضوء الخافت رأيتُ عينَيها تلمعان من خلال ثُقبَي عينَي قناعِها المضحك المصنوع من الورق المعجَّن.

كانت رغبتي في الإمساك بماري وفضْح خدعتها السخيفة لا تكاد تُقاوَم. يبدو أنني رفعت يدي دون وعي؛ إذ تملَّك الخوف الملكة واختفَت خلف الباب. عندئذٍ ترَكَت السيدة وورك البيانو ورفَعَت الإضاءة. وقرأتُ في النظرة التي رمقَتْني بها استعطافًا مثيرًا للشفقة.

تهلَّلَ وجه جوردان بالرضا، وقال مُغمغمًا: «جميلة جدًّا، ورائعة للغاية!»

قلت مُكرِّرًا، بينما كان بصري ما زال مصوَّبًا نحو الزهرة والوسيطة الروحانية الواعدة: «أجل، جميلة، جميلة ورائعة على نحوٍ غير مألوف!» فهمَسَت قائلة: «شكرًا لكرمك!»

استحيَيْتُ من نفسي بعض الشيء لكوني شريكًا متطوعًا لهؤلاء المحتالين الرعاع، وأنا أستمع بنفاد صبر مُتزايد إلى انشراح جوردان وهو يصف عروض تجسيدٍ أخرى للأَرواح لا تقلُّ روعةً وإقناعًا عن عرض ماري، ملكة اسكتلندا، وعاد الوسطاء إلى أشغالهم العادية في فترة الفراغ المسائي. كان روبرتس الشقيق الأصغر والسيد هيلدر يلعبان لعبة الطاولة، ويتحدَّثان في الوقت نفسه بأصوات مُنخفِضة، وكانت ممثلة الدكتور راش البدينة نائمة في كرسيِّها، وكانت السيدة وورك تَحيكُ الكُرُوشِيه، بينما كانت والدتها تَحتسي شراب الجِعَة والماء، وهو مشروب منعشٌ ضروري، كما كان جوردان حريصًا على إخباري، بعدما استَنْزَفتْ قُواها الحيوية بسبب تجسيدها الأخير لرُوح ماري. كان الوضع سيُصبح مألوفًا تمامًا لولا حدوث بعض الفرقعات الصاخبة من حين لآخر، أو سلسلة من الطَّرَقَات الحادَّة المُتتابعة صدرت على ما يبدو من السقف، والجدران الفاصلة، وجميع قطع الأثاث، ومن تحت الأرض.

قال روبرتس وهو يرفع بصره عن لوحة لعبته: «إنهم مَرِحُون هذه الليلة.»

قالت والدة السيدة وورك، بينما كانت تُحرِّك مزيج الجِعَة والمياه: «أجل، إنهم مُغرمون للغاية بالسيد جوردان. إنهم يَحومون حوله دائمًا. وأحيانًا، عندما تكون رؤيتي الداخلية أكثر وضوحًا، أرى الهواء مليئًا بأشكالهم الجميلة، يتْبَعونه أينما ذهب. إنهم يُحبُّونه ويكافئونه على اهتمامه الكبير بهم وبنا.»

سألتُ السيد جوردان: «ألم تتعرَّض للاحتيال من قبل؟»

أجاب السيد جوردان: «أوه، كثيرًا، تارةً من الأرواح الشريرة، وتارةً أخرى من الوسطاء المحتالين.»

قالت السيدة بلاكويل: «ثَمة عمليات احتيال في كل مهنة، كما تعلمون.»

قال هيلدر: «لو لم يكن هناك ألماس مزيَّفٌ لما كان هناك ألماس حقيقي.»

واصلت حديثي للسيد جوردان: «ألم تُزَعزِع اكتشافاتُك المتكرِّرة لهذا الاحتيال إيمانَك بهذه الأمور؟»

أجاب رئيس السكك الحديدية: «لِمَ قد يَحدثُ ذلك؟ إن تسعمائة وتسعة وتسعين تجربة سلبية النتائج ليس من شأنها أن تُثبت شيئًا؛ لكن التجربة الألف، إذا ثبتَت صحَّتُها، فإنها تُثبتُ كلَّ شيء. إذا نجحت تجربةٌ واحدة، فإن ذلك يصير برهانًا دائمًا على إمكانية التواصل مع الأرواح غير المجسَّدة.»

قُوبل هذا الافتراض بِوَابِل من الطَّرْق الصادر من كل أرجاء الغرفة استحسانًا له.

قلت: «أنا متأكدٌ من ذلك. إنَّ إثبات حالة واحدة من تدخُّل الأرواح في شئون البشر من شأنه إثبات القضية بأكملها.»

ردَّ مبتسمًا: «لكنك تعتقد أنه لن تَثبت صحة التجربة رقم ألف أبدًا، وفي هذه الأثناء ستَحتفظُ بحقِّكَ في تفسير كل الأشياء التي رأيتها الليلة بفرضيَّة الشعوذة.»

قالت السيدة بلاكويل مُعرِضَةً، وقد انتَهَت الآن من احتِساء كأس الجِعَة الممزوج بالماء: «أنا متأكِّدة من أن السيد لا يعتقد ذلك.»

أردف جوردان: «ومع ذلك قد تنجح التجربة الألف، قد تنجح في أي وقت، ويمكن أن يحدث ذلك لك. تعالَ وانظر إلى لوحاتي.»

حاولت أن أبدوَ وقورًا بينما كان مُضيفي يؤدِّي واجب الضيافة بعرضه مجموعة كبيرة من لوحات رافاييل وتيتيان وكوريدجو وجويدو وغيرهم، رُسِمَت جميعًا في منزله بأيدي وسطاءَ رُوحانيين تحت تأثير الإلهام. كان لدى جوردان مجموعة ربما لا يُضاهيها شيءٌ على وجه الأرض من الأساتذة القُدامى. وعندما سألني عن رأيي في الأدلَّة من داخل اللوحة التي تؤكِّد أصالتها، استطعتُ الرد بصدقٍ تامٍّ بأنه لا يُمكن لِعَين أن تُخطئها.

تحوَّلتُ من هذه السرقات المُذهلة وبداخلي مشاعر ارتياح إلى لوحةٍ لمنظرٍ طبيعي مُعلقة في الرَّدهة. قال جوردان: «لقد نقلتُها إلى هنا لإفساح مجال لرائعةِ كراتشي «دانيال في جُب الأُسُود»؛ تلك اللوحة الكبيرة المصنوعة من القماش التي ربما حَظِيَتْ بإعجابك على نحوٍ خاص.»

نظرتُ إلى العجوز لمعرفة ما إذا كان جادًّا، ثم نظرتُ مرةً أخرى إلى المنظر الطبيعي الرائع.

لم يكن مجرَّد خيال مرسوم، ولكنه كان الحقيقة ذاتها؛ مجموعة من أشجار الصفصاف المستديرة، مصوَّرة تارةً في وضح الصباح الباكر، وتارةً أخرى مُنعكسة على صفحة المياه الهادئة تمامًا للقناة أو الجدول البطيء المارِّ أسفل الأشجار. وهنالك زورق، يطفو جزءٌ منه على الماء ويرسو الجزء الآخر على العشب الرطب لضفَّة النهر القريبة، وعلى مسافة غير واضحة يمكنك رؤية برج قصر ذي قمةٍ مخروطية على الطراز البورجندي. يلفُّ كل ذلك جوٌّ رطب رائع من اللون الأزرق والضباب، والضوء الناعم. لا أقول إنها رسومات من الخيال، بل هي نافذة يُمكن لكل ذي عينَين أن يستكشف عبرها الطبيعة في حقيقتها الخالدة.

قلت: «هذا أقرب ما يَنْتَمي إلى عالم ما فوق الطبيعة من أي شيء رأيتُه. إنها تساوي كل ما قام به أساتِذَتُك القدماء معًا.»

قال السيد جوردان: «هل أعجبتْك؟ إنها جيدة بما فيه الكفاية، على ما أظن، على الرغم من أنها تنتمي إلى مدرسة ليس لديَّ أيُّ ولع خاص بها. لقد رُسِمت هنا قبل حوالي عام من قِبلِ رُوح لم تشأ تحديد هُويتها.»

قلت بعد أن فاق ذلك كل قدرة لديَّ على التحمل: «هذا هراء، لقد مات كورو منذ ست سنوات.»

عاد جوردان أدراجه إلى المكتبة، وقال: «سيدة وورك، هل تذكرين الظروف التي رُسِمَ فيها المنظر الطبيعي الكبير في الردهة، ذو اللون الأخضر الضبابي؟»

أجابت السيدة الشابة، موجِّهة بصرها إلينا تاركة الإِبَرَ التي في يدَيها: «بالتأكيد، أتذكَّر جيدًا جدًّا. لقد رُسِمت بواسطتي.»

استخدمتْ في ادِّعائها تأليف هذا العمل العبقري الرائع، نبرة الأمر الواقع التي كانت ستستخدمها عند سؤالها عن نسج طائر اللقلق وزهرة عباد الشمس بالصوف، أو غزل هرة نائمة بالصوف البرليني.

«وهل أنتِ فنانة؛ أعني عندما لا تكونين في حالة الغَشية؟»

أجابت، وقد قابلتْ نظرتي إليها بعينين لا تَطرُفان: «أوه، نعم.» ثم أَبرَزَت لي من إحدى مجموعات السيد جوردان رسومات زنابق مثيرة للضحك بألوان مائية. في هذه الأثناء، كان جوردان يُفتِّش في مكتبِه. وجلب دفتر حسابات، وقال: «ها هي كل اللوحات المقيَّدة بالدفتر بالأبيض والأسود.» وفي منتصف صفحة مما يشبه المذكرات قرأت هذا البند:

١٣ مايو ١٨٨٠: ادفعوا لحساب السيدة وورك لرسم لوحة تمَّ إنجازها وتسلُّمُها؛ منظر كبير (أشجار، نهر، قارب إلخ) … ٢٥ دولارًا.

صِحتُ مُلتفتًا إلى السيدة وورك قائلًا: «كل ما يمكنني قوله يا سيدتي أنَّ نويدلر أو آفيري كانا سيدفعان عشرة آلاف دولار عن طيب خاطر مقابل تحفة كورو هذه، إنها لِكورو، ويا لها من تحفة!»

بعد ذلك بقليل قال جوردان عندما نهضت لآوي إلى فراشي: «طابت ليلتُك. بعد كل ما مررتَ به، لا أحتاج إلى تحذيرِك مِن ألا تَنزعج بسبب أي ضجيج قد تسمعه في غرفة نومك.» وأعقبت جملتَه عاصفةٌ من الطَّرَقَات جاءت لتُؤكِّدها. وكانت السيدة بلاكويل تقول، بينما كنت أهم بمغادرة المكتبة: «إنهم يحومون، يحومون حول المكان. لكنهم بمنزلة حراس لهذا المنزل.»

ذهبتُ إلى الفراش في حيرة تامة من أمري؛ فرغم كل شيء، هل كان هناك، وراء تلك الحيل البائسة، شيءٌ غير مفهوم، شيءٌ غير قابل للتفسير، شيءٌ لا يُوصف لم يَفهمه المشعوذون أنفسهم، فضلًا عن السُّذَّج المخدوعين فيهم؟ عندما فكرت في ماري، ملكة اسكتلندا، وتحديقها فيَّ من خلال قناع الورق المعجَّن، وافتِتَان جوردان بجَمالها غير العادي، بدت المشكلة أتفَهَ من أن تلفِتَ انتباه رجل ذكي لدقيقة واحدة. لكن كان هناك كورو. كانت آلات الطَّرْق، والأيدي، والحبال، والأشباح، وآلات الجيتار، وأعمال رافاييل وكوريدجو وكاراتشي طفولية في سذاجتها وبساطتها، ولكن مرةً أخرى كان هناك كورو. كانت كل سلسلة من التفكير المنطقي، وكل عملية تحليلية تقودُني للعودة إلى كورو الرائع.

لا بدَّ أن أحد الاحتمالاتِ الثلاثة صحيح: إما أن تكون الصورة عادية، كحالِ أعمال الروَّاد القُدامى الأخرى، وأن تَقيِيمِي كان تحت تأثير وهم أو هلوسة غريبة فيما يتعلق بمزاياها، أو أن السيدة وورك وشركاءها اشتروا لوحة لكورو غير معروفة للخبراء وباعوها بجزء من خمسمائة جزء من قيمتها السوقيَّة؛ لتعزيز خدعة تافهة، أو أن اللوحةَ أُعجوبة، وكانت طريقة إنتاجها بمنزلة مُعجزة. كان الافتراض الأول هو الأكثر منطقية، ولكن لم أكن لأَتَقبَّلَه على حساب خبرتي وحكمتي. لا شكَّ أن ضوء النهار كفيل بتأكيد تقديري للصورة. انطوى الافتراض الثاني على درجة من الحماقة — حماقة لا مُبَالية ومكلِّفة — من جانب هؤلاء الوسطاء الكرام لم تتوافَق مع ملاحظاتي بشأن شخصيتهم. كان قبول الافتراض الثالث، بالطبع، يعني قبول نظرية الرُّوحانيين. وهكذا استسلمتُ للنوم وسط هذا الكم من التفكير، واستيقظتُ حوالَي الساعة الثانية والنصف، بسبب طَرْقٍ مكتوم أسفل سريري مباشرةً.

توالت الأحداث التي تَلَتْ ذلك سريعًا، لكن كلُّ حدثٍ واضح ومميَّز في ذاكرتي، وأطلب منكم أن تحتفظوا بأحكامكم حتى تسمعوني.

كان مصدر الضوضاء غرفة أسفل غرفتي، وحسب ظني، كانت هذه الغرفة هي المكتبة، وبالرغم من نصيحة جوردان، قررتُ أن أستكشف الأمر. سارعت بارتداء بنطالي ومضيتُ بحذَرٍ نحو الدَّرَج، وعند قمَّة الدرج فُتح باب عند مُروري واستقرَّتْ يَدٌ على كَتِفي.

وإذا بي أسمع همسًا في أذني: «لا تنزل! لا تنزل! عُد إلى غرفتك!»

وإذا بشكلٍ أبيضَ يقفُ أمامي. كانت تلك الوسيطة الواعدة في ثوب نومها، وكان شعرها الأسود مُنسدِلًا بالكامل.

سألتها: «لماذا لا أنزل؟ هل تَخشَين أن أُحْرج الأرواح وهم يُمارسون أعمال نِجارتهم؟»

تحدثَتْ بسرعة وبإثارة واضحة: «أنت تَعتقد أن كل هذا محْضُ خداع، لكنه ليس كذلك. يعلم الربُّ أن هناك ما يكفي من الخداع والغش؛ لأنه يجب أن يجد الوسطاء ما يتكسَّبُون به عيشهم، ولكن ثَمة أشياء — نادرًا وليس كثيرًا — تُذهِلنا.»

«أخبريني بحقيقة لوحة كورو.»

«حقيقيةٌ كحقيقة وقوفي هنا أمامك، ورُسِمت بالطريقة التي أخبرناك إياها؛ على حامل قماش الرسم الخاص بي، وبفرشاتي في يدي، ولكني لستُ مَن رسمها. لا أستطيع أن أخبرك بأكثر من ذلك؛ لأنني لا أعرف أكثر من ذلك.» وازدادت أصوات الطَّرْق الصاخبة في الطابق السُّفلِي.

«وإذا نزلتُ، فهل سأواجه أحدَ الألغاز التي تتحدثين عنها؟!»

«لا، لكنَّك ستتعرض لخطر كبير. إنني أطلب منك ألا تذهب لأجلك أنت.» في هذا الوقت كنت في القاعة السفلية.

في الطابق السفلي، اكتشفت أن الأخوين روبرتس كانا في غرفة جوردان الصغيرة يعقدان جلسة استحضار للأرواح، في حين كان الوسيط الرُّوحاني الواعد، السيد هيلدر، يفكُّ الأرقام السرية لخزانة جوردان، حاملًا في يده فانوسًا داكنًا يُمكن إخفاء ضوئه.

في خِضَمِّ صراعي القصير الذي لم يُكلَّل بالنصر مع الأوغاد الثلاثة، لا بدَّ أنني تلقيت بعض الضربات على الرأس، فقد كانت عيناي نصف مغلقتين من سيلان الدم، عندها لاحت لي فكرة غامضة أن أصرخَ طلبًا للمساعدة عند أسفل الدَّرَج، فعدتُ مترنِّحًا إلى القاعة السفلية، لكنني دُفعتُ بقوة مِن قِبَل اثنين من الوسطاء الروحانيين، وسمعت أحدهما يَهمس قائلًا: «اضربه بقوة! يجب القيام بذلك.» ثمَّ رأيت قضيبًا حديديًّا ثقيلًا يُرفَع ويوجَّهُ نحو رأسي.

في هذه اللحظة كنت أقف أمام لوحة كورو مباشرة. حتى في ضوء غير مثالي، كان ذلك المنظر الرائع للطبيعة بجانبي يبدو كنافذة في الحائط. في لحظة أخرى، كانت العَتَلَة تُوشك أن تخترق جمجمتي، عندها تناهى إلى أذني صرخة من أعلى الدَّرَج، حيث كنتُ قد تركت الوسيطة الروحانية الجميلة واقفة، «اقفز! اقفز داخل الصورة! اقفز بحق السماء!»

وضعتُ إحدى يديَّ على الإطار، كما لو كان عتبةَ نافذةٍ، ثم اندفعت بجرأة باتجاه اللوحة. سقطت العَتَلة، ولكن كنت بالفعل خارج نطاقها، وسقطتُ، وصِرت أهوِي، أهوِي، كما لو أنني أهوِي في فضاء لا مُتَناهٍ، إلا أن أياديَ خفية كانت تحملُني جزئيًّا، بعدها وجدت نفسي على العشب الرطب لضفَّة القناة. قفزتُ في القارب الشراعي الصغير وسارعت بالتجديف عبر النهر؛ ثم بعد أن وصلت إلى الضفة الأخرى، وتحت أشجار الصفصاف غبتُ عن الوعي تمامًا.

عندما عدتُ إلى وعيي، كنت مستلقيًا في ثيابٍ كتانيَّة ثلجية في فندق ديو في ديجون، مع ممرضة طيبة تقوم على رعايتي. هاكم تفاصيل دخولي الواردة في دفاتر المستشفى:

٢١ مايو ١٨٨١: استُلم من السيد عُمدة فلافيني شخص مجهول الهُوية، عُثرَ عليه في وقت مبكر من صباح اليوم، فاقدًا للوعي، نصف عارٍ، على ضفة القناة من بورجندي، بالقرب من حدود المنطقة. الإصابات: جرح بالغ في فروة الرأس وكسر بسيط في العظم الجِداري الأيمن للجمجمة. المقتنيات: سروال واحد، وقميص نوم واحد، وزوجٌ من النعال. وسائل إثبات الهوية: لا يوجد.

أيها السادة، هذه نهاية بياني للحقائق. أنا الآن في طريقي عائدًا إلى أمريكا، ولسوف أُبَرهن على تدخُّل الأرواح في الشئون الإنسانية من خلال تقديم دليل قاطع على وجود لوحة رائعة رسمها فنان ميت، وأنَّ الأرواح قد استخدمتها نِيابة عنِّي كوسيلة للهروب من خطرٍ قاتل، وأنني، بواسطة تَحليقٍ هو الأكثر استثنائيةً في سجلات البشر، قد حُمِلت جسديًّا لأكثر من ثلاثة آلاف ميل في بضع ثوانٍ.

لا تضحكوا بعد؛ فسأعرِض للعالم العِلميِّ وجميع المحقِّقين المنصفين لحقيقة الرُّوحانية، الأدلة على صحة ما أقوله:
  • (١)

    سجلات فندق كونتيننتال في فيلادلفيا بتاريخ ١٩ مايو ١٨٨١؛ فقد توقَّفتُ هناك في طريقي لزيارة جوردان. ستجدون اسمي تحت هذا التاريخ.

  • (٢)

    شهادة السيد جوردان وعائلته بأنني كنت برفقتهم في برين ماور بتاريخ ٢٠ مايو ١٨٨١، حتى الساعة الحادية عشرة ليلًا.

  • (٣)

    التسجيل الموَثَّق في حينه لدخولي المستشفى في ديجون، فرنسا، بتاريخ ٢١ مايو ١٨٨١.

  • (٤)

    اللوحة الرائعة في حوزة جوردان الآن.

سيدي العزيز: ردًّا على رسالتك الاستفسارية، اسمح لي أن أقول إنَّ صديقنا المشترك، السيد جون نيكولاس، قد ظلَّ تحت رعايتي لأكثر من عام، باستثناء شهرين قضاهما في مقاطعة كوت دور تحت رعاية طبيب آخر.

إنَّ الحقائق التي يَسردُها في قصته المؤسفة مسرودة بدقَّة (حتى نقطة معينة)، كما هو موضح من قِبَلك. فذاكرة السيد نيكولاس ليست جديرةً بالثقة فيما يتعلق بالأحداث التي وقعت بعد أن تعرَّض لضربة قوية على رأسه إثر مواجهته بعض اللصوص.

أما بالنسبة لقيمة تقديره لمزايا اللوحة التي أسَّسَ عليها وهْمَه، فليس لدي ما أقول؛ إذ لم يَسبِق لي أن رأيتُ ذلك. غير أنه قد يجدر بنا أن نقول إنه قبل رحيله إلى فرنسا، اعتاد السيد نيكولاس أن يَنسب اللوحة إلى فنان أمريكي تُوفِّي قبل بضع سنوات. وحسب روايته للقصة، لم تكن بورجندي هي الجهة التي حُمل إليها، وإنما وادي ويساهيكون.

اسمَح لي أيضًا أن أقول إن هذا الهَوَس لا يؤثر على سلامة العقل في جميع النواحي الأخرى، ولا أرى سببًا لليأس من شفائِه الكامل.

مع فائق احترامي
د. هوراس إف دانيالز

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤