شو والعلم

قال شو في مقدمة روايته «عقدة غير معقولة»:
لما كنتُ مشغوفًا بالعلوم الطبيعية، وكنت أقرأ تندال Tyndall وهلمهولتز Helmholtz، عدا ما تعلمته من صديقٍ لي من بني عمومة جراهام بل Bell وذوي العلم بالكيمياء والطبيعة؛ فقد كنت — على ما أعتقد — الرجل الوحيد في المؤسسة كلها الذي يعرف شرح الأجهزة التليفونية، واتَّفَقَ أنني عقدت عُرَى الصداقة بيني وبين محاضِرٍ «رسمي» من كولشستر له ميل قوي إلى درس الزراعة الفطرية، فاستطعت أن أنوب عنه في أداء عمله، وأفلحت في ذلك فلاحًا يُخَيَّل إليَّ أنه أقام الأساس لشهرة مستر أديسون في لندن.
وهو يعني هنا شركة التليفونات التي كانت تحمل اسم أديسون في العاصمة الإنجليزية.

والذي قاله شو عن نفسه تؤيده ترجمة حياته وشواهد مؤلفاته، فهو لم ينقطع قَطُّ عن متابعة الحركة العلمية في عصره، واستهوته فكرة السوبرمان فأقبل على مطالعة المباحث العلمية التي تتصل بموضوع التطور، ومنها التاريخ الطبيعي وعلم الحياة، وكاد أن يستوعب كل ما كُتِب في هذه الموضوعات، ولا سيما كُتُب صمويل بتلر ولامارك ودارون وهربرت سبنسر.

وكان هواه مع مذهب لامارك وصمويل بتلر، وهو المذهب الذي يفرض للحياة قوة «موجبة» تسعى إلى التقدم، وتملك وسائل الاستزادة من أسبابه ودواعيه، فلم تعجبه فكرة دارون الذي وكَّلَ الأمر كله إلى «الانتخاب الطبيعي»، وجعل هذا الانتخاب حكمًا فاصلًا في استبقاء الأحياء التي امتازت — بالمصادفة — على غيرها.

ومذهب دارون أقرب إلى العلم، لالتزامه حدود التفسير المعلوم، ومذهب بتلر ولامارك أقرب إلى الفروض الفلسفية، لتقديرهما قوةً للحياة لا تخضع للتجارب والمشاهدات.

وقد جنح شو إلى المذهب القائل بقوة الحياة أو بدفعة الحياة؛ إذ هو أقرب المذهَبَيْن إلى تسويغ الأمل في ظهور «الإنسان الأعلى» أو السوبرمان.

وفيما عدا هذه الفكرة العلمية الفلسفية، لا نعرف لشو مساهَمة في الآراء العلمية يأخذ بها المختصون بهذه الموضوعات.

فمعظم آرائه بهذا الصدد من قبيل التعليق على سلوك بعض العلماء، وبخاصة علماء الطب والعلاج.

فهو ينكر دعوى الأطباء في «إعجاز هذه الصناعة» أو سلامتها من النقص والخطأ، ويقول إن البشر مطبوعون على مهابة مَن يتصرفون بالحياة والموت، ومن هنا إكبارهم لصناعة الطب في العصر الحديث، بعد شيوع الجراحات التي قد تحيي وقد تميت.

وفي مقدمة رواية «حيرة الأطباء» يقول: «إنه لا جدوى من إفهامك الطبيب أن مريضه الطفل محتاج إلى راحة أكثر وملابس أفضل ومآكل أنفع، وبيت أنقى في هوائه وجداره، وليست حاجته إلى العقاقير.»

وقد ألقى على لسان سير باتريك من أبطال تلك الرواية كلمةً يقول فيها: «إنه كان في أيام أبي صديقٌ يُسمَّى جورج بدينجتون اهتدى إلى العلاج بالهواء الطَلْق في سنة ١٨٤٠، فخرب وأفلس واضطر إلى هجر صناعته لغير شيء إلا أنه كان يفتح النوافذ، واليوم نعود نحن فلا نكاد نُبقِي على رأس المريض بالسُّلِّ سقفًا يغطيه.»

ومن حملاته على الطب ما تسوغه كل سجية إنسانية كريمة، كإنكاره الشديد لتشريح الحيوان وهو بقيد الحياة.

إلا أنه في حملات أخرى يتهجم بغير سند، كحملته على اللقاح والتطعيم وادعائه أن الجراثيم لا تخلق الداء، بل لعلها عرض من أعراض الداء.

ولإنكار اللقاح الجبري ناحية تسوغها آراء شو في الحرية الفردية، وإن كانت وقاية المجتمع كله تسمح بالإجبار لاتقاء أخطار الوباء وما شابهها من الأخطار.

على أن الناحية التي تُوصَف بالتهجم حقًّا هي إنكار حقائق الجراثيم، وهي لا تقبل الإنكار بهذه السهولة.

ولا يَسْلَم شو من النقد في هذا التهجُّم.

ولكنه لا يخلو من عذر في أول عهده بالهجوم على علم الجراثيم وأساليب العلاج بالحقن واللقاح، فلا نَنْسَ أن العلماء أنفسهم أنكروا دعوى كوخ وباستور في تعليل الأوبئة والأمراض المعدية بهذه المخلوقات التي تخفى على أدق الأبصار، وأن تصوير هذه الخلائق الدقيقة لم يبلغ من الإتقان مبلغ الحقيقة الملموسة قبل بضع سنوات.

ويجوز أن نعتذر لشو بمعاذير طبعه إن كانت هذه المعاذير مقبولة في مآخذ الرأي والثقافة؛ فمن طبعه النزوع إلى المخالفة والنزوع إلى تحدي الدعوى والكبرياء، وقد كان ادِّعَاء «العلميين» في أيام نشأته مما يغري — والحق يقال — بالتحدي والهجوم.

وقد يكون شو على حق في استخفافه بالكشوف العلمية، وميله إلى اعتبارها عملًا من أعمال الدأب والمثابرة يقدر عليه كلُّ مَن يصبر وينتظر، ولكن المسألة في جوهرها ليست مسألة البحث في كفاءة هذا المكتشف أو مكافأة ذاك، وإنما هي مسألة الانتفاع بما يكتشفون، وقد تكون منفعة العقار عظيمة غاية في العظم مع قلة الكفاءة العقلية التي أعانت على كشفه، كما انتفع الناس بكثير من العقاقير التي اهتدى إليها الباحثون على غير قصد وعلى غير انتظار.

وأيًّا كان رأي شو في العلم، فهو رأي يُسمَع ويحلُّ عند سامعيه محَلَّ الاعتبار؛ لدلالته — على الأقل — على موقع هذا العلم في عقول النوابغ من الأذكياء.

أما أن «شو» يساهم في المباحث العلمية، فتلك مساهمة في غير بابه، فقد خلقه الله بذهن الفنان المفكِّر، ولم يخلقه بذهن العالم كائنًا ما كان منحاه من العلوم التجريبية أو العلوم الرياضية، وقد كادت تلتقي في الزمن الأخير.

فالعقل العلمي يأخذ بتجربة الحقائق الخارجية، والعقل الرياضي يأخذ بأقيسة الفروض الذهنية، والعقل الفني يأخذ بالذوق والتحليل والفطنة، ولا يقف عند التجارب الملموسة والفروض المشهورة.

وقد قال شو عن قدرته الرياضية في مقدمة روايته «حيرة الأطباء»: «إنه لم يستخدم قَطُّ لوغارتمًا، ولا يضمن أن يستخرج مربع أربعة بغير خطأ.»

ومبالغته في الإنكار على نفسه كمبالغته في الادعاء لها، وكلتاهما تدل على ذهن غير ذهن الرياضي المقدر وغير ذهن العالم المجرب، إنما هو ذهن فنان يُسمَع قوله في العلوم والفروض، ولا ينسى سامعوه أنه فنان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤