وسائل السوبرمان

إلى هنا نتبيَّن أن مناهج الفلسفة الشوئية تدور كلها على محور واحد، وهو عقيدته في التطور الخلاق، وترمي كلها إلى غاية واحدة وهي خلق السوبرمان.

ولما كان سوبرمان شو مزيجًا من المثل الأعلى والبنية البيولوجية، فوسائله قائمة بيننا في عناصر الحياة الإنسانية، وهي موزعة بين المرأة والبطل العبقري، ولا سيما العبقري الفنان.

فالمرأة في فلسفة شو هي الأداة الكبرى للتطور الخلاق، وهي القوة الأصيلة في مهمة حفظ النوع وبلوغ غاياته، وهي قوة دءوب ملحاح تعمل عمل المسخر الذي لا ينصرف عن وجهته، ولا تني ولا تكِلُّ ولا تحجم عن مشقة في سبيل هذه الوجهة التي تنقاد إليها عمياء كأنها لا ترى شيئًا دونها، بصيرة كأنها تراها دون غيرها.

أما الرجل فهو وسيلة عرضية في مهمة «الخلق»، وهو أشبه بالطريدة التي تصطاد منه بالصائد الذي ينصب الفخاخ، وقد أراحته مهمة الخلق من عنائها فانطلق في طلب البأس والمعرفة والثروة والسلطان، وتنوعت همومه وأطماعه ومزاياه، فأتاحت للمرأة أن تختار منها ما يعينها على مهمتها، وهي كما تقدَّمَ مهمة التطور الخلَّاق.

ويُولَد البطل ما بين هذا التطور وهذا السباق.

ويُولَد العبقري الفنان كذلك، ولكنه كالفلتة التي تنبت على غير قصد في فرع من فروع شجرة الحياة، ثم تصبح الفلتة مثلًا يُحتذَى وقالبًا يُصَب فيه الأنداء والنظراء.

والبطل والعبقري يتشابهان في التفدية بكل شيء في سبيل الغاية التي يقصدان إليها، أو ينساقان إليها على غير قصد منهما، والناس ينساقون معهما ولو أهلكتهم مطامع البطولة ومطالب العبقرية.

وفي رواية «العودة إلى متوشالح» يجري الحوار بين نابليون وكاهنة الوحي على هذا المنوال:

نابليون : إن العلو يفرض نفسه يا سيدتي. بَيْدَ أنني حين أقول إنني أملك هذه المَزِيَّة لا أصيب العبارة كل الصواب، فالحق أن طبائعي ومواهبي تملكها؛ إنها العبقرية، إنها هي التي تدفعني إلى تجربتها وإنجازها، ولا مناص لي من التجربة والإنجاز، وإنني لعظيم حين أجربها وأدأب على إنجازها، أما في غير ذلك المسعى فلست بشيء.
كاهنة الوحي : حسن، فجرِّبْها وأنجِزْها إذن. أتحتاج إلي وحي لتجربتها وإنجازها؟
نابليون : مهلًا! فهذه المَزِيَّة تستلزم سفك الدم البشري.
كاهنة الوحي : أأنت إذن جرَّاح؟ أأنت إذن طبيب أسنان؟
نابليون : مَهْ يا سيدتي! إنك لا تقدرينني. إنني أعني سفك بحار من الدماء، وموت ملايين من بني الإنسان.
كاهنة الوحي : إنهم لا يسمحون لك بهذا على ما أحسب.
نابليون : كلا، بل هم يعبدونني.

والعبقري كالبطل النابغ «يُقدِم على الصلب ويتضور جوعًا إذا اقتضى الأمر فوق سطوح المنازل، ويدرس النساء ويعيش على كَدِّهن … وينهك أعصابه حتى ترثَّ كالخرقة البالية بغير جزاء. إيثاري نبيل في نسيان نفسه، أناني شنيع في قلة مبالاته بغيره، وهنا تلقى المرأة مأربًا مثل مأربها في العنف والتجرد عن اللبانة الشخصية، وإنه لصدام فاجع في كثير من الأحيان».

وكلا البطل والعبقري معذور في عنفه وإصراره وانطلاقه إلى الغاية التي لا محيد عنها؛ لأنهما يطلبان ما ينفع الحياة والأحياء، ولا ينفعهما إلا بمقدار ما يحققان من تلك المنفعة الباقية.

غير أن البطل والعبقري قد يتفاوتان في هذه الخصلة، فإن البطل قد ينحرف عن الجادَّة الكبرى مرضاة لكبريائه وسلطانه، ولا يكترث العبقري لجاهٍ أو سلطانٍ إذا حادَا به عن غايته، وهي خلق الأمثلة الجديدة والقيم البديعة في أحلام الناس ثم في واقع الحياة.
figure
يُصلِح شاربه في المرآة.

وهذه القدرة على خلق الأمثلة الجديدة هي ذريعة التقدم إلى السوبرمان، فإن شو يعتقد أن «خلائق الفن» هي القدوة التي تقتدي بها الطبيعة في محاولاتها، ولولا نماذج الجمال ونماذج العظمة التي تتمخض عنها العبقرية، لما ظهرت في الطبيعة هذه الأنماط التي تحكيها وتنمو على غرارها.

ثم يأتي السوبرمان.

وهو إنسان حي ذو بنية جسدية صحيحة وطاقة عقلية خارقة، إنسان أعلى يترقى إليه هذا الإنسان الأدنى، بعد جهد طويل تشترك فيه الأنوثة والبطولة والعبقرية الفنية.

وهو كما أسلفنا بنية بيولوجية، يطول عمره حتى ينيف على ثلاثمائة سنة، ويستطيع أن ينتفع بما استجمعه من أطوار العصور وما استجمعه من أطوار حياته الطويلة، فلا تكون الفاجعة في حياته أنه يموت ساعة نضجه كما يموت العباقرة والأبطال في طور الحياة الذي نحن فيه، فلا ينتفع بتجاربه ولا ينفع بها الناس.

ويحسب «شو» أن الإنسان كان عسيًّا أن ينجب السوبرمان وشيكًا، لولا أنه يقيم العراقيل في طريقه بيديه، كلما غلبته صغائره فألهته عن غايات الكون العظيم.

ويلوح لنا أن سوبرمان شو ليس بالمستحيل، وأن دعوته إليه لا تخلو من حقيقة ثابتة، وهي أن النوع الإنساني يعظم كلما وسَّعَ الإنسان آفاقَ وجوده، ويصغر ويضمحل كلما انحصر في وجوده المحدود.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤