مقدمة

هذا كتاب في موقف إنجلترا بإزاء قناة السويس من وقت أن فكَّر الفرنسيون في إنشائها إلى قرب أواخر السنة الماضية.

ولقد حاولتُ تبسيط الموضوع وعرضه من الناحية التاريخية العلمية قبل كل شيء.

لقد حاربت إنجلترا مشروع القناة بكل ما أوتيت من قوة؛ حتى إذا أصبحت القناة حقيقة في سنة ١٨٦٩، كانت إنجلترا أُولى الدول استفادة منها، وحرصت من أول الأمر على ألَّا تسيطر دولة واحدة عليها أو على إدارة شركتها، ثم ساعدتها الأيام فاشترت أسهم الخديو في القناة في سنة ١٨٧٥، ولم تمُرَّ ثماني سنوات إلا وقد احتلت إنجلترا القناة ومصر جميعها، وأصبح لها مركز فعلي ممتاز في القناة لا ريب في ذلك، واحتفظت إنجلترا لنفسها بهذا المركز ما بقي الاحتلال الإنجليزي في مصر، على أساس الحق الذي ادَّعته لنفسها من أنه يهمها أكثر من غيرها حماية حرية المرور في القناة للسفن الحربية وغيرها في وقتي السلم والحرب.

على أن مصر لم تعترف يومًا ما بهذا المركز؛ فمصر، التي تمر القناة في أراضيها هي صاحبة الحق الأول في القناة، وهي الحارس الطبيعي لها، ولم تُبَدِ اعتراضًا على معاهدة سنة ١٨٨٨ الدولية، التي حدَّدَتْ مركز القناة والتي اعترفت بها الدول جميعًا ومنها إنجلترا.

ولم يُرِدِ الجانب المصري في معاهدة سنة ١٩٣٦ أن يعطي لبريطانيا حقًّا دائمًا في الدفاع عن القناة، بل جعل بموافقة بريطانيا الحق الأول في الدفاع عنها للجيش المصري.

على أنه بعد إلغاء مصر لمعاهدة سنة ١٩٣٦ في ٨ أكتوبر سنة ١٩٥١ ظلت بريطانيا إلى الوقت الحاضر متمسكة بمركزها في قناة السويس بعد أن تقدمت هي والولايات المتحدة وفرنسا وتركيا بمقترحات الدول الأربع، فرفضتها مصر، وبررت إنجلترا موقفها في القناة بما يأتي:
  • (١)

    أن منطقة القناة منطقة استراتيجية تصلح قاعدة للدفاع عن الشرق الأوسط والعالم الحُرِّ.

  • (٢)

    حماية حرية المرور في القناة، وهذا — كما ترى إنجلترا — أمْرٌ لا يهم إنجلترا وحدها بل يهم العالم جميعًا، وما وجود إنجلترا — كما أعلن الجنرال روبرتسون قائد القوات الإنجليزية في الشرق الأوسط في آخر سنة ١٩٥١، وكان يتكلم باسم الحكومة البريطانية — «إلا مساهمةً منها في الدفاع عن العالم الحر»، ولكن العالم والمعسكر الحر لم ينتدبا إنجلترا للقيام بهاتين المهمتين، ولم ترضَ مصر صاحبة القناة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية عن وجود الإنجليز في القناة، وصرحت رسميًّا بذلك أكثر من مرة لإنجلترا وللعالم الممثل في مجلس الأمن، بل وألغت معاهدة سنة ١٩٣٦ نفسها.

وإذا كان للمؤرخ أن يمتد به النظر إلى الحاضر والمستقبل، فإن استمرار الموقف الحاضر لا يحقق رغبات إنجلترا ولا سياستها بأي حال؛ فالقناة لن تكون آمنة، ولن تكون مركزًا استراتيجيًّا ذا غناء إلا إذا كانت القوات الموجودة فيها مطمئنة، وإلا إذا كانت المواصلات بكل أنواعها في منطقة القنال آمنة، وإلا إذا كانت الأيدي العاملة والمواد الغذائية فيها متوفرة، وكلها أمور لم تتوفر بعد إلغاء المعاهدة.

ولقد وصفت صحيفة التيمز الأسبوعية في ٢ يناير سنة ١٩٥٢ الموقف الاستراتيجي في قناة السويس من حيث وجهة النظر الإنجليزية، فقالت ما ملخصه: «إن مصلحة إنجلترا الاستراتيجية في القناة عظيمة، وأن قواعدها الحربية فيها قيمة، ولكن التمسك بها في وجه عداء مصر ومقاومتها معناه ربط عدد كبير من القوات دون داعٍ؛ معناه اضطراب الأمور في الشرق الأوسط، إن القوات البريطانية في مصر قوية، وقيمة قواعد قناة السويس هي في سهولة اتصالها بالبحر الأبيض المتوسط شمالًا وبالبحر الأحمر جنوبًا، فمنها تستطيع إنجلترا إرسال قوات إلى أية جهة في مساحة واسعة، وأما الغرض الآخر من وجودها، وهو الدفاع عن القناة، فهذا أمر ثانوي، ولكن إذا كانت القوات الموجودة في هذه القواعد مشغولة طول الوقت بالدفاع عن نفسها، فإن قيمة هذه القواعد تقل كثيرًا.»

وإلى هذا التاريخ لم تُحَلَّ مشكلة القناة.

ولا يسعني في هذا الكتاب إلا أن أعترف بالفضل الكبير لحضرة صاحب العزة محمد شفيق غربال بك لما تفضل به من اقتراحات طيبة ونقد قيِّم وعون مشكور.

كما أشكر الجمعية الملكية للدراسات التاريخية التي تفضلت فقبلت أن يحمل هذا الكتاب اسمها.

محمد مصطفى صفوت
الإسكندرية في مارس سنة ١٩٥٢

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤