الرتج

١

يقال رتج الإنسان يرتج رتجًا إذا استغلق عليه الكلام فلم يقدر عليه، وهي آفة تصيب الخطيب والممثل على السواء، والسبب استعداد خاص مرجعه في الغالب علم الخطيب بصعوبة الموقف وخوفه من الفشل وتهيبه الجمهور المصغي إليه. ولا علاقة للرتج بمنزلة الخطيب من البراعة والشهرة، بل كلما عظم قدره وذاع ذكره وكان له نباهة في قومه كان أعلم مِن سواه بمصاعب الكلام ومبلغ ما ينتظره الناس منه، وقد كان والدك روسو لا يفارقه الخوف عند التكلم على الرغم من العادة والخبرة، فكانت يداه لا تفارقان المنبر حتى آخر كلمة يلفظها لئلا يشعر بارتجافها.

أعراض الرتج

يصيب العقل ضرب من الشلل تجمد به القريحة وتظلم الذاكرة؛ فتتناول الإنسان رعدة يرافقها شبه انحلال في العضل وتراخٍ في المفاصل ووهن في العزيمة، ويتصبب العرق من جسمه، ويأخذه دوار في الرأس وطنين في الأذن، وقد يبلغ هذا الطنين عند بعض الممثلين أنه لا يسمع ما يقول هو نفسه، وتسرع دقات القلب كأنه يحاول الخروج من الصدر، وتعلو الوجه صفرة شديدة وتضطرب وظائف المعدة والأمعاء اضطرابًا مزعجًا مؤلمًا.

وقد يأتي الرتج في منتصف الطريق أي بعد أن يكون الخطيب ابتدأ ابتداءً حسنًا، وأخذ ينطلق في خطابه بسهولة وتلاعب وانشراح؛ كالصاعد جبال الألب يقطع مسافات شاسعة ويجتاز عقبات كَأْداء دون جهد كبير، وإذا به لِحادث تافه لا يُذكر يحس دوارًا قويًّا فيضطر إلى الوقوف أو القعود، وأحيانًا لا يجد الراحة والطمأنينة إلا بالاضطجاع على الثرى. هكذا تكون بداية الخطاب حسنة وإصغاء الجمهور تامًّا، ثم تعرض حركة أو إشارة من أحد السامعين سواء أكانت استحسانًا أم استهجانًا فتفسد الموقف على الخطيب فيجد نفسه قد تغير كل التغير وأُسدل على بصره وبصيرته ستار من الظلام تضيع فيه كل حيلة.

معالجته

تكون بتربية الإرادة وأن يذكر الخطيب أن الرتج ليس عارًا، وإذا عُدَّ من لم يعرف الرتج عظيمًا فأعظم منه من عرفه وتغلب عليه. متى يضع الخطيب نصب عينيه هذه الحقيقة، ويذكر أن السواد الأعظم ممن جاء ليسمعه إنما جاء لاعتقاده أنه يسمع شيئًا لا يعرفه؛ أي إنه يعتبر الخطيب أوسع منه علمًا ولو في هذا الموضوع وحده، وأنه يحترم مقامه متى يذكر ذلك تهن الأمور عليه فيجتهد أن يكون عند ظنهم فيه، وهكذا يستطيع محاربة هذه الأعمال المنعكسة بالارتداد عليها بقوة الإرادة.

ومن الأمثلة الجميلة على الجهد الذي وسع الخطيب إنفاقه لمكافحة هذه الآفة والانتصار عليها ما ذكره غامبتا عن نفسه قبل اعتلائه المنبر للمرة الأولى، قال في إحدى رسائله إلى أبيه: «يوم الخميس سأقف خطيبًا لأول مرة وإني لمنتظر هذه الساعة بفارغ الصبر وقلبي يخفق لها، ولكن لا عن خوف أو اضطراب، ولن يكون لي في الحياة يوم أسعد من هذا اليوم.» إن للخطوات الأولى في طريق المهنة بهجة خفية فيُخال لك أن الأرض تهتز تحت قدميك، ويلم برأسك دوار يشبه السعادة ثم يأتي العقل فيثبت من حولك كل شيء لتمشي نحو شواطئ المستقبل المجهول.

لقد رأيت وسمعت في شهور ثلاثة كل ما اطلع فن المحاماة من كبير وصغير، فالحق أقول لك بلا تيه أو خيلاء إن آمالي قد تضاعفت وثقتي تزايدت، كنت منذ ستة أشهر أرجف فرقًا لدى فكرة النضال مع هؤلاء، أما الآن فقد غلبت الجسارة عليَّ وما فاز باللذة غير الجسور.

وبما أنه لا علاقة بين الرتج ومنزلة الخطيب — كما قلنا — فلا خطر منه، بل ربما أفاد في بعض الأحوال بما يبعث في المرء من العزيمة لمضاعفة الجهد والبلوغ إلى الغاية.

٢

جاء في العقد الفريد أن أول خطبة خطبها عثمان بن عفان أرتج عليه فقال: «أيها الناس إن أول مركب صعب وإن أعش تأتكم الخطب على وجهها، وسيجعل الله بعد العسر يسرًا إن شاء الله.»

ولما قدم يزيد بن أبي سفيان الشام واليًا عليها لأبي بكر خطب الناس فأرتج عليه؛ فعاد إلى الحمد لله، ثم أرتج عليه فعاد إلى الحمد لله ثم أرتج عليه، فقال: «يا أهل الشام على الله أن يجعل بعد العسر يسرًا وبعد عيٍّ بيانًا، وأنتم إلى إمام فاعل أحوج منكم إلى إمام قائل.»

وصعد ثابت بن قطنة منبر سجستان فقال: الحمد لله ثم أرتج عليه فنزل وهو يقول:

فإن لا أكن فيكم خطيبًا فإنني
بسيفي إذا جدَّ الوغى لخطيب

فقيل له لو قلتها فوق المنبر لكنت أخطب الناس.

وخطب معاوية بن أبي سفيان لما ولي فحصِر: «فقال أيها الناس إني كنت أعددت مقالًا أقوم به فيكم فحجبت عنه، فإن الله يحول بين المرء وقلبه، كما قال في كتابه، وأنتم إلى إمام عدل أحوج منكم إلى إمام خطيب، وإني آمركم بما أمر الله به ورسوله وأنهاكم عما نهاكم الله عنه ورسوله، وأستغفر الله لي ولكم.»

وصعد خالد بن عبد الله القسري المنبر فأرتج عليه فمكث مليًّا لا يتكلم، ثم تهيَّأ له الكلام فقال: «أما بعد، فإن هذا الكلام يجيء أحيانًا ويعزب أحيانًا، فيسبح عند مجيئه سيبه ويعز عند عزوبه طلبه، ولربما كوبر فأبى، وعولج فنأى، فالتأني لمجيئه خير من التعاطي لآبيه (أي لممتنعه) وتركه عند تنكره أفضل من طلبه عند تعذره، وقد يرتج على البليغ لسانه ويختلج من الجريء جنانه، وسأعود فأقول إن شاء الله.»

وصعد أبو العنبس منبرًا من منابر الطائف فحمد الله وأثنى عليه قال: أما بعد. فأرتج عليه، فقال: أتدرون ما أريد أن أقول لكم؟ قالوا: لا. قال: فما ينفعني ما أريد أن أقول لكم. ثم نزل، فلما كان في الجمعة الثانية وصعد المنبر وقال: أما بعد. أرتج عليه، فقال: أتدرون ما أريد أن أقول لكم؟ قالوا: نعم. قال: فما حاجتكم إلى أن أقول لكم ما علمتم. فلما كانت الجمعة الثالثة قال: أما بعد. فأرتج عليه، قال: أتدرون ما أريد أن أقول لكم؟ قالوا: بعضنا يدري وبعضنا لا يدري. قال: فليخبر الذي يدري منكم من لا يدري ثم نزل.

وأتى رجل من بني هاشم اليمامة فلما صعد المنبر أرتج عليه فقال: حيَّا الله هذه الوجوه وجعلني فداها، قد أمرت طائفي بالليل أن لا يرى أحدًا إلا أتاني به وإن كنت أنا هو، ثم نزل.

وخطب عبد الله بن عامر بالبصرة في يوم أضحى فأرتج عليه فمكث ساعة ثم قال: والله لا أجمع عليكم عيًّا ولؤمًا، من أخذ شاة من السوق فهي له وثمنها عليَّ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤