خطب الإفرنج

(١) رأيي في الترجمة

١

لا بد لي في مطلع هذا الباب من كلمة في الترجمة، كما يجب أن تكون وكما أفهمها، وكما تعودت أن أسير عليه فيما عانيته منها، فإني أعتقد أن الغاية من الترجمة ليست في إظهار مناهج الإنشاء بقدر ما هي في التعبير عن فكرة المؤلف ومقصده ونقل معانيه وتمثيل تصوراته، ولو كان المقصود ترجمة الألفاظ والتراكيب قبل غيرها لفسدت الترجمة على الإطلاق، وربما كان هذا ما حمل اللورد بيرون أن يقول: «إن من أكبر المصائب على المؤلف أن يترجم إلى لغة غريبة.» فإنه من المستحيل أن تتفق تراكيب الجمل في مختلف اللغات، والقالب الذي يختاره الكاتب أو الشاعر ليفرغ فيه معانيه لا يمكن أن يكون واحدًا فيها كلها، فإذا حاولنا أن نترجم ما نريد ترجمة حرفية للمحافظة على هذا القالب ما أمكن؛ أسأنا إلى المؤلف من حيث لا ندري، وأسأنا إلى أنفسنا بما نقع فيه من غرابة التعبير وركاكة الإنشاء، وهذا ما نراه كل يوم في أكثر ما نقرؤه في الجرائد والمجلات من المقالات الطبية والأدبية وغيرها التي تبدو أعجمية بألفاظ عربية، فتتعبنا قراءتها وتقصينا عن فهم ما فيها أو التلذذ به.

فالترجمة الحرفية — كما يُقصَد من هذه الكلمة — ليست بالطريقة المثلى لحفظ جمال الأصل، أو للوصول إلى الغاية من أثرها في ذهن القارئ العربي. حسْبُ المترجم أن يتفهم معاني الكاتب ويدرك مقاصده ويدخل في إهابه — إن سمح لي بهذا التعبير — ثم يجتهد أن يقدم للقارئ قالبًا عربيًّا لا ينفر منه ذوقه، ولا يأباه سمعه، فيختلف التركيب عن الأصل بعض الاختلاف، ويبقى المعنى والأسلوب على حالهما.

إن في الفرنسية أو الإنكليزية مثلًا جملة تفيد معنًى، ولكن هذا المعنى لا يمثل في لغتنا إلا بجملتين وبالعكس، فقد تجد المعنى الذي يقتضي التعبير عنه جملتين في إحدى اللغات الغربية يكفيه في العربية جملة أو كلمة، فلا يجب أن يمنعنا عن استعمال هذه الجملة أو الكلمة بعدها عن الترجمة الحرفية ما دامت موصلة إلى التأثير المطلوب.

وإني أورد هنا مثلًا من هذه الترجمة التي لا يسعنا أن نسميها حرفية، وهي مع ذلك أمينة لا تُذهِب شيئًا من جمال الأصل، ولا تضعف من الأثر الذي أراده المؤلف فضلًا عن أنها تتجرد عن العجمة ما أمكن، وتظهر للقارئ في بُرْد عربي فيكاد لا يشعر أنها مترجمة:

يقول لامارتين في مطلع قصيدته «البحيرة» ما معناه بالحرف الواحد: «أهكذا ونحن مدفوعون أبدًا نحو شواطئ جديدة ومحمولون في الليل الأبدي بلا رجوع لا نستطيع أن نلتقي على شواطئ الأعمار مرساتنا يومًا؟» مهما نحاول تنميق هذه العبارة فنقدم ونؤخر فيها مع المحافظة على «حرْفيَّتها» فهي لا تسلم من الركاكة والعجمة، ولكنا إذا اكتفينا بالمعنى واجتهدنا أن نشعر شعور الناظم عند ما قاله، ثم حاولنا نظمه كأنه صادر عنَّا قلنا مثلًا:

أهكذا أبدًا تمضي أمانينا
نطوي الحياة وليل الموت يطوينا
تجري بنا سفن الأعمار ماخرة
بحر الوجود ولا نلقي مراسينا؟

أنا أعلم أن جملة «تمضي أمانينا» ليست في الأصل، ولكنها تتحصل من كلام الشاعر، وهي لا تضعف قوله بل بالعكس تفسره تفسيرًا موافقًا، وفي النظم قد يضطر المترجم إلى مثل هذه الزيادة، وكذلك الشطر الثاني من البيت الأول «نطوي الحياة وليل الموت يطوينا» لا يمكن أن يكون ترجمة حرفية لقوله «محمولون في الليل الأبدي بلا رجوع» ولكنه يؤدي المعنى تمام التأدية، ولو فرضنا أن لامارتين بعث من قبره وسألَنا أن نترجم له ما ترجمناه عنه لما وجدنا ما يؤدي معنى هذا الشطر العربي أحسن من الرجوع إلى عبارته الأصلية، ولو ترجمنا له نطوي الحياة إلى آخره ترجمة حرفية لجاءت ركيكة في لغته ولم يفهمها، فالمعنى هنا واحد ولكن حُلَّته تختلف في اللغتين، ومما يقرب من معنى البيت الثاني قول أبي العلاء يخاطب الدنيا:

يموج بحرك والأهواء غالبة
لراكبيه فهل للسفن إرساء

فالمعاني متساوية عند الناس، ولكن القالب الذي تفرغ فيه يختلف حسب اللغات كما يختلف اللباس حسب الأقاليم والسلائل، فعلى المترجم أن يحافظ على معاني المؤلف ومراميه وأسلوبه في الكتابة من خطابي أو شعري أو غير ذلك، وأما حلة الإنشاء من ألفاظ وتركيب جمل فهو حر أن يختار منها ما يناسب المقام، فكما أن الحسناء لا تفقد من حسنها إن بدلت من هذا الثوب الجميل ثوبًا جميلًا آخر، فالمعنى الحسن يبقى أثره كاملًا سليمًا ما دام اللباس الذي يخلع عليه من الألفاظ والتراكيب جميلًا مطابقًا لقواعد الفصاحة أيًّا كان هذا اللباس.

افرض أن رجلًا غريبًا عن لغتك كلفك أن تحدث قومك في موضوع عنَّ له، فماذا تقول؟ هو يدلي إليك بآرائه وأفكاره وتصوراته، ويفهمك الغاية التي يرمي إليها وعليك الباقي؛ أي أن تبرز هذه الأفكار والآراء والتصورات في قالب عربي يقبله ذووك. أوَ ليست الترجمة ضربًا من هذا؟

هكذا أفهم الترجمة، وعليه جريت في كتابة الرسائل العلمية والطبية وغيرها مما كنت أنشره في الصحف والمجلات، فإذا وجد القارئ فيما يلي بعض اختلاف عن الأصل فلأني حاولت أن أجلو هذه المعاني الغريبة في ثوب عربي دون أن أُضعِف من تأثيرها، بل لأخفف ما أمكن الإساءة التي تلحق بالكاتب من جراء ترجمة مكتوباته معتقدًا أن هذه الطريقة هي أفضل من الترجمة الحرفية التي يمجها الذوق العربي فضلًا عن أنها تضيع جمال الأصل.

ولا حاجة للقول إن ما ذكرت ينطبق على ترجمة الأدب والشعر بوجه خاص، وأما الأشياء العلمية والفلسفية فلا تدعو إليه في كل حين؛ لأن العالم لا يخلو في كتابته من الغموض أحيانًا بالنظر إلى المباحث العويصة التي يلمُّ بها فيضطر المترجم أن ينقل عبارته بالحرف الواحد ليترك للقارئ الحرية في فهم ما أراد المؤلف، ولا سيما لأن المترجم نفسه قد يُغلق عليه إدراك بعض عبارات الكتاب، فهو ينقلها بأمانة ودقة بالحرف الواحد يلقي عنه مسئولية التبيين، ويدع لكل قارئ سبيلًا إلى حلِّ هذه المعميات كما يرتئي.

٢

ثم هناك أمر آخر أريد أن أنبه إليه القارئ، فإن هذه الخطب التي ستمر أمام عينيه لا تنال من قلبه ما تستحق إذا لم يقف منها موقفًا خاصًّا. فإن ما ينظمه الشاعر أو يخطه الكاتب يكفي بذاته ليتصل بالقارئ وبخلاف ذلك الخطابة؛ لأن الخطب لم تُعمَل لتقرأ بل لتسمع، وقد مر بك أن حسن الأداء من أهم شروطها، ومشاركة الجمهور للخطيب بالمصادفة والتشجيع يرفع الخطيب إلى أن يصير صوته وقلبه صوت الجمهور المصغي إليه وقلبه الخافق معه، ومن الصعب أن نجد مثل هذه المشاركة عند القارئ.

فلو عربنا الخطبة أبدع تعريب، ثم قرأناها فمن المستحيل أن نلمس فيها ذلك الوحي الغابر، فنحن كمن يحاول الإمساك بالحياة بعد إفلاتها نبحث عن كائن حي ولا نجد إلا جثة هامدة، وأي شيء ننتظر من أجمل الأجسام وأبدعها مثالًا وأكملها تقويمًا بعدما يستولي عليها جمود الموت؟ وماذا يبقى من الوجه الصبوح الجميل إذا انطفأ نوره وزالت ابتسامته؟

أجل إن فن الخطابة لجميل، ولكنه أقرب إلى الزوال من سواه. انظر إلى الأنصاب التي خلد فيها الإنسان الحياة بألوانها وصورها، فإنها باقية على الزمان الفاني ولا تزال على قدمها توحي الإعجاب إلى الناظرين، وتأمَّلْ بأنغام الموسيقى الساحرة فقد تفجرت آياتها من قلب الموسيقي النائم اليوم بعيدًا عنها ولا تزال ترافق السامع إلى آخر الدهر، وما الذي لا يقال عن الشاعر أيضًا وكلامه يتردد على كل لسان ويُنشد في كل مكان؟ أما الخطيب فهو يحمل معه ما عمل ويطويه في أكفانه؛ الصوت، والإشارة، والجاذبية، وهالة النور التي تحيط بالمنبر. كل هذا يختفي ولا يبقى غير صورة الخطاب.

عندما يتكلم الخطيب يصبح ملكًا للجمهور، وهو لا يصل إلى قلوبهم إلا بعد صراع عنيف بين نفسه ونفسهم، فالخطابة فن ولكنها حرب إذا خبت نارها عفت آثارها؛ ولهذا لا نستطيع أن ندرك فعل أجمل خطاب بعد مرور السنين عليه.

فإذا أحببت أيها القارئ أن تجد في هذه الخطب المترجمة بعضًا من جمالها القديم فعليك أن يكون لك فيها دور مستقل، وهو أن تحاول الشعور أكثر من الفهم، فتذكر الماضي وتضع نفسك وسط الحوادث التي ولدته، وتتمثله تمثلًا أكثر مما تقرؤه قراءة، فتصدق فيك كلمةُ لاكوردير: «إن نفس الفرد تستطيع لدى السمع أن تكون جمهورًا كبيرًا.»

هذا العمل من تمثل الماضي والأحوال التي قيلت فيها الخطب؛ يطلب البساطة قبل المعرفة، والشعور قبل الاضطلاع، ويحتاج إلى حسن إرادة أكثر مما يحتاج إلى علم.

(٢) سوكرات

من خطبة له عندما حكم عليه بالموت

أي قضاتي، كونوا إذن مثلي على رجاء من الموت، ولا تفكروا إلا بهذه الحقيقة، وهي أنه لا خوف على رجل البرِّ حيًّا أو ميتًا، وأن الآلهة لن تتخلى عنه أبدًا.

لم يكن ما أصابني اتفاقًا، وإني لواثق أن موتي في هذه الساعة خير لي من تحمل هموم الحياة. أنا لا أحفظ حقدًا على الذين حاكموني أو اتهموني، ولكني ألومهم لأنهم قصدوا في حكمهم واتهامهم إلى الإساءة إليَّ فساء فألُهم وما كانوا صادقين.

والآن في نفسي حاجة أسألكم قضاءها: أيها الأثينيون، إذا اشتد أولادي ورأيتم فيهم جورًا عن الحق، وزيغًا عن قصد السبيل، وإيثارًا للمال على الفضيلة فعذبوهم مثلما عذبتكم، وإذا ذهب بهم الغرور فظنوا أنفسهم شيئًا وهم لا شيء؛ فعنِّفوهم بمثل ما عنفتكم. إن فعلتم فقد أصبت من عدلكم أنا وولدي.

والآن دنت ساعة الفراق، فلْيسِرْ كل في طريقه، أنا نحو الموت وأنتم نحو الحياة. من هو السعيد منا بهذه القسمة؟ إن الله وحده لعليم.

(٣) ديموستين

من خطبته الفيليبية الأولى

يا رجال أثينا

ربما كان فيكم من تهوله عظمة فيليب، ويرى ما هو عليه من ضخامة الملك وقوة الجيش وكثرة البطش؛ فيظنه لا يقهر، فاذكروا أثينا وأنه أتى عليها عهد كانت فيه أيضًا عزيزة الجانب، وكان لها من سعة السلطان ورفعة الشأن مثل ما له الآن. وهذه الأمم المنضمة اليوم تحت لواء فيليب كانت حرة تؤثر التحالف معنا عليه، فلو أن فيليب فكر يومئذ كما نفكر نحن اليوم، وقال في نفسه: لا طاقة لي على محاربة الأثينيين وقد ملئوا البسيطة عُدة وعديدًا؛ لما أقدم على عمل، ولكنه لم يدع لهذا الفكر ممرًّا بباله ولا معلقًا بخاطره، بل عرف أن الفوز للجسور دون سواه.

فإذا كنتم أيها الأثينيون تريدون أن تقوموا اليوم بما قصرتم عنه أمس، إذا كنتم قد عزمتم العزم الأكيد أن تستقلوا غير متواكلين ولا متخاذلين؛ فقد فزتم بإذن الله وأصلحتم حالكم واسترجعتم مالكم، لا تحسبوا فيليب إلهًا لا ينال، إن هو إلا هدف دائم للبغض والحسد والخوف، لا يأمن حتى أقرب المخلصين له، فإن من حوله بشر مثلكم، لهم أهواؤهم وشهواتهم وعواطفهم المتباينة، ولكنهم في حاجة إلى نصير، تلك الأهواء والشهوات قد ضغط عليها الخمول كما ضغط عليكم، وهذا ما أسألكم أن تنفضوه عنكم.

•••

إلامَ يا رجال أثينا تظلون «غرضًا يُرمى وفيئًا ينهب؟» ما الذي تنتظرون؟ الساعة الموافقة؟ وحق جوبتر لا أعرف ساعة أنسب لتحريك الهمم في النفوس الحرة من ساعة الذل والهوان، أتريدون أن تُطوَى أعماركم وأنتم تتساءلون ماذا من جديد؟ ترحًا لكم! وهل من جديد مثل هذا المكدوني قاهر أثينا ومخضع الإغريق، تعللون النفس بالآمال، ترقبون موت فيليب أو اعتلاله، وتنسون أن ذلك لا يبدل من حالكم شيئًا؛ لأن ما يساوركم من الخمول والعجز والضعة لا ينفع لديكم إلا أن يسلط فيليبًا آخر عليكم.

وله من خطبة أخرى

أيها الأثينيون

رُبَّ معترضٍ فيكم يظن إفحامي إذا سأل: ماذا نفعل إذن؟ أما أنا فأجيب: لا تفعلوا شيئًا مما تفعلون الآن، وافعلوا كل ما لم تفعلوه، على أني سأزيدكم بيانًا عسى الذين سارعوا إلى السؤال أن يسارعوا إلى العمل؛ فاذكروا أيها الأثينيون أن فيليب نكث عهده معكم، وكان البادئ بالعدوان، ثم اذكروا أن فيليب هو عدو أثينا الألد، عدوها الذي يكره أرضها وسماءها، بل يكره منكم حتى أولئك الذين يغتبطون بأنهم نالوا حظوة عنده.

إن أبغض ما يبغضه فيليب وأخوف ما يتخوفه هو حريتنا، هو نظامنا الديمقراطي، وفي سبيل القضاء على هذه الحرية وهذا النظام ما فتئ ينصب الشراك ويدبر المكائد. هو يعرف حق المعرفة أنه لو أخضع بلاد الإغريق بأسرها، وبسط عليها سلطانه من أقصاها إلى أقصاها لما جعله ذلك منها في جناحٍ آمن ما دامت ديمقراطيتكم سالمة، وهو يعرف أيضًا أنه إذا خانته الأقدار يومًا، وقلب الدهر له ظهر المِجَن فكل هذه الشعوب التي أخضعها عنوة تبادر إلى خلع نيره، والانضواء تحت لوائكم.

أفي العالم ظلم يجب دفعه؟ هاكم أثينا! أفي العالم أمة مقهورة تطلب نصيرًا! هاكم أثينا! أفتعجبون بعد هذا إذا كان فيليب لا يطيق صبرًا على هذه الحرية التي تقف منه موقف الرقيب على جرائمه، المحاسب على آثامه …

(٤) شيشرون

كان كاتيلينا من أعضاء مجلس الشيوخ يتآمر على الجمهورية ليستولي على الحكم، وقد ألف جيشًا صغيرًا من غوغاء الناس ودرَّبهم على أعمال الشر والأذى، واتفق معهم على أن يضرب الضربة القاضية في اليوم التالي، فتسرَّب الخبر إلى شيشرون قبل انعقاد المجلس، فلما اجتمع الشيوخ وكاتيلينا بينهم كان شيشرون أول المتكلمين:

حتام يا كاتيلينا تطمع منا بالصبر فتزيد في غرورك وتتمادى في بغيك وفجورك. طغيت فما عرفت لطغيانك حدًّا، ولا حفظت لأمتك عهدًا، ولا راعك الحرس القائم على الأسوار في الليل والنهار، ولا أهاب بك جلال هذا المقام ومن فيه من شيوخ كرام. لقد برَّح الخفاء عن حالك، وظهر المستور من أعمالك، فلا تظن بعد اليوم أحدًا يجهل ما فعلت بالأمس وقبل الأمس، وبمن اجتمعت وعلامَ عولت.

يا للدهر ويا للأخلاق! المجلس يدري، والقنصل يرى، وهذا الرجل لا يزال حيًّا، يأتي إلينا ويشترك معنا، ويجيل نظره فينا، ويختار منا من يقع عليه حكم الموت، أيْ كاتيلينا، كان عليك أن تساق إلى الموت بأمر القنصل من زمن طويل، وأن يرد إلى نحرك السهم الذي تفوقه إلينا.

قتل سيبيون فيما مضى تبريوس كراكس لخيانته ولم يكن سيبيون قنصلًا، ونحن القناصل نحتمل كاتيلينا الساعي في خراب العالم بالحديد والنار، سلام على رجال هذه الجمهورية القدماء، لقد كانوا شجعانًا يذبُّون عن الوطن ويعاقبون خائنيه، أما نحن فالخائن بيننا ولا نجد له قصاصًا، ولا نستطيع منه خلاصًا، هذا لعمركم الصغار بعينه!

(٥) القديس باسيليوس

من خطبة له في الأغنياء

تقول هو مالي أحرص عليه، فما وجه الضرر لسواي؟ ما لك وأين أخذته؟ أجب من أين جئت به في هذه الدنيا؟ مثلك مثل من يأتي دار التمثيل قبل غيره، فيريد أن يمنع الباقين من الدخول بحجة أنه أول الداخلين، أفلِأنَّ الأغنياء استولوا قبل غيرهم على مالٍ هو ملك الجميع يريدون أن يستأثروا به دون سواهم؟ أجل يا سادة لو أعطى كل واحد منكم ما زاد عن حاجته لما كان على الأرض غني ولا فقير. ألم تخرجوا عراة من بطون أمهاتكم؟ ألا تعودون عراة إلى بطن الأرض؟ فمن أين هذا الغنى الذي تتمتعون به؟ أكان اتفاقًا؟ أعوذ بالله من الكفران بنعمه إنه لم يكن اتفاقًا بل من الله، وإذا كنتم تعرفون أنه من الله فقولوا لي علام أعطاكهم الله وحرم سواكم منه؟ ما كان ربك ظالمًا لعبيده ليقسم هذه القسمة الضئزى. تعالى الله عن ذلك إنه أعطاكم الغنى لتنفقوه في سبيل الخير، وقال: لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وهكذا أعد الثواب للغني والفقير؛ الأول لحلمه وكرمه، والثاني لصبره وألمه. وتظنون بعد هذا أن تحبسوا خيراتكم عن الناس دون الإضرار بهم؟!

من هو البخيل؟ هو الذي لا يكفيه سد حاجته. من هو اللص؟ هو الذي يسلب الآخرين أفلا تعرفون أنفسكم بهذا التعريف؟ تسمون قاطع الطريق من يجرد الناس من لباسهم، فماذا تسمون من لا يجود باللباس على من لا لباس له؟! إن في خزائنكم ثيابًا كثيرة هي ملك الفقراء العراة، كل هذه النعم التي أُتيح لكم أن تتمتعوا بطيبها أصبحت ذنوبًا ترصد لكم عواقبها الوخيمة.

من خطبة أخرى

قولوا لي ما الفائدة من مقاعد العاج وأسرَّة الذهب وموائد الفضة، حتى تنفقوا في سبيلها مالًا الفقراء أحق به؟ يتوافدون إلى أبوابكم باكين مسترحمين، فتردونهم بقسوة ولا تهابون نقمة الجبار، لا رحمةَ عندكم فلا تنتظروا رحمةً منه؛ تُقفِلون دون المسكين أبوابكم، وهو يُقفِل دونكم أبواب الجنة، تمنعون الخبز عن الفقير؛ فتمنع عنكم الحياة الأبدية.

ما تكون آخرة هذا الظلم وهذه اللصوصية؟ وما تريدون من هذا الملك الواسع والمكاسب الضخمة في حين يكفي شبر من الأرض ليضم أشلاءكم الحقيرة؟ علام هذا الطمع والجشع؟ إلام تحتقرون شرائع الله والناس؟

إنكم كيفما التفتم تتمثل لكم صورة آثامكم، فهنا يتيم يبكي، وهناك أرملة تئن، فقراء اضطهدتموهم، وخدم أسأتم إليهم، وجيران أغضبتموهم، كل هؤلاء قيام ضدكم يوم الدينونة فمن يكون معكم؟

ما معنى هذا الغنى الفاحش؟ وهل في الذهب والألماس شيء غير الحجر والتراب؟ وماذا استفاد الخازن لها في مقاومة المرض والموت؟

تدَّعون أنكم تحافظون على هذا المال لأولادكم، يا لها من دعوى كاذبة! أليس الله أباهم؟ ألم يعطهم الحياة من قبلكم؟ وبعد هذا كله من يكفل لكم أن أبناءكم تُحسن استعماله، كم مرة كان المال مجلبة الفساد والإثم للشبيبة؟ تجمعونه بالتقتير ولا تعلمون أين المصير، أليست لكم نفس هي أعز عليكم من بنيكم؟ فإن خسرتموها فماذا تربحون وما ينفعكم بعدها ما تجمعون؟

(٦) يوحنا فم الذهب

هو من أشهر خطباء النصرانية، وقد نشرنا خطابه الذي دافع به عن أتروب، وهو آية في البلاغة.

كان أتروب رجلًا سافل الأصل والأخلاق، بلغ باحتياله ومطامعه ومعونة الإمبراطور أركاد أعلى مقامات الشرف والثروة، وعُين قنصلًا، فكان أول أعماله اضطهاد الأسقف يوحنا، والحصول على سَن شِرعة يحظر فيها على الكنائس حماية اللاجئين إليها.

ولكن الدهر بالناس قُلَّب، فهوى أتروب يومًا من ذروة مجده، وتخلى عنه الإمبراطور، وأسلمه إلى حقد الشعب الثائر وغضبه، فلم ير مناصًا إلا بالالتجاء إلى كنيسة القسطنطينية التي اضطهدها وجردها من امتيازاتها التي كانت تخولها حق الحماية.

وكانت الغوغاء تتعقبه محاولة الفتك به، فنهض يوحنا وأخمد ببلاغته هياج الشعب وأخرس صوت الانتقام، مدافعًا عن عدوه الساقط.

ولم يكن أكثر روعة من مشهد ذلك الجمع يحاول اقتحام المعبد للانتقام، وأتروب مختبئ خلف المذبح يتمرغ على قدمي الأسقف، قال:

إذا صح قول الحكيم باطل الأباطيل كل شيء باطل، فلا أجد حالًا يصدق فيه هذا القول وينطبق عليه كحالنا اليوم، أين عظمة القنصل ومجده؟ أين هي الجنود التي كانت تمشي في خدمة الظافر؟ ماذا جرى بالهتاف والتصفيق والولائم والأفراح؟ إلى أين انتهى ذلك الازدحام على الأبواب والترامي على الأعتاب؟ لقد تبدَّد كل هذا تبدُّدَ الغيوم. عصفت الريح فجردت الشجرة من أوراقها، وقطعت الصلات التي تربطها بالأرض، وها هي الآن تحاول محو آثارها. أين أنتم أيها الأصدقاء المنافقون والرفقاء المملقون؟ وما حل بتلك المآدب الفخمة تتدفق فيها سيول الخمور، ويحفها الإخلاص الكاذب، ويشرف عليها الولاء الملبس بالرياء؟ ذهبت تلك البحبوحة كأن لم تكن، وزالت كالحلم وتناثرت كزهر الربيع. سراب غرَّار. بخار لامع يبدو حينًا ثم ينقطع. باطل الأباطيل كل شيء باطل.

هذه الآية يجب أن تطبع بأحرف من نور على الأبواب والجدران وكل مكان، يجب أن تطبع في أعماق القلوب، وتكون حديثنا الدائم لنتعلم منها إلى أي حد يمكن الاتكال على ظواهر الثروة وصداقة البشر.

ألم أقل لك غير مرة أن الغنى ظلٌّ زائل فلم تصدِّق. كنت أقول فتغضب. كنت أقول لك إن الذين يحرقون بخور الثناء بين يديك ليسوا بأصدقائك، وإنَّ تعنيفي لأجْدَى لك من تمليقهم، وإن الجراح التي تؤتى عن يد الصديق لأفضل من قبلات الخائن فلو احتملت هذه الجراح لما كنت الآن تئنُّ من جور الساعين إلى هلاكك.

أين هم ضيوفك الذين كانوا يمجدونك بالأمس لينجدوك اليوم؟ هيهات! لقد نفروا منك واختفوا عنك مخافة أن يقال إن لهم صلة بك، أما نحن الألى احتملوا غضبك وجورك فإننا نحميك بعد سقوطك، وهذا المعبد الذي حاربته يفتح صدره لك ويبسط جناحه عليك.

لا أريد الشماتة والاشتفاء، ومعاذ الله أن أحاول إغراق شقيٍّ غلبت عليه الزوبعة، ولكني أريد أن أظهر الخطر لمن ينام آمنًا غدرات الزمان، فلْيعتبِر كل مغرور تُسكِره خمرة الفوز بما أصاب هذا الرجل.

لقد رأيتموه بالأمس عندما توافدت رسل الإمبراطور للقبض عليه، وقد علت صفرة الموت جبينه، واصطكت أسنانه فرَقًا، ونفضت الرعدة في مفاصله، ولا تزال نافضة حتى الساعة.

أنا لا أسدد نحوه سهام اللوم، ولا أزيد شقاءه بالإهانة، فالشقاء لا يدعو إلَّا إلى الرحمة، وهذا ما أطلبه منكم، فلتكن رحمتنا على قدر شقائه، ولْتلِنِ القلوب القاسية التي تلومنا لأننا لم نقفل في وجهه أبواب هذا الهيكل.

أيها الإخوان علام تغضبون؟ ألأننا حمينا في الكنيسة من حاربها؟ أوَ ليس الأصح أن نُسرَّ ونَحمد الله؛ لأنه حبانا النصر، وأجبر هذا العدو ألَّا يجد عونًا إلا في قوة كنيسته ورحمتها؟ أقول قوتها لأنه لم يهو إلى الحضيض إلا لأنه ناوأها، وأقول رحمتها لأنها تريد اليوم أن تحمي من اضطهدها وتفتح له كالأمِّ صدرها. هل ثمة نصر مبين كهذا النصر؟ أوَ يمكن أن تُفحِم أعداءها بأبلغ من هذا البرهان؟ وأي برهان كالعفو عن عدوها المترامي على أقدامها ودرء غضب الناس عنه، والوقوف لحمايته بين غضب الأمير وانتقام الأمة؟ ألا تجدون أنه أجمل وسام يرصع به صدر هذا الهيكل؟

رُبَّ معترض يقول: كيف نسمي انتصارًا تدنيس هذا المقام بوجود الخائن الأثيم فيه. على رسلكم يا إخواني! أنسيتم تلك الخاطئة التي ارتمت على قدمي السيد وأخذت تقبلهما. حذار أن لا يكون إيمانكم سوى حب انتقام، واذكروا ما قال المسيح: «سامحهم لأنهم لا يعرفون ما يعملون.»

قد يعترض أيضًا أنه هو الذي قفل هذا الملجأ في وجهه بالشرعة التي سنها. ألا فانظروا عبرة ذلك فإنه اليوم أول من عصى هذه الشرعة، فيستطيع أن يتبين فسادها، وكأني به يقول لكم لا تقتفوا أثري ولا تترسموا خطاي إذا أردتم أن لا تتعذبوا عذابي، ما أبلغ هذا المصاب! وما أقوى النور المتفجر من هذا المقدس! ما أبهى العظمة التي تكتنفه منذ قبض على هذا الأسد! هكذا صورة الأمير لا يُعلِيها في عيوننا التاج المرصع وحلة الأرجوان، بل يعليها البربر المقيدون بالسلاسل عند قدميه؛ أيديهم وراء ظهورهم ورءوسهم منحنية إلى الأرض.

لم تشهد البلاد في أعظم أعيادها حفلًا كهذا. لقد أقفرت الدور والخدور والطرق، وأقبلتم جميعًا رجالًا ونساء لتشهدوا تقهقر الضعف البشري، وزوال المجد الدنيوي، وانصرام أسباب الفخر الكاذب، ما أعظمها عبرة للأغنياء! رجل كان بالأمس يهز العالم بحركة من حاجبيه يصبح اليوم يرجف فرَقًا كأحقر الحيوان! بل هي عظة للفقير أيضًا يتعلم بها العزاء فلا يشكو ولا يتذمر، بل يحمد الفقر الذي جعله في مأمن من هذه التقلبات والغير. فاليوم هو درس للجميع أغنياء وفقراء، كبارًا وصغارًا، عبيدًا وأحرارًا. كل يجد لدائه دواء ولآلامه عزاء.

هل استطعتُ أن أحرك عواطفكم، وأهدئ ثائرتكم، وأجد سبيلًا إلى قلوبكم؟ نعم، أتجرأ على الافتخار بذلك، فإن نور الرحمة يتدفق من وجوهكم، وهذه الدموع الجائلة في الآماق دليل عليها. إذن فلنجنِ ثمار هذا الكرم الذي أظهرتموه والرحمة التي أبديتموها بالارتماء على أعتاب الأمير، أو بالأحرى فلنجثو هنا أمام الله ليتنازل ويلين قلب الأمير.

مهما تكن جريمة الرجل فاليوم يوم الرحمة لا العدل، والشفقة لا الانتقام، واللين لا الشدة، فلننسَ الإساءة، ولنسأل الله للآثم غفرانًا وعمرًا طويلًا؛ ليكون له متسع من الوقت للندم والتوبة والتكفير.

(٧) بوسويه

من تأبين هنريت فرنس ملكة إنجلترا

مولاي١

إن المستوي على العرش في العلاء الذي به تقوم الممالك، والذي وحده له ملك السموات والأرض وهو على كل شيء قدير؛ هو وحده يضع الأحكام للملوك، ويسن لهم النظم، ويلقي عليهم متى شاء دروسًا عظيمة هائلة، وهو الذي يرفع العروش ويثُلُّها، ويخلع السلطة على الأمراء أو عنهم؛ ليدلهم على واجباتهم نحوه مظهرًا لهم بهذا الأخذ والمنع أنَّ كل عظمتهم مستعارة، وأنهم لا يزالون في قبضة يده وتحت إمرته، هكذا يعلم الملوك لا بالخطب وحدها بل بالنتائج والعبر.

أيها المسيحيون الذين أقبلوا من كل صوب وحدب لذكرى ملكة عظيمة هي بنت ملوك، وزوجة ملوك، ووالدة ملوك. سيريكم هذا الخطاب مثلًا من تلك الأمثلة الهائلة التي تظهر بطلان العالم. سترون في حياة واحدة كل نهايات الأشياء الدنيوية؛ السعادة التي لا حدَّ لها، والشقاء الذي لا شقاء بعده، سترون أعظم تيجان العالم، وأبهى ما عقده تالد المجد وطريفه على رأس إنسان هدفًا لتقلبات الزمان وغِيَر الحدثان. سترون بعد الانتصار عبث الثورة والاختلال والظلم. سترون ملكة هاربة من ممالكها الثلاث ولا مأوى لها ولا مجير. سلسلة أسفار في عرض البحار وسط الزوابع والأمطار. عرش يُثَلُّ بلا حق ثم يعاد بأعجوبة. تلك هي الدروس التي يلقيها الله على الملوك؛ ليظهر للعالم زوال مجده وبطلان عزه، وإذا قصر اللسان عن إيفاء هذا الموضوع حقه من البيان، فالأشياء ناطقة لنفسها، وأبلغ منا جميعًا قلب هذه الملكة الذي سما إلى أعلى ذروات المجد، ثم هوى إلى أسفل دركات الشقاء.

(٨) لاكوردير

خطيب نوتردام كان يحرر مع لامنه في جريدة المستقبل، فحوكم الاثنان بتهمة التشنيع بالحكومة والحض على العصيان وبُرئا، قال في مطلع دفاعه عن نفسه يوم المحاكمة:

أيها السادة

أقف فيكم وبي ذكريات لا تحول ولا تزول، فقد كان الكاهن فيما مضى يحمل إلى الشعب شيئًا مما يبعث على الحب، أما اليوم فإني أشعر أمام الاتهام أن اسمي أبكم، وكهنوتي لا يجدي في الدفاع عني فتيلًا، لقد جرد الناس الكاهن من هذا الحب القديم الذي كان له في نفوسهم، وذلك عندما تجرد هو نفسه من خلقه السامي فلم يعد رجل الله ولا رجل الحرية. لقبان لا يفترقان في ذهن البشر ولا في مقادير العناية. عروتان أزليتان تربطان الهيكل بالعالم، ولا يمكن الفصل بينهما دون أن يشهد الكاهن موت الإله الذي يعبده والحرية التي أنكرها.

إلى أن قال في ختام المرافعة:

لقد قمت بالواجب عليَّ أما واجبكم أيها السادة فهو تبرئتي ولا أطلبها لنفسي، فما كنت ممن يهاب السجن أكثر مما يهاب الله، ولكني أطلبها لتكون خطوة أولى منكم نحو اتحاد الإيمان والحرية.

أطلب البراءة كي يتعلم أولئك المأجورون المستبدون أن العدل لم يمت في فرنسا، ولا يمكن أن تضحوه لعقائد قديمة وسخائم عصر خلا، إذن أرجوكم أن تبرئوا يوحنا باتيت هنري لاكوردير؛ لأنه لم يذنب بل تصرَّف تصرُّف الوطني، ودافع عن إلهه والحرية، وما عملته يا سادة تجدونني مستعدًّا لعمله كل حين.

ومن خطبة له في وداعه نوتردام، وهي آخر خطبة

أودعكم وفي الصدر عاطفتان متناقضتان؛ الأولى: السرور أنني أديت الواجب عليَّ، وخدمت الكثير منكم في عصرٍ قلَّما تجدي فيه خدمة الواجب، والثانية: الأسف لدى التفكير أن عملًا كهذا لا يتم دون أن يخلف العامل فيه أجل شيء من عمره وقواه.

يقول دانت في مطلع قصيدته: «في منتصف طريق الحياة استيقظت فإذا بي وحدي وسط غابة كثيفة.» يا سادة إني وصلت إلى هذا الموقف من الحياة حيث يودع المرء آخر شعاع من الشباب، وينحدر بسرعة نحو شواطئ العجز والنسيان، وإني لراضٍ بهذا الانحدار؛ لأنه مكتوب لي غير أني أريد أن أقف قليلًا وأتملى اللذة الباقية لي، وهي أن ألقي نظرة على الماضي، وأعيد معكم يا رفقاء الطريق تلك الذكريات التي حببت إليَّ هذا المنبر وهذا الجمهور.

هنا انفتحت نفسي لأنوار العزة الإلهية ونزل الغفران على آثامي. على أعتاب هذا الهيكل رقيت درجات الكهنوت، ومن على هذا المنبر الذي رعيتموه بالإصغاء والتهليل تجلت لي وظيفتي، هنا وجدت بعد منفاي الاختياري الثوب الذي أقصاني عنه حرماني باريس نحوًا من ربع قرن. هنا في غد الثورة بين بقايا العرش ومشاهد الحرب توافدتم لتسمعوا من فمي الكلام الصاعد من هذه الأنقاض فصفقتم له. هنا نشأت الشعائر التي عززت حياتي فوجدت وأنا في وحدتي بعيدًا عن العظماء وعن الأحزاب؛ نفوسًا أحبتني.

يا جدران نوتردام! أيها القبة المقدسة التي تردد فيها صدى صوتي الضعيف. أيها المحراب الذي باركني. هيهات أن أنفصل عنكم. أحن إليكم وأردد مآثركم وأتذكر بركاتكم كذكرى إسرائيل لصهيون.

وأنتم ياسادتي الألى غرست فيهم على اختلاف أعمارهم الحقائق المقدسة والتقاليد السامية إني سأبقى متحدًا معكم في الآتي كما في الماضي، وإذا خانتني يومًا قواي إذا لم يعد يؤثِّر فيكم بقايا صوت، كان عزيزًا عليكم فلن ترموا من أجله بالعقوق؛ إذ لا شيء بعد الذي كان يقدر أن يُزيل هذا الأثر؛ وهو أنكم كنتم مجد حياتي وإكليلي للأبدية.

(٩) ميرابو

من خطبته سنة ١٧٨٩ بعدما غادر لويس السادس عشر المجلس الوطني

أيها السادة

لا ريب أن فيما سمعتموه الآن منجاة للوطن لو كان في الإمكان أن نثق بوعود الاستبداد. ما هذا الظلم الشائن؟ يستبيحون حرم هذا الهيكل والسلاح في أيديهم ليأمروكم أن ترضوا وأن تستعدوا ومن الآمر؟ ذاك الذي يدعي الوصاية عليكم، يسن لكم شرائع الاستبداد القاسية في حين عليه أن يستمد منكم التشريع. منكم أي منا نحن اللابسين حلة الكهنوت السامي الذي لا يمس. ٢٥ مليونًا شاخصة إلينا بأبصارها وأفكارها منتظرة أن نقدم لها سعادة أكيدة تقوم على أساس مكين ثابت، ولكن ما لي أرى حرية اجتماعكم مقيدة والقوة المسلحة تحيط بالمجلس؟ أين هو العدو؟ هل كاتيلينا على الأبواب؟ وأطلب منكم إذن أن تحافظوا على عهودكم، ولا تفترقوا قبل أن تقيموا الدستور.

وكان نائب الملك حاضرًا فلما رأى النواب لم يتفرقوا قال: «سمعتم يا سادة، إرادة الملك.» فصاح به ميرابو:

نعم سمعنا ما لقنوه الملك، أما أنت الذي لا يمكن أن يكون رسوله إلى المجلس، ولا ممثله بيننا أنت الذي لا صوت له هنا ولا مقام ولا حق بالكلام، لا يجوز لك أن تذكرنا خطابه. على أنه منعًا للبس واجتنابًا للتأخير أقول لك إن كنت مكلفًا بإخراجنا من هنا فعليك بإحضار الأمر لاستعمال القوة. اذهب وقل لمولاك إننا هنا بقوة الشعب، ولا سبيل إلى إخراجنا إلا بقوة الحراب.

(١٠) نابليون

من خطبة له بعد موقعة أوسترلتز

أيها الجند إني راضٍ عنكم. لقد كنتم يوم أوسترلتز عند ظني فيكم، فخلعتم على ألويتكم حللًا من المجد لا تَبلى. في أقل من أربع ساعات حطمتم جيشًا يربو على مائة ألف مقاتل بقيادة إمبراطورين. أربعون علمًا ومائة وعشرون مدفعًا وعشرون قائدًا وثلاثون ألفًا من الأسرى تلك كان نتيجة ذلك اليوم المشهود.

لقد أصبح السلم قريبًا، ولكني لا أريده إلا كما وعدتكم قبل عبوري الرين؛ أي سلمًا أكيدًا يكون فيه الضمان لنا والمكافأة لحلفائنا.

أيها الجنود عندما وضع الشعب الفرنسي هذا التاج على رأسي كان جل اعتمادي عليكم لتحفظوا له مجده اللامع الذي بدونه لا قيمة له في نظري. أيها الجنود سأعيدكم إلى فرنسا بعد أن نحقق كل ما يكفل الهناء للوطن، فتكونوا موضع الإعجاب والإكرام، وتستقبلكم الأمة بسرور وافتخار، وحسبكم يومئذ أن يقول الواحد منكم لقد شهدت أوسترلتز؛ ليسمع مَن حوله: إنه لبطل.

ومن خطبته في فونتيلو

وداعًا يا حرسي القديم، لقد مشيتم معي عشرين عامًا في سبيل المجد والشرف، وما برحتم في السراء والضراء مثالًا للشجاعة والأمانة، ومن كنتم حوله لا يئوب بالفشل، ولكن الحرب قد طالت وربما استعرت حرب أهلية لا تخرج فرنسا منها إلَّا أسوأ حالًا؛ ولذلك أُضَحي بنفسي في سبيل الوطن.

سأرحل وحدي، أما أنتم فثابروا على خدمة فرنسا. إن سعادتها كانت غاية مناي، وستبقى أقصى مشتهاي. لا تندبوا سوء طالعي، وما رضيت بالحياة بعد هذه النكبة إلا لأخدم مجدكم. أريد أن أكتب الأشياء العظيمة التي عملناها. وداعًا يا أولادي، أود أن أضمكم جميعًا إلى صدري، فأكتفي بتقبيل لوائكم. أيها النسر العزيز دعني أقبلك، ولتَسْرِ هذه القبلة في قلوب كل الشجعان.

(١١) لامارتين

نذكر هنا ما رواه لامارتين عن نفسه يوم احتدم الجدل بينه وبين الشعب الثائر، وقد وقف على المنبر بين الصخب والهياج، وهو لا يدري ما يكون مصيره، وكان غير واحد من الخطباء يزاحمه بالمنكب يمينًا وشمالًا، ويحاول أن يزيحه من مكانه، ولكنه تمكن بالساعد والكتف من إقصائهم عنه، فإذا به وحده أمام هذا الجمهور، وقد خفت ضوضاؤه وسكنت جلبته ومال إلى الإصغاء فقال: أيْ أبناء أمتي لماذا دعوتموني؟

أصوات : لنعرف بأي حق تحكمون الشعب؟ وهل نحن أمام رجال الظلم والخيانة، أم أمام وطنيين هم أهلٌ لهذه الثورة؟
لامارتين : بأي حق نحكمه؟ بحق الدم المسفوك والنار التي تلتهم معاهدنا، والشعب الذي يعوزه الرئيس، والأمة التي لا قائد لها ولا نظام، وربما جاء الغد وليس لها قوت، بحق الإخلاص والشجاعة بحق أولئك الذين يسبقون إلى التضحية جاعلين ضمائرهم هدفًا للشبهات ورءوسهم غرضًا للمشانق، ودماءهم عرضة للانتقام. أتحسدوننا على هذا الحق؟! إنه لكم كما لنا ولا نجادلكم فيه. كلكم أهل للتطوع في هذا السبيل، ولا ندَّعي من الحقوق إلا ما يمنحه الضمير الذي يسيطر علينا، والخطر الذي يحيق بكم. إن الشعب في حاجة إلى رؤساء، وقد دعانا فلبيَّنا أفتريدون أن لا ينتهي عهد الدم والنار.
أصوات : لا لا. بلى بلى. لا حقَّ لكم باستلام الحكم. لستم من الشعب. لم تخرجوا من وراء المتاريس.
أصوات : لا لا. بل هم الذين احتجوا على الفساد، ودافعوا عن الشعب، فليخبرونا ما هو الحكم الذي يريدون أن يعطوه. لقد قلبنا الملكية، فليقل لامارتين أيريد أن يعطينا الجمهورية أم لا؟
لامارتين : الجمهورية! ومن تلفظ بهذا الاسم؟

– كلنا، كلنا.

لامارتين : الجمهورية! وهل تعرفون ما تطلبون؟ أتعرفون ما هو الحكم الجمهوري؟

– قل لنا، قل لنا.

لامارتين : الجمهورية هي حكم العقل، فهل تشعرون أنكم أهل لتحكموا عقولكم؟

– نعم نعم.

لامارتين : الجمهورية هي حكم العدل، فهل تشعرون أنكم تعدلون ولو في الحكم على أنفسكم؟

– نعم نعم.

لامارتين : الجمهورية هي حكم الفضيلة، فهل تشعرون أنكم فضلاء، وفيكم من الرحمة والحنان ما يجعلكم أهلًا لأن تقبلوا التضحية، وأن تنسوا الإساءة، وأن لا تحسدوا من هو أسعد حالًا منكم، وأن تعفوا عن أعدائكم، وأن تجردوا قلوبكم من هذه الأحكام القاسية؛ النفي، والشنق، والقتل. سائلوا أنفسكم، وارجعوا إلى ضمائركم، ثم انطقوا بالحكم لكم أو عليكم.

– نعم نعم. نشعر أننا أهل لهذه الفضائل.

لامارتين : أتشعرون بذلك؟ أتقسمون عليه؟ أتُشْهِدون عليكم الله؟

– نعم نعم.

لامارتين : إذن أنتم قلتم. الجمهورية، إذن كنتم أهلًا للمحافظة عليها كما كنتم أهلًا للوصول إليها.

(١٢) فكتور هيكو

من خطاب له في مجلس النبلاء يؤيد طلب جيروم نابليون الإذن بالعود من منفاه سنة ١٨٤٧

أيها السادة

لا حاجة للقول إنني لا أريد أن أثير أحقادًا أو شجونًا، ولكني أشعر لدى صعودي هذا المنبر أنني أؤدي واجبًا عليَّ. إن الذي يدفع هذا العاجز إلى نصرة جيروم نابليون وهو في منفاه ليست فقط عقائد نفسي، بل كل تذكارات حياتي، فكأنما في هذا الواجب شيئًا من الوراثة، ويخال لي أن أبي ذلك الجندي القديم للملكية هو الذي يأمرني بالوقوف والكلام.

أيها السادة:

هذه المادة من القانون الفرنسي التي تنفي إلى الأبد أسرة نابليون من الأرض الفرنسية تبعث في نفسي شيئًا لا أعرف له نظيرًا، ولا أستطيع عنه تعبيرًا. ولكي أسهل عليكم فهم فكري، سأفترض فرضًا مستحيلًا: لا ريب أن تاريخ الخمس عشرة الأولى من هذا القرن ذلك التاريخ الذي كتبتموه أنتم أيها القواد والأبطال المحترمون الذين أنحني أمامهم، والذين يصغون إليَّ في هذا النادي، ذلك التاريخ لا يزال له دوي في سمع العالم قاطبة، وربما لا تجدون في أقصى المعمور رجلًا لم يسمع به، فقد وقفوا في الصين بين معابد الآلهة على تمثال نابليون. أجل إني أفترض — وهذا هو الافتراض المستحيل، ولكنكم تسمحون به — أفترض أن في زاوية من هذا الكون الواسع رجلًا لم يعرف شيئًا من هذا التاريخ، ولم يسمع أبدًا باسم الإمبراطور، وأفترض أن هذا الرجل جاء فرنسا، وقرأ هذه المادة التي تقول: «إن أسرة نابليون منفية إلى الأبد من أرض فرنسا.» أفتدرون ما يجول في خاطر هذا الغريب؟ إنه لدى هذا العقاب الهائل ليتساءل: من ترى يكون نابليون هذا؟ ويقول في نفسه إنه ولا ريب كان مجرمًا عظيمًا، وإنه من المؤكد أن عارًا لا يُمحى لاحقٌ باسمه، ولعله أنكر آلهته وباع أمته، وخان وطنه إلى آخر ما هنالك، إن هذا الغريب ليتساءل بشيء من الجزع: ما هي الآثام الفظيعة التي استحق من أجلها نابليون هذا أن يعاقب مثل هذا العقاب في سلالته إلى الأبد.

أيها السادة:

هذه الآثام سأعددها لكم: هي الدين مرفوع الرايات، هي القانون المدني محكم الآيات، هي فرنسا متسعة النطاق إلى أبعد من حدودها الطبيعية، هي مارنكو، يانا، وأكرام، أوسترلتز هي أغلى وأبهى مهر من القوة والمجد يستطيع رجل عظيم أن يقدمه إلى أمة عظيمة.

أيها السادة:

إن شقيق هذا الرجل العظيم يستعطفكم في هذه الساعة. هو شيخ عاجز، هو ملك قديم يسترحمكم اليوم. أعيدوا له أرض الوطن. إن جيروم نابليون لم يكن له في الشطر الأول من حياته إلا رغبة واحدة أن يموت في سبيل فرنسا، ولم يكن له في الشطر الثاني من حياته إلا فكرة واحدة؛ أن يموت في أرض فرنسا، فلن تخيبوا له هذا الرجاء.

(١٣) غامبتا

من خطبة له في كرنوبل، وقد تذكر مرور نابليون بها عند إفلاته من جزيرة ألبا

لا لا، إن العطف على من يريد الانضواء تحت لواء الحزب الجمهوري ليخدمه بإخلاص حق للحزب، بل واجب عليه، ولكنه لا يستطيع أن يبوِّئ مقاعد المجلس ألدَّ أعدائه دون أن يستهدف للخطر، ويهدم عظمة فرنسا ومستقبلها، لا لا، إن هذا العمل لينافي حق السياسة وحق الآداب التي لا يجوز فصلها عنها.

يحضرني الآن تذكار أريد أن أشرككم فيه؛ لتروا هول الخطر الذي يكون في السياسة من وراء الاستسلام للمنافقين.

نعم في هذا البلد أقام حينًا ذلك الرجل الذي أكسبنا المجد وجر علينا الويلات، وطئت قدماه هذه الأرض فرأى كم من السهل أن يضع يده على فرنسا مرة أخرى باستثماره البغض الذي أثاره عودة المهاجرين، أوَ ليست الحال كذلك اليوم؟ إن فرنسا بنت الثورة ترتجف خوفًا من عودة الحكم القديم. ما الذي كان يردده على مسمعها هذا الممثل النابغة؟ كان يقول للفلاحين والعمال: ها قد عدت إليكم أفلا تعرفونني، أنا جندي الثورة جئت أدافع عن حقوقكم وأحمي ممتلكاتكم وأموالكم. أنا وليد الثورة، أنا الثورة بالذات الثورة المتوجة، نعم لقد أخطأت وجلَّ من لا يَخطَأ، واليوم أحمل لكم كل أنواع الحرية، حرية القول والفكر والعمل، حرية الكتابة والاجتماع، حرية الأمة بدستور النواب المستقلين، نعم كل هذه الحريات يجب أن تنالوها وستنالون.

هذه الوعود قيلت كلها أين؟ هنا في هذا البلد، ولكنها كانت وعودًا كاذبة، كانت سرابًا خدَّاعًا، آخر خدعة قام بها هذا الكورسيكي التائه (هتاف طويل) هذه الوعود الجميلة خدعت فرنسا؛ لأن طيبة القلب تصدق أبدًا ما يقال لها، فأخذت بلمعان هذا السراب، وإنكم تعرفون كيف كانت خاتمة هذه المأساة.

(١٤) لاشو

من دفاعه في قضية تروبمان القاتل

حضرات القضاة حضرات المحلفين

لقد سألني تروبمان أن أدافع عنه، فإذا بي أمام واجب لا بد من أدائه، وربما أدهش موقفي هذا بعض الذين يجهلون وظيفة المحامي. إن الذين قالوا إن من الجرائم ما يفوق هولها كلَّ وصف، ومن المجرمين من بلغوا غاية القسوة والفظاعة، فمن العبث أن نسعى إلى تخفيض عقابهم، أقول إن هؤلاء ليسوا على حقٍّ وهم في غضبهم المحمود يخلطون بين العدل وحب الانتقام. هؤلاء يتبعون عاطفة النفس الكريمة مشفقين على الضحايا، ولكن إشفاقهم يجرهم من حيث لا يدرون إلى ارتكاب ذنب اجتماعي هو من أشد الذنوب خطرًا؛ لأن فيه تضحية القانون. أما أنا فأفهم واجبات الدفاع على خلاف ذلك؛ لأن المشترع أراد أن يكون إلى جانب المتهم أيًّا كان صوت شريف صادق يرتفع؛ لِيوقِفَ — إذا أمكن — تأثيرات الجمهور تلك التأثيرات الصادرة عن طيبة نفس، ولكنها قد تكون وخيمة المغبة؛ لأنها تستطيع أن تطمس الحقيقة.

القانون لا يغضب يا سادة، ولا يعرف هذا الفوران مهما يكن كريمًا شريفًا. القانون يقول إنه لا سبيل إلى الحقيقة إلا إذا اشترك الاتهام والدفاع في البحث عنها. هو أدرك أن هناك ساعة يجب أن تتحول فيها الأبصار عن مشهد الدماء، وأن يلقي من بعد المجني عليه نظرة على الجاني، بل رأى أن من واجبات العدل والقضاء أن يُسأَل هذا الجاني، وتُدرَس حالة عقله ونفسه وسلطان الطبيعة والعادة عليه، حتى إذا تمَّ له ذلك قال للمحامي: قف على المنبر أنت وضميرك. هذه هي أول كلمة يخاطب بها الرئيس المحامي. لقد وكل المشترع إلى شرفه حق الدفاع وحرية الدفاع؛ ليوفِّق بين حقوق الاجتماع الشرعية وحقوق المحاماة المقدسة هنا، ولا حاجة للقول إننا في مثولنا أمامكم اليوم أيها السادة نبحث بنزاهة وإخلاص مجتهدين في كشف النقاب عن الحقيقة كما نفهم.

أي جريمة في العالم تضاهي هذه الجريمة وتفتقر مثلها إلى الدفاع؟ لقد اهتزت البلاد من أقصاها إلى أقصاها لهذه الجناية الفظيعة، وتعالت الأصوات من كل الصدور طالبةً الانتقام وإنزال العقاب الصارم بالجاني. أفتدركون أيها السادة أن كلام المحامي هو لِيقِيَكم هذا الخطر، لقد أقسمتم أن لا تظلموا الاجتماع ولا المتهم، وأخذتم العهد على أنفسكم أن لا تخرجوا عن الحقيقة مجردين من عاطفة الهوى أو تأثيرات الجمهور، أقسمتم أن تدعوا الحكم إلى ضمائركم بعد أن تستوفوا التأمل، وبعد أن تستوفوا السماع، فأستحلفكم إذن أن تسكتوا هذه الضمائر، وأن تنتظروا فلا تستشيروها حتى النهاية …

يا سادة سأبحث معكم عن الحقيقة كما أفهمها، ولا أدافع عنها كما يمثلها المتهم، أوَ تظنون أنني جئت هنا لأعيد الأقوال التي فاه بها؟ أي نظرة تنظرون إذن إلى مهنتي؟ إنها والله لأذل المهن إذا لم يكن قِوامها إلا أن يُعاد كلُّ ما قاله المتهم في الدفاع عن نفسه، سواء أكان فيه موفَّقًا أو غير موفَّق. فاطمئنوا فما أنا بملقٍ إليكم غير ما يمليه عليَّ الضمير والواجب، فقد عاشرت الرجل وخَبَرْتُه، وتحدثت إليه طويلًا، وجعلت نفسي حكَمًا عليه قبل أن أصير محاميًا له.

الدفاع ملكي وأنا سيده، كلا لست هنا صدًى للمتهم، ولي من الشرف ما يكفي ليحمي أقوالي من الزيغ عن الحق والجور عن القصد فاسمعوا.

من هو تروبمان؟ هذا ما لم أبرح أسأل عنه دون أن أجد جوابًا شافيًا. أَإنسان أم وحش كاسر؟ وعاقل أم مجنون؟ تلك هي العقيدة التي لا تحل. إن ما يشعر به النائب العمومي من جراء هذه القضية أشعر به أنا أيضًا، ومن هو الرجل الذي لا ينتفض جزعًا وغضبًا لمرأى هذه الضحايا أو لتذكارها؟ لقد قال لنا الرئيس بالأمس إنه بينما الرعدة نافضة في مفاصل القوم، كان الرجل وحده هادئًا لا أثرَ للحزن عليه. لماذا؟ من أية طينة جبل هذا الإنسان؟ من يكون؟ فلنبحث.

•••

لم يكن لتروبمان طفولة ولا شباب كسائر الناس، وإنكم لتذكرون حالة عقله وتقيده بفكرة لا تحوُّل عنها، وفي الحديث الذي أسره لأحد رفقائه معانٍ كثيرة. لقد استولت عليه وهو في السابعة عشرة أفكار غريبة لا تتزعزع؛ والسبب أنه قرأ كتابًا أهاج أعصابه وأضاع صوابه، هذا الكتاب هو اليهودي التائه يقص عليه ثروة تبلغ المائتي مليونًا، يشتهيها رودين فيقتل من أجلها أسرة عن آخرها. ستة من الأبرياء يموتون موتًا فظيعًا. كان هذا الكتاب رفيقه الدائم وسميره ليل نهار، فتركت قراءتُه أثرًا غريبًا في دماغه حتى اعتلَّ بدنُه، ودبت إليه عقارب المرض، وأصبحت أفكاره كلها منصرفة إلى جهة واحدة محصورة في دائرة لا قِبَل له بالخروج منها، وأصبحت فكرة القتل قتل ستة من الناس حلمًا لا يتخلَّى عنه في قعوده وقيامه ويقظته ومنامه. سلوا أهل العلم يجيبوكم أنَّ مثل هذا الرجل غير صحيح ولا سليم، افحصوه وادرسوه، حوِّلوا نظركم قليلًا عن الضحايا إليه، وافهموا ما انطوى عليه، انظروا إلى تركيب جسمه الغريب، إلى ذراعيه ويديه، فقد قال لي بالأمس أحدهم: تأمَّلْ إنَّ في صورة هذا الرجل شيئًا من الضواري. أجل إذا كانت قضيتنا قضية وحش لا مسئوليةَ عليه فقصاصه الربط والتكميم لا القتل (حركة وضجة في الجمهور). إن ضميري يتكلم، وعندما أتشرف بأداء الواجب فإني أشفق على الذين لا يفهمون ما يجب عليهم من الاحترام لوظيفتي.

(١٥) كليمانصو

من خطبة له، وهو رئيس الوزراء ردًّا على جورس

أما وقد دقت الساعة لأشرح لكم أعمالي إفحامًا للمعارضين فإني أقول: إن أعداء الطبقة العاملة هم في نظري أولئك الذين يشجعونها على التطرف في الفكر، ويبعثون فيها اعتقاد أن عدم احترام الحق والقانون مباح لها. هم أولئك الذين يصورون لها الحكومة في صورة العدوِّ؛ لأنها تقوم بحفظ النظام خدمةً للمجتمع.

أقول إن أعداء الطبقة العاملة هم أولئك الذين يدفعونها إلى التمادي في ضلالها؛ فتتوهم أنها معصومة عن الخطأ، وأن من حقها الشرعي أن تحول إلى غيرها الضغط الذي تئنُّ منه.

أقول إن أعداء الطبقة العاملة هم أولئك الذين يقفون في طريق تربيتها باتباعهم هذه الوسائل الباطلة؛ لأن التربية الحقة هي في العمل لا القول. إننا نعلم أن الطبقة العاملة هي أهل للحكم الديمقراطي، كما ترغبون، وكما أتمنى يوم تأتي أعمالها مطابقة للحق الذي تحاول الانتساب إليه. هذه هي التربية التي يجب أن تعطى لها ولن تكون بالكلام.

هذه التربية جرَّبت أن أقوم بها، ولكني لم أجد جورس إلى جانبي لا في «لانس» ولا في «دونين». لست بحاقد عليك لذلك، ولكن من يدري وأنت ذو السلطة الواسعة والكلمة المسموعة فيهم، من يدري لو أنك أضفت كلامك إلى كلامي وصوتك إلى صوتي؟ من يدري كم من فائدة كنا جنيناها وفاجعة كنا أقصيناها؟

لا أرميك بالخطأ، ولكن أقل ما يجب عليك بعد أن رأيتني في ميدان العمل والواجب؛ أن تكون أكثر عطفًا على الوزير الذي تحاربه (حسن حسن).

لا ريب أنك تشرف عليَّ من أعالي قمة أفكارك الاجتماعية، ولك مقدرة غريبة أن تخلق بعصاك السحرية جنات الفردوس، أما أنا فعامل بسيط يقدم حجَرَه في بناء هذا الهيكل الذي لن نراه، والفرق بيني وبينك أن فراديسك تتداعى وتنهار لأدنى نسمة من الحقيقة، لكن هذا الهيكل الجمهوري سيناطح السماء يومًا (تصفيق في اليسار).

الحق — أقول لك — أنه يجب التمييز في النظام الاجتماعي بين الصورة والإطار، من السهل إصلاح الإطار علمًا، ولكن الإصلاح العملي يقتضي النظر في الصورة، وإذا كان في الإمكان أن يتلاءم الإنسان مع النظام الذي تريد تغييره أصلحوا الإنسان أولًا، وهو يعرف لنفسه أن يجد الإطار الموافق بدون أن يهتم بتعاليمكم، أو نبوءاتكم التي لن تتحقق.

أنا لا أدري إلى أية نتيجة وصلتم، ولكني أستطيع أن أقول إنه إذا تم لكم هذا الإطار الجديد بقي عليكم أن تُدخِلوا فيه إنسانًا جديدًا يقوى على الحياة في هذا الاجتماع الذي ولَّده دماغكم؛ لأن الإنسان الحاضر هو غير ما تريدون ليعيش فيه.

على كل حال هناك نقطة هامة يظهر فيها خطأ آرائكم وضلال مذهبكم، وهو أن الرجل الذي تحتاجون إليه لتحقيق أحلامكم وتكوين هيئتكم الآتية غير موجود، ولو فرضنا أنه وُجد يومًا فسيستعمل ذكاءه كما يريد هو بدون أن يهتم بالطريق التي تختطونها له.

تدَّعون أنكم تضعون المستقبل مباشرة، أما نحن فنضع الإنسان الذي يتوقف عليه المستقبل فأعجوبتنا أعظم وأبدع. نحن لا نخلق إنسانًا خصوصيًّا، بل نأخذ الرجل كما هو بما عليه من آثار الخشونة الأولى خشونة الكهوف، وبما فيه من تمرُّد وأنانية وجودة وإشفاق للآلام التي يتحملها أو يحملها إخوانه، نأخذه غير معصوم من الخطأ ونهديه وننميه ونضعفه من جانب الشر، ونقويه من جانب الخير، ونعطيه الحرية، ونخرج به من ظلمات الحكم الغاشم إلى أنوار العدل السامي (تصفيق) فيتقرب من الكمال يومًا بعد يوم ويصير أقدر على إدارة نفسه والتصرف في العالم الذي حوله (تصفيق).

ولكن حذار حذار، فإنكم إذا خدعتم الرأي العام بوعود لا يمكن تحقيقها، فإن الرأي العام ينقلب عليكم. إذا حببتم الشدة ومهدتم سبيلها فلا تنسوا أنها ستمشي إليكم آجلًا أو عاجلًا، إذا ثابرتم على خطتكم العدائية من تصوير الحق في صورة الباطل والافتئات على الحكومة، بينما هي لا تألو جهدًا في ترقية الطبقة العاملة، فإن اليوم الذي تصلون به إلى غايتكم لنذهب ضحية أعمالكم هو يومكم الأخير أيضًا (تصفيق).

(١٦) جوريس

من خطبة جوريس في فضائح بناما سنة ١٨٩٣

أتظنون أن رجلًا لم يأخذه الدهش والذعر، ولم يتأثر ضميره كل التأثر عندما كانت البلاد بأسرها تسمع وترى تلك الفضائح، عندما فاجأ الأمة ذلك النبأ الغريب، وهو أنَّ من مئات الملايين التي أنفقتها ذهبَ نحو الثلثين إسرافًا وتبذيرًا عندما أُتيح لها أن تشهد الفساد جامعًا بين رجال السلطة وأصحاب الأعمال، ورأت بعينيها تآخي المجلس والبنوك على حساب المساهمين.

أتظنون أنه لم يكن شيئًا مذكورًا يوم علمت البلاد أن وزراء ستُساق إلى المحاكم، وأن أشياء هائلة ستعلن وتقال؟ يوم جاءت ساعة مثُل فيها البعض أمام محكمة التحقيق عالي الرأس، والبعض ملعثم اللسان ساعة تساوى فيها هذا المجلس وندوة العدل، ساعة كان فيها عظماؤنا يمرون من ساحات المجلس المضيئة إلى أروقة القضاء المظلمة؟

أتظنون أن هذا لم ينتج شيئًا؟ تذكروا كلام الشاعر القديم «التراب هو شقيق الأوحال» ورددوا في أنفسكم أن كل هذا الغبار المحرِق غبار التعصب الفوضوي الذي أعمى في طريقه بعض الأشقياء، هو شقيق أوحال الرأسمال والسياسة.

وله في موقف آخر

رأيت أحيانًا في طريق الجبل بعض الفلاحات العجائز عائدات من الغابة حاملات فوق ظهورهن أحمالًا من الأغصان الخضراء، فكانت الريح عند مرورها بتلك الأغصان المورقة تُوقِظ من حول الفلاحة العجوز حفيف الأحراج الواسعة، ولكن العجوز لم تكن تسمع هذا الحفيف، بل كانت تمشي بخطاها المتثاقلة دون أن تعي نشيد الأحلام الذي كانت تسره في أذنيها قطعة الغاب المحمولة على ظهرها.

أجل هكذا هو العامل المسكين يمشي محاطًا بنسمات الطبيعة دون أن يسمعها. كيف تريدون منه بعد جهده الطويل من طلوع الشمس إلى غيابها عندما يشعر أن عمله المنهك ليس عملًا حرًّا، وأنه قد يجرد منه في الغد لغير ما سبب، عندما يجد نفسه مقيدًا بأدواته التي تضنيه، وربما فارقها في غده مكرهًا؟ كيف تريدون منه وهو على هذا الوجه متعب مستعبد يساوره الوجل والإشفاق ألَّا يتاح له في غده ما يطعمه ويطعم ذويه؟ كيف تريدون منه أن يرتفع فكره بالحلم فوق ضجيج المصانع الذي يصم الآذان ليقول في نفسه إن هذا الضجيج الخارج من الأدوات العاملة هو جزء من الموسيقى الكونية؟

هذا الشيء سيعرفه في الغد عندما نعطيه الحرية.

(١٧) فيفياني

من خطبة له بعد الانتخابات وهو وزير الأشغال في وزارة كليمانصو

ما الذي يخيفكم إذن؟ إن الذي ترتجفون فرَقًا منه ليس ما تحويه المطالب الاجتماعية، بل ما تظهره أو تتنبَّأ عنه. إن الذي تجزعون من أجله هو هذه المواقف الثابتة، والإرادة التي لا تتزعزع، هو الشدة والأهواء الطافحة بها، هو هذا الإشعاع الفكري الدائم، هو هذه الحمَّى السارية في عروق الجميع.

نعم ولكن من المذنب إن كان ثمة ذنب؟ من خلق هذا العمل الثوروي؟ أي يد أبدعت إنسان اليوم بما فيه من رغائب وجهاد وجسارة وعناد؟

إن الثورة الفرنسية أطلقت في الإنسان كل جرأة الضمير وكل أطماع الفكر. لم يكفِ ذلك؛ جاءت ثورة ١٨٤٨ ومنحت التصويت العام، وأخذت بيد العامل الرازح تحت أثقال العمل، وساوت في السياسة بين الرفيع والوضيع، لم يكف ذلك؛ جاءت الجمهورية الثالثة فجمعت حولها أولاد الفلاحين والعمال وزرعت في هذه الأدمغة المظلمة بذور التعليم الثوروية، لم يكف ذلك؛ جئنا كلنا نعمل باسم الدين، باسم الآباء والأجداد، باسمنا أنفسنا فنزعنا الإيمان من الضمائر، ولما رأينا الشقي المنهك بعمل النهار يحني ركبتيه عند المساء، رفعناه وقلنا له لا يوجد من وراء هذه الغيوم إلا أوهام، وأطفأنا في لحظة أنوارًا في السماء لن تضيء أبدًا.

(١٨) لنكولن

من مناظرة بينه وبين القاضي دوجلاس عن المساواة بين الأبيض والأسود

لا غرض لي من التدخل في نظام الرِّق في الولايات التي يسري فيها هذا النظام؛ لأني أعتقد أنه لا حقَّ لي بهذا التدخل، فضلًا عن ذلك فإني لا أشعر في النفس ارتياحًا إلى مثل هذا العمل، كما أني لا أقصد إلى المساواة بين البيض والسود سياسة أو اجتماعًا؛ إذ ثمة فوارق طبيعية تمنع فيما أظن وقوفهما جنبًا إلى جنب على بساط المساواة، وبما أن هذه الفوارق تنشئ تفاوتًا في الجنسين فأنا أوافق القاضي دوجلاس على أن تكون السيطرة للجنس الذي أنتمي إليه.

إني لم أصرح فيما مضى بخلاف ما ذكرت الآن على أني — على الرغم مما سبق وذكرت من الأسباب والفوارق — لا أزال مصرًّا على اعتقادي مجاهرًا بأنه لا مانع في الدنيا يمنع الأسود من التمتع بحقوقه الطبيعية المخولة له في تصريح الاستقلال؛ أي الحق بالحياة والحرية والسعي وراء السعادة، وإني لأتمسك كل التمسك بأنه والرجل الأبيض شرْعٌ أمام هذا الحق.

أنا أوافق على ما قاله القاضي دوجلاس من أن الأسود يختلف عني من وجوه كثيرة كاللون أو العقل والأخلاق، وأما في حقه أن يأكل الخبز الذي كسبت يده دون أن يستأذن سواه فهو نظيري ونظير دوجلاس، ونظير كل إنسان على وجه الأرض.

(١٩) أرستيد بريان

من خطبة له في قانون الكنائس

إن الصلات التي كانت لنا مع رومة وحلَّ المجلس عراها لا تستطيع حكومة منا أن تعيدها دون أن تُرمى بالخيانة.

إني أحب بلادي، وأحب الرقي، وما قبلت بوظيفتي هذه حبًّا بالمجد والشهرة، وإذا كان في تولي زمام الحكم فرح ولذة، فهو فرح الواجب واللذة بما يستطاع عمله من الخير، على أن هناك مسئولية عظيمة ترافق هذه اللذة، وأنا شاعر منذ اليوم وقبل اليوم بثقل وطأتها (تصفيق في اليسار والوسط).

إني أسألكم معاشر الجمهوريين الذين بوَّأتهم ديمقراطية فرنسا هذه المقاعد، أتريدون أن تكونوا على وفاق مع مبادئكم؟ لقد قمنا لكم بيانًا طويلًا فيما نقصد عمله لمجد الديمقراطية وهنائها، وهذا البيان يتطلب جهدًا كبيرًا، أفتظنون أن تحقيق هذه المطالب لا يحتاج إلى شيء من الهدوء والطمأنينة والسلام في هذا البلد، أتحسبون أن الوصول إلى الإصلاح ميسور إذا لم نفقأ عين الفتنة، ونسحق أفاعي البغضاء والتعصب، ونقضي على النزاع الديني القضاء الأخير؟ (تصفيق في الوسط واليسار.)

أيْ سادتي، لا أكتمكم فكري. لقد رسمت في الأحوال التي ذكرتها لكم خطة للزرع جعلتها بعيدة عن الاعوجاج ما استطعت، فلا تلقوا فيها بذورًا فاسدة، وإذا كان لا بد للشوك من أن ينمو فيها فلست أنا بحاصدها يومًا بل سواي (تصفيق).

(٢٠) موسوليني

من خطبة له في جماعة القمصان السود في فلورانسا سنة ١٩٣٠

لقد طهرنا البلاد فلم يبق فيها من الأحزاب مَن نهاب دعوته أو نخاف فتنته، أما الذين خرجوا عنا ولا يزالون يناصبوننا العداء في خارج إيطاليا، فما أبعد المسافة بين ما يعملون وما يرموننا به من الأغلاط التي نعلم حق العلم أنها حقائق راسخة أُقيم عليها بناء الفاشيست المتين.

وهناك أعداء آخرون يجهلون كل الجهل قوى الفاشيستية ويريدون مقاضاتنا. هم يعتقدون أنا قليل عديدنا قصير باعنا، وتعمى قلوبهم عن الحقيقة الناصعة أن الفاشيست هي إيطاليا جمعاء، إيطاليا البالغ عددها ٤٣ مليونًا. لقد نسبوا أعمالنا إلى حركة تجديد، ولم يفهموا أنها الثورة بعينها، وادَّعوا أنه حكم ظلم وإرهاب، وهو في الحقيقة مظهر من أجل مظاهر السيادة القومية لأمة تريد أن تحكم نفسها بنفسها، وقد ظن هؤلاء أيضًا أننا لا نستطيع الذهاب إلى أبعد مما ذهبنا إليه في سبيل التضحية (تصفيق طويل) ولست أرى — وايم الله — ما ينال الشعب الإيطالي في كبريائه وكرامته مثل هذا الظن والتوهم أن برنامجنا البحري الجديد حلم لا قبل لنا بتحقيقه (تصفيق شديد) ولهذا أعود فأؤكد أن هذا البرنامج سينفذ بندًا بندًا؛ لأن إرادة الفاشيست ليست فقط من حديد، بل هي أيضًا إرادة عمل تهزأ بالمقاومة، ولا تعبأ بالعقبات التي تعترض دونها، وإني على يقين من أن الشعب الإيطالي لا يرضى البقاء سجينًا في بحر كان فيما مضى بحر رومة، ولهذا فهو لا يرجع عن التضحية كلما دعت إليها الحال (هتاف وأصوات نعم نعم).

ولقد تساءل أولئك الأعداء ما نقصد بقولنا نفسية الشعب الإيطالي، وعليه أجيب أن أحزابًا عديدة تعمل في خارج البلاد على اقتلاع جذور المذهب الفاشيستي، وهذا العمل وإن يكن مصيره إلى الفشل التام، فهم يقصدون به أن يزحزحوا إيطاليا عن موقفها السامي، ويميلوا بها عن طريق المجد الذي تتسلق قممه (أصوات أبدًا أبدًا) هؤلاء يدَّعون أنهم أحرار ديمقراطيون، ولا يأنفون مع ذلك من إثارة أية حرب كانت على الشعب الإيطالي، بل لا يتأخرون عن أن يزجوا أنفسهم في غمراتها ويكونوا أول المشتركين فيها، ولكنهم سيجدوننا في انتظارهم حينذاك (تصفيق حاد) وإذا حدث شيء من هذا؛ فإن رجال القمصان السود ستكون في مواقفها مستعدة لإحباط مساعيهم الدنيئة بوسائل لم تخطر على بالهم (هتاف عالٍ) لأن إيطاليا الفاشيستية هي اليوم كاملة العدة والعدد، والويل لمن يحاول إذلالها (نعم نعم).

تذكروا أن رجال القمصان السود عقدوا في هذه المدينة مؤتمرهم الأول سنة ١٩١٩ فكانت الخطوة الأولى في محاربة للرجعيين، وها نحن اليوم نفتخر بالشوط الواسع الذي قطعناه في طريق المجد منذ ذلك الحين، ألا وإن شجاعتنا لم تهن، وسيرنا إلى الأمام في طريق التجديد لم يقف، ولا يجب أن يقف أبدًا (هتاف من الجمهور أبدًا أبدًا).

هوامش

(١) فليب أورليان شقيق لويس الرابع عشر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤