الخطيب والممثل

١

إن بين الخطيب والممثل فرقًا واضحًا وبَوْنًا نازحًا؛ ذلك لأن الأول يحتاج إلى علم وإلهام قد يمكن الثاني الاستغناء عنهما. حسب الممثل أن يدرك غرض المؤلف ليقوم بأداء الواجب عليه خير قيام دون أن يكون للوحي دخل يذكر في تمثيله. لا أعني أن الممثل يجب أن يكون خلوًّا من كل علم بل أريد أن لهذا العلم وهذا الإلهام عنده وجوهًا أخرى يصرفهما فيها، وهو على كل حال لا يرتبط بهما ارتباط الخطيب، ويرى القارئ في بعض هذا الفصل وما يليه مختصر ما وقفت عليه في كتاب الأستاذ كركو «فن الكلام في الجمهور» مما يتعلق بهذا الموضوع.

نعم من الممثلين مثل شكسبير ومولير قديمًا وساشا كتري لعهدنا الحاضر مَن جمع بين الحالتين، وكان العلم والوحي خير مرشد لهم فخلفوا أدوارهم على القرطاس والملعب معًا، مثل هؤلاء يبزون سواهم ويخلعون على نهجهم في التمثيل مسحة خاصة لا تجدها في الآخرين إلا أنهم قلائل لا يتجاوزون عدد الأنامل.

والغالب أن يكون الممثل كسائر الناس ثقافة، ولكنه يستطيع أن يدخل في إهاب الذات الخيالية التي أوجدها المؤلف ويمتزج بها امتزاجًا سويًّا، بل ترى بعض الممثلين دون سائر الناس في الإحساس والشعور وهم على الرغم من ذلك يجيدون تمثيل العواطف والأهواء الغريبة عنهم، وكم من النساء مَن هن في حياتهن البيتية والاجتماعية أبعد خلق الله عن التأثر وعن كل فكرة للحب والتضحية، وتراهن على الملعب يقمن بتمثيل أدوار الحب والتضحية أحسن تمثيل.

هذا التناقض لا تجده في الخطيب فإن جهد الممثل — كما بينا — هو أن يصور ما يريد المؤلف دون زيادة ولا نقصان، والبارع من وصل في التصوير إلى أبعد غاية، وأما الخطيب فهو لا ينفك عن التوليد حتى في أثناء الكلام، وله مطلق التصرف في القلب والإبدال والإيجاز والإطناب حسب الأحوال.

المجال الذي يتحرك فيه الممثل هو عالم الصور والخطوط، ومجال الخطيب عالم الأفكار والمعاني، ومهما يكن من ثقافة الممثل وإلهامه فلا شأن لهما في إضافة شيء إلى الذات الخيالية التي خلقها المؤلف ورسم حدودها، ولا حق له أن يجري على لسان هذه الذات كلمة لم يُرِد المؤلف أن يقولها.

قد يستطيع الممثل أن يتصور طريقة جديدة لتمثيل أبطال سوفوكل وشكسبير ومولير وهيكو غير التي عرفناها وألفناها، ولكنه لا يكون في ذلك على وفاق والرأيَ العام.

٢

إذن مجال الممثل هو الخيال والصور والحركات ونبرات الصوت المختلفة، وهي أمور يحتاج إليها الخطيب، ولكنها ليست كل ما يحتاج إليه، فإن غاية الخطيب هي الألفاظ والمعاني التي تتزاحم في خاطره ويجيش بها صدره فيقذفها على لسانه، وهي تتطلب حركات وإشارات مختلفة غير أنه لا يضطر إلى تأديتها بأمانة الممثل ودقته، وجل ما يتحتم عليه هو أن يصور أفكاره ويعبر عنها على وجه لا يضايق السامعين ولا يزعجهم، بل يشعر كل من حضر أنه أمام خطيب لا ممثل، وهذا الشعور من جانب الناس هو الذي يشد عرى الألفة بين الخطيب وسامعيه؛ فيندفعون معه في الطريق التي يشقها لهم، فلا يكاد المعنى أو العاطفة تنحدر من شفتيه حتى يكون قد تلقفها سمعهم وجنانهم.

ربما كان هذا هو السبب في أن يتحاشى الخطيب أن يظهر سهولة عظيمة جدًّا في كلامه؛ لأنه إذا تكلم بدون جهد ظاهر ومن غير أن ترتسم على محياه تلك السمات الدالة على التفكير والتعب والتأمل، فكأنه منقطع عما يقول فيحمل السامع على الظن أنه لا يتكلم بإخلاص وشعور، بل يلقي درسًا استظهره أو يمثل دورًا من الأدوار وهو ما يضعف التأثير وينزل بالخطابة عن غايتها.

فعلى الخطيب أن يظهر لسامعيه أنه هو نفسه مولد أفكاره فيحس هؤلاء أنهم أمام رجل يقول ويفعل، ويبرهن ويحلل وأن هناك مسألة عقلية يشتبكون معه فيها، وهي ليست من خصائص الممثلين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤