الخطيب والخطباء

١

قلنا فيما مر إن المطالعة لازمة للخطيب لتوسيع دائرة ثقافته، ونزيد الآن أن هذه المطالعة يجب أن يكون أكثرها في كتب الخطباء السابقين والمعاصرين، وعلى الخطيب أن يسمع ويرى كيف يخطب سواه سواء أكان من أشياعه أم أضداده، ثم يشرح لنفسه ويحلل ما سمع محاولًا أن يدرك السبب الذي من أجله نال هذا الخطاب استحسانًا أو استهجانًا، وما لذلك من صلة بالبيئة أو الرجل أو الخطاب عينه من حيث المعنى أو التركيب أو الأسلوب أو الأداء، وما فيه من إسهاب أو اقتضاب وهزل أو جد، وغير ذلك مما يدخل تحت هذه المعاني أو يشترك فيها.

إن للخطيب ولا سيما النائب والمحامي أضدادًا ومنافسين، والأضداد هم بين الجمهور وليس من الصعب أن يتغلب عليهم بالإقناع، أما المنافسون فمن العبث أن يحلم بإقناعهم وقد قال أحد نواب الفرنسيس: «أتى عليَّ أربعون عامًا وأنا أسمع الخطباء فوجدت منهم من غير وجهة تصويتي، ولكن لم أجد من غير رأيي.» ويمكننا قلب الجملة وعكس الآية دون أن نسيء إلى الحقيقة، فإن من الخطب أيضًا ما يغير الرأي ولا يغير التصويت.

وليس بعجيب أن يصعب على الخطيب إقناع منافسيه، فكلٌّ يريد أن يكون لواء النصر معقودًا له، لأن الخطيب السياسي رجل عمومي وهو في أكثر الأحيان يعبر عن رأي حزبه فتراه مضطرًّا إلى الثبات في موقفه حتى النهاية لا يزعزعه كلام الخصم مهما يكن لئلا يُرمى بالخيانة والخروج على الحزب.

وقد يحدث أن أحدهم يرى الحق في جانب خصمه فيبقى متشبثًا برأيه؛ لأن هناك مفاجآت غريبة، فكم من برهان يبدو ناصعًا! ثم بعد تقليبه على وجوهه يتحقق بطلانه، وهذه المفاجآت هي التي تقضي على الخطيب بعدم الاستسلام لبلاغة خصمه، بل تجعله ثابتًا في موقفه ولا سيما لأنه ليس حرًّا بل عبد الموضوع الذي يدافع عنه، فيجب أن يمضي فيه إلى النهاية.

وبعد أن يقوم الخطيب بالواجب عليه من الدفاع يستطيع أن يخلو إلى نفسه ويراجع آراءه ويقابل بين مركزه ومركز حزبه، ويعتمد ما يوحيه إليه الضمير الذي هو أسمى قاضٍ وأشرف حكم.

على أنه لا يتعذر على الخطيب ولا سيما المحامي بما تهيئه البلاغة من وسائل التعبير؛ أن يتخذ لغة لا يرتهن بها إلا بقدر، ولا تنال من شرفه وحسن أحدوثته، فإن لم يستطع مثلًا أن يقول الحق الحق أقول لكم فهو قادر على تحريف العبارة كأن يقول مثلًا موكلي يقول لكم كيت وكيت، ولا يعزب على القاضي ما وراء هذا التركيب من تنصل خفي أو محاذرة تدفع إليها الذمة الطاهرة دون أن تُضعف من أثر مقاله.

فكاهة: كان اثنان من عظماء المحامين في فرنسا يسمعان مرافعة زميل لهم، فكان يأتي في عرض كلامه بأدلة قاطعة وحجج دامغة، وكان أحد الاثنين خصمًا في القضية، وعليه أن يرد على هذه المرافعة ويدفع هذه الأدلة والحجج، فكان رفيقه كلما سمع شيئًا أعجب به في المرافعة يميل نحوه قائلًا: هذا صحيح ولا إخالك قادرًا أن ترد عليه. فيكتفي هذا بهز الرأس كأنه يؤيد كلام صاحبه إلى أن قال له هذا الصاحب: أراك تشاركني في كل ما أظهره من صواب هذه المرافعة، فما عساك أن تقول بعد هذا وقد اقتنعت منذ الآن؟ فأجابه: كلا يا صاح، لم أقتنع أبدًا ولكني أعلم ما لك من النفوذ الأدبي عند القضاة وأعرف مبلغ احترامهم لآرائك، وأراهم الآن ينظرون إلينا، فإذا عارضتك ظنوا بيننا خلافًا تكون نتيجته خدمة لخصمي، فأنا أظهر الموافقة على كل ما تقول ليطمئنوا بعدها إلى كلامي ومعارضتي، فلا أخسر من قوة دفاعي شيئًا.

٢

هنا تظهر بوجه خاص مزية الخطيب من حيث الهدوء والصبر والحلم فيكون كالملاكم يتلقى ضربات خصمه، وهو ثابت الجنان لا يتزعزع عن موقفه مهما يطلق عليه منافسه من قنابل الغضب، أو يكشر له عن نواجذ الشر وسوء النية.

لا أقول إنه لا يحتاج أحيانًا أن يُظهر الغضب ويخرج عن طور السكينة؛ لأن التظاهر بالغضب والحدة نوع من الحجاج المقنع، ولكن فليكن غضبه خطابيًّا كما ذكرنا قبْلًا.

ومهما يكن الخطيب عظيمًا مشهورًا فإن آداب المهنة تقضي عليه أن يكون واسع الصدر كثير الدعة واللطف والتودد نحو زملائه ومنافسيه، فلا يتعذر عليه أن يجعل كلامه شديدًا وانتقاده قارصًا دون أن يمسَّ كرامة أحد، وهذا أيضًا من دلائل المقدرة التي يتصف بها الخطيب البليغ.

والمنافسة الحقيقية التي تدفع الخطيب إلى الإجهاز على خصمه وتفنيد مزاعمه بكل ما أوتي من شدة عارضة وفصاحة بيان؛ لا تكون إلا في المسائل السياسية والقضائية، وأما في غير ذلك كالحفلات الأدبية والمناظرات العلمية وسواها، فالواجب يقضي بالتضامن بين الخطباء حتى إذا عرض للواحد ما يفسد عليه موقفه، أو لا يترك لكلامه وقعًا حسنًا كان للآتي بعده مجال لإصلاح هذا الفساد بالثناء على الخطيب السابق والإشارة بمزاياه؛ مما يساعد على إزالة سيِّئ الأثر دون أن يحس الحضور بهذه المناورة الولائية؛ لأن للجمع عقلية تختلف عن عقلية الفرد، وحكم الجماعة في مثل هذه الحفلات مقيد بحوادث الساعة، والجمهور مستعد أبدًا للحلم والمعذرة والرضى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤