الخطيب والجمهور

١

إن بين الخطيب والجمهور صلة نسب وقرابة، ولكنها ليست متينة الأسباب في كل حين، وهذا ما يجعل موقف الخطيب حرجًا، فإن الجمهور مؤلف من طبقات مختلفة، وفيه العالِم والأمي، والقنوع اللين العريكة، والعنيد الصلب الشكيمة، فإذا كان الخطيب ممن ألفوا المنابر، واعتادوا على تلك الوجوه الشاخصة إليهم والعيون المحدقة بهم، فقد وجد السبيل ممهدًا أمامه وكان فوزه أكيدًا، وإذا كان على خلاف ذلك أو هو يخطب للمرة الأولى، فقد عز مطلبه ووعرت طريقه، وكان من الواجب قبل كل أمر أن يستميل الحضور إليه، وأن يهيِّئ نفسه لقبول ما قد يصدر عنهم من ضجة أو ضحك أو مقاطعة أو غير ذلك، ولا سيما إذا كان في الحفل كثير من العامة كما يحدث في الاجتماعات السياسية أيام الانتخابات، وهذا أمر قليل الوقوع عندنا لعدم توافر الأسباب الداعية إليه.

وربما ساء الخطيب قلة الإقبال عليه وعدم امتلاء النادي بالسامعين، فعليه أن يدافع هذا الأثر ويتغلب على غيظه ويلقي خطبته بكل ما أوتي من حماسة، حتى إذا خرج الناس معجبين بما قال كان لخطابه صدى جميل في المحافل والأندية لا يلبث معه أن يتغير اعتقاد الناس فيه فيأسف مَن قصر عن الحضور، ويعاهد النفس ألا يدع فرصة تفوته فيما بعد لسماع هذا الخطيب.

ومثل ذلك إذا كان السواد الأعظم من عامة الناس الذين لم تسمح لهم أعمال الحياة ومطالب الجهاد أن يتوسعوا في الثقافة فلا يكونن هذا مثبطًا له؛ لأنه لا يشق عليه أن يستميلهم ويملك عليهم نفوسهم ولو لم يعوا كل ما يقول؛ فإن السامع الأمي كالفقير الذي يعرف أنه لا يستطيع أن يلبس الخز والديباج، ويروقه مع ذلك مرأى هذا الزهو وربما حصل عليه بالتصور، فهو أي السامع يدرك أن في كلام الخطيب ما يسمو عن مداركه أحيانًا، ولكن يسرُّه أن يسمع ويرى، وقد ترضيه من الخطيب بعض الظواهر أو الحركات فتلقي ستارًا على جهله، ويمحو من ذهنه أثر العجز الذي هو فيه، فيخرج مسرورًا مسحورًا لأن حكم الجماعات يكون عادة حسب الأهواء والشهوات والتأثيرات النفسانية.

وقد يقف خطيبان أو أكثر في نادٍ فيأتي الواحد بأبلغ ما يمكن، ويلم بموضوعه من كل أطرافه، ولا يترك شاردة إلا قيدها، ويقول الآخر كلامًا سطحيًّا لا يدل على تعمق في الدرس ولا اجتهاد في البحث، ولكنه يأتي ببعض النكات المستظرفة فينال من الاستحسان والتصفيق أضعاف ما نال الأول، إلا أن هذا الفوز عارض لا يلبث أن يزول عندما تنقشع غيمة التأثير الخطابي، وينشر قول هذا وذاك، ويطَّلع القراء على فحواهما، ويسهل لكل في خلوته أن يبدي حكمًا صحيحًا بعيدًا عن التأثيرات الخارجية.

ولا يجوز للخطيب أن يحتقر العامة؛ لأن غايته في الغالب هي التهذيب والإرشاد والإصلاح، ولا يصل إليها بالازدراء بسامعيه بل هو بهذا الاحتقار يخولهم الحق أن يحتقروه. وأول ما يجب عليه في هذه الأحوال أن يتعرف إلى أهوائهم ويجاريهم في مشاربهم أحيانًا، فقد لا تكون بعيدة عن الصواب وأن يصغي إلى كلامهم، فالحكمة قد تأتي من فم الجاهل، وأن يتبع المثل الأعلى الذي يريد أن يرسمه للناس، فلا يأنف مِن عرضه عليهم ولا ييأس من تقريبهم منه.

٢

من العقبات التي تعترض الخطيب وهو على المنبر أن لا يفهمه كل إنسان، فتقوم المعارضة من كل ناحية لأن هذا الجمهور المختلف الطبقات والأمزجة والتربية والغاية يسري فيه ألف مذهب وألف عقيدة وألف وهم، وعلى الخطيب أن يؤلف بين هذه القوى المتباينة ليقودها في طريقه، ولا يتم له ذلك إلا بالصبر والحلم وطول الأناة والتسامح. وهو يسعى إلى إرضاء الجمهور ولكن لا من طريق الإكراه الذي يفضي إلى الفشل، فإذا دافع عن رأيه فلا يكون دفاعه بمحاولة هدم مذهب سواه، فإن لكل رأي مظهرًا من مظاهر الحقيقة، ولم نسمع أبدًا أن كل الناس خرجوا من حفلة خطابية راضين مقتنعين، وقد كان والدك روسو يقول عن نفسه: «أنا أطلب من كلامي نجاحًا لا انتصارًا.» وهذا ما يجب على كل خطيب أو مناظر أن يضعه نصب عينيه، وخطاب أنطونيوس في مقتل قيصر أبلغ مثال يُقدم على ذلك.

وقد تكون المعارضة عن إخلاص أو سوء فهم أو حب بالظهور، فإذا أدرك الخطيب ذلك عرف أن يعطي لكل مقام مقالًا ولكل جواب حالًا.

٣

أما المقاطعة فلا يجب أن تخرجه عن جادة الموضوع؛ لأنه لا يخطب لواحد بل لجماعة ولْيمض في كلامه حتى النهاية، إلا إذا كان حاد الذهن حاضر البديهة فيرد على من قاطعه بكلمة ثم يعود إلى موضوعه، وإذا لم يوفق إلى سرعة الرد فليمر بالاعتراض مرَّ الكرام ذلك خير من أن يقول قولًا لا معنى له أو فيه شتيمة وسباب.

لما اعتصب عمال السكة الحديدية في فرنسا، وعددهم يربو على ١٥٠ ألفًا، لجأ الوزير بريان إلى إصدار أمر بالتعبئة العامة فكانت الواسطة الوحيدة للتغلب على الثورة والضرب على أيدي المعتصبين بدون أن تسفك قطرة دم، وكان ذلك في أثناء عطلة البرلمان، فلما حان انعقاد الجلسة الأولى للدورة الجديدة كانت الأفكار في غليان والخواطر في هيجان، والنواب تتحفز للوثوب معترضة على هذا العمل الاستبدادي في الظاهر، وجاء بريان لتقديم الحساب فَعَلَت الأصوات من كل جانب: «لِيسقط الدكتاتور ليسقط الكابورال، فوقف في مكانه جامدًا إلى أن أتيح له فرصة ليرفع صوته فصاح بهم: «دكتاتور؟ مسكين أنا. ما لكم أيها السادة إلا أن تقولوا كلمة أو تُبدوا إشارة فأترك هذا المنبر بلا أسف وأعود إلى مكاني في صفوفكم خادمًا بسيطًا لهذا الوطن.» كلمات وجيزة ولكنها قوية بمعناها ومطابقتها الحال، فجاءت كالماء على الجمر فهمدت حدة الثائرين، وخمدت ثورة الصائحين وأمكن بريان أن ينطلق في حديثه مبررًا عمله، فإذا بالغضب يتحول رضًى والجلبة تنقلب سكوتًا، والنفور يعود اطمئنانًا، وبعد أن كان هدفًا لسهام الناقدين نزل عن المنبر بين الهتاف والتصفيق ومصافحة المهنئين.

ولكن ليس كل الخطباء مثل بريان، ولم يؤت سرعة البداهة كل إنسان، وكم من أصحاب العقول الراجحة من يفتقر إليها؛ فقد كان جاك روسو يقول عن نفسه: «لم أستطع عمري أن أوتي جوابًا موفقًا إلا ربع ساعة بعد الوقت الملائم.»

والمقاطعة في حادثة بريان وقعت قبل أن يتكلم، ولا أدري هل تكون أشد وقعًا لو جاءت في عرض الخطاب فكانت كالصخر الذي يلقى في مصب السيل فتنحرف به حينًا عن قصد السبيل. على كل حال ليس على الخطيب من جُناح إذا لم يحضره الرد فورًا، ولا يلام إلا إذا حاول الجواب؛ فقال ما لا معنى له ولا فائدة منه، مثلًا قد يسمع الخطيب مقاطعًا يقول: هذا كذب. فيجيبه: أنت الكاذب لا أنا. مثل هذا الجواب أفضل السكوت عليه ألف مرة.

ومن أجمل ما يذكر من المقاطعة عن خطباء العرب ما حكاه صاحب العقد الفريد عن زياد عن مالك بن أنس قال: «خطب أبو جعفر المنصور فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس اتقوا الله. فقام إليه رجل من عرض الناس فقال: أذكرك الذي ذكرتنا به. فأجابه أبو جعفر بلا فكر ولا روية: سمعًا سمعًا لمن ذكَّر بالله، وأعوذ بالله أن أذكرك به وأنساه فتأخذني العزة بالإثم، لقد ضللت إذن وما أنا من المهتدين، وأما أنت فوالله ما الله أردت بهذا، ولكن ليقال قام فقال فعوقب فصبر وأهون بها لو كانت، وأنا أنذركم أيها الناس أختها! فإن الموعظة علينا نزلت وفينا انبثت.» ثم رجع إلى مكانه في الخطابة.

إن السكوت والتوقف عن الكلام حينًا خير من الجواب على المقاطعة؛ إذا لم تأت بمثل هذه البلاغة، ولا سيما إذا كان المقصود منها الإضرار بالخطيب والتشفي. وهذا السكوت الدال على عدم الاكتراث بالمقاطع يعد مقدرة وترفعًا محمودًا.

وأما إذا كانت المقاطعة للاستفادة والتعمق في البحث، فقد يستطيع الخطيب مواصلة حديثه اكتسابًا للوقت مع التفكير في الرد في آن واحد إلى أن يحضره الجواب اللائق الموافق، وهذا من وراء الغاية.

ويستحسن بالخطيب حينما يخلو إلى نفسه أن يعيد في ذهنه ما جرى في الحفلة، وليتذكر موقف الجمهور والمقاطعين، وينظر فيما إذا كان قد أحسن التصرف إزاء هؤلاء وأولئك ففي هذا التفكير درس وعبرة.

والخلاصة على الخطيب لدى المقاطعة إما أن يرسل جوابه كالسهم إذا ساعده المزاج والخاطر، وإما أن لا يعبأ بها خير من أن يتمتم كلامًا لا هو جواب ولا تتمة خطاب.

٤

بقي أن نقول كلمة عن التصفيق فلا يجب أن يغتر به الخطيب؛ لأنه لا يدل دائمًا على الاستحسان، بل كثيرًا ما يأتي تأدبًا أو عادة أو دفعًا للملل، وقد يكون لأن الكلام مما يضحك، أو إشفاقًا على الخطيب من التعب فكأنه فرصة للراحة، وقد يكون أيضًا لأجل إسكات الخطيب بعد أن أتعبهم بالكلام الذي لا طائل تحته.

وكما يصفق النظارة أحيانًا للممثل إكرامًا للمؤلف لا له، كذلك يُصَفق للخطيب، لا لأجل الخطاب بل لنكتة جاءت موافقة لروح السامع، أو لاسم عظيم ذكره أو غير ذلك، بل لو لم يكن في التصفيق غير الاستحسان لما كفى ذلك للدلالة على جمال الخطبة، ولو أُعطي الخطيب أن يتغلغل في القوم ويصغي إلى همسهم لعاد دهشًا من كثرة ما يسمع من الطعن أو الانتقاد، حتى من أقرب أصدقائه وأخلص المعجبين به.

وعندي أن مقدرة الخطيب ليست في إثارة التصفيق بقدر ما هي في استجلاب السكوت، السكوت التام الدال على الإصغاء والخشوع وأن عيون الجمهور شاخصة إلى شفتيه، وعقولهم متصلة بفكره، وقلوبهم خافقة على صوته، وأنفاسهم محبوسة على كلماته؛ ذلك لأن الخطيب يستولي على النفوس أكثر مما يستولي عليها المغني المطرب، ولأنه ساعة القول يخلق ما في نفسه ويقويه أو يضعفه حسبما يشاء فيسرع ويتمهل ويعلو ويهبط على وزن دقات القلوب. تلك هي مقدرة الخطيب التي تتجلى فيه ساعة من الوحي مباركة.

وبعد الختام فليصفق الناس ما شاءوا للتعبير عن إعجابهم واستسلامهم، أما الخطيب فقد سبقهم إلى إدراك هذا الإعجاب منهم وشعر به قبلهم.

أما المكاء أي الصفير فهو علامة الاستهجان عادة، ولكن الكثير من العامة في الشرق يجهلون معناه فيستعملونه في مكان تصدية الأيدي، فيختلط الحابل بالنابل ولا تعرف المراد منه تمامًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤