مذبحة الإسكندرية

(١) موقف الدول

ظلَّت إنجلترا مشتركة مع فرنسا في موقفهما حيال مصر حتى حضور الأسطولين، وقد ظهر اشتراكهما في العمل فيما وقع من الأحداث السابقة، كوضع الرقابة الثنائية، ثم المظاهرة البحرية الأولى التي وقعت في أكتوبر سنة ١٨٨١، ثم تقديم مذكرة ٧ يناير سنة ١٨٨٢ التي أدت إلى سقوط وزارة شريف، وتقديم المذكرة الأخيرة التي أدَّت إلى استقالة وزارة البارودي … على أن إنجلترا قد اعتزمت بعد أن قطعت هذه المرحلة التمهيدية أن تنفرد بالعمل تحقيقًا لأغراضهما الاستعمارية … ولم يخفِ اللورد جرانفيل هذه النية عن الحكومة الفرنسية، فقد أبلغ المسيو دي فريسينيه رئيس وزراء فرنسا بما يأتي: «إننا كنا سعداء بالأمس إذ شاطرنا حكومتكم رأيها، حين كنا نأمل الوصول إلى نتيجة مُرضية، ولكن مع الأسف ليست هذه هي الحالة الآن.»

وصرَّح السير إدوار مالت قنصل إنجلترا العام في مصر يوم ٢٧ مايو سنة ١٨٨٢: «أنه لا يعتبر نفسه مقيدًا بالوسائل المنطوية على التساهل الواردة في مذكرة ٢٥ مايو.»

وبدأت نية الانفراد بالعمل من الجانب الإنجليزي بمظهر فعلي، فيما بعث به أميرال الأسطول البريطاني إلى حكومته يوم ٢٩ مايو سنة ١٨٨٢ ينبئها بأن المصريين ينشئون بطارية تجاه إحدى بوارج الأسطول، ويطلب إرسال بوارج أخرى، فلبَّت الحكومة طلبه، ودل هذا العمل على نية إنجلترا في احتلال مصر.

ورأى مسيو دي فريسينيه أنه يستطيع إنقاذ الموقف، بدعوة الدول إلى عقد مؤتمر للنظر في المسألة المصرية، فعرض في ٣٠ مايو سنة ١٨٨٢ على الدول الأوروبية الكبرى عقد هذا المؤتمر … فلم تتردَّد إنجلترا في قبول هذه الفكرة، وبادر اللورد جرانفيل وزير خارجيتها بإعلان قبولها، إذ كان يعتقد أن السياسة لا يصعب عليها أن تبتدع الحوادث التي تسوِّغ تدخُّلها المنفرد في مصر.

(٢) الوفد العثماني الثاني

في أثناء أزمة استقالة وزارة البارودي، أرسل الخديو توفيق برقية إلى السلطان ينبئه فيها عن هياج الضباط، فجاءه الرد من «الباب العالي» بأن السلطان باعث إليها بلجنة للنظر في المشكلة … ففي اليوم الثاني من شهر يونيو سنة ١٨٨٢ عُيِّن مصطفى درويش باشا معتمدًا عثمانيًّا ساميًا للحضور إلى مصر، وعُهد إليه برياسة وفد أرسله السلطان إلى مصر لمعالجة الحالة فيها، وكان هذا جوابها على رسالة الخديو، وعلى فكرة عقد مؤتمر دولي للنظر في المسألة المصرية، فقد كان ظنها أن حضور «مندوب شاهاني» يُغني عن عقد مثل هذا المؤتمر ويكفي لإعادة السلام والوئام في مصر، وكذلك كانت سياستها قائمة على الجهل وقِصر النظر، فبينما كانت إنجلترا تعمل على التدخل الحربي، وترسل أسطولها تمهيدًا وتأييدًا لهذا التدخل، فإن الحكومة التركية توهَّمت أن مجرد إيفادها مندوبًا ساميًا كدرويش باشا يعيد الأمور إلى نِصابها في مصر، ويحُول دون تدخُّل إنجلترا، وتوهمت أن عدم اشتراكها في المؤتمر يمنع الدول من أن تتدخل أو تُبرم أمرًا في المسألة المصرية.

كان هذا هو الوفد العثماني الثاني الذي جاء مصر في أثناء الحوادث العرابيَّة، والوفد الأول هو الذي حضر في شهر أكتوبر سنة ١٨٨١ برياسة علي نظامي باشا كما تقدَّم بيانه.

ويهمنا أن نقرِّر أن كلا الوفدين لم يحضر بنية خالصة نحو مصر، بل حضر للمظاهرة وللإعلان عن سلطة تركيا في القطر المصري، دون أن يعمل كلاهما أي عمل نافع في فض الخلاف بين الخديو والجيش أو في إنقاذ مصر من مطامع إنجلترا.

جاء الوفد العثماني الثاني برياسة درويش باشا في الوقت الذي اكتمل فيه عدد البوارج الإنجليزية والفرنسية في مياه الإسكندرية … وقد كانت رؤية هذه البوارج كافية لإفهامه أن الموقف جد عصيب، وأن حضوره بصفته مندوبًا عن السلطان لا يمكن أن يؤثر في الموقف شيئًا بإزاء تلك المدافع الضخمة الفاغرة أفواهها، وتلك المعدات الحربية التي تُنذر بالشر والدمار، وأن هذا الموقف لا يحله حضور مندوب عثماني عدته المظاهر الفارغة التي يحاط بها، ولا يهمه قبل كل شيء إلَّا الرِّشا والأموال التي يتطلَّع إليها.

•••

كل ما فعلته تركيا إذن تجاه حضور الأسطولين الإنجليزي والفرنسي أن أوفدت درويش باشا المذكور، ثم أرسلت قبل وصوله إلى مصر تلغرافًا في ٥ يونيو بأن وزارة الخارجية البريطانية أبلغت السفارة التركية في لندن، بأن الجنود المصرية تُجري التجهيزات والترميمات في حصون الإسكندرية على نية تهديد الأسطولين الإنجليزي والفرنسي، وأن الباب العالي يطلب منعها إذا كانت جارية، ثم أردف ذلك بتلغراف آخر في اليوم التالي يستعجل الرد.

وكان هذا البلاغ من وزارة الخارجية البريطانية بداية التحرش بالسلطات المصرية، إذ بُني ما زعمه الأميرال سيمور من أن السلطات المصرية تحصِّن القلاع المواجهة للأسطول، فكان ذلك السبب المنتحل باعثًا لتركيا على طلب الكف عن هذه التجهيزات، ورأى عرابي إزاء هذا الإلحاح أن يأمر بالكف عنها، وأرسل إلى الخديو كتابًا بذلك في ٥ يونيو سنة ١٨٨٢ خلاصته أن هذه التجهيزات إنما هي ترميمات اعتيادية لا يمكن الاستغناء عنها في أي وقت، وأنها لم تكن لقصد سيِّئ بل هي ضرورية لبقاء الاستحكامات الواجب حفظها، وتعهُّدها بدوام الترميم والإصلاح.

ونوَّه في النهاية إلى أن استمرار وجود تلك الترميمات هو السبب الوحيد لتسكين روع الأمة المصرية، وإزالة القلق والاضطراب المستولي على القلوب من وجود الأسطول الإنجليزي في المياه المصرية، وإجرائه حركات ومناورات حربية داخل الميناء وخارجه وأخذه مقاسات أعماق المياه، واقتراب السفن الإنجليزية من الشواطئ أمام الاستحكامات، وأن هذه الإجراءات هي التي تُعتبر تهديدات حقيقية، وهي التي هيَّجت أفكار الأمة المصرية وأحدثت الاضطراب، ومع ذلك فإنه حرَّر بوقف الترميمات المذكورة «رجاء عودة الدونانمة الإنجليزية»، وقد وقفت فعلًا أعمال الترميم من ذلك الحين.

وإنك لترى في موقف تركيا حيال مصر إحراجًا ظاهرًا لها، فإن كل الدلائل تدل على نية التحرش من جانب الإنجليز، ومع ذلك فإن الحكومة التركية لم تتحرك إلَّا لتطلب من السلطات المصرية الكف عن إجراء الترميمات بالحصون، وكان هذا الطلب تأييدًا ظاهرًا للسياسة الإنجليزية، ولم يكن إيفاد درويش باشا في هذا الموقف العصيب إلَّا عملًا عقيمًا لم تفد مصر منه شيئًا.

وصل درويش باشا إلى الإسكندرية يوم ٧ يونيو سنة ١٨٨٢ على ظهر اليخت السلطاني «عز الدين» يصحبه ابنه، ومعه الشيخ أحمد أسعد أحد المقربين إلى السلطان عبد الحميد، ووكيل الفراشة بالمدينة المنورة وبعض الضباط والمأمورين … وبلغ عدد الوفد وحاشيته ٥٨ شخصًا. وقد كان كلا الفريقين يعمل على اجتذابه إلى ناحيته، وبدأ هذا التزاحم منذ وصل الوفد إلى الإسكندرية، فقد أوفد الخديو علي ذو الفقار باشا السر تشريفاتي يصحبه حسن حلمي باشا من أعضاء مجلس الأحكام، وطه لطفي باشا من الياوران لاستقباله على ظهر اليخت.

وأرسل عرابي من ناحيته يعقوب سامي باشا وكيل وزارة الحربية، ووقع الخلاف بين الرسولين في أثناء المقابلة، ولكن درويش باشا استقبل كليهما بالبشاشة، ونزل وصحبه بسراي رأس التين، وفي اليوم التالي ركبوا قطارًا خاصًّا أقلهم إلى العاصمة، وقد عرجوا في الطريق على مدينة طنطا حيث زاروا مقام السيد أحمد البدوي، يتبركون بزيارته … ثم استأنفوا السفر إلى أن بلغوا العاصمة، ونزلوا بسراي الجزيرة التي أُعدت لإقامتهم حتى تنتهي مهمتهم، وبعد أن أخذوا راحتهم ذهبوا إلى سراي الإسماعيلية، فقابلهم الخديو بالترحاب ورد الزيارة للمندوب العثماني بسراي الجزيرة، على أن الخديو لم يكتم عن درويش باشا استياءه من حُسن مقابلته لمندوب عرابي، ومن لهجة الخطاب حين قابله بسراي الإسماعيلية … فتظاهر درويش باشا بأنه جاء لتثبيت سلطة الخديو.

وكانت خطة الوفد أن يتظاهر لكلا الفريقين المتخاصمين (الخديو والعرابيين) أنه معه … فمن مظاهر تأييده للعرابيين أنه طلب نحو مائتي نيشان لضباط الجيش مكافأة لهم على ولائهم وإخلاصهم «للذات الشاهانية»، وطلب لعرابي باشا النيشان المجيدي من الطبقة الأولى، فكان هذا علامة على رضاء الآستانة عنه وعن مسلكه، على أن درويش باشا قد انتهى إلى الانضمام علانيةً للخديو …!

وظهر تحوُّل درويش باشا إلى جانب الخديو من نصحه لعرابي بالذهاب إلى الآستانة ليقابل السلطان، وأكد له أنه سيلقى منه كل رعاية وإكرام، وقد فطن عرابي إلى عواقب هذه النصيحة، وأنه قد لا يعود من الآستانة إذا هو ذهب إليها، فاعتذر للمشير العثماني بأن الأمة لا تسمح له بمغادرة البلاد، والنصيحة وإن كانت في ذاتها ليست صادرة عن نية حسنة، ولكننا نعتقد أن رحيل عرابي في تلك الآونة كان خيرًا من بقائه في مصر، ومهما تكن عواقب رحيله عنها، فإنها تهون إلى جانب ما حلَّ بمصر وبعرابي ذاته من الكوارث بعد ذلك.

ولكي نقدِّر مبلغ ما كان لحضور درويش باشا من الأثر، ومبلغ عجزه عن معالجة الموقف، يكفي أن نذكر أنه لم يكد يمضي على حضوره بضعة أيام حتى وقعت مذبحة الإسكندرية المشئومة، وذلك في ١١ يونيو سنة ١٨٨٢، فكانت إعلانًا رهيبًا بإخفاق مهمة المندوب العثماني، وقد حضر ضرب الإسكندرية يوم ١١ يوليو، ثم انقلب إلى الآستانة في ١٩ يوليو سنة ١٨٨٢ دون أن يعمل أي عمل لمنع وقوع هذه الكوارث.

(٢-١) بعد استقالة البارودي

كانت الحالة في أشد الاضطراب بعد استقالة وزارة البارودي، فالوطنيون من جهة توقَّعوا شرًّا مستطيرًا من مجيء الأسطولين الإنجليزي والفرنسي، وأخذوا يترقبون الحرب والقتال من ساعة إلى أخرى، والأجانب من جهة أخرى علموا أن البلاد قادمة على حرب … فكانوا يخشون على حياتهم أن تُستهدف للخطر إذا قامت الحرب المنتظرة، فمصدر الاضطراب هو في مجيء الأسطولين لا في استقالة وزارة البارودي ذاتها؛ لأن هذه الاستقالة ما كانت لتُحدث في البلاد حدثًا لو وقعت في ظروف عادية.

فلو أنها استقالت دون أن يكون الأسطولان مرابطين في الإسكندرية لأمكن حل الأزمة الوزارية بغير عناء كبير، إما بإعادة وزارة البارودي ذاتها، أو بتأليف وزارة أخرى تضطلع بأعباء الحكم وتعمل على تهدئة الخواطر، ولكن وجود الأسطولين قد أوجد حالة غير طبيعية، إذ كان مجيئهما مظهرًا للتهديد والوعيد … فبقيت مناصب الوزارة شاغرة منذ ٢٧ مايو سنة ١٨٨٢، وتولى الخديو سلطة الحكم مؤقتًا، ثم اضطر أن يعيد عرابي باشا إلى وزارة الحربية؛ خوفًا من انتفاض الجيش على الحكومة، وبقيت الوزارات الأخرى شاغرة.

وأخذ الأجانب يهاجرون من القاهرة والأقاليم إلى الإسكندرية، ليكونوا تحت رعاية الأسطولين وعلى مقربة منهما، فغصَّت مدينة الإسكندرية بالأجانب من سكانها، ومن القادمين إليها من الأقاليم، وكان احتشادهم فيها من الأسباب الباعثة على تفاقم الهياج؛ لأن أحاديثهم كانت تدور حول اقتراب وقوع القتال، وما يستهدفون له من غضب الأهلين إذا نشبت الحرب بل قبل نشوبها؛ لأن مجرد وجود الأسطولين في مياه الإسكندرية، وتقديم بلاغ الدولتين إلى الحكومة المصرية وإصرارهما على إجابة مطالبهما … كل ذلك كان رمزًا لاعتداء الدولتين الأوروبيتين على البلاد وإهاجة الخواطر.

(٣) مذبحة الإسكندرية

في هذا الجو من اضطراب الخواطر وقعت الحادثة المعروفة بمذبحة الإسكندرية … ففي يوم الأحد ١١ يونيو سنة ١٨٨٢، في نحو الساعة الثانية بعد الظهر، وقع شجار بين أحد المالطيين من رعايا الإنجليز وأحد الأهلين يُدعى «السيد العجان» … كان المالطي هو البادئ فيه بالعدوان، فقد كان الوطني صاحب حمار ركبه المالطي، وأخذ يطوف به من صبيحة النهار متنقلًا من قهوة إلى أخرى، وانتهى طوافه إلى حانة «خمارة» قريبة من قهوة القزاز بالقرب من مخفر اللبان بآخر شارع «السبع بنات» … فطالبه الوطني بأجرة ركوبه، فلم يدفع له سوى قرش صاغ واحد، فجادله في قلة الأجر، فما كان من المالطي إلَّا أن أشهر سكينًا طعنه بها عدَّة طعنات دامية مات على إثرها.

وقع هذا الحادث في الزقاق الكائن خلف «قهوة القزاز»، فهرع رفاق القتيل إلى ذلك المكان، يريدون أن يمسكوا بالقاتل، ولكنه فرَّ إلى أحد المنازل المجاورة، وأخذ المالطيون واليونانيون الساكنون بالقرب من مكان الحادث يطلقون النار على الأهلين من الأبواب والنوافذ، فسقط كثير منهم بين قتيل وجريح … فثارت نفوس الجماهير تطلب الانتقام لمواطنيهم، وتحركت طبقة الدهماء للاعتداء على الأوروبيين عامة، فأخذوا يهجمون على كل من يلقونه منهم في الطرقات أو في الدكاكين ويوسعونهم ضربًا … وكان سلاحهم في هذه المعركة العصي والهراوات ليس غير.

وانبث الدهماء في المدينة يستنفرون الناس للقتال، ويقتلون من يلقونه من الإفرنج ضربًا بالعصي والهراوات، ونهبوا دكاكين شارع السبع بنات، وامتد الهياج من هذا الشارع إلى الشارع الإبراهيمي وإلى شارع الهماميل، وشارع المحمودية وجهة الجمرك والمنشية وشارع الضبطية «رأس التين» وغيرها من الشوارع التي يقطنها الأوروبيون أو يمرون منها، وقد قُتل كثير منهم أمام الضبطية، إذ كانوا قادمين من الترسانة عائدين من زيارتهم للبوارج الإنجليزية والفرنسية، وكان الأوروبيون من ناحيتهم يطلقون الرصاص من النوافذ على الأهلين، فقُتل من الجانبين خلق كثير.

•••

وإذ كان البادئ بالعدوان أحد الرعايا «المالطيين» وقد شاهده بعض الحاضرين يلوذ بالفرار إلى منزل يسكنه مواطنوه، فقد أرسل قسم اللبان إلى المستر كوكسن قنصل إنجلترا لإيفاد أحد موظفي القنصلية لكي يُخرج المعتدي من ذلك المنزل، فحضر المستر كوكسن بنفسه أثناء اشتداد الهياج، فأصيب بضربة حجر وعصا جُرح بسببها جرحًا بليغًا، وجُرح أيضًا في ذلك اليوم قنصل اليونان وقنصل إيطاليا، فكانت إصابة القناصل من مظاهر خطورة الحالة.

وكان عمر باشا لطفي محافظ المدينة حين بدأت الحادثة، يتولى رياسة قومسيون تحقيق الجمرك بدار المحافظة، فأبلغه أحد موظفي الضبطية نبأ الشجار الذي وقع بين الوطني والمالطي، وكان ذلك في نحو الساعة الثالثة بعد الظهر، فأوفد حسين بك فهمي وكيل المحافظة إلى مكان الواقعة لفض الخلاف، ثم جاء بعد ربع ساعة نبأ باستفحال الفتنة وتجسمها، وأن السيد بك قنديل مأمور الضبطية مريض في منزله، فذهب بنفسه إلى جهة الواقعة بشارع السبع بنات.

وهناك أدرك خطورة الفتنة ورأى ازدحام الشارع بالمتجمهرين، فطلب من إسماعيل باشا كامل قومندان الجنود بالإسكندرية، إرسال المدد من الجند لوقف الهياج … فتباطأ الأميرالاي مصطفى بك عبد الرحيم قائد الآلاي الخامس، الذي كان مرابطًا برأس التين والقائمقام سليمان سامي داود قائد الآلاي السادس، الذي كان بباب شرقي في إرسالهما الجند، ولم يحضروا إلَّا في الساعة الخامسة مساءً قبل المغرب بساعة، وحين جاء الجند فرَّقوا المتجمهرين بغير صعوبة، وانتهت الفتنة في مغرب الشمس، فساد المدينة سكون رهيب، إذ لزم الناس بيوتهم، وخلت الطرقات من المارة، وانقضى الليل والناس في وجل وفزع.

وبلغ عدد القتلى في هذه الحادثة ٤٩ منهم ٣٨ من الأجانب والباقون من الأهلين.

(٣-١) اجتماع القناصل بالإسكندرية

اجتمع القناصل مساء يوم الحادثة، وكان من بينهم الكابتن مولينو من ضباط المدرعة الإنجليزية «إنفنسبل»، وقد عهد إليه الأميرال سيمور أن ينوب عن المستر كوكسن في إدارة القنصلية عقب إصابته في الحادثة، وحضر الاجتماع محافظ المدينة، وتداولوا فيما يجب اتخاذه لإعادة النظام وتهدئة الخواطر، فصرَّح كبار ضباط الجيش بالإسكندرية أنهم مكلَّفون بحفظ الأمن … على ألَّا يتدخل الأسطولان في الأمر، فطلب القناصل من قائدي الأسطولين أن لا يتخذا تدابير ظاهرة، ولكن بعض الزوارق الإنجليزية شوهدت في منتصف الليل، قادمة من إحدى بوارج الأسطول ترسو على شاطئ الميناء الشرقي.

وكان مجيئها تنفيذًا لتعليمات الأميرال سيمور، الذي أصدر أمره بأن تخرج البارجة «سوبرب» من الميناء الغربي وترسو خارج الميناء الشرقي، وأن ترسل بعض الزوارق إلى البر لنقل النساء والأطفال إلى البارجة، فاعترض الضباط على هذه الوسيلة إذ رأوا في حضور الزوارق الإنجليزية إلى البر ما يدعو إلى هياج الجمهور والجند، فوعد نائب القنصل البريطاني بإبعاد الزوارق عن البر، وانفض الاجتماع الأول على ذلك.

وقع النبأ في العاصمة

كان عرابي بالقاهرة حين وقعت الحادثة، وقد علم بها تلغرافيًّا قبل الساعة الخامسة مساءً، فأسف لها أسفًا عظيمًا … ولما ذاعت أخبارها في العاصمة مساء ١١ يونيو، قوبلت بالاستياء والاستنكار في الدوائر الوطنية، لِما توقَّعه العارفون من عواقبها الوخيمة، وكانت ضربة موجهة إلى العرابيين؛ لأن أقلَّ ما تدل عليه أن زمام الأمن قد أفلت من أيديهم، وأنها تُتخذ حجة ضدهم على أنهم غير قادرين على ضبط الأمن وصيانة الأرواح، وبخاصة بعد أن أعيد عرابي إلى وزارة الحربية وتعهَّد بكفالة الأمن والنظام.

وكانت هذه المذبحة نذيرًا للعرابيين بأن البلاد قادمة على خطر كبير، إذ لم يكن خافيًا أن السياسة الإنجليزية قد دبَّرت الوسائل لوقوعها تحقيقًا لأغراضها في مصر، ولكن العرابيين لم يقدِّروا العواقب حق قدرها، وقد اتخذ القناصل هذه الحادثة ذريعة لمخاطبة ولاة الأمور في العاصمة بلهجة شديدة طالبين حماية الأجانب وأموالهم في البلاد، وقرَّرت الحكومة مساء ١١ يونيو إيفاد لجنة إلى الإسكندرية للنظر في أمر تلك الحادثة، والكشف عن أسبابها والتحقيق مع المتهمين فيها.

وعقد الخديو اجتماعًا في سراي عابدين صبيحة يوم الإثنين ١٢ يونيو، حضره محمد شريف باشا، ودرويش باشا المندوب العثماني وقناصل فرنسا وإنجلترا والنمسا وألمانيا وإيطاليا والروسيا، الذين جاءوا يطلبون تأمين رعاياهم على أرواحهم وأموالهم … فجرت المباحثة في هذا الاجتماع فيما يجب اتخاذه حيال حوادث الإسكندرية، فاستقر الرأي على إعطاء وكلاء الدول السياسيين الضمانات الوثيقة التي تكفل إعادة الأمن إلى نِصابه، وصيانة أرواح الأجانب وأموالهم.

ومن أهم هذه الضمانات امتثال عرابي باشا لأوامر الخديو، فدُعي عرابي إلى حضور الاجتماع، وخوطب في الأمر فأجاب بالقبول، وزاد أن تعهَّد للمجتمعين بمنع ما من شأنه إثارة الخواطر، كالاجتماعات العامة وانعقاد الجمعيات وإلقاء الخطب ونشر المقالات المهيجة، وأبان أن في مقدوره بمساعدة جنوده تأييد الأمن وإقرار الراحة والطمأنينة، وتعهَّد الخديو بإصدار الأوامر الكفيلة بتهدئة الخواطر، وقال درويش باشا: إنه يأخذ على عاتقه تنفيذ الأوامر الخديوية بأن يشترك مع عرابي في إنفاذها، ويشاركه المسئولية في هذا الصدد، فاكتفى وكلاء الدول ظاهرًا بهذه العهود، وانفض الاجتماع.

وإنفاذًا لهذه العهود أصدر الخديو أمرًا إلى عرابي باشا، بالتنبيه على قواد الجيش وضباطه بالقاهرة والإسكندرية والأقاليم، بزيادة الدقة والسهر على الأمن العام.

وأصدر الخديو أمرًا بهذا المعنى إلى المحافظين والمديرين، ونشر عرابي في ذلك اليوم إعلانًا بدعوة الجمهور إلى الإخلاد إلى السكينة والطمأنينة، وأذاع أمرًا آخر وجَّهه إلى قواد الجيش وضباطه وغيرهم، يدعوهم إلى بذل أقصى جهودهم لإقرار الأمن والراحة والنظام، وزادت الحكومة قوات الجيش في الإسكندرية لتكون كافية لقمع كل فتنة تحصل بين الأجانب والأهلين، فأنفذت إليها الآلاي الثاني والآلاي الرابع، وعهدت بقيادتهما إلى طلبة باشا عصمت الذي صار منذ ذلك الحين قومندانًا عامًّا لقوات الجيش في الثغر.

(٤) نزوح الأجانب عن البلاد

وكانت الأنباء التي يتناقلها الأجانب مجمَّعة على أن الحرب لا محالة ناشبة في مصر … وكانوا يتوقَّعون من آنٍ لآخر أن تطلق البوارج الإنجليزية والفرنسية قنابلها على المدينة، وأن قوات الدولتين لا تلبث أن تهاجم البلاد، وفي هذه الحالة لا يأمنون على أنفسهم إذا نشبت الحرب أن يُستهدفوا لانتقام الأهلين … ومن هنا جاءت فكرة نزوح الأجانب عن البلاد، فأخذ القاطنون منهم بالإسكندرية يهاجرون منها بحرًا، والأجانب في القاهرة والأقاليم يفدون إلى الإسكندرية للإقلاع منها إلى الخارج، وبدأ رحيل الأوروبيين عن البلاد في اليوم التالي لمذبحة الإسكندرية، وكثرت جموعهم النازحة في الأيام التالية. ونزل المهاجرون منهم إلى السفن التي كانت راسية في الميناء ينتظرون أن تُقلع بهم.

وبلغ عدد الراحلين منهم يوم ١٢ يونيو سنة ١٨٨٢ أكثر من عشرة آلاف مهاجر، نزلوا إلى البحر متفرقين في البواخر والسفن الشراعية، ولم تعارض إدارة جوازات السفر ولا الجمارك أحدًا منهم في النزول إلى البحر، فكثرت جموع المهاجرين يحملون أموالهم وأمتعتهم، وامتلأ الميناء بالسفن المقلة لهم، وظلَّت الهجرة مستمرة في الأيام التالية حتى بلغ عدد الراحلين لغاية يوم ١٨ يونيو ٣٢٠٠٠ مهاجر، وبلغ عددهم ستين ألفًا قُبيل ضرب الإسكندرية، فكان هذا السيل المتدفق نذيرًا بما يتمخَّض عنه الجو من الأحداث الجسيمة.

ومما ساعد على تعاظم سيل الهجرة، أن قناصل الدول رغبوا إلى رعاياهم الرحيل عن البلاد، وأفضوا إليهم بأنهم يتوقعون حوادث أشد هولًا من مذبحة ١١ يونيو، وأن الحرب وشيكة الوقوع، فسارعوا إلى الهجرة، وأعدت كل دولة سفنًا لنقل رعاياها، فهرع الفقراء والمعوزون إلى النزول إليها، وأخذ الموسرون منهم أماكنهم في البواخر المعتادة، وتسلَّل الأوروبيون من كل ناحية في القُطر المصري قاصدين الميناء، حتى خُيِّل لمن يرى جموعهم الراحلة أنه لم يبقَ منهم في البلاد إلَّا نفر قليل.

وزاد الناس شعورًا بخطر الموقف، انتقال الخديو فجأةً من العاصمة إلى الإسكندرية، فقد اعتزم السفر إليها عقب حادثة ١١ يونيو سنة ١٨٨٢، وحجته تهدئة الخواطر فيها، وسافر إليها يوم الثلاثاء ١٣ يونيو، وودَّعه على المحطة عرابي باشا وزير الحربية، وقبل أن يتحرك القطار عهد إلى عرابي مراقبة أحوال القاهرة، والسهر على الأمن العام فيها واتخاذ الاحتياطات الكفيلة بمنع وقوع أي حادث، وصحبه في سفره درويش باشا المندوب العثماني.

(٤-١) من المسئول عن المذبحة؟

لا شك أن حضور الأسطولين الإنجليزي والفرنسي هو السبب الأول لحوادث ١١ يونيو سنة ١٨٨٢، فقد هاج حضورهما الخواطر وأوغر صدور المصريين على الأوروبيين عامة، لِما في مجيئهما من معنى التحدي والعدوان، كما أنه أغرى الأوروبيين بالوطنيين؛ لشعورهم بأن الأسطولين إنما جاءا لحمايتهم ولإذلال المصريين.

كتب الشيخ محمد عبده (الأستاذ الإمام) في هذا الصدد يقول:

إن الحكومة الإنجليزية على عادتها في اختلاق العلل وارتجال المساءات، قلبت وجوه المسائل، واستدبرت طالع الحق، واستقبلت وجه مطمعها، واتخذت مجرد التغيير في بعض نظامات الحكومة الخديوية سببًا للمناوأة، واندفعت لتسيير مراكبها إلى مياه الإسكندرية تهديدًا لحكومة الخديو وعدوانًا عليه، ثم نفخ بعض رجالها في أنوف ضعفة العقول من الأجانب المقيمين بالثغر، حتى أوقدوا فتنة هلك فيها المساكين قضاءً لشهوة إنجليزية، وأقامت منها حكومة إنجلترا حجة في العدوان على الأراضي الخديوية، ولو أن بصيرًا نظر إلى أحوال القُطر المصري بعين صحيحة من مرض الغرض، لعلم أن بداءة الخلل في ذلك القطر من يوم ورود المراكب الإنجليزية لثغر الإسكندرية، ولا نسبة بين ما كان من قبل ذلك؛ من عموم الأمن ورواج الأعمال وانتظام المصالح وبين ما كان بعده.

فالمسئولية العامة تقع على كاهل السياسة البريطانية والفرنسية. أما المسئولية الخاصة في وقوع المذبحة بالذات، فتستطيع أن تتبيَّنها من أن أول من أشعل الفتنة مالطي من رعايا بريطانيا، وأخ لخادم القنصل البريطاني، ولا يمكن أن يكون هذا من قبيل المصادفات، والسياسة البريطانية هي التي استغلت الحادثة، وهولت فيها وجسَّمتها لتتذرع بها إلى التدخل المسلح في شئون البلاد، وقد وصفها المسيو فريسينيه رئيس وزارة فرنسا في ذلك الحين وصفًا لا مبالغة فيه ولا تهويل، إذ قال بأنها من الحوادث العارضة التي تقع أحيانًا في الثغور التي يسكنها عدة أجناس، وشبَّهها بالفتنة التي حصلت قبل عام في مرسيليا بين العُمَّال الإيطاليين والفرنسيين.

(٥) وزارة إسماعيل راغب باشا

بقيت البلاد بلا وزارة منذ استقالة البارودي؛ أي من ٢٧ مايو … فلما وقعت حوادث ١١ يونيو، اتجهت الأنظار إلى وجوب تأليف وزارة تضطلع بأعباء الحكم، وتضع حدًّا للفوضى التي استُهدفت لها البلاد.

وكان الخديو قد بارح القاهرة ووصل إلى الإسكندرية عقب مذبحة ١١ يونيو كما أسلفنا، فسعى قنصلا ألمانيا والنمسا لديه باتفاقهما مع مندوب تركيا، للتقريب بين الخديو وعرابي وترغيبه في تأليف وزارة جديدة، يبقى فيها عرابي وزيرًا للحربية، فأخذ الخديو يستشير بعض رجال الدولة في أمر تأليف الوزارة الجديدة، فاستدعى شريف باشا ثم مصطفى فهمي باشا ثم عمر لطفي باشا وغيرهم، وكلَّف كلًّا منهم بتأليف الوزارة، فأبوا جميعًا لِما كان بينهم وبين عرابي من الجفاء، وتدخَّل قنصلا ألمانيا والنمسا ومندوب تركيا من جديد، واتصلوا بعرابي وتفاوضوا معه في هذا الشأن، واستقر رأيهم بعد استطلاع رأيه على النصح للخديو باختيار إسماعيل راغب باشا لتشكيل الوزارة، وعلى ذلك ألَّف راغب باشا الوزارة وفيها عرابي وزيرًا للحربية كما كان.

ولو حسنت نيات إنجلترا لأمكن لوزارة راغب باشا أن تعيد الأمور إلى نِصابها وتزيل الآثار السيئة التي نجمت عن حوادث ١١ يونيو، فإن هذه الحوادث قد وقع مثلها في بعض ثغور البلاد الأوروبية، دون أن يترتب عليه سلب استقلالها وانتهاك حقوقها. ولكن إنجلترا دبَّرت مذبحة الإسكندرية أبت إلَّا أن تستغلها دون نزاهة ولا هوادة حتى تصل إلى احتلال مصر، وكان من تدابيرها ألَّا تمكِّن وزارة راغب باشا من تهدئة الخواطر وإقرار الأمن في نِصابه …

وأغلب الظن أنها لم تكن تبغي تأليف الوزارة لكي تبدو البلاد في حالة غير عادية، وتتَّخذ من ذلك ذريعة إلى التدخل في شئون البلاد … فلما تألَّفت قابلتها السياسة الإنجليزية بالجفاء وعدم الثقة، والغض من قدرتها على إعادة الأمن إلى نِصابه، وأخذت تخلق لها العقبات والعراقيل، وبارح السير إدوار ماليت قنصل بريطانيا العام الإسكندرية يوم ٢٧ يونيو، وأناب عنه المستر كارترايت الذي شهد ضرب الإسكندرية، وغادر المدينة أيضًا المستر كوكسن القنصل البريطاني. وأوعزت الحكومة البريطانية إلى السير أوكلن كولفن الرقيب المالي الإنجليزي بالامتناع عن حضور جلسات مجلس الوزراء، وهذه علائم ونُذر تنبئ عما كانت تبيته السياسة الإنجليزية من إثارة الحرب والقتال.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤