تقديم

بقلم  د. عبد العزيز المَقالح

بدأت في الآونة الأخيرة بعض الأسماء الجديدة تلمع في دنيا الأدب وفي الشعر خاصة، والشعر الأحدث أو الأجد بصورة أخص، وهذا المستوى الأخير من الشعر الأحدث أو الأجد يجاهد ليصل إلى الناس، ويسعى من خلال نصوصه المغامرة — التي لا تُقدَّم على مثال سابق — إلى أن يكون لها مكانها وإمكاناتها في وجدان المتلقي العربي الذي ما زالت استجابته توصف بالفاترة تجاه الشعر عمومًا باستثناء القصيدة الشعبية الأقرب إلى فطرته ولهجته العامية، والحق يقال: إن بعض من يكتبون القصيدة العمودية، وحتى القصيدة المكتوبة على نظام التفعيلة، قد بدءوا يجدون طريقهم إلى الجمهور‎ الواسع من خلال شعراء كبار يتقدمهم: نزار قباني، والبَرَدوني، ومحمود درويش. وقد يطول الوقت قبل أن تجد القصيدةُ الأجدُّ طريقها إلى القارئ العام إذا استمر التطور المتلاحق في التعليم وحَظِيَ الشعر بأشكاله المختلفة بالقدر المطلوب من الاهتمام بوصفه الكتابة الإبداعية الأكثر تأثيرًا في الوجدان البشري، والأقدرَ على التعبير عمَّا يختلج في النفوس والأذهان.

بلال قائد صاحب هذه المجموعة الشعرية البديعة — وهي الثانية في مساره الإبداعي — هو واحد من هؤلاء الشعراء المتمردين على القوالب الفنية السائدة والموزونة، والذين دخلوا الشعر من باب الشعر، الذي لا يَتوسَّل شعريتَه بالوزن أو القافية، ولا يعتمد سوى على ذاته، وهي هنا اللغة بما تمثله من طاقة على التجاوز والابتكار. ولا أبالغ أو أخرج عن السياق إذا ما قلت: اختراع؛ فالنص الشعري الجديد أو الأجد حالة فنية تخترع وجودها وطريقة تعبيرها خارج كل شكل تقليدي أو مُحدَث، ولأنها كذلك؛ فهي أحوج ما تكون إلى شاعر موهوب اكتملت له الأدوات التي تجعله قادرًا باللغة — وباللغة وحدها — أن يبتكر نصًّا شعريًّا رَهِيفًا غير مسبوق تلتقطه روح القارئ قبل عينيه، وذائقته، أيًّا كان حظها من التذوق والتدريب على قراءة الشعر والانفعال بما يموج في كِيانه من صور ومفارقات متخيلة ونادرة.

بلال في هذه المجموعة وفي مجموعته الأولى يتجاوز مرحلة التجريب وينطلق بخطًى ثابتة نحو إيجاد مشروعه الشعري بعيدًا عن الادعاء والمنافسة، وهو في عزلته وانزوائه لا يحلم بأن يكون شاعرًا مرموقًا بالأمنيَّات والرغبة المحتدمة في أعماقه، بل بالعمل المتواصل والمنتظم والاستغراق في البحث العَفْوي والطفولي عن مكامن الشعر، والتركيز على منابعه الأولى التي لم تلوث بعد ولا تعرضت للسطو والانتهاكات من قبل فاقدي الموهبة والإحساس، بما تنطوي عليه المفارقة والاستعارة والانزياح من معنى.

إن بلالًا الشاعرَ يدرك هدفه الشعري من أقصر الطرق وأكثرها غنًى، ويبدأ من زمن الطفولة:

صبيًّا كان،
يتأرجح بين مآقي العابرين،
يغيب خلف روائحِ صحفٍ منثورة،
حوله يتراكم الوَهَج،
تنِزُّ حوافه من الاحتراق.
تُنسى الأغنيات،
والندى المعلق في الألوان
يغدو كلوحة اعتادت إهمالها.

ومن النص نفسه، أو على تعالُقٍ به يتواصل البث المكتوم بعد أن شحنته ضغوطات المساء:

في غمرة الليل والسحب تغسل الطريق
يحمل قطعة خبز تبللت،
يطعمها صديقه «الكلب».

•••

في جنازته أهدَوه وشاحًا وباقة ورد،
وفيها،
امتد الوجع كصدَى حلمٍ سَيَّجَتْه ذاكرة ذلك «الكلب».

هذه «مقدمة» وليست دراسةً، لذلك سأقف هنا مذكِّرًا أولًا إلى أن المجموعة رصد أو بوح شعري مفتوح على مدى يوم كامل من مسائه وليله إلى صبحه وظهوريته غير خاضع لتخطيط مسبق أو قصور يقود الشعر إلى حيث لا يشاء الشاعر.

وبلال هنا في هذه المجموعة لا يعكس انشغالاته هو، بل ينفُذ من خلالها إلى كل ما يؤدي إلى تشويه الواقع ورفع منسوب العذاب الإنساني.

كلية الآداب، جامعة صنعاء
في ٢٧ / ٢ / ٢٠١٧م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤