إسكندرية

قصيدة وصفية وجدانية
(إسكندرية)! ما أرقَّ هواك
وأحب كالزهر النديِّ نداك!
هاتي نوافحك الزكية! أنعشي
قلبًا يرى لي الحلم حين يراك!
إن أنس فلأذكر نعيم طفولتي
والحب يحرس مهجتي بحماك
و(الرمل) حيث روى الطبيب بأنه
طبي، وحيث منازل الأملاك١
وليالي القمر العزيز بما وعت
والفجرَ والإشراق فوق ذراك
و(المكس) صومعة الجمال بعزلة
للنسك: نسك الحب فوق رباك
أسوان من خوف الغرام بفرحة
فكأنني الشاكي وغير الشاكي!
غلب الحياء عليَّ حتى لم أكن
أبكي وإن أنَّ الفؤاد الباكي!
يا للصغير وما أطاقت سنه
عبء الهوى القاسي لغير فكاك
ذقت السعادة فيك ملء تحرقي
وشببت في شغفي فعشت فتاك
وفقدت من أهوى ودمت عزيزة
عندي فذكراها إذن ذكراك!

•••

(إسكندرية)! أنت تاج (النيل) بل
تاجٌ لأجيال سكنَّ ثراك!
يا بنت (ذي القرنين)٢ علَّ رفاته
هي سر ما يوحيه وسم علاك!
صانوك بالسور العظيم وما دروا
إيمان هذا الماء حين أتاك!
وفتنت (بحر الروم) قبل شعوبه
فالبحر بين العاشقين فداك!
ونراه في رقص الطروب، وتارة
كالطفل مزهوًّا كمن حلاك!
من ذا الجريء مصغرًا لك بهجة
جمعت من الأقمار والأفلاك؟!
لو يصغر النشء الجديد جمالها
فالمجد في العهد القديم كفاك
بالأمس كنت منار فلسفة كما
قد كنت بحر العلم والإدراك٣
واليوم ألمح في سمائك سحرها
وأرى (لكاليماك) شعر هواك٤
وفتوح (قيصر)٥ في الأصيل نشيدها
ولوَ انَّ في شفق الغروب لظاك!٦
وأكاد أسمع للقلوب خُفوقها
من وعظ (سنتي مرك)٧ حين دعاك
وأرى التألق في رمالك بعض ما
تركت (كلوبطرا) لمن يرعاك!
وشذا النسيم شذًى لها، وخفوقه
آهات (أنطونيو) إذا وافاك!
ثغر الجمال ودارَ فلسفة النُّهى
للحب ما توحي به شفتاك!

•••

(إسكندرية)! لا عدمت نداك ما
بقي الندى وبقيت من ناجاك
مهد المحبة في طفولة خاطري
ورياضها لجوى الشباب الذاكي
البشر طبعك، والملاحة صورة
مصقولة في البحر صقل سناك
تتبسم الأزهار قربك دائمًا
وكأنها ما أينعت لولاك!
ولك الرياض كفيلة بنعيمها
للعاشقين، كذا وللنساك!
وتغرد الأطيار حتى إنها
لتظن في تغريدها كملاك!
من لم يصدقني عليه بجولة
(بحدائق الشلال) بين أراك
ليرى ضروب روائع وبدائع
هذي موطَّنةٌ وذي لحراك
ولديك من فتن الحسان نوادر
بقيت على الأحقاب صفو جناك!
زرق العيون وسودهن، عوارفٌ
صيد القلوب بأسهم وشباك!
أورثن سحر الأقدمين، كأنما
بوركن بالكهان تحت سماك!
أشهى مرنقة الخمور صباحة
فوق الخدود فكن زين حلاك
يَخطرن فوق الشط مثل عَنادلٍ
فإذا فَتنَّ خففنَ للأكشاك!
ويَعمن في البحر المنعم تارةً
ويُثرنَ حربَ اللهو لطف عِرَاك
ويقمنَ مِنْ حجج الجمال لِمعرض
شَرَكًا يصيد تَفلسف الأفَّاكِ
فإذا القلوبُ شهيدةٌ وسَعيدةٌ
إنْ تَنسَ عقبَاهَا فما تنساكِ!

•••

وطَنَ الملاحة والصَّباحة والهوَى
يحلو لدى التكرار وصف مَداك
قالوا: أأنتَ منعمٌ بإقامة
فيها؟ فقلت: غنايَ بعض رِضاك!
وأنا الذي لو عشتُ في صحَراء ما
لاقيتها إلا بذكر لقاكِ!
وأفِيض مِنْ طَبعي القناعةَ والرضَى
فأحِيل ما هو موحِشٌ مَرْآكِ
طبعُ الذي هو شاعرٌ مِنْ لبِّه
ويرَى (الطبيعة) كلها إياكِ!
لا شيء فيها ما يعاب، وإنما
العيب في الأذهان لا الأشواكِ!
وإذنْ فكيف سؤَال منْ هو جاهلي
عن لذَّتي ومناي في مغناك؟!
حسبي تمثل ما مضى من نعمةٍ
وتأوبٌ٨ للطيف في نجواك
لست المحاسب للزمان فإنه
دوني، وحسبي غنيتي بغناك
لم ألق في الدهر العبوس منغصًا
إلا لقيت مهازل الضحاك!
فإذا شكوت كفى بسمعك آسيًا
ولرب سمعٍ كالطبيب لشاكي!
وأراك في حلمي عزاء كآبتي
هيفاء راقصة، فألثم فاك!
أشكو إليك من التي في لهفتي
نفرت ولم تذكر جميل وفاك
إحدى بناتك: من رأيت جمالها
تمثال حسن لا أقول سواك
لكنها ليست مثالك في الوفا
فلمن أبث ضراعتي إلَّاك؟!
الشاعر الفنان يشقى في الهوى
وهو السخي على الزمان الحاكي!
حين الصخور من الأنام حظوظهم
حظ الألوهة في شموخ عداك!
فإليك يا وطن الحياة بما وعتْ
من فتنةٍ وتبسم وتباكي
شكوى فتاك، وما بها شكوى سوى
شغفي، ولا مرمى سوى مرماك!
١  الأملاك: جمع وضعي للملاك، عصري الاستعمال، ويأتي أيضًا بمعنى الملوك، والمعنى الأول هو المقصود هنا.
٢  إسكندر المقدوني، والمقول أن رفاته مدفونة في مكان مجهول الآن بالإسكندرية.
٣  اشتهرت الإسكندرية في القرن الثاني قبل الميلاد بمكتبتها الشهيرة ومتحفها وفلاسفتها العلماء.
٤  الشاعر كاليماك أو كاليماكس (Callimachus) هو الذي ساعد على تنسيق المكتبة وخصوصًا قسم البردي منها.
٥  يوليوس قيصر وقد دخل الإسكندرية سنة ٤٨ قبل الميلاد.
٦  إشارة إلى حرق الجند الروماني للمكتبة على أثر هذا الفتح، وقد حاول أنطونيو فيما بعد تعويض كليوباطرا عن هذه الخسارة العلمية الكبرى بإهداء مصر مكتبة أخرى جامعة وإن لم تبلغ مكانة المكتبة المفقودة.
٧  هو القديس (سنتي مرك) وقد بدأ وعظه في الإسكندرية.
٨  تأوب الطيف: زيارته ليلًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤