رجائي

ألقيت في الحفلة الأدبية التكريمية التي أقامتها جماعة من أنصار الأدب الجديد بالإسكندرية بالاشتراك مع نقابة موظفي الحكومة في دار النقابة يوم الخميس ٢٧ ديسمبر سنة ١٩٢٨.

سمعت حديث الودِّ والأدب النَّدي
فمن لي بشعر في مدى الشكر مُنجدي؟
حرامٌ على قلبي قبول ثنائِكم
إذا لم يكنْ طوعَ الهوى قلبيَ الصَّدي
سَخوْتم طويلًا بالمديح وإنه
لمدْحٌ لكم، لا مَدْحُ ذِهْني ولا يدي
وهل أنا إلَّا فكْرَةٌ قد تجسَّدَتْ؟
وهلْ أنا إلا عبدُ فكْري المجسَّد؟
فمَنْ عزَّها فهو الأعزُّ بحُبِّها
ولا فخرَ لي إلَّا بديني المُوحَّد
ولولا هواكمْ ما أضاءَتْ وأشرقتْ
وهل كان نُورٌ دونَ نَهْج مُمهَّد؟
أدينُ إليكم فوق محدودِ دَيْنِكُمْ
إليَّ، وهذا الحفلُ أكرمُ مَشْهد
ومَنْ قال إنَّ الكونَ دَانَ لفرقدٍ
يُبالغ، إذْ كم خَلفَه ألفُ فَرْقَد
فأنتمْ جميعًا كالكواكب وَزَّعَت
أشعَّتها شتَّى لرانٍ ومُهْتدي
ويا ربَّ نجم مُزْدَهٍ بين جَمْعها
يكون أقلَّ الجمع في القدر والدَّدِ١
وذلك حالي في رعايةِ عطفِكم
وذلك شأني ملءَ يَومي وفي غدي

•••

أودِّع في (الإسكندرية) جنَّةً
عَبدْتُ بها آيَ الجمال المنضَّد
رق حواليها (الطبيعةُ) مثلما
ترقُّ المُنى حول السَّعيد المؤيَّد
لها خفة الطبع الأصيل وبهجةٌ
على سفر الأجيال لم تتبدَّدِ
حننْتُ إليها طولَ عُمري كأنَّما
إليها تناهى أصل روحي ومولدي
وأتركها في حسرة حينما نما
بلبي افتتاني بالجمال الموطَّد
أوَدِّعُها لكنْ بنفسي مثالُها
يظلُّ كريمًا في فؤادي بمَعبد
ومَن قال إنَّ الحسنَ يسلوه عاشقٌ
يعيش لهذا الحسن عيشَ مُخلَّد؟
وهل كان شِعري غيرَ إيمان مُهجتي
وعشقي وإحساسي ولحني المردَّد؟
أصوغ به نفسي كأنيَ خالقٌ
لها من جديد في نظيم مجدَّد!
وعُوتِبت من قوم لخصب عواطفي
وإنجابها للشعر غيرَ مُقَيَّد
فقلت: عَفاء أيها الناس إن أبت
كأبكم أو في مثل إحساسِ جلمد٢
رأيتُ القليل الشعرَ مثل كثيره
سخيفًا إذا ما كان صنعةَ أرمد٣
ولكن شعر النفس إن قلَّ أو ربا٤
سواء لنفس السامع المتودِّد
وحسبيَ صدقي في شعوري وأنني
أقاسمكم إحساسَ قلبي وسؤددي
وحسبيَ أني أبصر الحسنَ دائمًا
وأنفر من قبح الحياة المجرد
وأعمل جهدي آسيًا ومداويًا
بشعري كطبي بين مرضى وعُوَّد
أعيش لنوعي لا لنفسيَ وحدها
وأنشر رُوحَ الحبِّ غيرَ مبدد
ولي المثل الأعلى حياةُ تعاوُن
بها الحسن يسمو مثل عقل مُسود
لذلك من قلبي أحيي إخاءَكم
كما سامحت نفسي خصومي وحُسَّدي
فلا خير في شعر لنفس حقودة
ولا في غناء من أثيم مغرد
فما ذاك حلوَى تُستطاب وإنما
هو السُّم معسولًا لغير مُفند٥
يؤدِّي مذاقًا للخصومة والأذى
ويلفى الرَّدى في طبعه الساقط الرَّدي
وما نحن في دنيا الجريمة دائمًا
ولكن بدنيا في مدى الخير تغتدي
نعيش بها في نوعنا لا ذواتنا
وذلك أسنى من حياة التقيُّد!
وتمضي مضيًّا للجمال برفعة
يداني بها الإنسانُ أبعدَ مقصد
ومهما سما لم يختم نهضةَ السنا
ويبقى على الأحقاب في حكم مبتدي!
فأجمل بحسن لا حدودَ لخلقه
وأكرم بمجد لن يزول لمهتدي
خُلقنا بلا مبدأ، ونلبث هكذا
بلا منتهى في سؤدد بعد سُؤدَد!
فيا عظمَ الفنان مَن صاغ روحنا
لتحيا على الأدهار أكرم عسجد!
إذا صُهرت عادت نقاء وروعةً
وتبقى على الآباد تنضو وترتدي!
ونشكو صُروف الدهر والدهر ضاحكٌ
فما كان يومًا نحونا بممرد!
حمى نفسنا الكبرى وكم كان خادمًا
لها، ونراه في قساوة سيِّد
فأحرى بسامي النفس نسيانُ نفسه
إذا اندمجت في نوعه المتجدد
لذلك في رأيي تناسيتُ مُهجتي
وبالنفس خلَّانَ العقيدة أفتدي
فذاك مثالي في الحياة ومذهبي
وذاك نعيمي في الهوى غيرَ مفرد
ومهما لقيتُ الهمَّ والبؤس والأذى
فلستُ بدين البشر يومًا بملحد!
إذا اضطربت نفسي تبسم شطرها
وجودٌ بآيات (الطبيعة) مُسعدي
فأخجلُ من ضَعفي وأرمُق عطفها
قريرًا بلحظ نافذ مُتوقدِ!
فيضحك مني جاهلٌ بعد جاهل
ويسخر مني غافلًا كل أبلد
وأشفق إشفاقًا عليهم لأنهم
يعيشون في مثل الصفيح المصمد!٦
فما همُّهم إلاَّ ظهورٌ وشهوةٌ
وشكوًى على يأسٍ كشكوى المطردِ٧
غرور وعجز في تفلسفِ فاقة
فأعجب بها في ساخطٍ وهو معتدي
أرى الأدب العالي التفاؤلَ دائمًا
فذلك للآتي الأعز كمرصدِ
نرى منه دنيا للجمالِ قريبةً
تزودُ دنيانا بما لم نزودِ!
ونبصر شتى من حياةٍ هنيئةٍ
يراها المريض النفس في روع مرعدِ٨
فذلك ديني، ثم سعيي، وما لهُ
أصوغ نظيمي وهو مجدي ومحتدي٩
فما قلت إلا كان قولي مشاعري
وإن هضمت علمًا وحكمة أيدِ١٠
وما قلت إلا كان شعري رسالة
من القلب ناجت كلَّ خِلٍّ ومقتدي
فليس ثنائي دون صدق طويتي
وليس ثنائي غير حب مؤكد
فإن تقبلوه كان ذلك بهجتي
وزاد بكم عمري كشعري المعيد
١  الدد: الحين والعمر.
٢  الجلمد كالجلمود: الصخر.
٣  الأرمد: المصاب برمد في عينيه.
٤  ربا: زاد ونما.
٥  المفند: المكذب، ومجازًا بمعنى المدقق الفاضح.
٦  الصفيح المصمد: الحجر الصلب الذي لا خور فيه، يريد أنهم يعيشون لعزلتهم الفكرية ولجهلهم في قبور محكمة متينة.
٧  المطرد: المنفي الطريد.
٨  المرعد: من أخذته الرعدة.
٩  المحتد: الأصل.
١٠  الأيد: القوي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤