الكرامة

(عن إدمون روستان، على لسان سيرانو دي برجراك يصفع بها وجوه من اتهموه بالادعاء والكبرياء، نقلها نثرًا عن الفرنسية الأستاذ حسن صالح الجداوي، وصاغها بشعر مرسل صاحب الديوان.)

(١) الترجمة النثرية

وماذا تريدونني أن أصنع؟
أتريدون أن أبحث لي عن سند قوي، عن سيد يحميني
كالطحلب الحقير الذي يتملق السنديانة ويتخذ منها وليًّا،
ويتسلق بالحيلة بدلًا من أن يَرتفع بالقوة؟ لا، شكرًا!
أم تريدونني أن أهدي شعري — كما يفعل غيري — للموسرين؟
أم أن أصبح نديمًا يدفعني الأمل الدنيء إلى أن أسعى
لأرى على شفتي وزير ابتسامة ليست صفراء؟
لا، شكرًا!
أم أن أتغذى كل يوم بضفدعة؟ وأن يتعب السير
معدتي؟ وأن تكون لي بشرة سرعان ما تتسخ عند موضع
الركبتين من أثر السجود؟ وأن أدرس فن الانحناء
والتعظيم؟ لا، شكرًا!
أم أن ألاعب الشاة بيد وأروي الزرع بالأخرى؟
وأن أوزع بخور ثنائي كل يوم على شخص؟ لا، شكرًا!
أم أن أنشر شعري بدفع ثمنه؟ لا، شكرًا!
أم أن أدع الغافلين يرشحونني «بابا» في حاناتهم؟ لا، شكرًا!
أم أن أسعى لأبني لنفسي مجدًا حول قصيدة بدلًا من
أن أنظم غيرها؟ لا، شكرًا!
أم أن أخشى النقاد والصحف والناس؟ لا، شكرًا!
أم أن أحتاط لخطوتي وأرتعب، وأفضل الرجاء والزيارات
على نظم الشعر؟ لا، شكرًا، ثم شكرًا، ثم شكرًا!

ولكن … أغني، وأتخيل، وأضحك، وأسير، وأكون وحدي حرًّا طليقًا وأن تكون لي العين التي تحدق، والصوت الذي يرعد، وأن أضع قبعتي وقتما أشاء كيفما أحب، وأن أتبارز للفظة (لا) أو (نعم)، وأن أقرض الشعر، وأعمل غير ناظر لمجد أو ثروة، وأن أفكر إن شئت في سياحة للقمر، وأن لا أخط شيئًا إلا من بنات أفكاري، وأن أقول لنفسي في تواضع: «أيتها النفس، كوني راضية عن الأزهار وعن الفواكه وحتى عن الأوراق ما دمت تقتطفينها في بستانك» فإذا ما فزت يومًا — بطريق الصدفة — لا أكون مدينًا بفوزي لأحد، بل أحتفظ لنفسي بالفضل كله، وبالجملة لا أكون الطحلب الطفيلي وإن لم أكن السنديانة الباسقة، فقد لا أرتفع عاليًا ولكنني أرتفع بجدي.

(٢) الترجمة النظمية

أأرضى التملق كالطحلب تعلق في كنف السنديانه؟
وشاء التسلق في حيلة وعاف ارتفاعًا على قوته؟
أهذا تريدون؟ لا، ألف شكر! … أم القصد أن أحتفي بالغنى
وأهدي نظيمي إلى الموسرين كما هي عادة غيري بشعره؟
أم القصد أن أغتدي كالنديم فيدفعني الأمل السافل
وأسعى لأحظى ببسمة عطف خلت من دهاء بثغر الوزير؟
لا، ثم شكرًا!
أم القصد أن أتغذى سقيمًا بضفدعة كلَّ يوم وأشكو
وأفسد من بشرتي في سجودي دوامًا على ركبتيَّ انصياعًا؟
فلا، ثم شكرًا!
أم القصد أني بيمناي ألعب والشاة حين بيسراي أزرعْ؟
وأني أوزع في كل يوم بخور الثناء لشخص جديد؟
فلا! ثم شكرًا!
أم القصد نشر نظيمي ودفعي لذلك سعرًا؟ فلا! ثم شكرًا!
أم القصد أن أدع الغافلين يرومونني «باب» حاناتهم؟ فلا! ثم شكرًا!
أم القصد بنيان مجدٍ لنفسيَ حول نظيم قديم كسولًا؟
فلا، ثم شكرًا!
أم الخوف من عنت الناقدين ومن صُحفٍ في غلوٍّ وناسٍ
فلا، ثم شكرًا!
أم الحذر المتناهي بخطوي وإيثارَ خلق على نظم شعري؟
فلا، ثم شكرًا، وشكرًا، وشكرًا!

•••

ولكن أغني وأسمو خيالًا وأصفو وأضحك وحدي طليقًا
وأن تغتدي لي عين البصير وصوتٌ هو الرعد عند احتياجي
وأني متى شئت زينت رأسي بقبعتي كيفما كنت أهوى
وأني أبارز لما أشاء للفظة «لا» أو لقولي «نعم»
وأن أقرض الشعر، أعمل لا أفكر في ثروة أو جلالٍ
وأني أفكر إن شئتُ في علو إلى سفر للقمر
وأن لا أخط سوى ما حبته بناتٌ لفكري ولبي ونفسي
وأني أقول وكلي اتضاع: «أيا نفس، كوني بزهر قريره
وكوني كذا بالثمار وحتى بأوراق بستانك الناضر
متى كان ملكك» حتى إذا ما نجحتُ فلست مدينًا لغيري
ولكن أكون مدينًا لنفسي ومحتفظًا بامتناني لها.
وجملة حالي أني لا أكون شبيه النبات الطفيلي
وإن لم أكن تلكم السنديانة في مظهر البذخ الباسق
وإن لم أرتفع عاليًا غير أني أرقى بجدي عزيزًا كريمًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤