الكواليس

أيام دامية تلك التي عشناها في هذين الأسبوعين في «أبريل» (نيسان) وكأنما انطلقت كل الجبهات ضدنا نحن العرب، وبقدر ما صُدمت وصُدم العالم كله بمقتل الشابين الكويتيين في لارناكا في حادثة اختطاف الطائرة الكويتية، بقدر ما أعجبت أيَّما أعجاب بالموقف الشجاع والحاسم لحكومة الكويت وأميرها الحاكم. «براد يفير» متوحش يحدث للأسف داخل العالم الإسلامي وفي رمضان المبارك وعلى مرأًى ومسمع من عالم يستنكر ولا يتعاطف، ويتعايش ولكنه أبدًا لا ينحاز، فكلهم في نظره مسلمون «أولاد …» فدعهم يأكلون بعضهم بعضًا.

ولكن الحادث الجلل حقًّا كان هو اغتيال أبو جهاد، وعلى تلك الصورة التي انتهكت أرض دولة عربية، وأظهرت بلادنا وكأنها كلها حتى أقصى مكان فيها في متناول ما تسميه إسرائيل بيدها الطولى، وكأنه أمر واقع وحقيقي. أم تكون الكارثة؟ ويكون أمرًا واقعًا وحقيقيًّا؟ وبقدر ما أصابني الوجوم طوال النهار للخبر، رحت أتساءل بغيظ لماذا لم نتعلم من درس اغتيال السبعة في بيروت؟ لماذا لم نتعلم من الغارة الإسرائيلية على «فيلا غزيزة» ومقر قيادة بل مكتب ياسر عرفات؟ لماذا هذا الانتشار الإعلامي لقادة المنظمة وكأن المسرح شرعي ومباح لهم فيه الظهور علانية والحياة علانية والجمع بين حياة الأسرة الهانئة وحياة الثورة المسلحة؟ لقد واتاني من فرط الغيظ خاطر؛ أن حياتنا العربية كلها تجري على مسرح مضاء ومعروف ومشهور، بلا كواليس، والكواليس بلغة المسرح هي العمق المسرحي، العمق الذي تُدبَّر فيه بصمت كلُّ الأشياء، العمق الذي لا يراه متفرج واحد. العمق العميق الذي لا تسمع له صوتًا أو ترى له صورة، العمق الفعال المخيف حيث يتم التخطيط والتدبير، بحيث لا تظهر بعده إلا «الضربة». وهي بسرية تامة قد حدثت، وبتكتُّم تام نجحت.

هذا العمق يبدو أن لا وجود له في حياتنا؛ فلقد عرفت الموساد أفراد حادث ميونيخ فردًا فردًا، كيف عرفتهم إلا من دردشاتنا وافتخاراتنا، والنتيجة أنها تتبعتهم وقتلتهم فردًا فردًا، وعرفت الموساد أين يقطن أبو جهاد وكيف وما عدد حرَّاسه، أمعقول هذا، مسئول الكفاح المسلح الفلسطيني يعيش هكذا مثلنا، حتى ولو كان يعيش في تونس البعيدة؟ يبدو أن الحقيقة التي لم نهضمها بعد هي أن إسرائيل تحاربنا بكل ما لديها من جدية وتصميم، وتقتلنا، ولا تعلن مسئوليتها وتتفاخر بهذا، ولكن العالم كله يعرف أنها الفاعلة، والمخططة، والمجرمة، وهي لا يهمها العالم، يكفي أنها تحقق ما تريد.

أما نحن فالعالم يهمنا تمامًا والرأي العام العالمي لا بد أن نكسبه، ونكسبه بإشهار أنفسنا، وكأن في هذا إشهار للقضية، وكأن القضية في حاجة لإشهار في حين أن العكس هو الصحيح؛ ففي إخفاء أنفسنا إشهار أكبر للقضية، وبالعمل السري العميق يكمن نجاح الثورة العلنية.

لماذا لا نبدأ ونصنع لأنفسنا «الكواليس» العميقة المغطاة التي لا يتسرب منها شعاع نور ولا كلمة تصدر ولا حديث ولا مسرح ولا إشهار؛ إذ يكفي أن نعلم أن المرأة الوحيدة التي اشتركت في العملية، وكانت من الإجرام بحيث تولَّت تصوير الاغتيال خطوة خطوة، كانت لسنين كثيرة متنكرة في شخصية صحفية أمريكية لصيقة الصلة بحياته وعائلته، وهي التي استأمنها على إجراء الكثير من الأحاديث الصحفية المصورة معه.

في جنة الخلد أيها الشهيد، شهيد العلانية التي لا معنى لها في حرب ضروس تخوضها ونخوضها ضد أعداء شديدي القدرة على التآمر والعمل في ظلام تام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤