«لماذا» هي الإيمان، «كيف» هي العلم

نعم ليس هناك فراغ، لا داخل الذرة، ولا خارجها، بل ليس هناك فراغ بين الكرة الأرضية والشمس أو غيرها من الكواكب والشموس، ماذا أستطيع أن أقول؟ إن الوصف العلمي الدقيق يستغرق كتابًا بأكمله «وأنا هنا لست سوى ضيف علم أرجو أن أكون خفيفًا تمامًا وأن أستطيع أن أملأ هذا الحيز الصغير بشيء مفيد» المهم يا أعزائي ليس هناك فعلًا فراغ، وإنما هو مادة من نوع آخر غير المادة الصانعة للذرات، ومن ثم الجزيئات، ومن ثم أنت وأنا والكرة الأرضية وكل الأشياء «الكبيرة» التي نراها.

تلك المادة الأخرى لا يزال العلماء محتارين تمامًا في إدراك كنهها بحيث أصبح السؤال هو: هل هناك «مادة» واحدة وأقصد بالمادة تلك العناصر من أكسجين وحديد وكربون إلى آخر جدول العناصر لماندلييف إذا كنتم ما زلتم تذكرونه من أيام الدراسة؟ هل هناك «مادة» واحدة أو بالأصح عدة مواد، أو بأكثر دقة عدة مستويات للوجود، ومنها ذلك الوجود المضحك فيما يسمى ﺑ «ضد المادة».

وهو ما عكف مؤلفو الخيال العلمي على النهل منه، باعتبار أن كل مادة في الكون، لا بد أن يقابلها — ليتوازن الكون — مادة مضادة وأن لكل إنسان منا مثلًا إنسانًا في كون آخر شحنته ضد شُحنتنا، بل هناك افتراضات أكثر جرأة تقول إن ضد المادة موجود في ثنايا تكوين المادة نفسها وما كنا نسميه فراغًا بين جسيماتها.

لا أدري إذا كان قارئي أو بالأصح كل قرَّائي سيتابعونني إلى الآن، فالموضوع يحتاج لاطِّلاع مسبق وإلمام إلى حدٍّ ما بتركيب الذرة وعلوم الفلك، ولكني أريد أن أعود إلى ما بدأته في الموضوع السابق من أن التقدم العلمي يكشف لنا مقدار ما لا نزال نجهله، وأريد أن أعود لهذا الحديث لأسباب تخص حياتنا المعاصرة؛ فأنا أقرأ في صحفنا المصرية، أو بالأصح بعض صحفنا، وأسمع في أجهزة إعلامنا من يريد أن نغلق باب البحث العلمي والمنطق العلمي والتفكير العلمي باعتبار أنها تؤدي في النهاية إلى الكفر أو الإلحاد، وما زلت أذكر أن عالمًا نباتيًّا ذكر في تلفزيوننا أن نبات البنفسج يحتوي على سُم في أزهاره ليدافع به عن نفسه ضد الحشرات، فإذا برسالة تصل إلى محرر صحفي تستنكر هذا وتقول إن النبات لا يحوي سمًّا، وإنما الله سبحانه وتعالى هو الذي وضع السم في البنفسج بحكمته الإلهية العليا، وخطاب القارئ يريدنا أن نَنسُب كل شيء إلى المولى سبحانه وإلا نكون قد انحرفنا تمامًا عن ديننا أو حتى كفرنا.

إلى هذا القارئ وإلى الكثيرين من القراء وبعض الأدعياء أقول إن السببية أي إرجاع الأشياء إلى أسبابها هو محاولة لمعرفة أدق بالمعجزة الإلهية وليس إنكارها معاذ الله أو تجاهلها؛ فالله سبحانه هو الخالق الأول، وأحدث الكتب العلمية التي قرأتها تأتي إلى بداية حركة الكون كله ولا تجد لها إلا سببًا إلهيًّا محضًا، كل ما يدرسه العلماء هو الأشكال والطرق والسبل التي اتخذتها المادة في مساراتها المختلفة لتتشكل منها ظواهر الوجود، من جماد إلى نبات وفراغ وإنسان وعقل مدرك وكل شيء، هذه الدراسات لو اطلعنا عليها وأمعنا النظر فيها لوجدنا مساحة تبهر الأنفاس لقدرة الخالق الأول والأخير، وحينئذٍ يكون إيماننا بالله سبحانه وبإسلامنا ليس فقط أقوى ولكنه الطريق الوحيد للإيمان، فالقرآن الكريم مليء بالدعوة إلى تأمل الكون؛ الأنعام «كيف» خُلقت، والسماء «كيف» رُفعت، كلمة الكيف هنا هي مواضيع العلم حديثه وقديمه، العلم كله يبحث في «كيف»، أما لماذا فهي رسالة الله سبحانه في أكثر أشكالها تجريدية. الإيمان بالإسلام وبالرسول ودعوته هي الإجابة الوحيدة لسؤال: لماذا، ولم يكتشف البشر بعد ولن يكتشفوا إجابة أخرى. «لماذا» الإجابة عنها إجابة واحدة فقط: إرادة الله سبحانه.

أما «كيف» فالإجابة عليها هي الجهد البشري بالدراسة والعلم لمعرفة «كيف» تعمل القوانين الإلهية، وهكذا تجعلنا أقرب ما نكون إلى المولى سبحانه. ألم يقل في قرآنه الكريم: إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ يخشونه لأنهم يرون في بحوثهم ليعرفوا «كيف» يعمل أو يتحقق هذا القانون أو الوجود، يرون أكثر من غيرهم القدرة الإلهية المعجزة التي تحقق هذا.

أجل، «لماذا» إجابتها وإنما هي الله، هي العقيدة، هي الإيمان.

أما «كيف» يحدث ما يحدث فهي من صميم واجب العلم والعلماء والقدرة البشرية.

«لماذا» هي الايمان.

و«كيف» هي العلم.

وفي هذا بلاغ للناس كافة، وعلى رأسهم أولئك الأدعياء الذين يشجبون العلم ويستهينون بالعلماء، ويعتبرون أن الدراسة والتعلم وفك أسرار الوجود وكأنما هو عمل — معاذ الله — يعتبر تدخلًا في عمل الخالق.

هذه الكلمات كتبت عام ٨٧ قبل أن تبدأ معركة التكفير الكبرى عام ٨٨، تلك التي استهدفت تحريم الفن والسينما والتمثيل والتليفزيون واعتبرت العلم غزوًا فكريًّا غريبًا لا بد من مكافحته وتجريم المطالبة بتعلمه.

كتبت كل هذا وكأني كنت أيامها أقرأ كتاب الجهل المفتوح، وأرى الكثير من صفحاته القادمة، ويا لهول ما كنت، ولا أزال أراه!

يونيو، ٨٨

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤